وعزّ الشرق أوّله دمشق

الأحد، 31 يوليو 2011

بن لادن حماة وزرقاوي دير الزور

 مع دخول دبابات ماهر الأسد إلى مدينتَيْ حماة ودير الزور (باتفاق تامّ مع، أو بأمر مباشر من، شقيقه بشار الأسد... لكي لا يظنّ أحد أننا نضع الأخير في صفّ حمائم النظام، وهو رئيس الجوارح ورأس الكواسر)؛ في إطار تنفيذ عمليات وحشية، وانتحارية يائسة، ضدّ الحمويين والديريين، أهل التظاهرات المليونية؛ تترافق قذائف الدبابات مع قصف إعلامي يتولاه أزلام النظام، وكأنهم ينفخون الأكذوبة ذاتها، عبر البوق الواحد، بالنشاز المنكَر إياه. المهمة هذه تنقلب إلى ما يشبه نقيق الضفادع، خاصّة حين يجترّ بوق أوّل كلاماً هالكاً عن "مندسين" و"إمارات سلفية" و"مخرّبين"، أو يلعب بوق ثانٍ على مخاوف مستهلَكة مثل تخريب سكة قطار أو تفجير أنبوب نفط.
آخر منتجات ذلك القصف هو القول بأنّ "الجيش الوطني" إنما يدخل إلى حماة بناء على طلب "الأخوة المواطنين" (وهذا نغم ابتدائي في الأسطوانة المشروخة)، لتطهير المدينة من "فلول المخرّبين" (وهنا تنويع مملّ على النغمة الإبتدائية)، و... القضاء على "خلايا منظمة القاعدة" التي تحتلّ المدينة (وهنا أقصى التطوير في النغم)! المرء، بادىء ذي بدء، يتذكّر ما كشفت عنه وثائق "ويكيليكس"، عن الاجتماع المشهود الذي شهدته العاصمة السورية، في شباط (فبراير) العام الماضي، بين دانييل بنيامين، منسّق مكافحة الإرهاب في وزارة الخارجية الأمريكية، وفيصل المقداد، نائب وزير الخارجية السوري. التفصيل المثير هو حضور اللواء علي مملوك، مدير إدارة المخابرات العامة، على نحو لم يكن مقرراً في الأصل، وكيف بدا انضمامه إلى الاجتماع بمثابة "اقتحام مباغت"، كما سيقول بنيامين؛ بأمر مباشر من الأسد، كما ستقول برقية الخارجية الأمريكية بعدئذ.
ولأنّ واشنطن كانت على علم بأنّ مسائل ضبط الحدود مع العراق ليست في عهدة إدارة مملوك، وأنّ سيّد الملفّ الفعلي هو العميد ذو الهمة شاليش، مرافق الأسد وابن عمّته؛ فإنّ حضور مملوك كان يبعث برسالة المقايضة التالية: هذا اجتماع في الوقت الضائع، وحين تكون إدارة أوباما جادّة في تحسين العلاقات مع النظام، عندئذ سوف يكون شاليش حاضراً في أيّ اجتماع قادم! الدليل على هذا هو الكلام الفجّ الذي صدر عن اللواء مملوك أثناء الاجتماع، وضار ذائع الصيت اليوم: "في محاربة الإرهاب على نطاق المنطقة، كانت سورية أكثر نجاحاً من الولايات المتحدة، لأننا كنّا عمليين وليس نظريين". ذلك لأنّ "النجاح السوري تمثل في اختراق المجموعات الإرهابية، وحصول سورية على ثروة من المعلومات. نحن من حيث المبدأ لا نهاجمهم أو نقتلهم، بل نتمدد داخل هذه المنظمات عن طريق اختراقها بعناصرنا". خاتمة المداخلة كانت أشبه بإطلاق رصاصة الرحمة على المقاربة الأمنية الأمريكية بأسرها: "الفارق بيننا وبينكم هو أنكم تحاربون الإرهاب وجهاً لوجه، أمّا نحن فنخترق صفوفه"!
جانب آخر من المسألة تكفّل سيمور هيرش، المحقق الصحفي الأمريكي الشهير، بتسليط الأضواء على وقائعه، في تقرير مأثور نشرته مجلة "نيويوركر: الأمريكية، صيف 2003. لقد روى الرجل أنّ المخابرات المركزية الأمريكية ومكتب التحقيقات الفيدرالي عملتا في مدينة حلب، ضمن ما يشبه تفويض الـ"كارت بلانش" من السلطة، على دراسة وتدقيق آلاف الملفات الوثائق والمستندات السرية التي تخصّ رجالات "القاعدة". كذلك كان للأجهزة السورية فضل إفشال عمليتين ضدّ القوّات الأمريكية: واحدة ضدّ الأسطول الخامس في البحرين، والثانية ضدّ هدف في أوتاوا بكندا. وهيرش يؤكد، استناداً إلى معلومات متعددة المصادر، وإلى مقابلة مباشرة مع بشار الأسد، أنّ النظام السوري كان يسعى إلى بناء "قناة خلفية" للحوار مع البيت الأبيض، مستغلاً استماتة الأجهزة الأمنية الأمريكية في حيازة معلومات ملموسة عن كوادر "القاعدة" وخلاياها.
فكيف حدث أنّ منظمة "القاعدة" صارت تحتلّ حماة ودير الزور، رغم دبابات العميد الأسد، ومفارز اللواء مملوك، و"شبّيحة" شاليش ومجموعات مهرّبي السلاح، لكي لا يتساءل المرء عن عناصر المخابرات العسكرية، والأمن السياسي، ومخابرات القوى الجوية؟ وإذا كانت حماة قد انقلبت إلى "قندهار جديدة"، في توصيف منحطّ أطلقته صحافة رقيعة، يحكمها بن لادن الحموي؛ وتحوّلت دير الزور إلى "بعقوبة ثانية"، بإمرة الزرقاوي الديري مثلاً... فأين ذهب "اختراق" صفوف الإرهابيين، و"التمدّد" داخل منظماتهم، و"ثروة" المعلومات التي جمعها العباقرة من ضباط أمن النظام؟ وإذا صحّ أنّ النظام أفشل عمليتين لـ"القاعدة" ضدّ أهداف أمريكية، فكيف عجز عن إحباط مخططات منظمة "القاعدة"، ويحتاج اليوم إلى عشرات الدبابات لمحاربتها؟ 
حبل الكذب، هنا، ليس قصيراً فحسب، بل هو فحشاء قصوى ينحطّ إليها نظام استنفد أغراض وجوده جمعاء، وصار نقيض الحياة وخصمها، وبات عاجزاً حتى عن استثمار سبطانة الدبابة وبوق الأكذوبة. وللصامتين أن يلوذوا برهاب من أيّ نوع، في تصديق ما تنفخه الأبواق من مخاوف كاذبة؛ وللدجالين المتذرعين بالحرص على "علمانية" البلد، أن يتواطأوا مع ما يرتكبه نظام الإستبداد والفساد من مجازر. ولكن... إذا كانت العدالة تنتظر مجرمي الحرب، على اختلاف مواقعهم، ذات يوم قريب آتٍ لا محالة؛ فإنّ مزبلة التاريخ، وازدراء الملايين، فضلاً عن خسران شرف المشاركة في صناعة سورية المستقبل، هي مآل الصامت ومصير الدجال.

الخميس، 28 يوليو 2011

حلقة الأسد الأمنية: حتمية التفكك، بعد اختبار النار

يواصل أناس من أمثال العميد ماهر الأسد (شقيق بشار الأسد، والقائد الفعلي للحرس الجمهوري)، والعميد ذو الهمة شاليش (ابن عمّة الأسد، ورئيس حرسه الشخصي، والمشرف الفعلي على جهاز أمن الرئاسة)، والعميد حافظ مخلوف (ابن خالة الأسد، والضابط الأبرز في الفرع 251 والأقوى نفوذاً في جهاز المخابرات العامة بأسره)، واللواء علي مملوك (المدير الرسمي للجهاز ذاته)، إدارة الحلّ الأمني في شتى أساليبه وتنويعاته وأسلحته. ومنذ أواسط آذار (مارس) الماضي وحتى الساعة، أنجزت قراراتهم الميدانية الحصيلة التالية، إذا اكتفى المرء بالأرقام وحدها: 1,647 من الشهداء، بينهم أطفال ونساء وشيوخ؛ 2,918 من المفقودين، الذين لا يُعرف لهم مكان اعتقال، أو مصير؛ 26,000 من الذين اعتُقلوا، مرّة أو أكثر، وتعرّضوا لصنوف وحشية من التعذيب؛ 12,617، من الذين ما يزالون قيد الإعتقال، وأماكن توقيفهم معروفة أو مرجّحة.
من جانبه يواصل بشار الأسد، خامس أعضاء هذه الحلقة الأضيق (وهو أوّلهم بالطبع، لأنه رأس النظام ورئيس الحلّ الأمني) ألعاب ذرّ الرماد في العيون، حول مشاريع "الإصلاح" تارة، وتصنيف "فئات" التآمر طوراً؛ ليس دون الإيحاء، عبر بعض نافخي الأبواق من حوله، بأنه ـ على نقيض من الأربعة الكواسر، أو في مواجهتهم أحياناً! ـ هو المبشّر بالحلّ السلمي والسياسي. بعض حصيلة ألعابه يمكن أن تختصرها القرارات القاضية بإحداث اللجان التالية، ونقتبس بالحرف عن موقع "التشاركية" الحكومي التابع لرئاسة مجلس الوزراء: القرار رقم 8507، القاضي بتشكيل لجنة مهمتها تقديم المقترحات اللازمة لمكافحة التهريب ومنعه؛ القرار رقم 7885، القاضي بتشكيل لجنة مهمتها إعداد وصياغة مشروع جديد للأحزاب؛ القرار رقم 7272، القاضي بتشكيل لجنة مهمتها دراسة الواقع الاجتماعي والاقتصادي واقتراح الحلول الممكنة؛ القرار رقم 7271، القاضي بتشكيل لجنة مهمتها صياغة قانون جديد للإعلام ووضع الآليات اللازمة لإعادة هيكلة منظومة الإعلام الوطني؛ القرار رقم 6080، القاضي بتشكيل لجنة مهمتها تحديد وتوصيف جرائم الفساد وإقتراح الضوابط اللازمة للوقاية منه وآليات مكافحته...
ويحدث، غالباً وبحكم المنطق العملياتي الصرف، أن تنتقل مداولات الحلقة الأمنية الأضيق إلى النطاق الخارجي، وإلى ما يشبه العلانية في الواقع، وفقاً لثلاث أواليات: حين يتوجّب إبلاغها، كتوجيهات وأوامر ومهامّ عمل، إلى الحلقات التنفيذية الأدنى؛ أو حين يجري تسريبها، عن سابق عمد وتصميم، لكي تضرب مثلاً أو تلقّن درساً أو تُنذر وتردع؛ وثالثاً، لأنّ لكلّ من أعضاء الحلقة الأضيق شبكات ولاء أدنى يتوجّب وضعها في صورة القرار، وهذه بدورها تنتقل إلى الأدنى، فالأدنى. وعلى سبيل المثال، إذا كان وفاء العميد مخلوف، لسيّده وابن عمّته بشار الأسد، مطلقاً، في الآونة الراهنة على الأقلّ؛ فإنّ وفاءه لشقيقه، رجل الأعمال رامي مخلوف، هو مطلق المطلق، ولا بدّ من إحاطته علماً بتوجهات النظام. وفي الإستطراد، سوف يجد الأخير مصلحة دائمة، وأحياناً مجزية تماماً، في تمرير بعض المعلومات إلى شركائه من كبار رجال الأعمال السوريين، وربما العرب والأجانب، فلا تنتقل التوجهات مباشرة من الحلقة العليا الأضيق، بل عبر وسيط ثالث، وهكذا دواليك...
هنا، في أكثر من مضمار واحد مماثل، يقع التداخل بين الأمني ـ العسكري، والاقتصادي ـ السياسي؛ فتُكلّف بثينة شعبان، على سبيل المثال أيضاً، بمهامّ ترجمة بعض تلك التوجهات إلى أشكال مرنة من "التواصل" و"الانفتاح" و"الحوار" مع أشخاص معارضين (لأنهم هكذا، بالفعل، سبق لهم أن اعتُقلوا لأنهم عارضوا سياسات النظام، أو نشطوا ضدّها، على نحو أو آخر)، بهدف تشجيعهم على اتخاذ مبادرات تكمل ألعاب ذرّ الرماد في العيون. وإذا كان هؤلاء على اتفاق، في كثير أو قليل، حول تقييم طبيعة النظام، وبالتالي حول ضرورة الإنتقال إلى نظام آخر تعددي وديمقراطي؛ فإنّ التباين بينهم يقع في منطقة أخرى هي ميدان اشتغال شعبان وسواها: الفارق بين ارتفاع خطاب التظاهرة، وارتقاء مطالب الإنتفاضة، بما في ذلك ثبات شعار "الشعب يريد إسقاط النظام"؛ وبين مداولات مؤتمر سميرامس ـ1، ومشروع سميراميس ـ 2 قيد التحضير، على سبيل المثال، هنا أيضاً.
ذلك لا يحول دون وقوع تناقض، أو افتقار إلى درجة كافية من التطابق، بين ما تقرّره، وتوجّه به، الحلقة العليا الأضيق؛ وما تسفر عنه التطبيقات على الأرض، أمنية كانت أم سياسية، وسواء اتخذت صفة إجراءات محلية في هذه المحافظة أو تلك (كما حين يسارع الأسد إلى عزل المحافظين الذين تشهد محافظاتهم اتساعاً عارماً للتظاهر)، أم صفة مركزية تشمل البلد (مؤتمر الحوار الوطني، في أحدث الأمثلة). هنا قد يتلقى فاروق الشرع، نائب الرئيس والمكلّف بما يُسمّى "الحوار الوطني"، إشارة توبيخ علنية، ولكن ساخنة وخشنة (مثل التصريح بأنّ المؤتمر الذي ترأسه كان "كارثة وطنية")، تأتيه من قيادة الإتحاد الوطني لطلبة سورية، "المنظمة الشعبية" التي تسيّرها الاجهزة الأمنية. وهذه، من جانبها، لا تكون قد تلقّت التوجيه المباشر من شاليش أو حافظ مخلوف أو مملوك، بل تولى الإبلاغ وسطاء أقلّ شأناً، من أمثال اللواء عبد الفتاح قدسية أو العميد مناف طلاس أو اللواء زهير حمد.
وكما فشلت الحلول الأمنية في كسر إرادة التظاهر، بل أسهمت في تجذير الحراك الشعبي وفي توحيد قواه وتطوير أدواته وأنساقه؛ كذلك فشلت ألعاب المخادعة السياسية في اختراق المشهد الوطني المعارض، بما يكفي لمنح فريق بثينة شعبان شهادة تفوّق من أي نوع. لقد حدث العكس، على الجبهتين، وبدا أنّ عوامل الفشل الذريع ليست مؤشرات مقترنة بواقعة واحدة، أو بساحة محددة دون سواها، بل هو عجز مريع عن تطوير أداء أمني تقليدي، لا يركن إلا على سطوة الرصاص الحيّ وحصار الدبابة وقصف الحوّامة؛ وأداء سياسي لا يتكيء إلا على استثارة الخواف الطائفي، أو استمالة التردد، أو تفريغ شحنات الإحتقان، أو استيهام مبدأ "فخّار يكسّر بعضه".
في عبارة أخرى، لا تتكامل الجبهتان في خدمة ما تخطط له الحلقة العليا الأضيق، بل تزيد في مأزق النظام حين تبدّد قبضة أمنية يسرى، ما خالت قبضة سياسية يمنى أنها انتزعته من صفّ الإنتفاضة؛ أو تنقلب لعبة سياسية هنا، على اللاعب الأمني هناك، فلا يكتفي الشارع الشعبي بمرأى افتضاح كلا اللاعبَيْن، فحسب؛ بل يكتسب طرازاً إضافياً من الحصانة ضدّ ألعاب مماثلة آتية، ومهارات جديدة في الفضح المضادّ، فتتعمّق أكثر من ذي قبل ثقافة المقاومة، وتنبسط السياسة أعرض فأعرض في السلوك اليومي. مشاهد ساحة العاصي في مدينة حماة، ومشاهد دوّار المدلجي في دير الزور، فضلاً عن تظاهرات اللاذقية خلال جمعة "أحفاد خالد بن الوليد" الماضية، وبؤس مخططات إشعال الفتنة الطائفية في حمص، والاضطرار إلى إطلاق الغاز المسيل للدموع في القامشلي، والوضع الغامض الذي يكتنف الكلية الحربية في حمص، ومثول عدد من الفنانات والفنانين أمام القضاء، ومجزرة كناكر... كلّ هذه، وسواها كثير، تفاصيل بالغة الدلالة في ترسيم ذلك الفشل الذريع، الأمني ـ السياسي المزدوج.
وفي كتابه "وراثة سورية: بشار أمام اختبار النار"، الذي صدر سنة 2005، كان الأمريكي فلنت ليفريت قد استعار تعبير "اختبار النار" Trial by Fire لتصوير ما يخضع له الأسد بعد وراثة أبيه، مذكّراً بذلك الطقس اللاهوتي والأنثروبولوجي الأوروبي الذي شاع خلال القرون الوسطى، وقضى بوضع المتهم أمام اختبار فريد لإثبات براءته: أن يحمل باليدين قضيباً من الفولاذ مُحمّى حتى الإحمرار، وأن يسير به تسع خطوات، فيخرج سليماً من الحروق، أو مصاباً بحروق طفيفة قابلة للعلاج والشفاء السريع. وفي تعليقه الأوّل على الإنتفاضة السورية، ورغم تعاطفه الصريح مع النظام السوري، بدا ايفريت وكأنه يعيد قضيب الفولاذ الناريّ إلى يدَيْ الأسد، في جانب واحد على الأقلّ من معركته ضدّ الشعب: أكذوبة القدرة على الإصلاح.
ويذكّر ليفريت بثلاثة منظورات يرى أنها تحكم الرؤية الأمريكية للنظام السوري: الأوّل يرى أنّ الأسد إصلاحيّ النوايا، لأنه "درس في الغرب، وهو عليم بالإنترنيت، وزعيم من جيل شاب يقرّ بمشكلات سورية العديدة، ويريد تحسين الامور، ويريد علاقة أفضل مع الولايات المتحدة والغرب عموماً، ولكنه مقيّد بالحرس القديم". الثاني يعتبر الأسد "قوّة استمرارية للنظام، وليس للتغيير"، وهو "نتاج النظام الذي خلقه أبوه"، ولهذا فهو "جزء من المشكلة في سورية، وليس أبداً جزءاً من الحلّ". وأمّا المنظور الثالث فهو أنّ الأسد "جديد على الصنعة"، و"قليل الخبرة، رديء التأهيل، غير ذي اطلاع، الخ..." على نحو لا يجعله صالحاً لتنفيذ "مسؤولياته كزعيم وطني".
ليفريت يبدو أقرب إلى المنظور الأوّل، وإنْ كان لا ينفض يديه تماماً من المنظورين الثاني والثالث: "في الواقع أظن أن صورة بشار ينبغي أن تكون أكثر تمايزاً وتمازجاً. وبشار في يقيني عنده حوافز إصلاحية. وهو يقرّ بأنّ سورية تعاني من مشكلات كثيرة اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً. ويري أن الأمور ينبغي أن تكون افضل. ولكني أجادل بأنّ حوافزه الإصلاحية هزيلة واهنة. ليست لديه رؤيا شاملة كاملة عن تحويل سورية". هنا تقفز حكاية "الحرس القديم"، ويروي المؤلف إنه حين أجرى مع الأسد حواراً خاصاً بالكتاب، اعتزم عدم الخوض في هذه المسألة، لولا أنّ الأسد باغته حين فتح هو نفسه هذا الملفّ. وقبل أن ينتهي ربع الساعة الأوّل من اللقاء، قال أشياء كثيرة، بينها أنّ الحرس القديم ليس "اثنين أو ثلاثة أشخاص يحتلون مناصب رفيعة في أعلى النظام"، بل هم "حرفياً آلاف البيروقراطيين العاديين والمتحجرين على امتداد النظام، والذين تخندقوا في مواقعهم على مرّ السنين والعقود وليست لديهم أية مصلحة في أن يسير أيّ شيء على نحو مختلف"!
والحال أنّ محفل الخمسة يخلو تماماً من أيّ ممثّل للحرس القديم كما عرّف الأسد مفهومه، بل هو "الحرس الفتي" وحده الذي يحكم ويصول ويجول (اللواء علي مملوك، ورغم اقترابه من السبعين، في عداد الفتية أيضاً، لأنه أيام الأسد الأب كان ضابطاً مغموراً في مخابرات القوى الجوية، بلا صلاحيات ولا سجايا). وإذا كان أيّ من مدنيي النظام البارزين، بما في ذلك أمثال رامي مخلوف وطريف الأخرس وفاروق الشرع وبثينة شعبان واللواء المتقاعد محمد ناصيف، ليس عضواً في محفل الخمسة، فإنّ أياً من هؤلاء لا ينتمي إلى الحرس القديم أيضاً (رغم سنّ الشرع وشعبان وناصيف). ولم تكن مصادفة أنّ سمير سعيفان، الخبير الاقتصادي والقيادي السابق في الحزب الشيوعي السوري (جناح بكداش) وأحد أعضاء "الحرس الفتي الإستشاري" الذي صعد ضمن مناخات التوريث، كان أبرز المدافعين عن حوافز الأسد الإصلاحية، في... مؤتمر سميراميس!
ولحلقات الحكم الضيقة مصائرها الحتمية، كما يعلّم التاريخ، ليس بين قطبَيْ التفكك بسبب الإنغلاق، أو الإنفجار جرّاء الضغط الهائل على عصبة منعزلة، فحسب؛ بل كذلك لأنّ اختبار النار لم يعد بوّابة التبرئة، بل فاتحة الإدانة، قبيل السقوط.   

الأحد، 24 يوليو 2011

رغم أنف جورج وسوف


في أزمنة "الربيع العربي"، الحبلى بوعي التغيير وحسّ المقاومة وروحية التجدّد، ثمة انبعاث مدهش لطراز من القصيدة الكلاسيكية، تنهض خصوصيته على ارتباط وثيق بين الموضوع الوطني (بالمعنى الأعمق لمفهوم المواطنة، وليس بمعنى الإنتماء الوطني وحده)، وبين الأغنية التي رسخت شعبيتها عبر العقود (بسبب من تميّز لحنها وجاذبيتها الموسيقية، وليس بسبب موضوعها الوطني وحده). في سورية، على سبيل المثال، ترافق إقبال الأجيال الفتية على ترديد "حماة الديار"، قصيدة خليل مردم بك (1895 ـ 1959) والنشيد الوطني السوري، مع اهتداء إلى سلسلة القِيَم السياسية والإنسانية والأخلاقية التي تختزنها الكلمات، في جانب أوّل؛ وانشداد إلى موسيقى الأخوين فليفل، كان مفاجئاً من جيل اعتاد على تذوّق أغنيات وفيق حبيب وجورج وسوف وعلي الديك وسارية السواس، في جانب ثانٍ.

والحال أنّ التراث الشعري ـ الغنائي العربي الحديث يحفل بعشرات القصائد الوطنية التي خلّدها، أوّلاً، نصّ شعري فصيح وحماسي وأخاذ؛ قبل أن تستكمل تخليدها أغنية تردّدها الحناجر، ضمن الطراز ذاته التي سبقت الإشارة إليه. ثمة، بالطبع، قصيدة "يا ظلام السجن"، التي كتبها الصحافي السوري نجيب الريس (1898 ـ 1952) عندما كان سجيناً في قلعة جزيرة أرواد سنة 1922، وقيل إنه لحّنها بنفسه وبمشاركة زملائه في السجن. مطلع القصيدة الشهير يبدأ هكذا: يا ظلام السجن خيّمْ/ إننا نهوى الظلاما/ ليس بعدَ السجن إلا/ فجرُ مجدٍ يتسامى"، وكانت في البدء موجهة ضدّ الإنتداب الفرنسي، ثمّ تحوّلت إلى نصّ ـ أغنية ضدّ الطغيان بصفة عامة.

هنالك، أيضاً، "بلاد العرب أوطاني"، قصيدة فخري البارودي (1887 ـ 1966) التي يقول مطلعها: "بلاد العُرْب أوطاني/ من الشام لبغدان/ ومن نجد إلى يمن/ إلى مصرَ فتطوان"؛ وضمن كلماتها، للتذكير، ذلك البيت اللامع: "فلا حدّ يباعدنا/ ولا دين يفرّقنا"، الذي جعلها تتوخى إسقاط الحدود وإلغاء فُرقة الأديان، في زمن عربي شهد اصطخاب المشاعر الشوفينية والتعصّب الديني. ومن الإنصاف التذكير بأنّ الشاعر البارودي كان سياسياً وضابطاً وبرلمانياً وصحافياً، وناضل ضدّ الإنتداب الفرنسي، كما وضع كتاباً طليعياً بعنوان "فصل الخطاب بين السفور والحجاب"، صدر سنة 1924.

كذلك لا ننسى، نحن السوريين، قصيدة "عروس المجد"، للشاعر عمر أبي ريشة (1910 ـ 1990)، التي قد يجهل الكثيرون أنّ ملحّنها هو اللبناني فلمون وهبي، وأنه اختار منها تسعة أبيات، غنّتها المطربة الدمشقية سلوى مدحت، احتفاء بعيد الجلاء. مطلع القصيدة يقول: "يا عروس المجد تيهي واسحبي/ في مغانينا ذيول الشهب/ لن تري حفنة رمل فوقها/ لم تُعطّر بدما حرّ أبي/ درج البغي عليها حقبةً/ وهوى دون بلوغ الأرب". طريف، إلى هذا، أن يلحظ المرء علاقات التفاعل بين الشعر والموسيقى، وهامش التسامح أيضاً، في موافقة الشاعر على قيام الملحّن بتعديل في النصّ، كما حين اقترح وهبي تبديل الفعل "تُرضي" إلى "ترضى" في البيت الختامي: "شرف الوثبة أن ترضي العلى/ غلب الواثبُ أم لم يغلبِ".

غير أنّ "موطني" قصيدة إبراهيم طوقان وألحان الأخوين فليفل أيضاً، قد تكون الأرسخ في الوجدان العربي الحديث والمعاصر، لأسباب شتى لعلّ أبرزها أنها كانت أنشودة الإنتفاضة الفلسطينية سنوات 1936 ـ 1939، ضدّ الإنتداب البريطاني وموجات الهجرة اليهودية. ولعلّ السبب الآخر أنّ القصيدة اعتمدت تشكيلاً وزنياً متنوعاً وطليقاً، يتخفف كثيراً من تواتر التفاعيل المكرورة، ويمزج ببراعة بين الموشّح والعمود الخليلي، ويعتمد أكثر من صيغة ذكية لبناء إيقاع رديف عن طريق التكرار.

وقبل انتفاضات العرب، حين كان عماء استبداد الأنظمة، وفساد عائلاتها من الآباء إلى الأمهات إلى الأبناء والبنات، هو السائد؛ ذهبت مرارة المواطن العربي إلى حدّ قلب كلمات هذه القصيدة الأيقونية، لتصبح هكذا: "موطني موطني/ الوبال والضلال والبلاء والرياء/ في رباك في رباك/ والطغاة والبغاة والدهاء لا الوفاء/ في حماك في حماك/ ها أراك لا سواك/ خانعاً مكمماً بقادتكْ مسمّماً/ ها أراك ها أراك/ كُبّلت يداك/ تصطلي لظاك/ موطني موطني". وثمة جمهرة من الأسباب الوجيهة التي تجعل المرء يرى الكلمات الأصلية وقد عادت، اليوم، إلى الشفاه والحناجر: "الجلال والجمال والسناء والبهاء/ في رُباكْ".

وقبل أيام، خلال مؤتمر صحفي في العاصمة الأردنية عمّان، قال جورج وسّوف: "أنا مع بلدي ورئيسي، وغير ذلك أكون بلا شرف"، وكأنه اعتبر ملايين السوريين الذين تظاهروا طيلة خمسة أشهر من عمر الإنتفاضة، أناس "بلا شرف". هو حرّ في الوقوف مع رئيسه، غنيّ عن القول، وليهنأ واحدهما بالآخر؛ لكنّ الإنتفاضة السورية تواصل تأسيس حال الشرف التي تعتق المواطن الحرّ من ذلّ الإنحناء عند قدم رامي مخلوف، كما فعل وسّوف مؤخراً، في شريط فيديو صار الآن محطّ زائري الـ"يوتيوب". لا يعادله في الشهرة إلا شريط يلتقط حفل الطرب الذي أقامه دريد لحام، في بيته بدمشق، للعقيد الليبي معمّر القذافي، بحضور جمهرة من فناني وفنانات الـ"منحبّك".

ثمة، رغم أنف وسّوف ولحام، فنّ آخر، لكرامة أخرى؛ ولهذا يتوفّر آلاف يردّدون كلّ يوم: أبتْ أن تُذلّ النفوس الكرام!

الخميس، 21 يوليو 2011

الإخوان المسلمون والإنتفاضة السورية: واقع يجبّ الخرافة

مؤتمر "الإنقاذ الوطني"، في شطره الذي احتضنته مدينة اسطنبول التركية تحديداً، أعاد التشديد على موقع الإسلاميين ضمن تيارات المعارضة السورية بصفة عامة، وداخل مختلف التنسيقيات التي تدير حراك الإنتفاضة بصفة خاصة. ورغم أنّ "جماعة الإخوان المسلمين" شاركت في، أو أطلقت المبادرة إلى، مؤتمرات سابقة عقدتها أطراف سورية معارضة في اسطنبول ذاتها، وفي أنطاليا وبروكسيل؛ فإنّ المؤتمر الأخير شهد التئام عدد كبير من الإسلاميين غير المنتمين إلى الجماعة، من المتعاطفين مع خطّها السياسي الراهن على نحو إجمالي، أو حتى أولئك الذين يختلفون مع الخطّ في كثير أو قليل، ولكنهم ينطلقون من الحساسية الإسلامية ذاتها تجاه حاضر ومستقبل سورية.

ولعلّ فضيلة هذا المؤتمر الأبرز (والتي لا تطمس، بحال، مثالبه الكثيرة التي انتهت به إلى ما يشبه الفشل المعلَن) أنه أتاح للسوريين أينما تواجدوا، ولكن في الداخل أساساً، التعرّف أكثر، وأوضح من ذي قبل ربما، على واحدة من الخرافات الكبرى التي اقترنت بالإنتفاضة، وبأنساق وأطوار الحراك الشعبي المعارض طيلة عقود حكم حافظ الأسد، مثل وريثه بشار الأسد: أنّ الإسلاميين، و"جماعة الإخوان المسلمين" أوّلاً، هم بديل النظام. تلك الخرافة صنعت، كما معروف، واحدة من ذرائع الولايات المتحدة، وغالبية الديمقراطيات الغربية، في تبرير تفضيل شرور النظام السوري على مخاطر مستقبل مجهول يهيمن عليه الإسلاميون.

الأسباب الخفية ذات طبيعة مختلفة، بالطبع، لأنها انطلقت على الدوام من الخدمات الممتازة التي أسداها الأسد الأب، مثل الأسد الابن، للمصالح الأمريكية والغربية في المنطقة، ولأمن إسرائيل في المقام الأوّل. وتلك خدمات لا تنتهي عند استمرار سلام الأمر الواقع الذي يسود الجولان المحتلّ، منذ اتفاقية سعسع سنة 1973، أو التزام النظام بمدوّنة السلوك الحسن في ضبط الحدود السورية ـ العراقية، لصالح الإحتلال الأمريكي. كما أنها خدمات أبعد أثراً من حرب النظام ضدّ الحركة الوطنية اللبنانية والمقاومة الفلسطينية، وحصار المخيمات، أواسط السبعينيات؛ أو التفرّج على الغزو الإسرائيلي للبنان، سنة 1982، رغم أنّ العدوان الإسرائيلي استهدف القوات السورية بدورها، وسقط من الشهداء ضباط وأفراد كثر؛ أو الإنضمام، فعلياً، إلى تحالف "حفر الباطن" ووضع الوحدات العسكرية السورية تحت إمرة جنرالات أمريكا. وما خلا المساندة اللفظية لـ"حماس" خالد مشعل، والاتجار السياسي والمالي بإمدادات السلاح الإيراني إلى "حزب الله"، فإنّ الوريث واصل نهج أبيه في خطب ودّ الغرب، والبحث عن أقنية التفاوض مع إسرائيل، سرّاً أو علانية أو عبر وسطاء.

من جانب آخر، ومثلما التجأ المنافقون من "الممانِعين" العرب، وعلى رأسهم عدد من الإسلاميين بالطبع، إلى شعار الحرص على النظام السوري من منطلق الحرص على المقاومة؛ كذلك تذرّع عدد من المنافقين "العلمانيين" العرب بأخطار انقضاض الإسلاميين السوريين على السلطة، لكي يواصلوا السكوت عن استبداد النظام السوري، بل الذهاب إلى حدّ التغنّي بنعيمه، في موازاة ما سيحلّ بسورية من جحيم إسلامي! ولم تكن مصادفة، البتة، أنّ فريقَيْ النفاق اجتمعا على هدف مساندة النظام منذ أسبوع الإنتفاضة الأوّل، وتولّى كلّ فريق تجميل موقفه بدمعة حزن هنا، على شهداء سورية؛ أو رسالة مناشدة هناك، تستصرخ القيادة السورية "الممانِعة" أن ترأف قليلاً بحال الشعب!

من جامعة ماريلاند الأمريكية، ولكي نذهب إلى صوت عربي وسط المعمعة ذاتها، أعطى شبلي تلحمي أقصى ما يمكن أن تبلغه مخيّلة في تشريح المسألة إياها: "سورية موطن الأخوان المسلمين"! صحيح أنه استند إلى احتمال أن تكون "الفوضى العميمة" هي الحال السائدة في أعقاب أيّ غزو عسكري أمريكي، وأنّ الإدارة الأمريكية قد تعلمت بعض الدروس من غزو العراق، بينها أنّ تلك الفوضى هي "أمّ الإرهاب". ولكن... هل سورية هي حقاً، على أيّة شاكلة محتمَلة أو حتى متخيََلة، "موطن الإخوان المسلمين"؟ وبالتالي، ما الذي أبقى هذا الموطن بمنأى عن أيّ حكم إسلاميّ الطابع، لكي لا نقول: إخوانيّ الهوية، طيلة عقود طويلة، قبل الإستقلال وبعده، وخلال مختلف العهود التي سبقت استيلاء حزب البعث على السلطة سنة 1963؟

مثل هذه التقديرات، وسواها كثير في الواقع (أكثرها إدهاشاً، ومدعاة للأسف، تلك التي تصدر عن بعض المعارضين السوريين أنفسهم!)، تتكيء إلى مقولات قديمة أحادية الجانب وناقصة وانتقاصية، تمّ ترويجها على هيئة كليشيهات مسبقة الصنع، وتنميطات مطلقة مجرّدة. إنها، أيضاً، تعيد إنتاج خطاب سلطة استبدادية عائلية مافيوزية، سعيدة تماماً لأنّ العالم يُبقي عليها، أو يطيل في عمرها، أو يكتفي بضرورة ضربها على يديها (كما في عبارة مدهشة أطلقها دنيس روس ذات يوم)؛ لا لسبب آخر سوى أنّ جماعة الإخوان المسلمين هي بديل التغيير، الوحيد!

ويحضر، هنا، تعليق قديم، ولكنه يظلّ ساري المفعول، صدر عن المعارض السوري الأبرز رياض الترك، عضو قيادة "حزب الشعب الديمقراطي"، حول موقع الحركة الإسلامية في العمل الوطني السوري، وذلك في الحوار المطوّل الذي أجراه معه محمد علي الأتاسي مطلع عام 2000. الأتاسي سأل الترك عن موقفه من الإسلام السياسي ودور "الإخوان المسلمين" ومكانتها كحركة سياسية في المستقبل السياسي لسورية، فأجاب: "أنا أعتبر أنّ للإخوان المسلمين كحزب سياسي الحقّ في الوجود والعمل السياسي، ولكن عليهم أن يعيدوا النظر في السياسات التي سلكها بعض أطرافهم في نهاية السبعينات ومطلع الثمانينات، وأن ينبذوا طريق العنف ويسيروا في الاتجاه الديمقراطي. وأرى أنه يجب ألا تكون موانع من وجود تيار سياسي يستلهم التراث الديني، لكن شرط ألا يستغلّ ولا يحتكر الدين، وألا يكفّر الناس. وأعتقد بأنّ التجربة الأخيرة لا بدّ أن تدفع بالعقلاء من الإخوان إلى أن يؤسسوا سياسة جديدة أكثر انفتاحاً وديمقراطية".

والإنصاف يقتضي التذكير بأنّ الجماعة، قبل أن تطرح مشروع" ميثاق الشرف الوطني" في أيار (مايو) 2001 ولكن بصفة خاصة بعد مؤتمر لندن الذي عُقد أواخر آب (أغسطس) 2002 وعدّل ثمّ تبنى الميثاق؛ أنجزت ما يشبه الإنتفاضة الداخلية، أو الإنقلاب السلمي على الذات، لجهة التنازل عن ثوابت كبرى في عقيدتهم: اعتماد خطاب معتدل تماماً، نبذ العنف المسلح، اعتناق معظم المطالب الديمقراطية التي أجمعت عليها الأحزاب السورية المعارضة وممثّلو منتديات المجتمع المدني، وتبنّي مبدأ التعددية السياسية (الأمر الذي كان يعني عملياً إغفال، أو بالأحرى إسقاط، اشتراط الدولة الإسلامية، وتطبيق الشريعة تالياً).

الإنصاف ذاته يقتضي التذكير بأنّ خصائص المجتمع السوري الأصيلة، أي تلك التي اقترنت بالمحطات الكبرى الفاصلة في تطوّره السياسي والمجتمعي والثقافي في الأطوار الحديثة، تضع البلد على نقيض صريح من تلك الأطروحة الأحادية التي تجعل "الإخوان المسلمين" بديل التغيير الوحيد. هذا أمر لا يحتاج السوريون، في غالبيتهم الساحقة، إلى إمعان التفكير فيه أو ترجيحه كاحتمال ملموس. غير أنّ مبدأ التعددية السياسية، في ذاته أوّلاً وفي ضوء تطوّرات الفكر الإخواني وما يقترن به من سياسات ثانياً، لا يمكن أن يغلق الباب مسبقاً أمام أيّ فصيل يقبل بالمبدأ ويقرّ بقواعده الأخرى، بما في ذلك الاحتكام إلى صندوق الإقتراع، وفصل السلطات، وإقرار العلمانية، وترك الدين لله وإبقاء الوطن للجميع. أكثر من هذا، هل يمكن لأيّ ائتلاف ديمقراطي معارض للإستبداد والدكتاتورية، أن يُسقط من حسابه ضرورة اجتذاب معارضة إسلامية مستنيرة؟ وفي الأساس، هل يمكن لأية معارضة أن تكون فعالة في أيّ بلد ذي أغلبية شعبية مسلمة، دون إسلام مستنير؟

والإنصاف ذاته يقتضي، ثالثاً، عدم "مراعاة" ذلك الإسلام المستنير بذريعة اجتذابه إلى صفوف المعارضة، خصوصاً في المسائل الجوهرية الكبرى ذات الطابع التشريعي والحقوقي والثقافي، كأن تتمّ محاباة الإسلاميين في أية صياغة ـ سيّما إذا كانت غامضة، ركيكة، تلفيقية، وتوفيقية ـ تنصّ على دور أعلى تفوّقي أو تمييزي للإسلام على سواه. فالأمر هنا ليس سلاحاً ذا حدّين فقط، بل هو في الأغلب سلاح ذو حدّ واحد يرتدّ إلى نحور الغافلين عنه. كذلك، في المقابل، فإنّ مسخ العلمانية إلى كاريكاتور محض يحيل إلى سلّة المهملات جميع الجوانب الإنسانية المضيئة لثقافات مختلف الأديان والعقائد، هو بدوره سلاح ارتدادي من النوع المماثل، إذا لم يكن أسوأ وأشدّ ضرراً وأعظم عاقبة.

وهكذا، فلا الإخوان هم اللاعب الوحيد، ولا سورية هي ملعبهم وحدهم؛ وهم ليسوا خارج صفوف المعارضة، ولا خارج مشروع النضال من أجل سورية الديمقراطية، ولا هم البديل الوحيد عن سورية الإستبداد والنهب والمافيات وحكم العائلة. ولهذا فإنّ مؤتمر "الإنقاذ الوطني"، ورغم فشله تنظيمياً وسياسياً، زوّد الداخل السوري، والعالم الحريص على منظور موضوعي وملموس، بنموذج ساطع على السقوف الوطنية والديمقراطية التي أرستها الإنتفاضة السورية؛ ولم يعد في وسع أيّ فريق أن يُنقصها، أو ينتقص من ركائزها السياسية والأخلاقية، ويزعم في الآن ذاته انه جزء منخرط في صناعة سورية المستقبل. في عبارة أخرى، أياً كانت التكتيكات المبطنة، أو حتى ستراتيجيات العمل والتفكير، التي تخصّ هذه المجموعة الإسلامية أو تلك، فإنّ البيان الختامي لجلسة اسطنبول استعاد الخطاب ذاته، بمفرداته الأدقّ، الذي كانت جلسة دمشق ستعتمده لو لم تستخدم السلطة أقصى العنف للحيلولة دون انعقادها.

وجلسة اسطنبول انعقدت تحت شعار "من أجل سورية مدنية ديمقراطية تعددية"، بادىء ذي بدء؛ كما أجمع المشاركون على الأهداف الرئيسية التالية: 1) تصعيد النضال السلمي الديمقراطي، بمشاركة اطياف المعارضة وفصائلها كافة، ورفض التدخل العسكري الخارجي؛ و2) نقل السلطة سلمياً إلى حكومة وطنية مؤقتة، تتولى تفكيك الدولة الأمنية، وتأسيس حياة دستورية، وتنظيم انتخابات برلمانية ورئاسية؛ و3) بناء دولة مدنية ديمقراطية تعددية أساسها المواطنة، تستند إلى دستور عصري؛ و4) المساواة التامة بين أبناء الشعب السوري، واحترام خصوصياته الدينية والعرقية. وللمرء أن يميل إلى ترجيح صدقية، وصدق، الموافقين على هذه الأهداف، دون استبعاد احتمالات أخرى يفرضها في العادة انقلاب الحسابات تارة، أو تبدّل التحالفات طوراً، أو تناقض الأجندات الخافية مع تلك المعلنة، وما إلى هذا وذاك من تقلبات السياسة وطبائعها.

وليس بخافٍ على أحد أنّ تنسيقيات الإنتفاضة تضمّ العلمانيين والإسلاميين، الليبراليين والمحافظين، النشطاء المتمرسين والنشطاء المتدربين، أنصار رياض الترك وأتباع الشيخ العرعور... ولكن، أهذا عيب في التنسيقيات، واعتلال، أم مظهر عافية واغتناء؟ وكيف للتنسيقيات أن تمثّل الأطياف الأعرض من المجتمع السوري، في مستوى الخطّ السياسي أو الفكري أو الثقافي مثل الموقع الاجتماعي أو السنّ أو الإنتماء الإثني أو الديني، إذا كانت لا تتصف بكلّ ذلك التنوّع، ولا تسعى إلى سواه أيضاً؟ ليس خافياً، من جانب آخر، أنّ البيانات والأدبيات التي أصدرتها لجان التنسيق المحلية لم تخرج، حتى في أصغر التفاصيل، عن مفردات شعار الإجماع: سورية وطنية، ديمقراطية، مدنية، تعددية، عصرية.

وهنا لا ينتصر الواقع على الإستيهام والتضليل والخديعة والذريعة الزائفة، فحسب؛ بل يجبّ الخرافة أيضاً.

الأحد، 17 يوليو 2011

حين يصبّ الفرات في العاصي

أدخلوا جديداً على أنساق التظاهر، يسهم في تطوير مهارات الإلتفاف على أساليب العنف الوحشية التي تعتمدها أجهزة النظام الأمنية لقهر الإنتفاضة السورية، من جهة أولى؛ ولعلّه ينفع في اجتذاب المزيد من شرائح المواطنين الذين ما يزالون يتردّدون في المشاركة، لأسباب شتى يمكن تفهّم معظمها، من جهة ثانية. ذلك الجديد هو تنظيم تظاهرة مائية على صفحة نهر الفرات، سباحة أو بقوارب صغيرة، تردّد الهتافات ذاتها تقريباً؛ كما ترفع لافتات مماثلة لتلك التي ترفعها التظاهرات على اليابسة، إذا جاز القول، مع تنويعات طريفة ومؤثّرة، مثل هذه مثلاً: نهر الفرات يصبّ في نهر العاصي!

أمّا مبتدعو هذا الجديد فهم شباب محافظة دير الزور، في المدينة ذاتها، وفي بلدات المياذين والبوكمال والعشارة، وفي قرى نهرية عديدة؛ وكأنّ خروجهم إلى الشوارع الرئيسية والساحات العامة، بأعداد تجاوزت 250 ألف متظاهر في "جمعة أسرى الحرّية" لم يشفِ غليلهم إلى إسماع صوت الإحتجاج العميق، فطافوا فوق مياه الفرات، وطوّفوا على صفحته الرايات. وكيف لا يلتمسون عبقرية هذا النهر العظيم الخالد، في هذه البرهة الفريدة من تاريخ المدينة والوطن، وهم حَمَلة اللقب الشهير "أخوة بطّة"، نسبة إلى براعة في السباحة يتلقونها منذ نعومة اظفارهم، تماماً كما تفعل أفراخ البطّ!
وهكذا صارت ساحة "دوّار المدلجي" في مدينة دير الزور تتمة رمزية، وامتداداً جغرافياً طبيعياً، لساحة العاصي في مدينة حماة، فولدت هذه التوأمة التلقائية بين مدينتين تشاركتا في بلوغ ذلك الرقم الذهبي الذي انتظرته سورية منذ انطلاقة الإنتفاضة، وارتعدت له فرائص أجهزة النظام: مليون متظاهر، في نهار واحد. وكما ذاقت حماة أفانين وحشية النظام في مطلع الثمانينيات، مثل حالها اليوم خلال أسابيع الإنتفاضة؛ كذلك فإنّ دير الزور شهدت بعض تلك الأفانين في الحقبة إياها، وتشهدها اليوم أيضاً، إسوة بجميع المحافظات السورية.

الشهداء يتساقطون، يوماً بعد يوم، وفي عدادهم يخرّ أطفال لا يتجاوزون الـ 14 سنة؛ والمجمعات السكانية تُحرم من الكهرباء والماء والهاتف والإنترنت، وتُغلق المدارس والكليات الجامعية، وتُعطّل الإمتحانات؛ ويُمنع المواطنون من عبور الجسور، وما أكثرها على الفرات، لإعاقة التحاقهم بالتظاهرات؛ وتُحرق السجلات في دوائر الأحوال المدنية، للإيحاء بأنّ وجود المواطن ذاته يمكن أن يُطمس نهائياً؛ كما تذهب الأجهزة شوطاً أبعد في التخريب بهدف التحريض الطائفي، كأن تحرق كنيسة عتيقة في البوكمال، وتنسب الفعل إلى المتظاهرين! وبالأمس أنبأتنا "الوطن"، صحيفة رامي مخلوف، أنّ بلدة البوكمال قد تشهد إعادة إنتاج، أعنف وأشدّ وحشية، للسيناريو الدموي الذي عاشته بلدات تل كلخ وجسر الشغور ومناطق جبل الزاوية وسواها.

وأجدني أشير، بعد التماس المعذرة على هذه الشطحة نحو الشأن الذاتي، أنني ولدت في مدينة القامشلي، درّة منطقة "الجزيرة" السورية، التي سُمّيت هكذا لوقوعها بين نهرَيْ دجلة والخابور، فضلاً عن محاذاة الفرات بالطبع. وفي القامشلي نشأت ودرست حتى التحاقي بجامعة دمشق، ممّا يجعلني "جزراوياً" بامتياز، بالولادة وبالاختيار أيضاً؛ الأمر الذي لا يلغي أنني "ديري" أيضاً، لأنّ الوالد والوالدة من أبناء دير الزور. ورغم أنني زرت المدينة في فترات متقطعة خلال سنوات الطفولة، كما نُفيت إليها عملياً (وهنا ذروة المفارقة في سلوك الأجهزة الأمنية) حين تمّ إبعادي عن قطاع التدريس، فأقمت فيها فترة قصيرة؛ إلا أنني على يقين من مقدار افتتاني بهذه الواحة الفريدة التي تتباهى بسلسلة ألقاب باذخة، تُجمع على أنها العروس: للفرات، أو للبادية، أو للصحراء.

وإلى جانب مسرّات العيش في كنف أهل وأصدقاء ورفاق، ومعايشة أوجاع محافظة أهملتها السلطة عن سابق قصد وتصميم (لأنّ النظام اعتبرها مناهضة وعاصية وعصيّة!)، اكتسبت المدينة شخصية ملحمية في ناظري، كفيلة باجتراح مصالحات شتى بين النقائض، وقادرة على استنهاض جماليات غامضة من منابع غير منتظَرة. ولقد خصّتها الطبيعة بقسوة قصوى في المناخ تارة (حين يغطّيها العجاج تماماً، فيستنشق البشر ذرّات غبار تتسلل حتى إلى الثلاجة؛ أو حين ترتفع درجات الحرارة، فيغلي الإسفلت في الشوارع...)؛ ورقّة قصوى في المناخ نفسه تارة أخرى (فيصبح السهر في "جرداق" على ضفة الفرات نعمى استثنائية، والمبيت في معسكر صحراوي تجربة فارهة)؛ ولكنّ النهر ظلّ قاسماً مشتركاً يُدني القسوة من الرقّة، ويضفي المزيد من البهاء على الشخصية الملحمية.
    
وحين صار "دوّار المدلجي" يتردد في الأخبار، وقعت في حيرة، وأصابني خجل، لأنني لم أتمكن من استذكار الموقع الفعلي لهذا الدوّار، حتى أنقذني صديق ديري طمأنني بأن المكان جديد ولم يكن قائماً على عهدي. وفي سياق تعاقدي الجديد مع هذا الدوّار، وتجديد افتتاني القديم بتلك المحافظة الكريمة، لا أملّ من مشاهدة اعتصام ليلي حاشد في الدوّار، تسيّدته طفلة لا تتجاوز العاشرة كما أرجّح، كانت تهتف ويردّد الكبار بعدها: "مجروح يا يمّة/ مجروح يا يابا/ ودّوا لحماة من الدير/ موّال عتابا". وللموّال أن يصل بين الحناجر والقلوب، حتى على مبعدة مئات الكيلومترات، بالطبع؛ إسوة بنهرَيْن يصبّ واحدهما في الآخر، فتحلّق بطّات الفرات فوق نواعير العاصي.

الخميس، 14 يوليو 2011

زيارة فورد إلى حماة: انحناءة الممثلين العراة

زيارة السفير الأمريكي في دمشق، روبرت فورد، إلى مدينة حماة، الأسبوع الماضي، تستحقّ مكانة خاصة في سجلّ العلاقات بين الولايات المتحدة ونظام "الحركة التصحيحية"، على امتداد 30 سنة من حكم حافظ الأسد، و11 سنة من حكم وريثه بشار الأسد. مكانة دراماتيكية، كما يتوجب القول، ليس بمعنى أيّ تبدّل حاسم ونوعي طرأ على مسارات تلك العلاقة (وهي، بالفعل، سلسلة مسارات متغايرة، ولم تكن متجانسة على الدوام)، بل بمعنى الدراما التي تستدعي المسرح والمسرحة؛ كلٌّ على خشبته، في واشنطن ودمشق على حدّ سواء، وكلٌّ على طرائقه، واستناداً إلى ما يريد إرساله من إشارات.
ورحلة السفير إلى حماة لم تنطلق، بادىء ذي بدء، على ظهر راحلة قطعت الفيافي والقفار والوديان والجسور، في تخفّ تامّ وبعيداً عن أنظار السلطات السورية، كأنها اقتفت دروب المهرّبين والمخرّبين كما أوحت بعض ابواق السلطة. فلا السفير كان سيخوض هكذا مغامرة، رغم مغرياتها الإستشراقية بالطبع، فأعلم وزارة الخارجية السورية أنه سيقوم بالزيارة؛ ولا السلطات السورية كانت ستجازف بترك ممثّل القوّة الكونية الأعظم يسافر وكأنه سائح في منتجع سويسري، فأرسلت مرافقين شاكي السلاح تولوا حراسته عن بُعد، ليس خوفاً عليه من من مواطنين سوريين مدنيين عزّل يبغضون السياسات الامريكية، بل خشية أن ينفلت بعض "الشبيحة" من كلّ عقال، فينقلب موكب السفير إلى صيد سمين لبنادقهم المتعطشة إلى سفك الدماء.
ما لم يكن متفقاً عليه، وفق معطيات متطابقة، هو مبيت السفير في المدينة حتى يوم الجمعة التالي، "جمعة لا حوار" دون سواها، حيث كان من المتوقع أن تشهد ساحة العاصي مشاركة مئات الآلاف. ولعلّ رمزية غضب النظام، ومثلها رمزية ابتهاج الخارجية الأمريكية، تكمن في هذا التفصيل المباشر، أي المبيت في فندق يطلّ على الساحة، وتثبيت شهادة عيان على هذه الجمعة تحديداً؛ قبل الرمزية الأخرى الأكبر، التي تنبثق من موقع حماة الخاصّ، سواء في تاريخ الإستبداد السوري، أو صمت واشنطن على ذلك الإستبداد. الحوار، في تبشير النظام، هو "تنازل" للشعب، وخطوة على طريق "الإصلاح"؛ وبالتالي على حكومات العالم أن ترحّب به وتصفّق له، لا أن ترسل السفيرين الأمريكي والفرنسي إلى حماة، في يوم احتجاجات عارمة شاء لها المتظاهرون أن تكون رسالة صريحة في رفض هذا الطراز من الحوار.
ما لم يكن متفقاً عليه أيضاً، أغلب الظنّ، أن تأخذ ردود أفعال الطرفين، في واشنطن ودمشق هذا المستوى من حدّة التراشق اللفظي (خارجية النظام اتهمت واشنطن بـ"التورط" في الحركة الإحتجاجية و"التحريض على التصعيد"، والناطقة باسم الخارجية الأمريكية ردّت بأنّ هذه الاتهامات "قمامة صرفة"). ومن المشروع التفكير بأن تصريح وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلنتون (أنّ الأسد "فقد الشرعية لفشله في تحقيق وعود بإجراء إصلاحات")، ومثله تصريح الرئيس الأمريكي باراك أوباما (أنّ الأسد "فقد شرعيته. وقد ضيّع الفرصة تلو الفرصة لتقديم جدول أعمال حقيقي للإصلاح")، استهدفا تهدئة اللغة، أو بالأحرى ضبط مفرداتها عند المعدّل الذي ما يزال يمثّل خطّ واشنطن تجاه النظام السوري، في الطور الراهن بالطبع، وحتى إشعار آخر.
صحيح أنّ كلنتون استخدمت توصيفاً خشناً وغير مألوف في القاموس الذي تعتمده الدبلوماسية الأمريكية تجاه زعامات شرق ـ أوسطية (من أنّ الأسد "ليس شخصاً لا يمكن الإستغناء عنه"، ودلالة التعبير في الأصل الإنكليزي أكثر خشونة في الواقع، إذْ توحي بآلية الإستغناء عن قطع الغيار، وتبديلها في أية لحظة). ولكن من الصحيح، في المقابل، أنّ الإدارات الأمريكية المتعاقبة، جمهورية كانت أم ديمقراطية، لم تشجّع أي مساس جدّي بنظام "الحركة التصحيحية"، بل كان العكس هو الصحيح على الدوام، وظلّ الخيار المعتمَد هو هذا: الإستغناء عنه، وعن سواه، ممكن بالطبع، ولكن لماذا نفعل والنظام خدم ويخدم أجنداتنا، وأجندات حليفتنا إسرائيل، وغالبية حلفائنا في المنطقة، رغم كلّ الضجيج والعجيج حول "الممانعة" و"المقاومة"؟
وليس صحيحاً، من جانب آخر، تصريح كلنتون بأنّ الولايات المتحدة لا "تأمل سرّاً بأن ينجو النظام من هذه الفوضى، ليواصل وحشيته وعمليات القمع"، لأنّ الإدارة تتصرّف وكأنها لا تأمل إلا في هذا بالضبط، على المدى المنظور في أقلّ تقدير، وريثما ينجلي المشهد السوري عن معطيات أخرى تحتّم على واشنطن إدخال نقلة نوعية في السياسة. ذلك لأنّ مؤشّر تصريحات أوباما وكلنتون ظلّ يرجّح هذا الخيار، أو لا يشجّع على سواه في الواقع. أقصى ما قاله أوباما، مثلاً، كان حثّ الأسد على قيادة الإصلاحات أو "الوقوف جانباً"، وليس "التنحّي" كما شاء البعض أن يفسّر؛ وأمّا كلنتون فقد بدأت من الحديث عن الأسد "الإصلاحي"، ثمّ انتقلت إلى أنّ ما تسمعه الإدارة منه لم تسمعه من زعماء عرب سواه، لتقطع خطوة إضافية في الحديث عن أنه "فقد الشرعية تقريباً"، وصولاً إلى أنه "فقد الشرعية"... لا أحد في الإدارة تحدّث عن "التنحّي" أو استخدم ما يعادل معنى هذه المفردة، ولا أحد حثّ على إجراء رادع سوى عقوبات لا تعاقب في نهاية المطاف، ولا تردع.
لماذا ذهب السفير فورد إلى حماة، إذاً، وهل كانت زيارته مقدّمة لنقلة نوعية في السياسة؟ كلا، في الإجابة على الشطر الثاني، لأنّ أية نقلة نوعية هي رهن بما تحققه الإنتفاضة السورية من انتصارات، وما تسجّله من علائم ملموسة على طريق تقويض نظام "الحركة التصحيحة"؛ والموقف الأمريكي سيكون عندها بمثابة انحناءة أمام قوّة الواقع، موضوعية وقسرية لا منّة فيها ولا فضيلة، تماماً كما كانت حال واشنطن في تونس ومصر. وهكذا ينبغي أن يُفهم تصريح أوباما مؤخراً، حين سُئل عن السبب في أنه لم يطالب صراحة بتنحّي الأسد: "الشعب السوري سيكون، ويجب أن يكون، قادرًا على تقرير مستقبله بنفسه، وهناك حقا توافق متزايد بين الشعب السوري على أنه يجب أن يحدث هذا التحوّل، وأن الرئيس الأسد لن يقود هذا التحول".
أمّا الإجابة عن الشطر الأوّل فهي أنّ مكوث الإدارة على هذا الموقف، أي الدعم اللفظي لمطامح الشعب السوري والمراهنة الضمنية على إمكانية بقاء نظام "الحركة التصحيحية" وإجراء "إصلاحات" داخلية تجميلية هنا وهناك، يتطلب شحنة من الدراما لإقناع الرأي العام الأمريكي والدولي بأنّ واشنطن لم تعد صديقة الطغاة والطغيان. كذلك تقتضي الحال اللجوء إلى بعض السلوك المسرحي في مخاطبة الشارع الشعبي السوري، الأمر الذي يشمل النظام وشارعه المؤيد أيضاً، ويدخل في باب الضغط الشكلاني على السلطة، بما قد يفيد استفزازها، فيستدعي المزيد من انكشاف طبائعها، ويتسبب في إحراجها أكثر، أو حتى دفعها إلى ارتكاب الخطأ الفاضح.
ردّ فعل شارع النظام لم يكذّب خبراً، بالفعل، فخرجت جموع غاضبة لا تخفى هويتها ولا الأدوات التي تحرّكها، وكان من الممكن لها، والمشروع ربما، أن تهتف بحياة قائدها إلى الأبد، وأن تشتم أمريكا وفرنسا، وأن تحرق عَلَمَيْ البلدين، فلا يعترض سبيلها "مندسّ" أو "سلفي" أو "مخرّب" أو "هارب من وجه العدالة"... غير أنّ محاولة اقتحام السفارتين، وتحطيم النوافذ، وارتكاب أعمال العنف الأخرى، كانت كاشفاً جديداً حول مقدار الإنحطاط الذي بلغه النظام في تلمّس المخارج من مأزقه الشامل. وتلك، في الحصيلة، كانت ترجمة قطعان "الشبّيحة"، ثمّ تطبيقها العملي، لمقولة وليد المعلّم، وزير خارجية النظام: سوف ننسى أنّ أوروبا على الخريطة... ما خلا، بالطبع، أنه أبقى أمريكا على الخريطة، وجاء "الشبّيحة" ليستكملوا مهامّ المحو!
 وفي هذا الصدد، ثمة نبرة غير مألوفة في الأعراف الدبلوماسية، انطوت عليها ملاحظة السفير الأمريكي فورد المنشورة في صفحة السفارة على الـ"فيسبوك"، حين ارتأى السخرية من سردية النظام الرسمية حول "المندسين" من جهة، وحول مسيرات "منحبك" من جهة ثانية. يكتب فورد، حسب الترجمة العربية كما أوردتها السفارة: "لم أشاهد حتى الآن شرطياً واحداً يسيء إلى مظاهرات "منحبك". وهذا يسعدني، فأنا أرغب بأن يتمتع جميع السوريين بحقّ التظاهر السلمي. في التاسع من تموز، قامت إحدى مظاهرات "منحبك" بإلقاء الحجارة على مبنى سفارتنا، متسببين ببعض الأضرار. لقد لجأوا إلى العنف، بعكس أهالي مدينة حماة، الذين ظلوا مسالمين (...) إنه لمن المفارقة أن الحكومة السورية تسمح للمظاهرات المناهضة للولايات المتحدة أن تتحرك بحرّية، بينما يقوم أفراد أمنها السفاحون بضرب حاملي أغصان الزيتون المسالمين في مكان آخر". ولكي يكتمل بُعد اجتماعي، إلى جانب ذاك السياسي، يتابع السفير: "قام متظاهرون آخرون برمي البيض والبندورة على مبنى سفارتنا. لو أنّ هؤلاء كانوا يهتمون فعلاً لإخوانهم من السوريين، لكانوا توقفوا عن رمي الطعام نحونا ولتبرعوا به للسورين الذي يفتقرون لما يقتاتون به".
فهل، في المقابل، توجّب على الشارع الشعبي الحموي أن يستقبل موكب السفير بالورد وأغصان الزيتون؟ كلا، دون تأتأة أو التماس عذر، لأنّ رموز المحبة والسلام هي  آخر ما يمكن أن يُقابل به سفير الولايات المتحدة، دولة العدوان والإحتلال والتدخل العسكري، صديقة الطغاة وحليفة الطغيان، الساكتة طويلاً عن جرائم هذا النظام تحديداً، في هذه المدينة بالذات. لم يكن لأهل حماة يد في زيارة السفير فورد، لا في المبادرة إليها ولا في منعها، ولم يكونوا أصحاب الدعوة لكي يطلب منهم بعض أهل النظام، وحفنة من "الممانعين" العرب أيضاً (وفي هذا ذروة النفاق والزيف والكذب)، أن يردّوا الزائرين على أعقابهم... خاسئين!
لقد اضطرّ السفير، في كلمته المشار إليها، إلى امتداح متظاهري حماة، وأطلق على أفراد الأمن صفة "السفاحين"، كما نفى أنه أبصر "علامات على وجود أي عصابات مسلحة في أي مكان" مرّ به خلال زيارته الحموية؛ لكنه تفادى الحديث عن سجلّ بلاده الأسود في الموقف من مجزرة المدينة، سنة 1982. آنذاك، ظلّت الأقمار الصناعية الأمريكية ترصد دقائق الدمار الذي تعرّضت له المدينة، وتتابع كلّ طلعة طيران، وكلّ تحليق حوّامة، وكلّ قذيفة من دبابة أو من مدفع ثقيل؛ لكنّ لسان حال الإدارة، أيام رونالد ريغان دون سواه، التزم "الصمت البنّاء" حيال المجزرة، ودمدم بعض مسؤولي البيت الأبيض حول سقوط عدد من الضحايا يقلّ عن الألف، حين كانت الأعداد تتجاوز الـ 20 ألفاً!
وإذا توجّب أن لا يمنح المرء نفسه رفاه العتب على بعض أهل حماة، ممّن وجدوا في زيارة السفيرين الأمريكي والفرنسي متنفساً وبارقة مساندة دولية لمدينتهم التي كانت، وتظلّ، مهددة بمذبحة جديدة؛ فإنّ المرء ذاته قد لا يُلام إذا تمنى لو أنّ حماة ـ هذه المدينة الشهيدة/ العنقاء، العريقة والوليدة أبداً ـ لم تقدّم أي عون في إخراج مسرحية ركيكة، وتركت لمؤلّفيها ومخرجيها وممثّليها أن يصعدوا إلى الخشبة الإفتراضية، وأن يقدّموا انحناءة النفاق تلك، عراة من كلّ قناع!

الأحد، 10 يوليو 2011

"عندليب العاصي" وببغاء "الحوار الوطني"

لم يتجاسر أيّ من المشاركات والمشاركين في ما سُمّي "اللقاء التشاوري"، الذي عقدته السلطة السورية في ظاهر دمشق صباح أمس، على التلفظ باسم الشهيد الطفل حمزة الخطيب، وذلك رغم أنّ البعض بادر إلى الترحّم على أرواح الشهداء، مدنيين وعسكريين. وكما لا يخفى، ثمة فارق بين أن تُجمل الشهداء أجمعين، وهذا ملمح إنساني، أياً كانت مقادير الصدق أو النفاق التي تكتنفه؛ وبين أن تشير بالاسم إلى جريمة نكراء بشعة، وهذا فرض سياسي، وفريضة أخلاقية، غيابهما دالّ على نقص ـ متعمّد غالباً، إذْ يندر ان يكون عفوياً ـ في المكاشفة السياسية والواجب الأخلاقي.

كذلك لم يتجاسر أحد على استذكار الشهيد إبراهيم قاشوش، المغنّي الحموي الذي صار أيقونة ثانية بعد الخطيب؛ وكان قبلها قد استحقّ سلسلة صفات، بينها "حنجرة الثورة السورية"، و"بلبل الثورة"، و"عندليب العاصي"... تنطلق من أدائه الجميل والمميّز في اعتصامات ساحة العاصي، بمدينة حماة. ولقد حرصت الأجهزة الأمنية، بالتعاون الوثيق مع قطعان "الشبيحة"، على اعتقال قاشوش، وإخضاعه لتعذيب وحشي تبدّى على أطراف جسده، قبل اغتياله بدم بارد، وإلقاء جثته في نهر العاصي، ليس دون ممارسة الطقس البربري الأهمّ في نظر القتلة: جزّ حنجرته، لأنها صدحت طويلاً ضدّ بشار الأسد شخصياً، وضدّ عدد من شخوص النظام الأبرز.

الأرجح أنّ الذين تقصدوا عدم الإشارة إلى قاشوش، وإلى الخطيب، كانوا يتفادون وصم أجهزة النظام الأمنية بالسمات الأبشع التي تنطبق عليها، وانطبقت عليها على نحو أشدّ بشاعة خلال أسابيع الإنتفاضة. ويستوي أن يقودهم إلى هذا "التطنيش" جزعٌ من بطش تلك الأجهزة، ساعة مغادرة القاعة الفخمة في منتجع "صحارى"، وهو الدافع الأعمّ منطقياً؛ أو جنوح بعضهم إلى التذرّع بما يسمّونه "روحية الحوار الوطني"، و"الحفاظ على الوحدة الوطنية". كلا الدافعين سواء، في الحصيلة، ما دام يحثّ الصامت على صمت يعفّ حتى عن ذكر أسماء الشهداء، فكيف بسرد قبائح الأجهزة التي اعتقلتهم، وعذّبتهم، ومثّلت بأجسادهم، قبل أن تزهق أرواحهم، عن سابق عمد وتصميم وغاية.

والحال أنّ الغاية، التي تتوسّل الرمز مثلما تسعى إلى تثبيت هيبة الإستبداد، توفّرت في إقدام الأجهزة الأمنية على بتر العضو التناسلي للطفل الخطيب، لكي تفيد الرسالة بتر الرجولة حتى قبل أن تتفتح أو تبلغ سنّ الرشد، وقطع دابر الإحتجاج حتى في أنساقه العفوية والجنينية الأولى. أمّا في نموذج قاشوش، فقد شاءت السلطة تلقين الكثير من الدروس، بينها هذه كما للمرء أن يرجّح: الحنجرة التي تهتف على هذا النحو من الجسارة ضدّ رأس النظام، وضدّ شقيقه ماهر الأسد وأقرب معاونيه، لا بدّ أن تُجزّ؛ ولا بدّ للنهر، الذي تحمل الساحة اسمه، ويوحي معناه بالثورة والتمرّد والاحتجاج والعصيان، أن يستقبل جثّة قاشوش، بعد إسكات حنجرته إلى الأبد؛ ولا بدّ للمدينة، التي ردّدت طويلاً أهازيج قاشوش، أن تراه بأمّ العين ذبيحاً من الوريد إلى الوريد، لكي يصير عبرة لمَنْ يعتبر...

وإذا كانت حماة نفسها لم تعتبر، فخرج أبناؤها بمئات الآلاف إلى ساحة العاصي ذاتها، وردّدوا أهازيج قاشوش دون سواها، فصدحت حناجرهم بهتافات "يلاّ إرحل يا بشار"، و"سورية بدها حرية"؛ فإنّ المشاركات والمشاركين في لقاء فندق "صحارى" أخذوا العبرة بالفعل. لقد رُدعوا، لكي لا نقول إنّ الكثيرين منهم ارتدعوا ذاتياً، وكفوا أنفسهم شرّ الحديث عن بربرية بتر العضو التناسلي لطفل هتف للحرّية في تظاهرة، أو وحشية جزّ حنجرة شاب هزج لها في ساحة عامة. ولعلّ المرء المعترض على هذا اللقاء ـ لسبب أوّل هو أنّ بيئة النظام أمنية وعنفية، وبالتالي أبعد ما تكون عن إطلاق حوار ـ كان سيشعر ببعض التسامح لو أنّ أياً من فارسات وفرسان اللقاء أتى على ذكر الخطيب أو قاشوش؛ وكان سيمنح المستذكِر فضيلة الشكّ، لصالحه وليس ضدّه. لكنّ الأمور هنا ليست بحاجة إلى خواتيم، لانّ مقدّماتها تفصح عنها، بقدر ما تفضحها دون إبطاء.

التاريخ، من جانبه، يسير على منوال آخر كما علّمتنا تجارب كثيرة وبليغة، بينها حكاية المغنّي والموسيقيّ والشاعر والأستاذ الجامعي التشيلي فكتور خارا، مع الطغمة العسكرية التي قادت الإنقلاب العسكري ضدّ سلفادور ألليندي، سنة 1971. لقد استخدم الجلادون الهراوات وأعقاب البنادق في تكسير أصابعه، رمز قيثارته وموسيقاه الشعبية الملتزمة، قبل أن يعدموه رمياً بالرصاص، وكان في التاسعة والثلاثين من عمره. إلا أنّ التاريخ تدخّل في صيف 2008، بعد مرور 37 سنة، حين وجّه القاضي خوان إدواردو فوينتيس تهمة القتل العمد إلى العقيد ماريو مانريكيز، الضابط الذي كان مسؤولاً عن اغتيال خارا؛ أمّا المغنّي، فإنّ الملعب الرياضي الذي شهد تكسير أصابعه، سُمّي باسمه، وخارا اليوم خالد في ذاكرة تشيلي، والإنسانية جمعاء.

فلا يظنّن قتلة إبراهيم قاشوش أنهم بمنجاة من حساب الشعب السوري، ومن حساب التاريخ؛ ولوالدة "عندليب العاصي" أن تقرّ عيناً بشهيد جمع دمه إلى حنجرته، لكي يقول للطاغية أنّ ساعة رحيله أزفت ولا رادّ لها؛ ولأهل لقاء "صحارى" أن يجدوا العزاء، كلّ العزاء، في أداء الببغاء!

الخميس، 7 يوليو 2011

حماة: مجزرة ثانية أم نهوض عنقاء من الرماد؟


أغلب الظنّ، اتكاء على ما يتوفّر اليوم من معطيات، أنّ النظام السوري حائر في أمر مدينة حماة، بعد سلسلة الوقائع الفارقة التي تركت آثارها العميقة، وحكمت سلوك الأهالي والسلطة، على حدّ سواء:
ـ في الثالث من شهر حزيران (يونيو) الماضي، سقط أكثر من 60 شهيداً، برصاص عناصر الأجهزة الأمنية، أو أفراد كتائب الحرس الجمهوري، أو قطعان الشبيحة".
ـ وفي الأيام التالية كانت مواكب تشييع الشهداء تنقلب إلى تظاهرات عارمة، كما هي حال جميع المدن والبلدات والقرى السورية؛ لكنها في حماة ظلّت تكتسب بعدها الرمزي العميق، بالنظر إلى التاريخ الدامي الذي تحفظه المدينة لهذا النظام.
ـ ولعلّ هذا العامل الخاص هو الذي أجبر النظام على التراجع قليلاً، قبيل إعادة انتشار دبابات الحرس الجمهوري من داخل المدينة إلى تخومها، وسحب عناصر الأمن، فأخذت أعداد المتظاهرين تتضاعف كلّ يوم، وليس كلّ نهار جمعة فحسب، حتى أخذت ساحة العاصي تتحوّل تدريجياً إلى نظير لميدان التحرير القاهري.
ـ جمعة "إرحل" الماضية سجّلت انعطافة كبرى، إذْ احتشدت أعداد تتراوح بين 250 إلى 300 ألف متظاهر، وثمة مَنْ ذهب بالرقم إلى 400 ألف؛ وتعالت في الساحة أهازيج وهتافات من طراز جديد، شجاع وغير مسبوق في جسارته، أو بالأحرى تجاسره على رموز النظام. لقد بدا وكأنّ حماة، شهيدة العام 1982، تنتفض على تلك الذكرى الدامية، وتنهض من رمادها، مثل عنقاء أبيّة، حيّة وحيوية.
ـ كانت الحال أشدّ مضاضة من أن يحتملها النظام طيلة شهر، ولاح أنها أعلى قدرة على نقل الفيروس إلى أرجاء الوطن السوري بأسره، ثمّ إلى العالم الخارجي أيضاً، فتوجّب أن يعود أهل السلطة القهقرى إلى حيث مبتدأهم في خيارات الحلّ الأمني. وهكذا أصدر بشار الأسد مرسوماً بإعفاء محافظ حماة، أحمد خالد عبد العزيز، واستبداله بضابط أمن ("قوي الشكيمة"، كما قيل!)؛ وعاد بعض عناصر الأمن و"الشبيحة"، فسقط 20 شهيداً؛ وتقدّمت الدبابات إلى تخوم المدينة (صحيفة الـ"غارديان" البريطانية نقلت عن شاهد عيان أنه أحصى قرابة 90 دبابة تحكم الطوق على أطراف المدينة)؛ وقُطعت الكهرباء والمياه عن غالبية الأحياء.
ماذا سيفعل النظام، والحال هكذا؟ وإذا كانت نيّته ستقتصر على ترهيب المدينة عبر حصارها، بالدبابات والمدفعية وكتائب الحرس الجمهوري؛ ثمّ تنفيذ عمليات قنص وتصفيات جسدية واعتقالات، على أساس انتقائي؛ فما الذي يمكن أن تسفر عنه هذه الخيارات؟ وإذا انتقل القرار من الحصار إلى اقتحام المدينة، فهل ستنخرط كتائبه في حروب شوارع، من طرف واحد عملياً؟ وكيف يمكن لخطوة كهذه أن لا تكون مقامرة، خاسرة سلفاً، بالنظر إلى عواقبها المزدوجة: تصليب عزيمة الحمويين، وإطلاق طرائق مقاومة شعبية تعتمد أسلحة الحجارة والمتراس البسيط والعائق الترابي والإطارات المحروقة، فضلاً عن استنهاض تضامن السوريين مع المدينة وأهلها، من جهة أولى؛ والمجازفة بخسران المزيد من شرائح ما يُسمّى "الأغلبية الصامتة"، واستثارة سخطها على النظام، والذهاب أبعد في إقلاق سكينة الجيش النظامي (الظاهرية فقط، والتي قد تتبدّى في انشقاقات جديدة أو علائم أوضح حول رفض زجّ الجيش في وجه الشعب)، من جهة ثانية؟
ذلك لأنّ منطق الأوضاع الراهنة، على صعيد المجتمع والنظام والمشهد الإقليمي، فضلاً عن التطورات الهائلة في تناقل الصورة والخبر، ودرجات عزلة النظام على صعيد دولي، بصرف النظر عن ضعف الضغوطات أو شدّتها، وما إذا كانت منافقة أم شبه صادقة... كلّ هذه العوامل تشير إلى صعوبة (وليس، البتة، استحالة) أن يعيد النظام تكرار مذبحة 1982. وهنا تصبح استعادة تفاصيل تلك المجزرة واجباً وطنياً وكفاحياً وأخلاقياً سورياً، بصفة عامة، ومن أجل ترسيم سمات ملموسة وعادلة لسيرورات العدل والمصالحة في سورية المستقبل. هي، كذلك، استعادة تردّ إلى الحمويين واحداً من حقوقهم الأكثر جوهرية، في تثبيت ذاكرة الضحية قبل انتظار صفحها أو ركونها إلى التصالح مع الماضي، وفي وردّ مظالم مدينة لا تلتفت إلى الوراء إلا لانها تشخص إلى الأمام. 
ففي الثاني من شهر شباط (فبراير) 1982، قامت كتائب مختارة من "سرايا الدفاع" التي كان يقودها رفعت الأسد، وكتائب مختارة من "الوحدات الخاصة" تحت قيادة اللواء علي حيدر، بمحاصرة المدينة طيلة 27 يوماً، وقصفها بالمدفعية الثقيلة والدبابات والطائرات، قبل اجتياحها واستباحتها وإيقاع عدد من الضحايا يتراوح بين 30 إلى 40 ألفاً من مواطنيها المدنيين، وخلّفت قرابة 15 ألف مفقود لم يتمّ العثور عليهم حتى اليوم، وهجّرت نحو 100 ألف. وثمة، بالطبع، تباين في الأرقام طبقاً للمصدر، ولكنّ منظمات حقوق الإنسان الدولية لا تهبط عن 25 ألف ضحية ("العفو الدولية"، مثلاً).
ومجزرة حماة كانت، من حيث الشكل، بمثابة الخطّ الأخير الفاصل في المعركة بين النظام والفصائل الإسلامية المسلحة، ولهذا وافق حافظ الأسد على إعطاء ضبّاط "سرايا الدفاع" و"الوحدات الخاصة" نوعاً من الـ"كارت بلانش" المطلق. وكان هذا إذناً صريحاً بأن تُستخدم كلّ الأسلحة، وكلّ طرائق القمع والردع والعقاب، حتى إذا اقتضى الأمر تهديم أحياء بأكملها (مثل البارودي، الكيلاني، الحميدية، الحاضر)، وما تقتضي العمليات قصفه من مساجد وكنائس.
أمّا من حيث المحتوى، فقد كانت المعركة أعمق، وأوسع نطاقاً. باتريك سيل (الكاتب البريطاني، ومؤلف سيرة عن حافظ الأسد هي بين الأشدّ تعاطفاً، والصديق المقرّب من النظام حتى عهد قريب على الأقلّ، والعارف بتاريخ سورية الحديث والمعاصر...) اعتبر أنّ فهم معركة حماة بوصفها الفصل الأخير في صراع طويل مفتوح، قد يفيد في تفسير وحشية العقاب الرهيب الذي فُرض على المدينة. فوراء النزاع المباشر كانت تكمن العداءات القديمة، متعددة المستويات، بين الإسلام والبعث، والسنّة والعلويين، والريف والمدينة (سيل، "الأسد: الصراع على الشرق الأوسط"، الطبعة الإنكليزية الأولى، ص 333).
ليست صائبة، بقدر ما هي استشراقية تنميطية، خلاصات سيل حول اعتبار المجزرة معركة بين سلسلة ثنائيات، ولكنّ حديثه الصريح عن وحشية العقاب يدلّ على الأهمية الحاسمة التي كان النظام قد أولاها لهذه المعركة. كانت حماة بمثابة الدرس الأقصى، والأقسى، للشارع السوري بأسره، إسلامياً كان أم علمانياً، على صعيد الجمهور العريض والأحزاب المعارضة، مثل النقابات والإتحادات المهنية ومجموعات المثقفين. وكانت حماة أمثولة، ودرساً، وقاعدة للتعامل المستقبلي مع أيّ تحرّك معارض، سواء أكان مسلّحاً أم سلمياً.
الأهمّ من هذا، والأكثر مأساوية في الواقع، أنّ أمثال سيل سوف يقولون فيما بعد (ضمناً، وليس صراحة!) إنّ معركة حماة حُسمت لصالح الحداثة والأنوار ضدّ الأصولية والطهورية. وكان سيل قد اعترف بأنّ أعداداً لا حصر لها من المساجد والكنائس والمواقع الأثرية الأخرى دُمّرت ونُهبت، بما في ذلك متحف قصر العظم الذي يعود للقرن الثامن عشر. وخلال نحو شهر من القتال هُدم تماماً قرابة ثلث قلب المدينة التاريخي.
بعد فقرة واحدة فقط سوف يروي سيل أنّ حماة كانت، في العام 1961، قد طردت باصاً يقلّ طلبة وطالبات من جامعة دمشق توقفوا في المدينة للراحة، وذلك لأنّ بعض الفتيات كنّ يرتدين البناطيل. وسوف يستخلص ما يلي: "بمعزل عن قتل العديد من الناس، كان دكّ المدينة في عام 1982 قد صُمّم بحيث يقصي هذه الطهورية (Puritanism) مرة وإلى الأبد. وفي إعادة بناء هذا المجتمع المهدّم بُذل جهد واعٍ لا يقتلع الماضي فحسب، بل يغيّر المواقف أيضاً".
لكنّ حماة لم تكن المجزرة الوحيدة، لكي يُقال إنها معركة ضدّ الطهورية. خيارات النظام في قمع المعارضة الإسلامية المسلحة نهضت، جوهرياً، على قمع روح المعارضة في الشارع السوري بأسره، من حلب إلى جسر الشغور إلى دير الزور إلى اللاذقية، انتهاء بمجزرة تدمر الشهيرة. وكانت الخيارات منتظمة في سياق منهجي متكامل، لم يكن القمع العسكري وتهديم المدن وتنفيذ المجازر الصغيرة في السجون والأحياء والشوارع سوى تتويجه الدموي العنيف.
وخلال المؤتمر القطري السابع لحزب البعث (كانون الأول/ ديسمبر 1979)، أعلن رفعت الأسد، عضو القيادة القطرية، أنّ مَن لا يقف مع الثورة يقف في صفوف أعدائها، ودعا إلى شنّ حملة تطهير وطني تتضمن إرسال المعارضين إلى معسكرات عمل وتثقيف في الصحراء. وكان رفعت الأسد يستبق حركة الإحتجاج الشعبي التي تبلورت في إطار الأحزاب المعارضة غير المنضوية في جبهة السلطة، وفي صفوف النقابات المهنية للأطباء وأطباء الأسنان والمهندسين والصيادلة والمحامين، الذين أعلنوا إضراباً ليوم واحد (31/3/1980) احتجاجاً على غياب الحريات وشراسة آلة القمع وانتهاك حقوق المواطن. وكان ردّ السلطة الفوري هو حلّ هذه النقابات واعتقال عدد من أبرز قياداتها، ثمّ شنّ حملة اعتقالات واسعة في صفوف أحزاب المعارضة.
وكان لا بدّ لهذه السياسات أن تنعكس بعمق في الاقتصاد والحياة المعيشية للمواطن السوري، فمرّت سورية في طور غير مسبوق من الإفقار (أكثر من 60 في المائة تحت خطّ الفقر)، والبطالة (بين 20 و38 في المائة)، واتساع الهوّة بين الأجور والأسعار، وتخريب القطاع الصناعي ومؤسسات القطاع العام إجمالاً، مقابل الإعتماد على الصناعات الإستخراجية والزراعات التصديرية. وجرى، بالتوازي، تعزيز التحالف بين الشرائح الأمنية ـ العسكرية العليا وممثّلي الرأسمالية الطفيلية، وبروز ظاهرة تماسيح الفساد (وليس القطط السمان وحدها!)، وارتفاع مديونية الدولة بأرقام قياسية، وتهريب الأموال الوطنية إلى الخارج (بين 70 و100 مليار دولار)...
وقد يقول قائل إنّ بشار الأسد هو وريث لهذه الحال عموماً، والمجزرة خصوصاً، فلم يشارك في صنعها، ولم تكن له سلطة القرار في الأساس. غير أنّ "درس حماة"، إذْ تُصنّف المجزرة على هذا النحو في الكثير من الأدبيات التي تدرس تاريخ سورية المعاصر، كانت واحدة من أبرز تعاليم "الحركة التصحيحية"، وأكثرها استيلاداً لفلسفة الإستبداد الوراثي، من جهة أولى؛ وإنتاجاً لطرائق الحفاظ عليه، ومواجهة أخطار الإنتفاض ضدّه، من جهة ثانية.
كان "درس حماة" هو الإستبداد في ذروة أدائه التطبيقي، فهو إرهاب الدولة ضدّ المجتمع، وقهر الإحتجاج عن طريق سياسة الأرض المحروقة، والمدن المستباحة، والتدمير العميم والمعمّم، والعقاب الجماعي، واستخدام كلّ وأي سلاح. وهو اشترط، أيضاً، عسكرة الدولة في مختلف المستويات، وإلغاء السياسة عن طريق التنكيل والإعتقال والطرد من الوظيفة، وإفقار المجتمع بحيث يكون البحث عن لقمة العيش هو الهاجس الوحيد؛ فضلاً عن الترهيب تارة، والترغيب طوراً، وإشاعة ثقافة الولاء والطاعة والوشاية. أليست هذه بعض سمات النظام الراهن، الذي كان ويظلّ امتداداً لتراث "الحركة التصحيحية"، بل يتبدى أسوأ منه في أمثلة عديدة؟
فارق 1982 عن 2011 هو، مع ذلك، الفيصل بين مدينة استُفردت حتى برهة الشهادة، وأخرى تتظاهر وتنتفض وتقاوم مع شقيقاتها مدن وبلدات وقرى سورية، وتعدّ ما تبقى من حشرجات نظام آخذ في الاحتضار، مثلما تستشرف ما يهلّ من بشائر فجر وشيك آتٍ، لا محالة. 

الأحد، 3 يوليو 2011

سعيكم غير مشكور!


قبل أيام تلقى أعضاء مجلس الأمن الدولي رسالة حول 'الوضع الدراماتيكي في سورية'، تحثّهم على تبنّي قرار أممي بإدانة النظام السوري. أهمية الرسالة تنبع من أنّ بعض الموقّعين عليها نجوم كبار على المستوى العالمي (الروائـــــي الايطالي أمبرتو إيكو، والروائي النيجيري وولي سوينكا، والروائي الهــندي ـ البريطاني سلمان رشدي، والروائي التركي أورهان باموق)؛ والبعض الآخر مشاهير على مستوى محلي (مثل الإسرائيليَيْن دافيد غروسمان وعاموس عوز)، فضلاً عن شخصية دائمة الرقص، أو بالأحرى: الذبذبة، بين العديد من العوالم والمِهَن: الفرنسي اليهودي برنار ـ هنري ليفي، أو BHL كما يحلو للكثيرين تسميته في فرنسا.
نصّ الرسالة لا غبار عليه، بادىء ذي بدء، إذْ تتحدّث فقرتها الأولى عن أسماء صارت مألوفة، مثل درعا وحمص واللاذقية والقامشلي وبانياس، عُزلت عن العالم الخارجي، وقُطعت عنها خدمات الهاتف والكهرباء، واقتحمتها الدبابات، وحلّقت في سماءاتها الحوّامات، واحتلّ قناصون أسطحة مبانيها، وتعرّض سكانها للإعتقال من سنّ 15 إلى 80. الفقرة التالية تسرد أسماء سجون تدمر وفرع فلسطين وعدرا ودوما وصيدنايا، وتذكّر بصنوف التعذيب التي ذيقت لآلاف الأبرياء؛ كما تشرح فقرة أخرى طبيعة النظام الدكتاتوري الذي تمّ توريثه من الأب إلى الابن، وتنتقل إلى الحديث عن التظاهرات الشجاعة التي جوبهت بالقمع والمجازر، في تغييب تامّ لوسائل الإعلام العالمية والمنظمات الإنسانية. أمّا الفقرات الختامية فإنها تواصل حثّ المندوبين على تمرير مشروع القرار، الذي يمكن أن يجبر النظام السوري على التراجع، أخيراً، عن ارتكاب المجازر دون أي رادع، وسيترك أثراً طيباً في نفوس السوريين.
بيد أنّ المشكلة ليست في النصّ، بل في دوافع غروسمان وعوز الحقيقية، أوّلاً؛ وتكتيكات كاتبه وعرّابه، الفرنسي BHL، ثانياً وأساساً، والذي وجد في الربيع العربي فرصة سانحة، وغير مسبوقة في الواقع، لممارسة فصول جديدة من رياضته الأثيرة: 'التشبيح' الإعلامي، كما يصحّ القول، على حساب عذابات الشعوب، بعد قلب قضاياها رأساً على عقب، والكيل بعشرات المكاييل المتناقضة، المتعارضة في الموقع الواحد، والمتضاربة حول المسألة الواحدة.
لقد صحا على ليبيا وصار ناطور ثورتها، بعد أن نام طويلاً عن ثعالب العقيد معمّر القذافي، وذئابه أيضاً؛ ثمّ ارتأى أن يقيم صلة وصل مبكرة بين الثورة الليبية وإسرائيل، كانت كفيلة بأن تأتي على ما تبقى من مصداقية للمجلس الإنتقالي الليبي. وقبلها استفاق على الجزائر، مسقط رأسه، وكأنه لم يكن ذات يوم صاحب سلسلة مقالات كتبها إثر تكليفه بمهمة رسمية من الخارجية الفرنسية، قال فيها كل شيء عن المذابح، وسكت تماماً عن دور الجنرالات والأجهزة الأمنية الجزائرية. ولم يكن غريباً أن يتصدّى له مؤرخون فرنسيون كبار من أمثال بيير فيدال ـ ناكيه وفرانسوا جيز، قبل أن يسفّه الجزائريون آراءه.
موقفه من الملفّ السوري أوضح من أن يستدعي جدلاً، فهو التزم الصمت عن النظام طيلة عقود، ولا يُعرف عنه احتجاج على مجزرة تدمر، 1982، ولم نقرأ له غضبة ضدّ زيارات حافظ الأسد، ثمّ وريثه بشار الأسد، إلى فرنسا. وحين قام الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر بزيارة سورية، لم يجد ليفي أية غضاضة في هذا، واعتبر الحوار مع الأسد 'أمراً عادياً، يفعله الجميع'، وما أثار حفيظته في كامل زيارة كارتر الشرق ـ أوسطية، كان هذا التفصيل الوحيد: كيف يضع إكليلاً من الزهور على ضريح... ياسر عرفات!
وقبل بضعة أسابيع اعتبرنا، برهان غليون وفاروق مردم بك وكاتب هذه السطور، أنّ عداء ليفي لحقوق الفلسطينيين المشروعة، ومساندته للإستيطان الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وكذلك في الجولان السوري المحتلّ، هو سلوك يتنافى مع تأييده لانتفاضة الشعب السوري. كذلك استخلصنا أنّ كلّ مبادرة تقوم بها مجموعة 'أنجدوا سورية'، بإشراف ليفي وحوارييه، هي بمثابة مناورات خبيثة تستهدف حرف المعارضة السورية الديمقراطية عن أهدافها، وتطعن في مصداقيتها أمام شعبها.
وحين نشرنا الموقف هذا في الموقع الفرنسي المرموق Mediapart، كنّا ندرك مقدار سطوة ليفي، وشبكة علاقاته الواسعة التي تمكّنه دائماً من حشد كبار الشخصيات الفرنسية، في مستوى رئيس جمهورية حالي او سابق، فما دون؛ وأننا قد نخسر بريق النجوم والمشاهير (كما سيحدث اليوم تحديداً، حين سيحضر أحد تجمعاته ضيوف من أمثال جين بيركن، وعمدة باريس برتران دولانوي، وزعيمة الخضر سيسيل دوفلو، ورئيس الوزراء الأسبق لوران فابيوس، ووزير الخارجية السابق برنار كوشنر، وزعيم الوسط فرنسوا بايرو...). وكنّا، في المقابل، واثقين من أننا سنكسب الكثير على صعيد السلوك الأخلاقي والوطني القويم؛ في أنظار شعبنا أوّلاً، ثمّ في الأوساط الفرنسية التقدّمية واليسارية الأوسع، التي تعرف أنّ البواعث الحقيقية خلف مواقف ليفي هي نقيض أقواله.
ذلك لا يعني أنّ مغانم ليفي لا تجتذب بعض أبناء الجالية في فرنسا، ممّن يساجلون بأنّ المعركة ضدّ الإستبداد تتطلب استنفار كلّ طاقة، واللعب على التناقضات، وضرب عدوّ بعدوّ. لستُ أذهب هذا المذهب، بالطبع، وأرى أنّ ما يعرضه ليفي أشبه بسمّ يُدسّ في الدسم، والحكمة الأبسط تقتضي رفض الإناء المذهّب الذي يأتي بالمزيج، ليس دون جملة مفيدة: وفّروا علينا دعمكم، وسعيكم غير مشكور!