وعزّ الشرق أوّله دمشق

الخميس، 30 يونيو 2011

لقاء دمشق التشاوري: محاسن كثيرة تذهب المساوئ القليلة

يوم الإثنين الماضي، 27/6/2011، كان قد سجّل مرور ثلاثة أيام على إضراب مفتوح عن الطعام، نفّذه في سجن عدرا المركزي، قرب العاصمة السورية دمشق، مجموعة من معتقلي الرأي، من الناشطين السياسيين أو الحقوقيين، المهندسين والأطباء والإعلاميين، الذين يمكن إدراجهم في خانة 'المثقف' من جهة، وفئة الطبقة الوسطى من جهة ثانية.
بين هؤلاء أسماء مثل مازن عدي، أمجد بيازي، حسام أسود، هاشم عبد الحكيم غزالة، راتب الزعبي، أحمد مصلح، وكمال اللبواني. وفي عداد المضربين عن الطعام نجد، أيضاً، أحمد عسكر (صناعي)، منير نصر الله (حرفي)، أنس هواش، باسم الحراكي (عمل حرّ)، ماجد قلوش (حلاق)، وسرور الرفاعي (إمام مسجد). بيان الإضراب أشار إلى إخضاع المعتقلين إلى فترات تحقيق دامت أسابيع عدّة، في أقبية أجهزة أمنية مختلفة، وتعرّضهم لشتى صنوف التعذيب، وذلك قبل أن يستلموا أي قرار اتهام، في تناقض فاضح مع حال رفع قانون الطوارىء.

في اليوم ذاته، ليس في سجن عدرا هذه المرّة، بل في قاعة الروابي، فندق 'سميرامس'، في قلب دمشق، اجتمع قرابة 175 مواطنة ومواطناً سورياً، ينتمون بدورهم إلى خانة 'المثقف' العريضة ذاتها، من جهة؛ وإلى فئات الطبقة الوسطى، من جهة ثانية. ولقد ميّز الكثيرين منهم أنهم معتقلو رأي سابقون، حتى عهد قريب أو وسيط او بعيد، وهم اليوم ناشطون سياسيون أو حقوقيون، بهذه الدرجة او تلك من الإستقلالية عن أحزاب المعارضة، أو القرب منها. هذا اللقاء، الأوّل من نوعه منذ عقود، حمل صفة 'التشاور'، وانعقد تحت شعار 'سورية للجميع في ظلّ دولة ديمقراطية مدنية'، وخرج ببيان ختامي، أقرب إلى إعلان سياسي جيّد إجمالاً، وممتاز في بعض فقراته. كما أصدر وثيقة أخلاقية النبرة، لكنها ذات روحية وطنية وديمقراطية جلية، بعنوان 'عهد من أجل بلادنا التي نحبّ'، تعيد في الواقع استئناف نصّ مماثل، سبق أن تداولته المواقع الإلكترونية سنة 2006.

وأيضاً، في اليوم ذاته، كانت دبابات النظام تواصل زحفها على قرى إدلب وأريحا وجسر الشغور وجبل الزاوية، وستودي العمليات العسكرية بحياة ثمانية مواطنين في جبل الزاوية، وأربعة في قرية الرامي، واثنين في قرية مرعيان، واثنين آخرين في قريتَيْ سرجة وكفرحايا. وسيسقط المزيد من الشهداء في مناطق أخرى (علي مندو، من حيّ برزة في دمشق، برصاص الشبيحة؛ وحازم محمد عبيد، من الرستن، قرب حمص، بعد التمثيل بجثته؛ بين شهداء آخرين). وستخرج مظاهرات في حي الصليبة، اللاذقية؛ والمعضمية، والزبداني، وعربين، والقابون، والميدان، في دمشق وريفها؛ والبوكمال، وجامعة الفرات، في دير الزور، وساحة العاصي، في حماة؛ وفي قارة، منطقة القلمون؛ وعشرات المناطق الأخرى.

هذه مشاهد ثلاثة من وقائع نهار واحد يدشّن، ليس دون مفارقة ذات دلالات خاصة، دخول الإنتفاضة السورية يومها المئة؛ كما يعيد، في جانب آخر، التشديد على أنساق صارت مألوفة على صعيد مسارات الحراك الشعبي وخيارات النظام في قمع الإنتفاضة، سواء بسواء؛ وعلى أنساق وليدة، أو تبدو هكذا للوهلة الأولى، بينها لقاء دمشق التشاوري على سبيل المثال الأبرز. وهذا نسق فرضه امتزاج جدلي، على نحو ما، بين زخم الإنتفاضة وتضحيات الشعب السوري، في قطب أوّل؛ وإمعان النظام في خيارات العنف القصوى، ثمّ اضطراره إلى المراوحة بين القوّة والمناورة، وما يترتّب عليهما من تراجعات بيّنة أو خافية، في القطب الثاني النقيض.
حال الجدل هذه، التي تدور ضمن ذلك المعنى الماركسي الكلاسيكي الأبسط الذي يتفحص ديناميات الظواهر الاجتماعية ـ السياسية، تفترض سلسلة من علائق الشدّ والجذب بين القطبيين، ولا مناص من أن تنتهي إلى ميزان قوى تبادلي، حيث تتحوّل خسائر قطب إلى مكاسب للقطب الآخر، والعكس صحيح عند قلب المعادلة. وهكذا، في العودة إلى لقاء دمشق التشاوري، يبدو من المنصف، والمنطقي في ضوء حال الجدل ذاتها، التسليم بأنّ النظام كسب من سكوته عن عقد اللقاء (وهذا، بالطبع، يرقى إلى مستوى الترخيص له، حتى إذا كان منظّمو اللقاء لم يستأذنوا السلطة في انعقاده). لكنّ المجتمع المدني السوري، في صبغته المعارضة والحقوقية والوطنية والديمقراطية المنحازة إلى الشعب والإنتفاضة، وليس ضمن أية صبغة حيادية أو مجرّدة أو موالية للنظام، قد كسب من حدث الإنعقاد في ذاته، ضمن مواصفاته وملابساته، ومن حيث مجرياته ومداولاته، ثمّ أدبياته وخلاصاته.

وبذلك فإنّ السؤال اللاحق، الذي لا تكتمل هذه الدائرة من دون طرحه والإجابة عليه، هو هذا: مَنْ كسب أكثر، أو أقلّ؛ ومَن خسر أكثر، أو أقلّ، هنا أيضاً؟ وهذه السطور لا تتردّد في المساجلة بأنّ الكاسب الأكبر هو الإنتفاضة السورية، والمجتمع المدني السوري كما مثّلته الغالبية الساحقة من المشاركين في اللقاء التشاوري. والأرجح أنّ ميزان الربح والخسارة ـ إذا توجّب التفكير في موازنات كهذه ـ يمكن أن يختصره هذا الإفتراض: ثمة الكثير من المحاسن والمزايا التي سبقت، واكتنفت، وستعقب انعقاد الملتقى؛ وهذه تذهب بالمساوىء القليلة، أو ينبغي لها أن تفعل تدريجياً، في زمن تقتضي الضرورة أن يكون وجيزاً، كلما أحسن المشاركون تحويل اقوالهم إلى افعال على الأرض، وكلما عمّموا التجربة بحيث تتكرر سريعاً في مختلف محافظات القطر.
كذلك في الوسع الحديث عن شريحة خاصة، داخل المجتمع المدني السوري تحديداً، جنت مقداراً أكبر، ملموساً على نحو أوضح، من مكاسب لقاء دمشق التشاوري. وهذه هي فئة المثقف السوري الذي لاح، طيلة أسابيع من عمر الإنتفاضة، أنه في واحد من جملة تصانيف: مشارك خجول، أعلن موقفاً مؤيداً، في بيان أو مقال، وعفّ عن النزول إلى مظاهرة؛ وصامت، يكتم موقفاً متعاطفاً، أو حائراً، أو خائفاً، أو متواطئاً؛ ومؤيد للنظام، مروّج لأكاذيب السلطة حول اعتبار المتظاهرين مندسين وسلفيين وعصابات مسلحة، مارس 'التشبيح' الثقافي في هذا المضمار أو ذاك. وإذا صحّ تماماً القول بأنّ استعادة المجتمع المدني السوري، أو إحداث ما يشبه 'الصدمة' لإيقاظه من سبات، عميق أو سطحي، حقيقي أو كاذب، كانت سمة مركزية طبعت اللقاء؛ فإنّ السمة الأخرى المركزية، الرديفة اللصيقة، هي أنّ الغالبية الساحقة من الحاضرين في 'قاعة الروابي' كانوا من فئة المثقفين.
وحين يلحّ على المشاركة أمثال نبيل صالح وعباس النوري، وللرجلين ما لهما من مواقف منحازة إلى النظام، ومناهضة للإنتفاضة والحراك الشعبي ـ ضمن مفردات أُريد لها أن تكون مقذعة أحياناً، ديماغوجية غالباً، تحاكي خطاب أبواق النظام على نحو اقرب إلى طبق الأصل ـ فذلك لأنّ ميزان الربح عندهم أخذ ينقلب إلى خسارة. لم يكن مفاجئاً أن يركب أمثال صالح والنوري هذه الموجة الوليدة، وأن يقتحموا اللقاء دون دعوة، وأن 'يشبّح' أحدهم حول مفهوم 'المعارضة تحت سقف النظام'، وأن يغادروا القاعة بعد برهة قصيرة، إذْ من العسير عليهم أن يقطعوا الخطوة الحاسمة التالية، وأن يضعوا تواقيعهم على خلاصات اللقاء.
لم يكن هذا خيار بعض المشاركين، من السينمائيين بصفة خاصة، الذين وضعوا تواقيعهم على الوثيقتين، رغم أنهم كانوا في عداد الموقّعين على بيان سابق، صدر في أواسط أيار (مايو) الماضي، يخوّن زملاءهم السينمائيين السوريين الذين أصدروا بياناً مشرّفاً، جمع أسماء دولية كبيرة، وتجاوز الـ 700 شخصية. في بيان التخوين قال هؤلاء إنّ 'التظاهر السلمي لأجل الإصلاح لايتمّ بالتلطّي بالمساجد وانتهاك حرمتها، ولا بقتل أفراد من شعبنا العظيم وجيشنا العربي السوري البطل والتمثيل بجثثهم، ولا بقطع الطرقات أو حرق قصور العدل والممتلكات العامة والخاصة ولا بالشعارات المذهبية والطائفية'. وأمّا في بيان لقاء دمشق فقد وقّعوا على نقيض هذه الروحية، وهذه اللغة، وهؤلاء خسرهم صفّ النظام، في المدى المنظور على الأقلّ، وقد تصحّ المراهنة على أنّ الإنتفاضة اجتذبتهم، أو كسبت الكثير منهم بصفة نهائية.
لكنّ اللقاء قام على جهود مشاركين لا تحتاج سجلاتهم النضالية إلى شهادة حسن سلوك من أحد، وهم أصلاً في صفّ الشعب، وأسهموا في صناعة واحد من أهمّ منجزات الإنتفاضة: تحديد عنوان سياسي جديد، علني وتعددي، ينضمّ إلى عناوين أخرى سبق أن حدّدتها مجموعات المتظاهرين، واتحاد تنسيقيات الثورة السورية، وعشرات لجان المشاركة والدعم والمساندة، وأحزاب المعارضة الديمقراطية... أنها اليوم تأتلف، جميعها، من أجل فكّ حال التجميد السياسي، التي يحرص النظام على إبقاء الإنتفاضة أسيرة لها؛ وتحويل الحراك الشعبي من محض ممارسات بطولية في التظاهر والإحتجاج والتضحية والإستشهاد، إلى مشروع سياسي ناضج ومتكامل يتطلع إلى سورية المستقبل، الكريمة الحرّة الديمقراطية التي لا يمكن لهذا النظام أن يكون قادراً على توفيرها، أنّى ذهبت مناوراته الإصلاحية.
ولعلّ هذه الإشكالية، لأنها كذلك بالفعل، كانت كبرى معضلات اللقاء التشاوري في دمشق، إذْ أنّ تفاصيل الوقائع الأخرى في مشهد الإنتفاضة السورية، والتي تصدّرت هذه السطور؛ فضلاً عن هتافات المتظاهرين، وشعاراتهم ولافتاتهم، كانت ـ في مسألة تغيير النظام، على وجه التحديد ـ أوضح بكثير من الصياغات الغائمة، أو اللائذة بنبرة اعتدالية تختزن بعض اللبس في المعنى أو الزيغ في الدلالة، والتي انتهى إليها البيان الختامي. ولكن... مَنْ كان ينتظر العكس، في الأساس؟ ولماذا لا يكون خطاب التظاهرة متقدّماً على خطاب القاعة، ما دامت الأخيرة تقرّ ـ كما جاء في كلمة منذر خدام، رئيس اللقاء التشاوري ـ بأنّ الفضل في التئام القاعة إنما 'يعود إلى انتفاضة شعبنا السوري الباسلة، إلى مئات الشهداء الذين ضحوا بحياتهم من أجل أن يصير كل ذلك ممكناً'؟
وفي نظرة أخرى على المعادلة ذاتها، لماذا لا يكون التباين بين خطاب التظاهرة وخطاب القاعة مسألة وضوح أقصى تفترضه طبيعة، وطبائع، الفعل الجماهيري الأوّل، واشتراطات التعبئة والحشد والتنظيم والتنفيذ عند الخروج إلى الشارع؟ ولماذا لا يكون الوضوح أقلّ، فيخضع لألعاب مشروعة في تطويع اللغة وتسخير المفردات، سعياً إلى تفاوض أكثر سلاسة بين المشاركين، وإلى توافق أعرض؟ وهل يُفهم من نصوص البيان الختامي أنّ النظام القائم هو الذي سوف يتولى بناء 'دولة ديمقراطية مدنيّة تعدديّة، تضمن حقوق وحريات جميع المواطنين السوريين السياسية والثقافية والاجتماعية'؟ أو أنّ النظام هو الذي سوف 'يضمن العدالة والمساواة بين جميع المواطنين والمواطنات بغض النظر عن العرق والدين والجنس'، كما جاء في البند الأوّل من البيان الختامي؟
لم ينصّ البيان على عبارة 'إسقاط النظام'، إذاً، وهذا ما أغضب بعض التظاهرات، لأسباب يتوجب تفهمها؛ مثلما يتوجب الترحيب برحابة صدر المتظاهرين الذين لم يتعرّضوا بسوء لللقاء فندق 'سميرامس'، رغم أنهم أنذروا ضدّ الحوار مع النظام. وفي هذا برهان جديد على جدل من طراز آخر، يوحّد القوى أو يجمع شتاتها، فتتكامل حتى حين تتعدد، وتتقاسم الأدوار والوظائف، فتتقارب عناصر المشهد، لكي تقترب من الشعار الأكثر تكريماً للشهداء: الشعب يريد إسقاط النظام!

الأحد، 26 يونيو 2011

إنتفاضة سعد الله ونوس

أفردت أسبوعية "أخبار الأدب" المصرية، في عددها الحالي رقم 935، مساحة كريمة للإنتفاضة السورية، تصدّرها غلاف حمل عبارة سعيد عقل التي خلّدتها أغنية فيروز: "شآم... ما المجد؟ أنتِ المجد لم يغبِ". وبين أبرز موادّ العدد مجموعة من رسائل المسرحي السوري الكبير الراحل سعد الله ونوس (1941 ـ 1997)، إلى رئيسة التحرير، الكاتبة والناقدة عبلة الرويني، تُنشر للمرّة الأولى. وفي تقديم هذه الرسائل، وعلى سبيل تحية الإنتفاضة السورية أيضاً، قال تحرير المجلة: "سعد الله ونوس بيننا الآن... صيحته الممتلئة بالأمل والثقة تهدر في شوارع دمشق، ودرعا، وحمص، وحماه، وبانياس، وجسر الشغور، والحسكة، ودير الزور. الشعوب التي راهن عليها ، تخرج الآن من صمتها، وتثور على (الملوك) و(الأفيال). سعد الله ونوس الأبقى في زمن مليء بالغائبين... رسائله هنا هي بعض من عذاباته وبعض من رؤاه".

موضوعات الرسائل تدور حول ضرورات فهم أعمق لهزيمة 1967، ومساءلة المشروع الناصري، وانطواء صفحة المعسكر الإشتراكي، وحرب الخليج، والمثقف العربي الذي أصابه "عري كامل"، وهشاشة القوى السياسية وضعف قدرتها على المقاومة. ولعلّ مزاج الراحل، في تلك الحقبة، تختصره هذه العبارة الصاعقة: "إننا مهزومون حتى العظم"؛ التي تستدعي مقارنة موازية مع عبارته الأخرى الأشهر: "نحن محكومون بالأمل". وفي رسالة أخرى يتحدّث ونوس عن "الوحدة الداخلية. وحدة فيها تقزر، فيها خوف، وفيها حزن أيضاً"؛ ويضيف: "أتعرفين ما نحن فيِ مجتمعاتنا! إننا ـ نحن المثقفين ـ سلطة ظلّ شاغلها الأساسي أن تصبح سلطة فعلية، أو أن تنال فتاتاً في السلطة الفعلية. إننا قفا النظام، ولسنا نقيضه أو بديله، ولهذا ليست لدينا طروحات جذرية، ولا آفاق مختلفة، والمراوغة تطبع عملنا وتشكل جوهر سلوكنا، يا للخيبة! ويا للحزن!"

أصداء هذه العبارة يمكن أن تتردد اليوم، أكثر من ذي قبل ربما، بصدد تنويعات مواقف المثقفين العرب من انتفاضات شعوبهم، حيث يرتقي بعضها إلى سويّة مشرّفة، كما ينحطّ بعضها إلى درك فاضح، ويراوح تنويع ثالث بين الصمت السلبي أو التواطؤ المقنّع أو الإنخراط المباشر في صفّ الإستبداد. بيد أنّ موقف ونوس من الليبرالية جدير بالإنتباه الشديد، لأهميته الخاصة في ضوء الحاضر، والنقاشات التي دارت خلال السنوات الأخيرة حول مفاهيم الديمقراطية والتعددية والمجتمع المدني والحقوق العامة والخاصة. يكتب ونوس، في سجال مع الرويني: "أدافع عن الليبرالية بمعناها السياسي العميق، بمعنى الحرّية والعقلانية والمجتمع المدني والمشاركة في مصير هذه البلاد التي يتعاور مصيرها قطاع الطرق والأميّون والطفيليون والأتباع". ويضيف: "ألم تكن واحدة من أخطائنا الكبيرة نحن الماركسيين أننا لم نقدّر تراث الليبرالية حقّ قدره، وأنه دون الديمقراطية والعقلانية وحرّية السجال ما كان بوسع الإنتماء الماركسي أن يكون إلا شكلاً جديداً من أشكال الإنتماء اللاهوتي؟".

في الرسائل، أيضاً، شكوى مريرة من طرائق استقبال مسرحية "الإغتصاب"، 1990، التي جلبت على الراحل تهمة التبشير بالسلام مع الدولة العبرية، وتحوّلت إلى "معركة"، وإلى "محاكمة سياسية"، كما تكتب الرويني. والمرء، هنا، يتذكّر شريط السينمائي السوري الكبير الراحل عمر أميرالاي، عن ونوس، وفيه يطلق الأخير عبارة أخرى صاعقة، تضيف المزيد من الرهبة على ذلك الحوار الثقيل والجارح الذي يتسيّد الشريط بأسره: "فلسطين قتلتني"! وكان مدهشاً أن ينتهي صراع ونوس الطويل مع السرطان يوم 15 أيار (مايو)... يوم النكبة، دون كلّ الأيام!

صحيح أنه قَتْل بالإرادة، بمعنى أنّ انخراط ونوس وأمثاله من آلاف المثقفين والكتّاب العرب في الهمّ الفلسطيني حتى النخاع، كان خياراً طوعياً، بل كان على نحو ما ذاتياً وموضوعياً في آن معاً. إلا أنّ من الصحيح أيضاً، في الماضي كما اليوم وغداً، أنّ ذلك الإنخراط اتخذ وجهة قصوى لمعنى الإلتزام والإنحياز والوفاء، وكان قاتلاً بالمعنى الذي قصده ونوس: قتلٌ لرفاه الكتابة المتخففة من أعباء التاريخ، وقتلٌ لرفاه المكوث في أبراج عاجية عالية من أيّ نوع... بعيداً عن ضجيج الأرض، وعذابات أهل الأرض.

.. وبمنأى عن انتفاضاتهم، أيضاً! ترى ما الذي كان الراحل سيقوله اليوم تحديداً، عن عذابات سورية في وجه الطغيان، وعن انتصارات السوريين على تلك الحال البغيضة التي وصفها في إحدى الرسائل: "أما هنا فلا شيءِ إلا الكذب، والفساد، وموت الأمل"؟ وهو، الذي أغمض العينين على مشاهد أقلّ قتامة وقسوة وبشاعة ممّا يشهد وطنه اليوم، هل كان سيكتفي بالصمت، أم سيخرج على الناس شاهراً لافتة الأمل، دون سواها؟ وهل يجوز التفكير، برهة قصيرة واحدة، أنّ هذه ليست انتفاضة سعد الله ونوس؟ أو أنه ليس بيننا، يطلق صيحة الأمل، كما يقول أصدقاؤنا في "أخبار الأدب"؟ مَنْ يتخيّله متحذلقاً حول خروج التظاهرات من المساجد، أو متفلسفاً حول مسؤولية حزب البعث وليس "الرئيس المنتخَب"، كما فعل أدونيس؟

وإذا كان جسمه قد قارع السرطان حتى الرمق الأخير، فكم من جسوم كان سعد الله ونوس سيقسّم نفسه فيها، من أجل دحر الخوف والحزن والخيبة، وهزيمة المثقف/ قفا النظام لصالح البديل النقيض، ومقارعة ما يُدبّر لسورية من... سرطانات أدهى؟
27/6/2011

السبت، 25 يونيو 2011

رسالة أدونيس إلى بشار الأسد: إنحياز مطلوب في توقيت محسوب

 شاء الكثيرون القول إنّ أدونيس تأخر في توجيه رسالته الى بشار الأسد، وأنّ زمن المناشدة قد فات، بعد دخول الإنتفاضة السورية شهرها الرابع، وسقوط أكثر من 1500 شهيد، وإصابة أكثر من 6000 جريح، ونزوح 11 ألف مواطن إلى تركيا أو لبنان، واعتقال الآلاف. وهو قول يفترض حسن نيّة مزدوجاً: من جهة أدونيس، الذي توجّب أن يناشد الأسد في مرحلة أبكر، عند الشهيد رقم 500 على سبيل المثال؛ ومن جهة الآملين خيراً في الأسد نفسه، إذْ لعلّه كان سيستجيب للمناشدة الأدونيسية، فيتحقق ما يصبو إليه الشاعر، وما يظنّ أنه رغبة الأسد نفسه في نهاية المطاف (يخاطبه هكذا: ألستَ "قبل كل شيء رئيس بلاد وشعب"؟ و"بوصفك خصوصاً رئيساً منتَخَباً"، أليس "قدرك هو أن تفتدي أخطاء" التجربة التي "يمثلها حزب البعث العربي الاشتراكي، نظراً وعملاً، ثقافةً وسياسة"؟).

وإذا صحّ، بالفعل، أنّ أوان المناشدة قد انطوى ولم يعد هنالك شك، حتى لدى أدونيس نفسه، في استقرار النظام على حلول العنف القصوى، فإنّ توقيت توجيه رسالة الشاعر إلى الطاغية كان دقيقاً وذا وظيفة حيوية بالنسبة إلى المرسِل، وكان نافعاً وذا مغزى إنحيازي بالنسبة إلى المستقبِل. لقد حاقت الأهوال بشرائح واسعة من أبناء الشعب السوري لأنهم تظاهروا من أجل الحرية والكرامة والمستقبل الأفضل. وفي المقابل لجأ النظام إلى أبشع أنساق العنف، وبدأ باستخدام الرصاص الحيّ، وانتقل إلى حصار المدن بالدبابات وقصفها بالمدفعية وراجمات الصواريخ والحوّامات، ولم ينته عند العقاب الجماعي وتعذيب الأطفال وقتلهم والتمثيل بجثثهم، والدوس بالنعال على جباه البشر. وفي هذا، ورغم أنه يساوي بين الجلاد والضحية في المسؤولية عن "الإنهيار" في سورية، وعن "تشويه صورتها الحضارية بأوحال "الطائفية" و"العشائرية" و"المذهبية"، فضلاً عن "وحل التدخل الخارجي"... لا يملك أدونيس إلا الإشارة إلى أوحال أخرى يصعب أن تكون للضحية يد فيها: "التعذيب والقتل والتمثيل بجثث القتلى".

طراز آخر من الوحل، تفادى أدونيس التوقف عنده، هو ذاك الذي تلطخت به سمعة النظام السوري في المحافل الثقافية والفكرية والسياسية، العربية والعالمية، فتوالت بيانات ذات حسّ إنساني وأخلاقي شجاع، وقّع عليها الآلاف، وامتزجت فيها مواقف تأييد الإنتفاضة مع مشاعر إدانة النظام وشجب ممارساته الأخلاقية. لم يوقّع أدونيس على أيّ من هذه البيانات، بالطبع، ولكنّ السؤال المنطقي اللاحق هو التالي: هل يعقل أنه ـ هو الذي يتمتع بدرجة وافية، وكافية، من الذكاء وحسن تقدير الموقف، وانتهاز الفرصة المناسبة في التوقيت المناسب ـ لم يدرك أنّ توجيه مثل هذا النصّ الإستعطافي، إلى مثل هذا "الرئيس المنتخَب"، الآن إذْ تنفلت أجهزته الأمنية من كلّ عقال ضدّ الشعب، بأمر مباشر منه... هو مقامرة خاسرة، لا محالة؟ كيف فاته مقدار الضرر الأخلاقي الذي سيلحق بسمعته كشاعر سوري، له صيت حسن في أوساط عالمية لا يجمعها جامع مع الإستبداد والمستبدين، فضلاً عن كونه أحد أبرز المرشحين العرب لجائزة نوبل للآداب؟

باختصار، كيف لم يتنبه أدونيس إلى أنّ نظام بشار الأسد آخذ في الإنهيار التدريجي، بدليل ازدياد جرائمه وضحاياه؛ واتساع الهوة بينه وبين الشعب، حتى صارت شاسعة فاغرة لا تقبل الردم؛ وأنّ حلفاءه لا يتناقصون فحسب، بل ينقلب بعضهم إلى خصم صريح، أو خصم صامت؛ وأنّ خلاصة المعادلات هذه تقول إنّ النظام آيل إلى سقوط؟ الجواب الأبسط هو أنّ توقيت رسالة أدونيس لم يكن اعتباطياً، بل كان مطلوباً ومنتظَراً، لهذا السبب تحديداً: أنّ النظام، في هذه الساعات الحرجة التي تعصف بركائزه، بحاجة إلى كل أصدقائه، وينتظر منهم انحيازات واضحة صريحة لا تقبل الغمغمة أو التأتأة، وتقتضي الإصطفاف داخل خندق الصراع من أجل البقاء، وتأبى التفرّج من التخوم أو المشارف، فما بالك بالوقوف على الأطلال!

في عبارة أخرى، لم يعد مجدياً أن يتابع ادونيس ما دأب عليه منذ انطلاقة الإنتفاضة السورية (التذرّع بالدفاع عن العلمانية بغية التشكيك في تظاهرات تخرج من الجوامع، أو التباكي على الوطن الجميل الذي يتشوّه، أو التحذير من مخاطر الإنقسامات الطائفية... وتلك كانت موضوعات مقالاته السابقة). المطلوب الآن لا يقلّ عن الوقوف خلف رأس النظام، بشار الأسد شخصياً، واعتباره صمّام الأمان المنقذ والمخلّص، بعد تنزيهه من الموبقات جمعاء: أخطاء التجربة البعثية، مثل أوحال القتل والتعذيب والتمثيل بالجثث. لكنّ أدونيس ليس فقير العقل، أو ضعيف الإطلاع، لكي يجهل أنّ الأسد نفسه، وليس سواه، هو الأمين العام لهذا الحزب الذي تُلصق به كلّ هذه الموبقات، وبالتالي إذا كان ربّ البيت بالطبل ضارباً، فهل من شيمة أخرى لأهل البيت سوى الرقص؟

وأدونيس ليس ساذج الحجة أو ركيك المحاججة لكي يعلّق الحراك الشعبي السوري، الذي يدخل شهره الرابع أكثر عمقاً وتجذراً، على مشجب حزب البعث تارة، ومشجب الجوامع التي ينطلق منها المتظاهرون تارة أخرى؟ ألا يعلم، حقّ العلم في الواقع، أنّ حزب البعث صار جثة شبه هامدة منذ عقود، وأنه ليس البتة حاكم سورية بل محض استطالة للأجهزة الأمنية، وغالبية أعضائه خدم عند تلك الأجهزة قبل أن يكونوا حملة عقيدة أو فكر سياسي. كذلك يعلم أدونيس أن التظاهرات خرجت من الجوامع في الأسابيع الأولى من الإنتفاضة لأنّ المسجد، وملعب كرة القدم، هو الفضاء الوحيد الذي لا يُمنع المواطنون من الإحتشاد فيه؛ كما يعلم أنّ التظاهرات لم تعد تنطلق من الجوامع وحدها، ولم تعد تقتصر على أيام الجُمَع أيضاً.

وليس بجديد التذكير بأنّ أدونيس كان صديقاً لآل الأسد، منذ استيلاء حافظ الأسد على السلطة سنة 1970 وحتى الساعة، وأنّ صداقاته مع رجالات النظام لم تقتصر على الشخصيات الثقافية (إذْ كان هؤلاء الأتعس حظاً معه، كما في مثال رئيس اتحاد الكتاب السابق علي عقلة عرسان)، بل ضمّت أمثال اللواء المتقاعد علي حيدر (القائد الأسبق للوحدات الخاصة، وأحد كبار ضبّاط مجزرة مدينة حماة، خريف 1982)؛ والضابط المتقاعد السفير سليمان حداد، رئيس لجنة الشؤون العربية والخارجية في مجلس الشعب، والمقرّب من الأسد الأب؛ واللواء المتقاعد محمد ناصيف، أحد كبار ضباط جهاز المخابرات العامة؛ فضلاً عن السيدة أنيسة مخلوف (والدة بشار الأسد، التي يجمعها مع أدونيس انتماء سابق إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي). وحين توفي الأسد الأب، أرسل أدونيس برقية تعزية (وقد يكون الواجب إنسانياً صرفاً، هنا، لولا أنّ المرء ليس مضطراً للتعزية في رحيل الطغاة)؛ كما أرسل برقية تهنئة حين تمّ توريث الأسد الابن، بعد تعديل الدستور خلال دقائق، ليتناسب مع عمر الوريث (وهنا أيضاً، لا يصفّق المرء لجمهورية وراثية دون أن يكون صديقاً وفياً لطغمتها الحاكمة).
 
ولم يتخلّف أدونيس عن هذه المهمة، والحقّ يُقال، فأثبت أنه صديق صدوق للنظام، وهنا الفحوى الأهمّ في رسالته. لقد امتدح رأس النظام واعتبره القادر على إعادة "الكلمة والقرار إلى الشعب"، ومحو "صورة الرئاسات السابقة في سورية". وقال في ذمّ المعارضة السورية ما لم تتجاسر أجهزة النظام ذاتها على التفوّه به (هنا بعض صفاتها، عنده: "لحمة ضدّية عنفية، تغلب عليها نبرة التهييج والثأرية والدينية الطائفية أو السلفية). وأمّا ما تبقى من كلام حول الديمقراطية الممتنعة عن العرب، و"زمن السماء، الجمعي والإلهيّ"، مقابل "زمن الأرض، الفرديّ والإنسانيّ"، و"ثقافة المساومات، والترضيات، والابتزازات، والاحتكارات، والإقصاءات والتكفيرات، والتخوينات، إضافة إلى ثقافة القبليات والطائفيات والعشائريات والمذهبيات"... فهو محض اجترار أدونيسي عتيق باهت، لم يعد مكروراً فحسب، بل صار سفسطة جوفاء.

ويخطر لي أنّ أفضل الردود على رسالة أدونيس جاءت من بشار الأسد شخصياً، في خطابه الثالث قبل أيام. وليس لأدونيس عذر في القول إنه، وهو الرائي البصير، لم ير أي وليد أعطى ذاك المخاض!

"أخبار الأدب"، 26/6/2011

الخميس، 23 يونيو 2011

الأسد والخطاب الثالث: مخاض شكلي أم انحناء أمام العاصفة؟

حين يخرج بشار الأسد عن نصوص خطاباته المكتوبة، فيلجأ إلى الإرتجال بدل التلاوة، فإنه لا يستفيض في بواطن خافية أو غامضة أو مدعاة شرح إضافي في واقع الأمر، بل يكشف النقاب عن تفاصيل جرى تغييبها عن سابق قصد، لأسباب شتى، قد تأتي في طليعتها رغبته في إحداث تأثير دراماتيكي خاصّ، أو ممارسة الدعابة والمزاح، أو إطلاق واحدة من ضحكاته التي صارت شهيرة الآن، على نطاق دولي والحقّ يُقال. في عبارة أخرى، إنه يتجلى حقاً، في مستوى شفاهي يتيح فرصة أفضل للتعرّف على أفكاره، أو إعادة قراءة النصّ على نحو أوضح، وقد يحدث ـ مراراً في الواقع، ولعلها القاعدة وليس الإستثناء ـ أن تنقلب زلّة لسان هنا، أو صياغة متسرّعة هناك، إلى مفاتيح جازمة تفسّر الخطاب من الألف إلى الياء.

وهكذا، في حال الخروج عن النصّ، يكشف الأسد الكثير من الأفكار الأقرب إلى دخيلة نفسه، والتي أوعز لكاتب خطبه أن لا يدرجها في النصّ المكتوب، أو هي مدرجة بالفعل ولكنّ الصياغات الإرتجالية تكسبها معنى مختلفاً، في كثير أو قليل، وحمّال دلالات إضافية في كلّ حال. لعلّ المثال الأشهر هو فاصل الإرتجال الذي شهده خطاب صيف 2006، وانطوى على الغمز من قناة "أشباه الرجال"، المصري حسني مبارك والسعودي عبد الله بن عبد العزيز وآخرين، دون أن يتجاسر الغامز على تسميتهم؛ وكيف سارع الأسد، بعد أقلّ من سنتين، إلى زيارة أولئك الأشباه خلال قمّة الكويت الإقتصادية، فتبادل معهم المصافحة والعناق والقبلات، معيداً إليهم صفة الرجولة كما للمرء أن يتخيّل.

ما يعني هذه السطور هو ذلك الطراز من الإرتجالات التي تخصّ مسألة الإصلاح، والتي أعاد الأسد ارتجال الحديث عن بعضها خلال خطابه الثالث قبل أيام، في مدرج جامعة دمشق، على نحو يذكّر بخطابه أمام ما يُسمّى "مجلس الشعب"، في تموز (يوليو) 2007، أثناء أداء القسم لدورة رئاسية ثانية. آنذاك أفصح الأسد عن جملة أفكار، وأماط اللثام عن جملة أخرى من الحقائق، بينها أنه لم يجد الوقت الكافي للتفرّغ للإصلاحات الداخلية (حتى تلك الإدارية والإقتصادية الأثيرة على قلبه، التي كان حتى وقت قريب يردّد أنّ لها عنده الأولوية على الإصلاح السياسي). ولقد قال، مرتجلاً بالطبع (وننقل عن النصّ الرسمي كما نشرته وكالة الأنباء السورية، سانا، بالحرف وبعلامات الوقف ذاتها): "لم يكن لدينا الوقت حتى لمناقشة أية فكرة لا بالنسبة لقانون الأحزاب ولا لغيرها.. وحتى فى مرحلة من المراحل.. حتى الأولوية كانت الإقتصاد.. لم يكن لدينا الوقت لمتابعة الوضع الإقتصادى.. كنا نخوض معركة مصيرية.. وكان لابد من أن ننجح فى هذه المعركة.. لم يكن هناك خيار أمامنا".

وتوجّب أن نعرف، بذلك، أنّ أيّ إصلاح لن يرى النور في ما تبقى من أشهر العام، رغم أنه يدشّن الولاية الثانية: "طبعاً هذا العام أيضاً.. عام 2007.. هو عام مصيرى.. نحن طبعاً فى النصف الثانى وبقى منه بضعة أشهر.. هذا العام وربما أشهر من هذا العام ستحدد مصير ومستقبل المنطقة وربما العالم كله". عرفنا، كذلك، أنّ الرئاسة ستكون منشغلة بما هو مصيري، والإصلاح استطراداً مسائل هامشية ولا تُصنّف في أيّ مستوى مصيري. بل لقد اتضح، كذلك، أنّ أي توقيت إصلاحي هو رهن بعلم الغيب، ما دامت الإصلاحات ـ مجتمعة أو متفرّقة، ذات أولوية أولى أو خامسة أو عاشرة، سيّان... ـ مرتبطة بمعارك النظام الخارجية، وما هو أبعد (الترتيب الرئاسي سار هكذا: "نحن لسنا منعزلين.. ولا نعيش فى جزيرة.. نحن نتأثر بكل ما حولنا.. نتأثر بالعراق ونتأثر بلبنان ونتأثر بفلسطين.. وبأشياء أخرى.. ربما تكون أبعد").

هل آن أوان "الإصلاح"، في اليوم المئة من عمر الإنتفاضة السورية، بعد سقوط أكثر من 1500 شهيد، وإصابة أكثر من 6000 جريح، ونزوح 11 ألف مواطن إلى تركيا أو لبنان، واعتقال الآلاف؟ ارتجالات
خطاب مدرج جامعة دمشق تقول نعم، بل هي لا تشير أبداً إلى تأثر النظام بالعراق ولبنان وفلسطين، وبقدرة قادر تطمئن السوريين إلى أنّه "لا يوجد من يعارض الإصلاح"! قال الأسد: "أنا شخصياً لم ألتق بشخص في الدولة يعارض الإصلاح والكل متحمس للإصلاح.. المشكلة هي أي إصلاح نريد.. ما هي التفاصيل". المشكلة الأخرى هي أنّ "البعض يريد أو يتوقع بأن القانون يصدر والرئيس يوقع هذا القانون، القضية سهلة. هل ممكن أن يحصل هذا الشيء؟ طبعاً.. هل يؤدي هذا الشيء لنتائج إيجابية ويحقق المصلحة العامة؟ ربما". كذلك: "عندما أقول ربما يعني الاحتمالات واردة.. لا نستطيع أن نقوم بعمل مفصلي وبعملية إصلاح كاملة بعد خمسين عاماً من شكل سياسي معين أن ننتقل من خلال قفزة في المجهول".

والحال أنّ هذه "الدوّيخة" الجديدة تتابع ما دأب عليه الأسد في دوّيخات سابقة وقع الشعب السوري ضحية لها، منذ خطاب القسم الأوّل سنة 2000، حين أعلن وريث حافظ الأسد أنه لا يملك عصا سحرية؛ مروراً بخطاب القسم الثاني، حين اعترف بأنّ "الظروف السياسية والضغوطات"، ومعها "الفوضى العارمة"، هي التي "غيّرت أولوياتنا وبات همّنا الأول هو الحفاظ على الأمن والأمان"؛ وصولاً، بالطبع، إلى حيرته على مدرج جامعة دمشق، بين وجود مجلس الشعب أم غيابه؟ تعديل بعض الدستور، أو كلّه؟ قانون انتخاب لدائرة صغرى أم متوسطة أم كبرى؟ وقانون أحزاب يمنع تحويل سورية إلى "كرة يُلعب بها"، أم قانون يجعلها لاعباً؟ ونتحاور وطنياً خلال شهر أو شهرين؟ عبر مئة شخص، أم أقلّ؟ مَنْ يشارك بالحوار، وما هي المعايير، وكيف نضع المحاور، ومَنْ يشارك في كلّ محور من المحاور؟ وأخيراً، كيف القيام بكلّ هذه الخطوات، تحت ضغط المؤامرة، والمندسّين، والمخرّبين، والإمارات الإسلامية، والتكفيريين، والفارّين من وجه العدالة، والجراثيم، و... عربات الدفع الرباعي!

وبمعزل عن مقدار التفكك في موضوعاتها، وانعدام الترابط بين مفرداتها، فإنّ هذه الحزمة من الإرتجالات يمكن أن تصلح مادّة لاستقراء الخطّ الراهن من تفكير النظام، وعلى مستوى الحلقة الأضيق التي تدير القرار الأعلى تحديداً؛ إذْ يلوح عندها أنّ الحزمة تمهّد لسلسلة انحناءات أمام العاصفة، وسلسلة ترتيبات تتيح تكيّف النظام أمام المتغيّرات، ومعها، بدل السعي إلى اعتبارها عابرة مؤقتة يصحّ فيها الخيار الأمني وحده. وسواء كانت زلة لسان، أم نطق بها عن سابق وعي وقصد، فإنّ محض إشارة الأسد إلى تشكيل "هيئة تأسيسية" تطرح دستوراً جديداً على الإستفتاء الشعبي، تعني أنّ أحد المطالب الرئيسية للمعارضة أخذت تتسلل إلى ذهنه، فغابت عن النصّ المكتوب، وانزلقت إلى الشفاهي المرتجل.

وبين السيناريوهات التي قد تكون في صلب حسابات النظام، وضمن خياراته في المراحل الأخيرة من معركة البقاء، ذاك الذي يجبر السلطة على وضع الحلّ الأمني جانباً، أو بصورة مؤقتة لا تلغي إمكانية العودة إليه في أي وقت. صحيح أنّ المعارك التي يخوضها النظام ضدّ الشعب، كلّ يوم، واعتماداً على الهراوة والاعتقال مثل الرصاص الحيّ والدبابة والحوّامة، تبرهن أنّ الخيار الأمني ما يزال هو المرجّح وهو السائد. وصحيح، أيضاً، أنّ اليد العليا تظلّ لأمثال ماهر الأسد وكتائب "الحرس الجمهوري" المنتخبة، وللمفارز الأمنية التي يقودها اللواء على مملوك، واللواء زهير الحمد، والعميد ثائر العمر، والعميد أنيس سلامة، والعميد حافظ مخلوف (من جهاز المخابرات العامة/ أمن الدولة)؛ واللواء عبد الفتاح قدسية (المخابرات العسكرية)، واللواء جميل حسن (مخابرات القوى الجوية)، واللواء محمد ديب زيتون (شعبة الأمن السياسي)...

صحيح، كذلك، أنّ حديث الأسد عن بقاء الجيش حتى إشعار آخر، لأنه "موجود من أجل أمن المواطنين وأمن أبنائهم" كما قال، يؤكد استمرار النظام في الاعتماد على الحلّ الأمني؛ إلا أنّ الإرتجال اللاحق يوحي بباطن تفكير السلطة أيضاً: "نحن نرغب بالحل السياسي ونتمنى أن يعود الجيش إلى ثكناته بأقصى سرعة". ذلك لأنّ "الجيش" الذي يقصده الأسد ليس كلّ الجيش السوري، ولا نصفه أو ثلثه أو ربعه، بل هو ثلاث كتائب نخبوية التسليح والإمتيازات، اختار ماهر الأسد أفرادها وصفّ ضباطها وضباطها بعناية فائقة، وعلى أسس فئوية ومناطقية لاوطنية تجعلها أقرب إلى ميليشيا خاصة أو عصابة منظمة. وهذه الكتائب، بالتعاون الوثيق مع قطعان "الشبيحة"، هي التي ارتكبت وترتكب الجرائم في درعا وبانياس وحمص وتل كلخ وجسر الشغور ومعرّة النعمان وخربة الجوز، وهي التي تدافع عن الحلّ الأمني وتتعهد تنفيذه.

خشية النظام، وفي هذا يستوي الأسد وشقيقه مع غالبية ضباط الحلّ الأمني، هي أن يؤدّي فشل الحلّ الأمني، وإطالة أمده دون جدوى ملموسة، إلى احتكاك مباشر مع الجيش السوري الفعلي، أي مع أكثر من 300 ألف مقاتل عامل، و300 ألف مقاتل احتياط، ينتشرون في طول البلاد وعرضها، ولم يتدربوا على قتال آبائهم وأبنائهم وبناتهم، أخوتهم وأخواتهم، أطفالهم وشيوخهم، المتظاهرين المسالمين الذين لا يحملون أيّ سلاح سوى الهتاف بالوحدة الوطنية، من أجل الحرّية والكرامة. وحين يتمنى الأسد أن يعود "الجيش" إلى ثكناته، فهو في الواقع يتمنى عودة كتائب ماهر الأسد إلى ثكناتها، قبل أن تدخل في صدام مع سرايا وكتائب وأفواج وألوية وفِرَق الجيش السوري النظامي.

وضمن قراءة مماثلة، لا يتمنى الأسد "أن يعود عناصر الأمن إلى مكاتبهم وأبنيتهم ومواقعهم أيضاً بأقصى سرعة"، إلا لأنّ تجارب 100 يوم من محاولات كسر إرادة الشعب ارتدّت على تلك الأجهزة ذاتها، وربما منذ الأسبوع الأوّل، فلم تنكسر سوى صورتها السابقة، التي نهضت على الترهيب والقهر ودوس الكرامات والعبث بكلّ وأيّ قانون. وعلى هذه الاجهزة، في المقام الأوّل، ينطبق أحد أجمل شعارات الإنتفاضة: رصاصكم لم يقتل فينا إلا خوفنا منكم! وبالطبع، لا بدّ أن يكون الحفاظ على ما تبقى من هيبة الأجهزة الأمنية، والإبقاء على بعض شوكتها القمعية، واحداً من العناصر الحاسمة في ستراتيجيات تكيّف النظام مع المراحل القادمة من تطوّر الإنتفاضة.

هو انحناء أمام العاصفة، إذاً، تكشف على نحو غير مباشر، كما انكشف بصفة مباشرة أيضاً، في خطاب الأسد الثالث؛ ولعلّه، إذا صحّ، سوف يفضي إلى إبعاد الخيار الأمني ـ العسكري مؤقتاً، وسحب المبادرة من يد ماهر الأسد (بالتراضي والاتفاق دائماً، ولا يظننّ أحد أنّ الأمر سيتمّ في حلبة صراع بين الشقيقين)، وإعادتها إلى بشار الأسد، ومعاونيه ومعاوناته (وهذا قد يفسّر الظهور، بعد غياب، لأمثال وليد المعلّم وبثينة شعبان). لكنه، في الآن ذاته، مخاض زائف، لولادة تعلن كلّ الوقائع أنها ليست عقيمة ممتنعة عن الصدق والمصداقية والانفتاح والحوار، فحسب؛ بل هي مناورة جديدة يلجأ إليها نظام يلفظ أنفاسه الأخيرة، فاقد لأية قدرة على تعديل بنيته بما يديم صلاحيتها، المستعصية أصلاً على الإصلاح.
23/6/2011

الاثنين، 20 يونيو 2011

المقدّس الثالث

بعد احتجاب دام أكثر من ستة أسابيع، عاد النظام السوري إلى العزف على طنبور "المظاهرات المليونية"، مع تعديل دراماتيكي شهدته المظاهرة التي نُظّمت قبل أيام في العاصمة دمشق: رفع علم سوري ذي مقاسات خرافية، 2300 x 18 متراً، امتدّ على طول أوتوستراد المزّة، وحمله مئات الآلاف. هؤلاء، غنيّ عن التذكير، هتفوا بحياة قائدهم بشار الأسد، وأعلنوا كالعادة افتداءه بأرواحهم وبدمائهم، وجعلوه ثالث ثلاثة أقداس ("الله، سورية، بشار... وبسّ!"). وكالعادة، مرّة أخرى، لم يتسلل إلى صفوفهم مندسّ واحد أو مندسّة، ولم تُرفع عصا، أو تُطلق رصاصة، أو تُلقى قنبلة مسيلة للدموع، ولا اضطر إلى التدخلّ أي من رجال الأمن والشبيحة، حماة الوطن والمواطن.

حسناً، "صحتين يا شباب!"، كما يقول التعبير الشعبي الشائع؛ فما الضير، إذاً، أن يخرج بضعة آلاف من المواطنين، السوريين أباً عن جدّ بدورهم؛ وأن يحملوا ـ كما فعل أباة مدينة حماة يوم جمعة صالح العلي الماضية ـ عَلَماً قياسياً بدوره، أقلّ طولاً بالطبع؟ ولماذا لا يفعلها الدمشقيون في ساحة عرنوس، مثلاً، لكي لا نقول ساحة العباسيين، التي قد تستنفر السلطات الأمنية لأنها تذكّر بمشاهد ساحة التحرير القاهرية؟ وما الجريمة، "الإندساسية" أو "السلفية" أو "المؤامراتية"، في أن يهتف الحمويون والدمشقيون والحلبيون، والسوريون في أيّ وكلّ شبر من أرجاء وطنهم، بثالوث آخر مقدّس لديهم: "الله، سورية، حرّية... وبسّ"؟
أسئلة، على سذاجتها الظاهرة في ضوء خيارات النظام العنفية القصوى ضدّ الإنتفاضة، تصلح نظائر بسيطة ومبسّطة لمساجلة أبواق النظام، حول ما يجعل مظاهراتهم وطنية، شرعية، محمية، مغطاة إعلامياً؛ ومظاهرات سواهم من السوريين جديرة بالهراوة والعصا الكهربائية والرصاصة، وباتهامات لا عدّ لها ولا حصر. ولا نعدم، بالطبع، بوقاً فهلوياً لوذعياً يرفع عقيرته بالقول إنه مع التظاهر الشعبي "البريء" و"المخلص" و"غير المرتبط بقوى أجنبية متآمرة"، ولو وقعت عيناه على مظاهرة واحدة من هذا الطراز، لانخرط فيها دون إبطاء! ويحدث، في كلّ الأحوال، دائماً وليس غالباً، أنّ صاحبنا يجوب أحياء دمشق طولاً وعرضاً، فلا يعثر على ضالته!

ثمة، إلى هذا، بعض الفوارق التي تُسجّل لنظام بشار الأسد، بالمقارنة مع نظام أبيه، على صعيد هذه التظاهرات تحديداً، وبصدد طرائق تنظيمها وتسييرها، ومضمون شعاراتها وهتافاتها، و"تقنيات" توظيفها إعلامياً وسياسياً و... ديماغوجياً. ففي أيام الأسد الأب كانت التوجيهات العليا، الآتية من مصادر مختلفة في الهرم الأمني أو الحزبي أو البيروقراطي، تحثّ على تشجيع الإحتفالات والمسيرات الشعبية، ابتهاجاً بالإستفتاءات الرئاسية على نحو خاصّ. لكنّ تلك التوجيهات كانت تُنقل على نحو غير مباشر، أو غير رسمي بالأحرى، وكان مُصْدِروها يراهنون على أنّ اللبيب من الإشارة يفهم، ويحدث دائماً أنه يفهم بالفعل، حقّ الفهم.

أمّا في هذه الأيام فإنّ القيادة القطرية لحزب البعث الحاكم، بتعاون وثيق مع هذا أو ذاك من أجهزة الأمن المعنية، استقرّت على إسقاط هذا الحياء (غير المبرّر، يشهد الله!)، وإصدار توجيهات رسمية إلى فروع الحزب واتحاد الطلبة واتحاد الشبيبة ومنظمة طلائع البعث، فضلاً عن الوزارات والمحافظين والمؤسسات والقطاعات المختلفة، تحثّ على السماح للشعب بالتعبير عن أفراحه. في عبارة أخرى، تقول التوجيهات: بالإضافة إلى تسيير المظاهرات وإجبار الموظفين والعاملين في القطاع الخاص والطلاب والتلامذة على السير فيها، لا تمنعوا "الأفراح" في الشوارع، ولا تترددوا في تأجيل الإمتحانات المدرسية إذا كانت تتعارض مع "المسيرات الشعبية". كذلك، إذهبوا أبعد ما تستطيعون في تسجيل مشاعر السرور والغبطة والحبور، ولا تقتصروا في هذا على "أبناء شعبنا في سورية" وحدها، بل اقصدوا "الأشقاء العرب من المحيط إلى الخليج"، وسجّلوا عبارات تأييدهم لنا ولقائدنا المفدّى!

وبالفعل، أتى حين من الدهر شهد اكتظاظ وكالة الأنباء السورية الرسمية، سانا، بسلسلة من الأقوال الماثورة، بينها قول الأديب التونسي ساسى حمام: "يحقّ للشعب السورى أن ينشر مظاهر الزينة فى كلّ المدن والقرى السورية لمناسبة ترشيح الرئيس بشار الأسد لولاية دستورية جديدة، وذلك تعبيراً عن اختياره الحرّ فى مواصلة واستمرار النهج الذى اختاره بشار الأسد وطنياً وقومياً وعالمياً"؛ أو عبد الوهاب عبد الحميد، نائب رئيس مجلس النواب اليمني: "الرئيس بشار الأسد جّسد فى سياسته المشروع القومى والحفاظ على الثوابت الوطنية والقومية"؛ أو الكاتب المصري محفوظ عبد الرحمن: "الشارع العربي كلّه مع بشار الأسد"...

أقوال كهذه صارت اليوم صعبة، وربما مستحيلة، ليس لأنّ قائليها توقفوا عن إبداء أرائهم، صدقاً أو رياء؛ بل لأنّ المشاهد الوحشية الآتية من درعا وبانياس والبيضة واللاذقية ودوما وحمص وجسر الشغور، وشريط الفتى حمزة الخطيب، وسواه من شهداء الإنتفاضة، الأطفال والنساء والشيوخ، باتت تعقد اللسان، صدقاً أو رياء، هنا أيضاً. وتخيّلوا، في صورة مضادّة موازية، لو أنّ العَلَم ذا الـ 2300 متراً رُصف بصور الشهداء الذين تجاوز عددهم الـ 1500، وصور المعتقلين الذين بلغوا أكثر من 10 آلاف، وصور النازحين الذين قاربوا الرقم ذاته... فكم من الأمتار الإضافية سوف تقتضي الحاجة؟ وكم من أوتوستراد يلزم، حتى تصبح حرّية الوطن هي المقدّس الثالث؟

الخميس، 16 يونيو 2011

ماهر الأسد: صاحب مشروع... أم أداة تنفيذ؟

لم يكن تطوّراً عابراً أن يذهب رئيس الوزراء التركي، رجب طيب أردوغان، إلى حدّ اتهام ماهر الأسد بارتكاب 'الفظائع' والأعمال 'الوحشية'، رغم معرفة أردوغان الأكيدة بأنّ الموصوف ليس شقيق بشار الأسد، صديق تركيا وحليفها حتى أمد قريب، فحسب؛ بل هو، أيضاً، الرجل الثاني في مركّب السلطة الأمني/ العسكري/ الاقتصادي، والآمر التنفيذي الأوّل لإدارات الأجهزة الإستخبارية والوحدات العسكرية الخاصة ذات التسليح النخبوي والولاء الأعمى للنظام (الحرس الجمهوري والفرقة الرابعة، بين تشكيلات أخرى). هذا التصريح حدّ، فاصل تماماً، ينقل الموقف التركي من حال إلى أخرى مختلفة، تنذر بما هو أشدّ اختلافاً، وخطورة أيضاً، في قادم الأيام القليلة.

أغلب الظنّ أنّ التقارير الإستخبارية المكثفة (التي أوضح الرئيس التركي عبد الله غل أنّ القيادة التركية تتلقى الكثير منها، يومياً) أخذت تتوقف، أكثر فأكثر، عند أدوار ماهر الأسد في ما يرتكبه النظام السوري من أعمال عنف قصوى ضدّ التظاهرات. كذلك صار جلياً، دونما حاجة إلى استقصاء واستخبار، أنّ خيارات العنف لم تعد تقتصر على نشر الدبابات وإطلاق النيران من المدفعية وراجمات الصواريخ؛ بل تعّدتها إلى استخدام المروحيات، ليس لترويع الأهالي فقط، بل لقصف قرى وبلدات بأكملها، على نحو عشوائي. وكانت وقائع ما جرى في بلدة شهيدة مثل جسر الشغور، ثمّ في معرّة النعمان بعدها، سواء في ما يخصّ نزوح الآلاف أو تطبيق سياسة الأرض المحروقة، كفيلة بإقناع الأتراك أنّ النيران تقترب من الخطوط الأولى، الحمراء، للأمن القومي التركيô هنا، حيث لا يطيق الجنرالات الأتراك ألعاب الساسة والسياسة!

منطقي، استطراداً، أن لا يسعد الجيران الأتراك بأن تُعقد اليد العليا إلى رجل من طراز ماهر الأسد، في إدارة تأزّم النظام السوري، ومآزقه المتراكمة التي صارت تقود إلى سقوط آجل، قد يكون عاجلاً في زمن وشيك أقصر ممّا يقدّر الكثيرون. وكانوا ـ إسوة بغالبية القوى الإقليمية والدولية، ابتداء من إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية، وليس انتهاء بالمملكة العربية السعودية وفرنسا وبريطانيا... ـ يفضّلون بقاء النظام السوري على حاله، مع بعض الإصلاحات التجميلية، التي تعطيه شهادة حسن سلوك تتيح لهم مخادعة الرأي العام في بلدانهم، حول المسوّغات الأخلاقية للتعامل مع نظام استبداد وفساد من هذا الطراز.
وتلك القوى الإقليمية والدولية كانت، وبرهنت أنها على الدوام، مستعدة لاستيعاب 'ممانعة' النظام الكاذبة، ما دامت تقتصر على لعبة محكمة التوازن، ضوابطها صريحة موثقة متفق عليها، بصدد العلاقة مع 'حزب الله' و'حماس' خالد مشعل وإيران؛ وما دام النظام ضمن، ويضمن، أمان الحدود مع الإحتلالَيْن: الأمريكي للعراق، والإسرائيلي للجولان. أمّا الاتراك فإنهم وجدوا ضالتهم في نظام تخلّى عن مغامرات، ومقامرات، حافظ الأسد في تحويل بعض الأحزاب الكردية السورية و'حزب العمال الكردستاني' إلى ورقة ضغط على تركيا؛ كما سلّم بضمّ لواء الإسكندرون السوري إلى تركيا، حتى صارت نشرة الأحوال الجوية على التلفزة السورية تحذف اللواء السليب من الخريطة السورية. هذا فضلاً عن التجارة النشطة، سواء مع القطاع الخاصّ أو قطاع الدولة، والتي تميل كفّتها الرابحة إلى تركيا بمعدّلات غير متكافئة أبداً، تجعلها تبدو أقرب إلى الإتجار من طرف واحد!

كذلك يقول المنطق إنّ الأتراك يعرفون انه لا تناقض بين بشار الأسد وشقيقه، وبالتالي لا تصارع بينهما، حتى الساعة على الأقلّ؛ بل ثمة ألف سبب وسبب يجعل الشقيقين أكثر تماسكاً واتحاداً، في وجه ما يتعرّض له النظام من مخاطر جدّية، ضمن المازق الراهن، الشامل. لكنّ هذه الخلاصة، التي تفهمها الأتراك على الدوام، شيء؛ والعواقب الوخيمة التي نجمت وستنجم عن تولية ماهر الأسد يد العنف العليا، وارتكاب 'الفظائع' والأعمال 'الوحشية'، شيء أخر مختلف، وأشدّ مضاضة. ومن هنا تصعيد اللهجة ضدّ الشقيق الصغير تحديداً، وتعيينه بالاسم، عن سابق قصد؛ والمراوحة بين نبرة النصح والإرشاد تارة، والوعيد بنفض اليد أمام مجلس الامن الدولي طوراً، في ما يخصّ الشقيق الكبير.
وبمعزل عن الإشارة التركية هذه، في وسع المراقب للمشهد الداخلي لمعمار القرار داخل النظام السوري، طيلة الأشهر الثلاثة من عمر الإنتفاضة السورية، أن يستنتج ثلاثة أطوار:

ـ الأيام الأولى، التي شهدت استخدام الرصاص الحيّ ضدّ متظاهري درعا، وسقوط عدد من الشهداء، حين خُيّل للنظام أنّ إراقة دماء مبكّرة سوف تتكفّل بقطع دابر الحراك الشعبي. وليس مستبعداً أن رأس النظام كان، آنذاك، على يقين من أنّ التظاهرات في سورية غير ممكنة، أو محدودة للغاية، وعابرة تماماً، استناداً إلى القناعات التي أعرب عنها في حديثه مع صحيفة 'وول ستريت جورنال' قبل الإنتفاضة بأسابيع.

ـ الطور الثاني شهد تسويق خطاب 'سياسي' على نحو ما، تولّت بعضه بثينة شعبان، وتابع بعضه نائب الرئاسة فاروق الشرع، وآخرون من ممثّلي السلطة الأقلّ شأناً، مثل سميرة المسالمة رئيسة تحرير 'تشرين' السابقة. هذا الطور انطوى على تبشير بوعود 'إصلاحية' ورفع رواتب، وأوامر رئاسية 'مشددة' بعدم إطلاق النار على المتظاهرين، واعتبار جميع القتلى في عداد الشهداء، والتلويح بانفتاح على المعارضة، أو إجراء 'مفاوضات' مع بعض المعارضين. بالطبع، نعرف أنّ هذا الطور كان قصيراً، جدّ قصير في الواقع، وانتهى إلى مآلات أسقطت المزيد من أقنعة النظام، وأثارت الشفقة على ما انتهت إليه تصريحات شعبان والشرع والمسالمة.

ـ الطور الثالث، الأطول والراهن حتى الساعة، هو ذاك الذي تسلّم فيه ماهر الأسد مقاليد القرار الأمني ـ العسكري، باتفاق تامّ مع شقيقه، وبتوجيهات من الرئاسة تعزّز هذا التوجه، صدرت إلى إدارات الأجهزة الأمنية كافة، وإلى رئاسة الأركان وغُرَف العمليات وقادة الفرق. وبين القرارات الأولى الفورية التي اتخذها ماهر الأسد، حين آلت إليه مقاليد كسر الإنتفاضة، كانت إجراء سلسلة من المناقلات بين ضباط ثلاث كتائب في الحرس الجمهوري، سوف يُعهد إليها بأعمال حصار المدن واحتلال الساحات والشوارع، واستخدام مختلف النيران وصنوف الأسلحة، فتوجّب بالتالي أن يكون الولاء الأعمى والمطلق هو سمة ضباط هذه الكتائب.

ثمة، إلى هذا، شطر اقتصادي ومالي ـ إستثماري، يكمل الطور ذاته، تولى رامي مخلوف الإفصاح عنه في تصريحاته إلى صحيفة 'نيويورك تايمز'، والتي شاء رجل الأعمال الأوّل في سورية، وابن خال الرئاسة، أن يوصل من خلالها مجموعة رسائل إلى عناوين مختلفة: واحدة تذهب إلى إسرائيل، والولايات المتحدة بالطبع، حول الإستقرار المتبادل بين النظام السوري وتل أبيب؛ وأخرى تذهب إلى كبار تجار دمشق وحلب، وكبار مساهمي 'شام القابضة'، وإلى آل نحاس وآل الشلاح وآل الغريواتي وسواهم، تقول إننا نحن أيضاً نحكم هذا البلد، بالتضامن والتكافل مع ماهر الأسد وبشار الأسد؛ وثالثة تذكّر بأنّ بقاء الأعمال والأشغال على هذه الحال من النهب، خارج كلّ قانون وكلّ شرعة، رهن بمنجاة النظام وبقائه، وهذه معركة تُخاض حتى الرمق الأخير، بوسائلنا المالية مثل وسائلهم الأمنية والعسكرية!
هذه الحال تعيدنا إلى مطلع العام 1994، حين توفي باسل الأسد، كبير أنجال حافظ الأسد، في حادث سيارة، وتوجّب أن يختار الأب واحداً من الشقيقين، بشار وماهر، للإنخراط في عمليات التدريب لوراثة السلطة (استُبعد الشقيق الثالث، مجد، لأنّ وضعه الصحي لم يكن يؤهله للحكم أصلاً). ولسوف تتكشف، ذات يوم، ملابسات تصارع قرار الأب بين ماهر، الذي كان المفضّل لأسباب تخصّ شخصيته العسكرية، ومزاجه المتشدد، وميله إلى التصلّب والحزم، وانسجامه مع الفريق العسكري والأمني الذي شكّله شقيقه باسل قبل وفاته؛ وبين بشار، الذي اتسم بصفات نقيضة، تقريباً، خاصة وأنه منذ يفاعة شبابه أدرك انّ التوريث من نصيب شقيقه الكبير، فمال إلى هوايات شبابية صرفة، مثل الدراجات النارية الفارهة، وألعاب الكومبيوتر، وأغاني فيل كولنز.

وساعة وفاة شقيقه كان بشار في الثامنة والعشرين، وكان مدنياً؛ وفي أقلّ من سنة واحدة، تحوّل إلى عسكري، وتخرّج من الكلية الحربية برتبة نقيب (على نقيض كلّ القوانين العسكرية المعمول بها في الكلية، التي تحتم أن يتخرّج الطالب الضابط برتبة ملازم). وخلال شهرين فقط رُفّع إلى رتبة رائد، رغم أنّ القوانين تنصّ على خدمة لا تقلّ عن أربع سنوات قبل الترفيع إلى رتبة عليا جديدة. ولم يمض عام آخر حتى رُفع الرائد إلى عقيد، قافزاً عن رتبة المقدّم؛ وفي أقلّ من ستّ ساعات ـ في حزيران (يونيو) 2000، عقب وفاة أبيه حافظ الأسد ـ رُفّع العقيد إلى رتبة فريق أوّل، وقائد عامّ للجيش والقوات المسلحة؛ قبل أن يُسمّى أميناً عاماً قطرياً لحزب البعث الحاكم، وأميناً عاماً قومياً (حتى دون أن ينعقد المؤتمر القومي للبعث!)، ومرشحاً لرئاسة الجمهورية.

خلال سنوات التوريث الأولى، انشغل الوريث بتدبّر خطواته في منعرجات، فضلاً عن سراديب ودهاليز، نظام 'الحركة التصحيحية' الجهنميّ، الذي أحكم الأسد الأب مغاليقه، وأقام معماره على توازنات قلقة، وتسيّده طيلة ثلاثة عقود. من جانبه كان ماهر الأسد، بقرار من شقيقه، وباتفاق تامّ مع برامج التوريث، يشيّد ببطء تلك 'الوراثة' الأخرى، الخافية عن الأعين والعدسات، الأقوى نفوذاً وبطشاً لأنها تشتغل في مستويات العسكر والأجهزة الأمنية، ولأنّ ما تنتجه من منظومات ولاء واستيلاء لها صفة المشروع المتكامل الذي يتمتّع بامتيازَيْن في آن معاً: القرار المفوَّض، وأداة التنفيذ الطيّعة.

ولقد لعبت تلك المنظومات أدوارها الحاسمة على امتداد الأزمات التي واجهتها سيرورة توريث بشار الأسد، ابتداء من استبعاد رجالات الحرس القديم، مروراً بتحييد أو تصفية الحرس الفتي الذي أوشك على تشكيل مراكز قوى شبه مستقلة، وليس انتهاء بضبط تقاسم النفوذ والمحاصصات المفتوحة داخل عائلة السلطة، بين الشقيق والشقيقة والصهر والعمّ وأبناء العمّ والخال وأبناء الخال...

ماهر الأسد صاحب مشروع شخصي، إذاً، يستمدّ مشروعيته من تلك الحيرة التي انتابت الأسد الأب ساعة وفاة وريثه المُعَدّ، باسل؛ كما يستأنس بتراث سابق، داخل البيت الأسدي، شهد طموحات رفعت الأسد في الإستيلاء على سلطة شقيقه الغارق في غيبوبة. لكنّ ماهر الأسد أداة تنفيذ، أيضاً، لا تتورّع عن ارتكاب 'الفظائع' والأعمال 'الوحشية'، أياً كانت بشاعتها، في سبيل الحفاظ على أواليات حكم وهيمنة ونفوذ، هي الباب والبوّابة إلى المُلْك والسلطان. ولكن، إذْ يقترب النظام من غيبوبة جديدة، فإنّ استمرار الشقيق الصغير في حمل المشروع والأداة، سواء بسواء، لن يكون يسيراً بعد اليوم، وسيفقد المزيد من الرضا والتوافق؛ ليس داخل الحلقة الأضيق في عائلة السلطة وحدها، بل على امتداد معمار النظام. لا رادّ للغيبوبة، إذاً، ولا محيد عن انقلابها إلى حتف أخير، ختامي.

القصيدة، أرض الإنتفاضة السورية

شكراً للفنانة حلا عمران
وللفنانين وسام عربش، أرنو ألديجيه، جان داميان باربان، منعم عدوان
الذين أحيوا أمسية شعرية غنائية بديعة، ورفيعة، تضامناً مع الإنتفاضة السورية
جامعة باريس ـ 8، 15/6/2011



الأربعاء، 15 يونيو 2011

استعادة قديم، بمناسبة رسالة أدونيس المفتوحة إلى بشار الأسد 3ـ 3: متى سيخون أدونيس وطنه؟

في عددها للأسبوع الماضي نشرت أسبوعية "الوسط" حواراً مطوّلاً مع أدونيس احتوى، في ما احتوى، على مواقف مدهشة ـ نقضية ومتناقضة، في آن معاً ـ تجاه مسألتين: تصويب "سهامه النقدية نحو الشعر الوطني"، والإستعارة ليست من عندنا بل استخدمها محرّر "الوسط" في العمود الذي يعرض لموادّ العدد؛ وإعمال الفأس (والإستعارة من عندنا هذه المرّة) في مختلف اتجاهات الفكر العربي، الذي يرى أنه "أصولي لأنه ينطلق من حقائق نهائية". وليس في آراء أدونيس أيّ جديد لم يقله من قبل، في الصحافة الفرنسية تحديداً، وإنْ كانت صياغاته للآراء المكرورة تلك تكتسب في هذا الحوار نبرة غلواء دراماتيكية لافتة، كما تنهض على تناقض بين القول وما يسري بعدئذ على القائل، وبين المقال وما يكشف عنه المقام الذي يضع القائل نفسه فيه، بنفسه.

حول المسألة الأولى يبدي أدونيس الحزن لأنّ "الشعر عندنا، حتى في وعي معظم شعرائنا لا يزال 'ربابة' و'طنبوراً' من أجل إطراب 'الشعب' وتمجيد 'الوطن'. والحقّ أنّ الشاعر لا يكون وطنياً أو غير وطني بالشعر". ولكن، هل يصحّ التصريح ـ هكذا، بنبرة التعميم شبه التامّ، التي اعتاد عليها أدونيس ـ أنّ الشعر في وعي "معظم" شعرائنا لا يزال ربابة وطنبوراً؟ معظم شعرائنا، حقّاً؟ وإذا صحّ أنّ الشاعر لا يكون وطنياً بالشعر، فهل يصحّ القول تالياً إنّ "الشاعر الذي يوصف شعره بأنه 'وطني' لا يمكن أن يكون إلا شاعراً رديئاً"، كما يعمّم أدونيس هنا أيضاً؟ ليس صحيحاً بالطبع، حتى إذا قصد أدونيس الحديث عن الشاعر المرتبط بالسلطان. وإذا كان التاريخ قد حفظ لهذا النوع من الشعر تسمية أخرى أكثر وضوحاً هي "التكسّب"، فإنّ التاريخ ذاته يعلّمنا أنّ هذا الشعر بالذات لم يكن رديئاً على الدوام، وأنّ الحكم الأخلاقي على نماذجه لا يلغي خصائصها الفنّية التي قد تكون رفيعة، شاء المرء أم أبى.

"جميع الشعراء الكبار كانوا خونة لأوطانهم"، يقول أدونيس في المانشيت، ويقتبس شعراء "خونة" من أمثال بودلير، رامبو، مالارميه، باوند، إليوت، دانتي، المعرّي، المتنبي، أبي نواس. كيف خانوا أوطانهم؟ لا يشرح أدونيس، وإنْ كان يوحي بأن خيانتهم تلك تتمثّل أساساً في أنهم لم يكونوا "شعراء وطنيين". ولكن إذا كان أدونيس شاعراً كبيراً (وهو كذلك دون ريب)؛ وإذا لم يكن شاعراً متكسباً (وهو ليس كذلك، إذا حذفنا قصيدته في مديح الرئيس السوري شكري القوتلي أيّام الصبا المبكّر، وأخرجنا مدائحه للزعيم السياسي أنطون سعادة من باب التكسب، واعتبرنا رثاءه للإمام الخميني واجب علاقات عامّة)؛ ولا يريد أن يكون شاعراً وطنياً (إذا سرنا مع منطقه، فاستبعدنا أن تكون قصيدته في رثاء جمال عبد الناصر شعراً وطنياً)... فكيف خان أدونيس وطنه، إذاً؟ وإذا لم يكن قد فعل حتى الآن، فمتى سيخون؟ وماذا ينتظر؟

ذلك يقودنا إلى المسألة الثانية في الحوار. "الفكر العربي في مختلف اتجاهاته، فكر أصولي، سواء تناول قضايا المجتمع الراهنة أو قضايا الحضارة"، يقول أدونيس بعد أن يذهب مباشرة إلى التعميم هنا أيضاً: "في مختلف اتجاهاته"، بلا استثناء كما يبدو. وهو يتابع: "العمل الأوّل للفكر هو نقد أصله وأصوله، هو نقد المسلمات، لا نقدها وحسب، وإنما الخروج منها كذلك، كلّ شيء يجب أن يخضع للسؤال والبحث. عندما يمارس الفكر العربي هذه الحرية، يمكن القول عنه آنذاك إنه فكر خرج من الأصولية".

كلام جميل ولا اعتراض عليه، لولا أنّ أدونيس نفسه يعفّ (وعَفّ مراراً في الواقع) عن ممارسة الحرّية هذه. وحين يروي لمحاوِرته أنه لم يحاول حتى الآن كتابة اليوميات لسبب ذاتي، فإنه يضيف السبب الثاني "الموضوعي"... الذي لا نحتاج إلا إلى ثلاثة سطور تالية لكي نكتشف أنه سبب ذاتي بدوره، بل شخصي وعائلي أيضاً! يقول أدونيس: "كتابة اليوميات بالمعنى الذي تقولينه [وهو، كما يسير نصّ السؤال، ليس أكثر من معنى انفصال وتأمّل ضمير المتكلم الذي وُضع على الورق] ترتّب على الكاتب مسؤولية لا يتحملها وحده ـ وتلك هي الكارثة ـ وانما يتحملها أفراد العائلة التي ينتمي إليها وبخاصة أخوته وأخواته وأهله الأقرباء"!

ماذا يعني ذلك؟ هل كان في وسعنا أن نشهد أيّ انشقاق ضد أيّة سلطة جائرة (أيّاً كان محتوى سلطتها السياسية أو الإيديولوجية) إذا راجع المنشقّ نفسه مسبقاً، وتذكّر أخوته وأخواته وأهله الأقرباء؟ وكيف ستمارَس الحرية، بوصفها شرط خروج الفكر من الأصولية، إذا قرّر الموشك على الإنشقاق أنّ الوازرة تزر الوازرة الأخرى دائماً، و... "تلك هي الكارثة"؟ وماذا كان سيفعل أمثال محمد شكري وعبده وازن وليلى العثمان وعالية شعيب (الذين يقتبسهم أدونيس كضحايا للسيرة الذاتية)، لو أنهم أقتفوا دربه وتبصّروا في عواقب "الكارثة"؟

ثمّ ألا يقول أدونيس نفسه، في الحوار إياه، إنّ "الشعر تحديداً انشقاق. أو لأكرر ما يراه نيتشه، بعبارة أخرى يكون الشعر مضاداً أو لا يكون"؟ ألا يقول، بوضوح تامّ، إنّ كتابه القادم سوف يكون "نوعاً من سيرة ذاتية، لكن بقدر ما تسمح الأوضاع التي أشرت إليها ـ وإن كنت سأحاول خرق هذه الأوضاع"؟ أيّ "أوضاع" هذه؟ وكيف سيلتزم بما تسمح به "الأوضاع"، وسيحاول خرقها، في آن؟ وكيف سينشقّ حقّاً إذا راعى "الأوضاع"؟

ومتى... متى سيخون الشاعر الكبير وطنه، والحال هذه؟
"القدس العربي"، 7/11/1999

استعادة قديم، بمناسبة رسالة أدونيس المفتوحة إلى بشار الأسد 2ـ 3: أدونيس في سورية

قبل أيام معدودات، وضمن إطار "الحوار الثقافي السوري ـ الأوروبي" الذي تنظمه بعثة المفوضية الأوروبية في سورية، كان الجمهور السوري في مدينتَيْ دمشق وحلب على موعد مع أدونيس، لعلّه الأوّل من نوعه منذ سنوات طويلة، إذا لم يكن الأوّل في نوعيّته على الإطلاق. أمسية شعرية في قصر العظم؛ وأخرى شعرية أيضاً بعنوان "قراءات متقاطعة" في المركز الثقافي الفرنسي، صحبة الشاعر الفرنسي ألان جوفروا؛ وندوة نقدية ـ فكرية عن الشاعر ومعه، بعنوان "أدونيس: الشاعر والمفكر"، في مكتبة الأسد؛ وأخيراً، أمسية شعرية ـ موسيقية في حلب، بعنوان "جاز وشعر".

وهذه الزيارة تستدعي عدداً من الملاحظات ذات الطابع النقدي والفكري والسياسي، ولكنها في البدء تثير شجناً من نوع خاصّ... وعتيق عتيق يتّصل بقاعدة كرامة النبيّ في أهله! أليس من المحزن حقاً أن تجري هذه الأنشطة، النوعية مرّة أخرى في قناعتي، بمبادرة من جهة أجنبية وليس من جهة سورية؟ وإذا كانت المفوضية الثقافية الأوروبية قد اتبعت الأصول واختارت سورية (وليس ألمانيا أو فرنسا) مكاناً لهذه الأنشطة، فما الذي منع اتحاد الكتّاب العرب من طيّ الألاعيب الصغيرة مؤقتاً، والمشاركة في تكريم رجل هو ــ في أوّل الأمر وليس في آخره ــ شاعر كبير ومواطن سوري بارز تماماً علي الصعيد الدولي؟ أليس من المخجل أن لا تنشر صحيفة الإتحاد الرسمية، "الأسبوع الأدبي"، أية تغطية لهذه الأنشطة؟

وأمّا الملاحظة الأولى، السياسية، فهي أنّ الشاعر الكبير تحاشى الخوض في مسائل حقوق الإنسان، وكان في وسعه أن يفعل ذلك دونما عواقب وخيمة، ودونما أية عواقب نهائياً ربما. إنه لم يكن ممنوعاً من دخول بلاده، وهو اليوم يزورها بصورة طبيعية تماماً، أي ليس تحت راية أوروبية؛ وهو ليس مع النظام (مبدئياً، إذْ لا يمكن لشاعر في قامة أدونيس أن يقف مع حكم استبدادي ـ وراثي)، ولكنه في الآن ذاته ليس في صفوف المعارضة (وليس من الصواب أن يطالبه أحدٌ بهذا). ولكنه كان في عداد المثقفين السوريين الذين وقّعوا عريضة الـ 99 الشهيرة، ومن واجبه ــ بمعني أضعف الإيمان كما أري ــ أن يعلن من دمشق تضامنه مع مثقف آخر زميل له في التوقيع علي العريضة، هو الدكتور عارف دليلة، الذي يقبع في سجون النظام إثر محاكمة صورية أشبه بالمسخرة القضائية. وبالطبع، أثير هذه الملاحظة استناداً إلى ما أملك من معلومات حول تصريحات أدونيس في سورية، راجياً والله يعلم أن يأتي مَن يكذّبني ويقول: كلاّ، لقد تضامن الشاعر الكبير مع زملائه السوريين المعتقلين، وقال كذا وكذا.

الملاحظة الثانية، الفكرية، هي أنّ ندوة مكتبة الأسد النقدية شهدت عدداً من تعليقات أدونيس الهامة والجديرة بالمناقشة، مثل هذا مثلاً (وأقتبس علي ذمّة راشد عيسي في السفير اللبنانية): "التأويل اليقيني في الفكر العربي انتقل إلي بنية النظام السياسي، الذي أصبح هو الآخر ذا صفة مطلقة ويقينية، وألغيت فكرة الوطن الذي ينتمي إليه الفرد، وهذا تطوّر لم يحدث ما يشبهه في تاريخ العالم إلا عند العرب. ألغيت فكرة الوطن وحلت فكرة النظام، وهكذا نشأ نظام عربي واحد وبتسميات عديدة (ديكتاتورية جمهورية ديمقراطية) يقصي الإنسان بوصفه كائناً حرّاً يطرح أسئلة على نفسه والوجود والعالم".

والحال أنّ إقصاء الوطن لصالح النظام ليس اختراعاً عربياً، بل استورده طغاة العرب من الخارج، وحدث ما يشبهه في تاريخ العالم، مراراً وتكراراً وكلّما صعد دكتاتور علي جثث الشعب وأشلاء الوطن. وشهد الغرب، قبل الشرق، عشرات الأمثلة على أنظمة استبداد ألغت مباديء المواطنة لصالح عبادة القائد الفرد، وحوّلت الشعب إلى قطيع، وبينها النظام السوري الذي تناساه أدونيس. وللحقّ والإنصاف، كان المفكّر السوري الكبير أنطون مقدسي قد ذكّر بالفارق بين الشعب والقطيع، في رسالة مفتوحة إلى الرئيس السوري بشار الأسد!

الملاحظة الثالثة، النقدية، هي أنّ أدونيس اكتشف أنّ الناس أتوا بأعداد كبيرة إلى أمسياته وندواته، وعن هذه النقطة يقول، نقلاً عن علي الراعي في "تشرين" السورية: "أنا سعيد جداً بقدر ما أنا متفاجيء، ومتفاجيء جداً بقدر ما أنا سعيد بهذا الجمهور، لا سيما وأنني لم أكن في حياتي شاعر جمهور، وإنما كنت شاعر قرّاء أفراد". ومن جانبي، كمواطن سوريّ ودارس شعر، أقول إنني سعيد جداً بإقبال الجمهور السوري على أدونيس، ولكني لست متفاجئاً به البتة. وأعترف أنّ بعض بهجتي يعود إلى أسباب شخصية، لأنّ أدونيس يكمل فيقول: "أعتقد إذا كانت هناك أزمة فيما يتعلّق بالشعر العربي فهي ليست أزمة كتابة، بل هي أزمة قراءة. وبتقديري فإنّ الكتابة الجديدة مقصّرة حتى الآن في خلق قرّائها"؛ وهذا تفصيل نقدي وسوسيولوجي شديد الأهمية، عزيز عليّ تماماً، أناقشه وأكتب فيه منذ سنوات.

ولست أرتاب، أخيراً، في أنّ ذكاء أدونيس وعمق استبصاره للأمور والظواهر، سوف يتيحان له أن يفهم الكثير من الدلالات النبيلة الأخرى وراء احتفاء السوريين به، وأن يردّ لهم التحية كما يليق بقامة كبيرة.
"القدس العربي"  7/7/2003

استعادة قديم، بمناسبة رسالة أدونيس المفتوحة إلى بشار الأسد 1ـ 3: أدونيس والوهابية، عود على بدء

كتب أدونيس، في صحيفة "الحياة" اللندنية السعودية، يردّ على افتتاحية الدكتور سماح إدريس في شهرية "الآداب" اللبنانية، والتي تننقد موقف أدونيس من أفكار الإمام محمد بن عبد الوهاب. وفي الردّ اعتبر أدونيس
أنّ إدريس يفعل "كما فعل من قبل أصدقاؤه الثوريون، بروحٍ سلفيّة، والسلفيون بعباءةٍ ثورية"، دون أن يذكر أيّ اسم، ممّا دعا إدريس (محقاً، في تقديري) إلى أن يبادر فيسعف القارىء بتسمية اثنين من أفراد هذه الفئة الباغية: الدكتور صبري حافظ، وكاتب هذه السطور.

وسأل إدريس، مخاطباً أدونيس: "لماذا لم تُجِبْ إلى هذه اللحظة عن الأسئلة التي طرحها عليك في "الآداب"، قبل 12 عاماً، منتقداك الدكتوران صبري حافظ وصبحي حديدي (الذي تخاله، من دون أن تسميه، صديقي مع أنّني لم أره ولم أتحدَّثْ إليه يومًا)؟ إنْ كنتَ قد نسيتها فسأختصرُها لك هنا: كيف تُدْرج، يا عزيزي، الإمام بن عبد الوهاب ضمن "فكر النهضة" وهو الذي حرّم أنواعاً من الموسيقى، وسوّغ الحجاب، وأفتى بما لا يحصى من الممارسات الرجعية... إلاّ إذا كانت الرجعية مرادفةً للنهضة؟"...

وسواء أكان أدونيس يضعني حقاً في تلك الفئة، وهذا ما أرجّحه بقوّة، ، أو يقصد سواي، فإنّ الإتيان على اسمي يحتّم عليّ العودة إلى بعض تفاصيل ذلك الملفّ المحزن، أدونيس والوهابية، الذي كنت أظنّ أنّ الشاعر الكبير قد طواه بعد 12 سنة. وأبدأ بالقول إنني كنت، في حدود ما أعلم، أوّل مَن اثار حكاية قيام أدونيس وخالدة سعيد باختيار وتقديم نصوص من محمد بن عبد الوهاب، وذلك في هذه الزاوية من صحيفة "القدس العربي"، أواخر العام 1994. وكانت المختارات قد صدرت في بيروت سنة 1983، عن دار العلم للملايين، ضمن مشروع بعنوان "ديوان النهضة" ضمّ مختارات من معروف الرصافي وعبد الرحمن الكواكبي ومحمد عبده ورشيد رضا وجميل صدقي الزهاوي. وقد تساءلت يومذاك عن أمرين:
ـ كيف يبرّر أدونيس إدراج العقيدة الوهابية في فكر النهضة؟
ـ لماذا رفض ـ ويرفض حتى اليوم في الواقع ـ إدراج الكتاب ضمن لائحة أعماله وترجماته ومختاراته؟

ثمّ شهدت مجلة "الآداب"، صيف 1995، سجالاً حول الأمر بدأ من أدونيس، وشارك فيه تحرير المجلة والدكتور صبري حافظ وكاتب هذه السطور. وقد أوضح أدونيس أنّ مقدّمته تلك ليست إلا فصلاً من كتاب "الثابت والمتحوّل"، وإذا كانت قد صدرت في سلسلة النهضة فإنه "أوّل من نقد تلك التسمية، ودعا إلى تغييرها"، مضيفاً: "قدّمت الوهابية بموضوعية كاملة (...) وقد طرحت عليها، بعد عرضها، أسئلة تُظهر مدى الخلل فيها ومدى انفصالها عن الواقع المعيشي الحيّ".

والحقّ أنّ أدونيس، كما ساجلت يومذاك، لم يكن يضيف جديداً بقدر ما يزوّدنا بمادّة لتساؤلات إضافية:

1 ـ أن تكون مقدّمته فصلاً من "الثابت والمتحوّل" (وهي كذلك بالفعل، ولكنها اُضيفت إلى الطبعة الرابعة من الكتاب، 1994!)، أمر لا يغيّر من حقيقة أنها نُشرت قبل 11 سنة في سلسلة النهضة، ثمّ أدخل عليها أدونيس جملة تعديلات تناسب المقام. لقد أوضحتُ بعض هذه التعديلات في حينه، ولن أعود إليها مجدداً، إلا في مثال واحد: في الكتاب يقول أدونيس إنّ "التقدّم في الإسلام، على الصعيد اللاهوتي، ليس أفقياً بل عمودي"، وفي المقدّمة يقول إنّ "التقدّم في الإسلام، على الصعيد اللاهوتي، ليس أفقياً أو عمودياً، بل دائري"! كيف، في غضون زمن قصير قياسي، كان التقدّم الإسلامي عمودياً، فانقلب إلى دائري؟

2 ـ أين، في المقدّمة، نعثر على أسئلة أدونيس التي "تُظهر مدى الخلل" في النظرية الوهابية، و"مدى انفصالها عن الواقع المعيشي الحيّ"؟ أقصى ما تنطوي عليه تلك "الأسئلة" هو غمغمة غامضة حول التاريخ والتقدّم ووثنية المال والواحد السياسي، وليس فيها أيّ موقف نقدي ملموس، وهي لا تشير قطعاً إلى خلل أو انفصال عن الواقع. وفي جميع الأحوال، ليس ثمة التباس في العبارة التصالحية الأخيرة التي تختتم المقدّمة: "هذه تساؤلات [ليست "أسئلة"، إذاً؟] لا تقلل في شيء أهمية التصانيف التي تركها الإمام محمد بن عبد الوهاب. وليس هذا مما تهدف إليه".

3 ـ أين، في المقدّمة أو في أيّ مقام آخر، نقرأ نقد أدونيس لتسمية النهضة أو اعتراضه (الذي يتوجب، والحال هذه، أن يكون واضحاً، صريحاً، بلا غمغمة) على إدراج العقيدة الوهابية في أيّ فكر نهضوي؟ ولماذا لم يُسجّل هذا النقد في المكان الأبرز اللائق به، أي في المقدّمة ذاتها؟

4 ـ في المقابل، ولضرب مثال واحد جوهري، هل من النقد أو الاعتراض، أم هو تبرير وتجميل وتهذيب، أن يساجل أدونيس بأنّ وراء تحريم الإمام للصورة "رؤيا دينية ـ ميتافيزيقية، وأنّ هذه المسألة ليست محصورة في حدود الشرع، كما يذهب بعضهم، وليست مسألة تفسير متزّمت أو ضيّق للدين، كما يرى البعض الآخر"؟ أليس عجيباً أن ينفي عن تحريم الصورة أيّ تزمت أو تفسير ضيّق للدين؟ أليس مدهشاً أن يرى في التحريم "رؤيا"... هكذا، ليس أقلّ؟ بل يذهب أبعد، إلى حيث لم يتجاسر أيّ من أنصار الإمام أنفسهم، فيحدّد معنى الجمال والقيمة الجمالية في الإسلام كما يلي، ويشدّد على الكلمات بالحرف الأسود: "الجميل في الإسلام هو ما لا يمكن تصويره. هو ما يفلت من الحسّية، وما يتخطّى الإدراك الحسّي. الجميل متعالٍ سامٍ، لا يمكن احتواؤه في أيّ شكل محسوس، ولا يمكن أن يخضع لمعيارية الحواسّ"؟

وأمّا ذروة هذه السفسطة في تأويل أفكار الإمام، فهي ختام الفقرة: "وهذا يعني، فنّياً، أنّ القيمة الجمالية ليست في "الصورة" أو "الشكل"، وإنما هي في "المعنى"، وأنّ الجمالية هي في اللانهائية التي لا تُصوَّر، أو هي في ما "لا يتشكّل". ويعني، تقويمياً، أنّ الجميل هو ما يقول الشرع إنه جميل"!
لله درّ إمام الحداثة المعاصرة!
ما الذي أبقاه لنا، نحن معشر الثوريين بروحٍ سلفيّة، والسلفيين بعباءةٍ ثورية؟
"القدس العربي"، 27/6/2007

الثلاثاء، 14 يونيو 2011

أسلحة الدمار الشامل في حلب


تشهد مدينة حلب السورية اتساعاً ملحوظاً في نطاق التظاهرات الشعبية، كما تتزايد أعداد المتظاهرين، وتتنوّع أكثر أكثر فئات أعمارهم وشرائحهم الطبقية، خاصة بعد انتقال الحراك الجماهيري من المدينة الجامعية إلى أحياء سيف الدولة وصلاح الدين والأعظمية وشارع النيل والجزماتي والأشرفية، فضلاً عن الكلاسة والصاخور وباب النيرب، بالطبع. ولقد بدا، في الأيام الأولى للإنتفاضة، أنّ حلب تأخرت عن اللحاق بركب المدن السورية، لأنّ حجم مشاركة المدينة (محاولة اعتصام في صحن الجامع الكبير، ثمّ ساحة سعد الله الجابري) لم يكن يتناسب، البتة، مع موقع مدينة ليست الثانية الأكبر في البلد، بعد العاصمة دمشق، فحسب، بل هي صاحبة تاريخ وطني وكفاحي وسياسي وثقافي مشهود.

تكاتفت سلسلة أسباب وراء تواضع المشاركة الحلبية، في رأسها أنّ النظام أطبق عليها الخناق (وأكثر ممّا فعل مع دمشق، كما يتوجب القول)، ففرض عليها حصاراً خارجياً، وأقام الحواجز في شوارع المدينة وأحيائها الرئيسية، كما نصب كاميرات المراقبة في الساحات العامة وأمام المساجد، ولجأ إلى طرائق أشدّ شراسة في تفريق التظاهرات أو الإعتصامات، لا تقتصر على إطلاق الرصاص الحي والقنابل المسيلة للدموع. سبب آخر هو أنّ بعض كبار تجّار المدينة، بالتحالف مع بعض المشايخ ورجال الدين، لعبوا دوراً ميدانياً في تهدئة النقمة الشعبية، واعتمدوا في هذا أساليب شتى تبدأ من التلويح بقطع الأرزاق، ولا تنتهي عند إصدار الفتاوى.

وعلى سبيل المثال، سُئل الشيخ محمود عكام، مفتي محافظة حلب، عن شرعية التظاهر، فقال: 'مثل هذه الأعمال تحكم عليها نتائجها كما يقول الأصوليون، لأنّ النظر في مآلات الأفعال معتبر شرعاً، فإن قدّرت أن التظاهر يفضي إلى خير بشكل مؤكد، فليكن، وعندها فهو وسيلة مشروعة، وإنْ كان لا يفضي إلى خير بل ربما أفضى إلى فوضى وحنق وتصرفات غير مضبوطة، فهو ـ آنذاك ـ وسيلة غير مشروعة'. من جانب آخر، فإنّ زائر الموقع الرسمي لغرفة تجارة حلب ينتابه ارتياب بأنّ السادة التجار يعيشون في سورية أخرى غير هذه التي توشك على اختتام الشهر الثالث للإنتفاضة؛ وجلّ ما يوحي بالسياسة في الموقع هو اقتباس من بشار الأسد، مع صورته بالطبع، يقول: 'نحن أقوى من الجميع، لأننا مع الحقّ، لأننا مع الشعب، لأننا مع الله'!

في المقابل، ورغم أنّ الحصيلة تظلّ متواضعة ـ بالقياس إلى أصالة المدينة ومكانتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وبالمقارنة مع مساهمات المدن السورية الأخرى ـ فإنّ حلب انخرطت في الإنتفاضة منذ الجمعة الأولى، وتحايل أهلها على الإجراءات الأمنية الخانقة، مثلما واجهوها بدرجات عالية من روح التحدّي وحسّ التضحية. ولقد رأيناهم يتظاهرون، أيام الجُمَع وأيام الأسبوع، في النهارات وفي الليالي، فحملوا اللافتات ذاتها التي أشاعتها الإنتفاضة، وزادوا عليها بعض المغزى المحلّي الحلبي، تماماً كما فعل أهل درعا وجاسم وإنخل والصنمين والقنيطرة والسويداء ودوما وداريا والمعضمية ودمشق وبانياس وجبلة واللاذقية وجسر الشغور ومعرّة النعمان وإدلب وحمص وتل كلخ وحماة والرقة ودير الزور والقامشلي وعامودا...

وقرأنا، في واحد من تنويعات المقاومة الحلبية، بياناً يقول: قام شباب الثورة الأحرار في حلب بإزالة صورة شبّيح حيّ الكلاسة الأول الخسيس فلان، صاحب المتجر الفلاني، بعد أن كانت معلّقة فوق سياج جامع جمال عبدالناصر، تمهيداً لطرد الشبيحة جميعاً من حارتنا، واحداً واحداً، وأولهم فلان المعيوب، الذي دنّس اسم أجداده (غنيّ عن القول إننا، هنا، حذفنا الأسماء لاعتبارات لا تخفى). وفي تنويع آخر، أصغينا إلى مجموعة من الهتافات الذكية، مثل: 'وينك يا حلبي وينك؟'، 'ليش خايفين؟'، 'الله أكبر عالظالم'.
.. ليس دون طرافة، وتنكيت لاذع على أضاليل النظام، خاصة أكذوبة الأسلحة الثقيلة التي يمتلكها 'المندسّون'؛ إذْ يقول إعلان صادر عن أحد الحلبيين: 'عرض عسكري في إمارة الخالدية لصاروخ 'شحوار ـ 3' المعدّل، الذي يصل مداه الى بلدة تلبيسة. استعراض لقنابل 'باذنجان ـ 1'، التي تتمّ صناعتها في مزرعة أبو خالد، وتُباع عند خضرجي الحارة أبو محمد. تجربة على الرشاش الأوتوماتيكي 'ملزمة ـ 2'، الذي تمّ تصنيعه في المدينة الصناعية في حسياء'! هذه عيّنات من 'أسلحة الدمار الشامل' التي يمكن أن يشهرها الحلبيون أثناء تظاهراتهم السلمية، في وجه قوى النظام الغاشمة التي لن تتردّد في استخدام أيّ سلاح ثقيل، فضلاً عن المدفعية وراجمة الصواريخ والدبابة والمروحية، لكسر الإحتجاج وتفريق المتظاهرين.

هي حلب، إذاً، العريقة العتيقة السامية، التي عرفت ـ قبل حصار اللواء شفيق فياض سنة 1980، وحصار العميد ماهر الأسد سنة 2011 ـ غزوات الأكاديين والبابليين والحثيين والميتانيين والفراعنة والآشوريين والفرس والروم والسلوقيين والسلاجقة والمغول والتتار والمماليك والصليبيين والعثمانيين والفرنسيين.

 ويخطىء النظام، خطأ قاتلاً، إذْ يحتسبها على ذمّة حلفائه من منافقي التجّار والمشايخ، لأنّ واحداً من أبهر انتصارات الإنتفاضة السورية سوف يُحرز هناك، في حلب الشهباء، إلى حيث رنا أبو الطيب المتنبي بعينيه، وهتف:
نحن أدرى وقد سألنا بنجدٍ/ أقصيرٌ طريقُنا أم يطولُ
كلما رحّبتْ بــــنا الروضُ قُلنا/ حلبٌ قَصْدُنا وأنتِ السبيلُ...
13/6/2011

فرنسا والنظام السوري: أيهما الثعلب؟ أيهما الديك؟

بعد أيام معدودات سوف تمرّ الذكرى الرابعة للزيارة الرسمية التي قام بها بشار الأسد إلى فرنسا، بدعوة من الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، للمشاركة في قمّة الإتحاد المتوسطي؛ ومع هذه الذكرى سوف تمرّ أخرى، هي العاشرة على زيارة الأسد الرسمية الأولى إلى باريس، بدعوة من الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك، صيف 2001. كذلك، ثالثاً، سوف تكون 12 سنة قد مرّت على زيارة الأسد غير الرسمية، بصفته الوحيدة المتوفرة آنذاك (نجل حافظ الأسد)، بدعوة خاصة من شيراك نفسه، تلبية لرغبة رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري (الذي كان، آنذاك، بين أخلص رجالات النظام السوري).

واليوم، تبدو حكاية الإستقالة الكاذبة لسفيرة النظام في باريس، لمياء شكور، وكأنها ترسم ـ في صيغة ملهاة بائسة، مبتذلة، فقيرة الخيال... ـ خاتمة سنوات العسل بين النظام السوري وقصر الإليزيه، خاصة بعد تصريحات وزير الخارجية الفرنسي ألان جوبيه، من أنّ 'الموقف واضح تماماً. عملية الإصلاح ميتة في سورية، ونعتقد أن بشار فقد شرعيته لحكم البلاد'. ولعلّ هذه المواقف الفرنسية الأخيرة هي التي فتّقت قريحة ذلك 'الثعلب' الذي خطّط، من قلب أحد أجهزة النظام في دمشق، لنصب مصيدة لقناة 'فرانس 24'، مستبشراً بأنّ الصيد لن يقتصر على مصداقية القناة وحدها، بل سيشمل 'الديك' الفرنسي الشهير، أي سمعة فرنسا بأسرها، في الحصيلة. وإذا كانت الأيام القادمة كفيلة بتبيان معدّلات الدهاء أو الحمق بين 'الثعلب' و'الديك'، ومَنْ أوقع بالآخر في حسابات الربح والخسارة، أو حتى مَنْ بينهما كان الثعلب ومَنْ كان الديك؛ فإنّ الجلي والأكيد، اليوم، هو أنّ سنوات العسل التي استغرقت 12 سنة بلغت خاتمة عجيبة، تبدو فيها الحصص متكافئة بين الملهاة والمأساة.

ذلك لأنّ ما جرى لا يطمس البتة، بل ينبغي أن يشدّد دائماً على، حقيقة أنّ قصر الإليزيه ـ سواء في عهد شيراك، أم في عهد ساركوزي ـ يتحمّل مسؤولية مباشرة، سياسية وأخلاقية، عن تلميع صورة هذا الطاغية، بشار الأسد، منذ الأطوار الأبكر في سيرورات تأهيله لوراثة النظام من أبيه، وحتى تظاهرات درعا التي أطلقت مسارات الإنتفاضة السورية.
وكان من الخطأ الفادح أن يلجأ أيّ مراقب حصيف إلى ترسيم العلاقات الفرنسية مع النظام السوري إتكاء على التوتّر الذي اكتنفها، من جانب شيراك شخصياً وعلى نحو ساهمت في صياغته اعتبارات ذاتية محضة، إثر اغتيال رفيق الحريري. المؤشرات الأخرى لم تكن أقلّ قيمة، ولعلّها عكست مزاج شيراك الفعلي تجاه نظام الأسد، الأب قبل الابن، إذْ كان الرئيس الغربي الوحيد الذي شارك في جنازة الأسد، كما تولّى قبلئذ كسر عزلة الأخير الدولية حين دعاه إلى زيارة باريس رسمياً في صيف 1998، وكان أوّل من أسبغ شرعية سياسية وأمنية على وجود القوّات السورية في لبنان خلال خطبة افتتاح القمّة الفرنكفونية في بيروت، سنة 2002.

وهكذا فإنّ ساركوزي لم يكن أوّل مَنْ راقص طغاة الشرق الأوسط، سواء في العقود الأخيرة من عمر الجمهورية الخامسة في فرنسا، أم في عقودها الوسطى (أوّل زيارة للأسد الأب تمّت في عهد فاليري جيسكار ـ ديستان، 1976، بعد أشهر قليلة على دخول القوّات السورية إلى لبنان)؛ هذا إذا اعتبر المرء الأنشطة الدبلوماسية في العقود الأولى بمثابة تمرينات مبكّرة واستطلاعية على ما ستطلق عليه التنظيرات الديغولية صفة 'السياسة العربية لفرنسا'. بل، في وجهة أخرى لنقاش الأمر، لعلّ المرء لا يبالغ إذا اعتبر أنّ خيار ساركوزي في الإنفتاح على النظام السوري كان أقرب إلى السلوك الطبيعي، المنتظَر، غير المستغرب البتة، من هذا الرجل بالذات.

فمن جانب أوّل، كلّ ما يعرفه ساركوزي (كما صرّح، بنبرة سخرية غثة) أنّ سورية بلد متوسطي، وليس ثمة سبب واحد يبرّر عدم دعوتها إلى القمة المتوسطية، غير المكرّسة لمناقشة احترام أو انتهاك حقوق الإنسان على ضفاف المتوسط.
وهذا كان منطقاً صورياً سليماً تماماً، وكان استبعاد سورية من هذه القمة هو الذي سيبدو بمثابة قرار شاذّ غير طبيعي. ومن جانب ثانٍ، كيف يعيب المرء على ساركوزي أنه دعا الأسد إلى منصّة الإحتفال بالثورة الفرنسية، يوم العيد الوطني لفرنسا، إذا كان الحابل اختلط بالنابل على تلك المنصة: ديمقراطيات غربية، ودكتاتوريات شرقية أو أفريقية، جنباً إلى جنب مع إسرائيل... 'واحة الديمقراطية'
في الشرق الأوسط؟ وضمن المنطق الصوري إياه، كيف يستقيم أن يُدعى زعيم من هؤلاء، ويُستثنى آخر؟

ولهذا، وبصرف النظر عن قيمته الأخلاقية العالية، فإنّ النداء الذي وجهته إلى ساركوزي ثماني منظمات حقوق إنسان دولية (بينها 'العفو الدولية'، و'ميدل إيست واتش'، و'الإتحاد الدولي لروابط حقوق الإنسان'، و'الشبكة الأورو ـ متوسطية'، و'المنظمة العالمية لمناهضة التعذيب'...)، ظلّت حبراً على ورق في ما يخصّ مطلب الفقرة الأولى: 'تناشدكم منظمات حقوق الإنسان الموقعة على هذه الرسالة إيلاء اهتمام لوضع حقوق الإنسان في ذلك البلد في إطار محادثاتكم مع الرئيس الأسد'. والحال أنّ وزير الخارجية الفرنسي (برنار كوشنر آنذاك، صاحب نظرية التدخّل الإنساني في الشؤون السيادية للدول، و'غير المبتهج شخصياً' بزيارة الأسد إلى باريس) تكفّل بهذا الأمر: تردّد أنه دسّ في جيب وزير خارجية النظام، وليد المعلّم، لائحة بأسماء حفنة من المعتقلين السياسيين السوريين، الذين ستبتهج فرنسا بإطلاق سراحهم!

وبالطبع، كان من المحال اجتراح معجزة تقنع ساركوزي بأنّ السيدة فداء الحوراني، رئيس المجلس الوطني لـ 'إعلان دمشق'، تمتلك أياً من سجايا 'القدّيسة إنغريد بيتانكور'، الرهينة الكولومبية ـ الفرنسية آنذاك، بحيث يتذكّر ساركوزي أنه يصافح سجّان الحوراني على ملأ من الإنسانية، إنْ نفعت الذكرى! ولم يكن بالأمر الأسهل إقناع صحيفة فرنسية عريقة مثل الـ'فيغارو' بأنّ أيّ حجم للنفاق السياسي لا يمكن أن يغطّي شائنة إجراء حوار مفصّل مع الأسد، على الصفحة الأولى، دون التجاسر على طرح سؤال واحد يخصّ مجزرة سجن صيدنايا، آخر فظائع النظام؟ ولكي لا يقتصر الأمر على صفّ اليمين الساركوزي وحده، ماذا فعل برتران دولانوي (عمدة العاصمة الفرنسية، الإشتراكي، المولود في تونس) لكي يعطي باريس ـ مقام الثورة، وموئل حقوق الإنسان، وملاذ أحرار العالم غرباً وشرقاً... ـ فرصة واحدة للتضامن مع الشعب السوري؟

المرء عدوّ ما يجهل، قال دولانوي، مقتبساً الإمام عليّ بن أبي طالب، في مخاطبة ضيفه الأسد أثناء المأدبة الرسمية التي أقامها على شرفه في زيارة 2001، بهدف حثّه على 'الإحترام المطلق للكرامة الإنسانية' وشجب 'العنصرية، والعداء للسامية، والإقصاء، ونقض التاريخ'. لكنّ منطوق العبارة، وبصرف النظر عن مقدار 'الخبث' في اقتباس الإمام علي تحديداً، كان ينطبق على دولانوي نفسه أكثر من الأسد. فالجاهل، في أخفّ النعوت، هو ذاك الذي يطنب في الإشفاق على شعب إسرائيل وما يتعرّض له من 'جرائم ضدّ الحياة والسلام والأمل'؛ ثمّ يتجاهل تماماً، لأنه لم يكن يجهل في الواقع، جرائم المؤسسة الصهيونية في مختلف أطوارها، منذ اغتصاب فلسطين، وأيّاً كان الساسة الحاكمون أو الأحزاب الحاكمة.

ونتذكّر أنّ الأسد عاد من منصة الإحتفال بعيد الثورة الفرنسية، صيف 2008، وكأنه عاد لتوّه من منصة اختتام دورة تأهيل لضبّاط مخابرات النظام، وإلا كيف يفسّر المرء أنّ آخر تقنيات الإستبداد السوري (إرغام الناشط الحقوقي الشاب حسن يونس قاسم على توقيع بيان انسحاب من 'إعلان دمشق'، تحت العدسات، ثمّ نشر الصور في مواقع إلكترونية تابعة لأجهزة السلطة ومافيات النهب والفساد)، جرى اعتمادها بعد عودة الأسد من باريس؟ ثمّ إذا كان مضيفه ساركوزي، وقبله مضيفه الأوّل شيراك، فضلاً عن غالبية محاوريه الآخرين من القادة الأوروبيين، ليسوا كبار الأساتذة في إقناع أنظمة الإستبداد بالإنتساب إلى مدارس تعليم حقوق الإنسان، فلماذا توجّب على الأسد أن يعود من باريس في إهاب غير ذاك الذي اتصف به عندما وصلها؟

وليس للمرء أن يتناسى الوقائع الدراماتيكية التي أعقبت تلك الزيارة، مثل سقوط نظام زين العابدين بن علي في تونس، وتفكيك قسط كبير من نظام حسني مبارك في مصر، من جهة؛ ولعبة الكراسي الموسيقية التي شملت مهندسي التقارب بين ساركوزي والأسد (انتقال كلود غيان من الأمانة العامة لقصر الإليزيه إلى وزارة الداخلية، وانتقال آصف شوكت إلى طور الإعتكاف بعد رئاسة المخابرات العسكرية)، من جهة ثانية. لكنّ العامل الأشدّ تأثيراً في مسارات هذه العلاقة كان وقع أعمال الإنتفاضة السورية على الرأي العام الفرنسي، وحجم الضغوطات التي مارستها لإيقاظ الضمير الشعبي العريض، واتبداء العدّ العكسي لحملة الإنتخابات الرئاسية القادمة، وما تفرضه على ساركوزي من ضرورات تبييض الصفحة وتنقية الصورة.

وكما أنّ بنية النظام السوري عصيّة على الإصلاح، فإنّ النظام أثبت ويثبت أنه عصيّ على، أو عاجز موضوعياً عن، ذلك الطراز من العلاقات الدولية التي تستوجب تقويض بعض ركائز البنية في ميادين تهمّ الرأي العام الدولي، مثل حقوق الإنسان وأنساق قمع الحرّيات العامة. استطراداً، الأسد الابن لم يكن وريث أجهزة الإستبداد والقمع والفساد والنهب المنظّم، فحسب؛ بل كان أيضاً وريث سلسلة من السياسات الخارجية التي ليس في مقدوره تعديلها دون إدخال تعديلات مماثلة، أو نظيرة، في السياسات الداخلية. وهذه لن تمرّ بسلاسة في جسم النظام الأمني ـ العسكري، لأنّ أيّ تعديل ذي معنى سوف يخلّ بالبنية، المتصلّبة المتحجّرة، وسيخلق المزيد من عقابيل وضع عالق أصلاً.

وفي واقع الحال، لم تكن إشكالية السياسية الخارجية في هذا الوضع العالق ناجمة عن حقيقة أنّ الغرب راغب في الإنفتاح على النظام تماماً كرغبة النظام في الإنفتاح على الغرب، بل عن إمكانية أن يُترجَم أيّ مقدار من الإنفتاح إلى مقدار مماثل من قدرة النظام على التبدّل. وتستوي في هذا مقادير التبدّل على صعيد الداخل السوري، سياسياً وأمنياً واقتصادياً، ومقاديره في السياسات الخارجية التي كانت، وتظلّ، تصنع وضعاً للنظام معلّقاً عند حلقة مفرغة من 'الممانَعة' في قلب 'المسالَمة'. هنا، ضمن هذه المعادلة، لا يتورّع النظام عن استئناف جسر الشغور 1982 في جسر الشغور 2011، دون اكتراث بأيّ تحسينات في وظائف النظام على صعيد العلاقات العامة الدولية، في الإرسال كما الإستقبال.

إلا، بالطبع، حين يرسل على طريقة تنظيم هجوم معاكس ضدّ الموقف الفرنسي في مجلس الأمن الدولي، بوسيلة نصب فخّ لاصطياد الديك الفرنسي عبر موجات أثير 'فرنسا 24'؛ أو حين يستقبل الموقفين الروسي والصيني بصفة حرب بالإنابة، يخوضها المجتمع الدولي في سبيل نصرة النظام السوري، 'الممانِع' و'المقاوِم' و'المستهدَف'... وما رثاثة الإرسال وغوغائية الإستقبال إلا العبرة الأولى في حيرة المرء إزاء أي تمييز منطقي بين الديك والثعلب، وأيهما أوقع بالآخر، ولماذا... في الأساس!
9/6/2011