وعزّ الشرق أوّله دمشق

الأربعاء، 31 أغسطس 2011

حول المجالس السورية، "الإنقاذية و"الوطنية" و"الإنتقالية"... لا تقدّموا لآل الأسد خدمة مجانية لم تكن في حسبانهم!


"مفاجأة أنقرة"، كما يتوجب التفكير بتسمية ذلك الإعلان الدراماتيكي عن "تعيين" مجلس إنتقالي سوري، و"انتخاب" رئيس له، دون علم الرئيس "المنتخَب" نفسه، ومثله عدد كبير من المعيّنين؛ كانت أحدث الخطوات المتسرعة في السباق المحموم لـ"تشكيل" هيئة سياسية تنطق باسم الشعب السوري، وتنوب في ذاتها عن التنسيقيات العاملة على الأرض، وبالتالي تستحوذ على الحقّ في النيابة عن الإنتفاضة بأسرها.

كانت تلك المفاجأة هي الأحدث، لكنها لا تبدو آخر الأحزان في مضمار تصنيع المجالس الإنتقالية أو الإنقاذية أو الوطنية. في هذه الساعة، إذْ أحرّر هذا النصّ، يجري طبخ هيئة جديدة مؤلفة من 50 اسماً، غالبيتهم الساحقة يقيمون داخل سورية، ومعظمهم من الأسماء الوطنية المشهود لها بالكفاءة، ممّن تمرّسوا بالعمل المعارض على هذا النحو أو ذاك، أو وفدوا إليه مؤخراً وبرهنوا على مكانة مميّزة، والكثير منهم جُرّبوا في ميادين النضال المختلفة، واختُبرت عريكتهم في السجون والمعتقلات (بين المرشحين شخصيات تقبع الآن في المعتقلات، وآخرون يعيشون في ظروف الحياة السرّية). وهؤلاء اختلفوا مع بعضهم البعض، أو فيما بينهم، ليتفقوا في العموم على خطّ الإنتفاضة وأهدافها؛ وهم، بالفعل، يمثّلون أطياف يسارية وقومية وإسلامية وليبرالية، فضلاً عن عكس صورة شبه كاملة لمكوّنات المجتمع السوري الإثنية والدينية والمذهبية (تجدر الإشارة إلى أنّ اللائحة الجديدة تغيّب المكوّن السرياني ـ الآشوري، تماماً كما فعل "إعلان أنقرة"!).

كلّ هذا جميل، في الشكل بالطبع، غير أنّ المحتوى يؤكد أنّ هذه الهيئة الجديدة تقع في المحذور ذاته، الذي تكرّر من قبل في جميع اللجان المنبثقة عن جميع المؤتمرات واللقاءات التشاورية التي عُقدت خارج سورية: أنها تفترض تمثيل شباب التنسيقيات، الذين أطلقوا شرارة الإنتفاضة الأولى، وحملوا ويحملون أعباءها اليومية الثقيلة، بالصدور العارية والصمود الأسطوري والإبداع العبقري؛ ولكنها في الواقع العملي تغيّبهم من حيث الوجود العددي والعمري (سنّ أصغر أعضاء الهيئة الجديدة تجاوز الأربعين، وما لا يقلّ عن النصف قاربوا الستين، وثمة أبناء 70 و80 سنة...)، رغم أنّ الاعتبارات الأمنية ليست ذريعة هنا، إذْ يعمل الكثير من نشطاء التنسيقيات بأسماء حركية، وكان في الوسع ضمّهم إلى الهيئة بأسمائهم تلك.
 
من جانب آخر، ثمة هذه الإشكالية الجلية: إذا كانت تلك المجالس والهيئات تنطلق ـ كما يحبّ المرء أن يرجّح، مبدئياً على الأقلّ ـ من حسن النيّة، والتجاوب مع المطلب الشبابي، والحرص على الإنتفاضة، ومنحها عناوين سياسية، إلخ... إلا أنها تنتهي جميعها، شاءت أم أبت، إلى إشاعة البلبلة والحيرة والتخبط، من جهة؛ أو الإحساس، الواهم أو غير الواقعي، بوجود قيادة سياسية فعلية للإنتفاضة، موحدة ومتماسكة وفاعلةن من جهة ثانية؛ فضلاً عن صبّ الزيت على نيران الخلاف والشقاق والفرقة بين فصائل المعارضة، في الداخل مثل الخارج، وهي المتأججة أصلاً لأسباب ذاتية وموضوعية، من جهة ثالثة.

ولقد أوضحتُ من قبل موقفي من مؤتمرات الخارج، في ضوء ذلك المحظور وتلك الإشكالية، واعتذرت عن المشاركة فيها أو في ما يتمخض عنها من لجان وهيئات، ليس تهرّباً من العمل الوطني العام (إذْ من المعروف، كما أرجو، أنني أعارض نظام آل الأسد منذ 30 سنة ونيف، من داخل تنظيم سياسي محظور وملاحَق، وليس من موقع المثقف والكاتب فحسب). كما حافظتُ، ويهمّني أن أحافظ دائماً، على مسافة نقدية واضحة، ملموسة وميدانية، من فصائل المعارضة السورية، عموماً؛ ومن "حزب الشعب الديمقراطي"، الذي أنتمي إليه، بصفة خاصة. وتلك، في يقيني، هي المسافة التي تسبغ المعنى، فضلاً عن الجدوى والشرف، على انتماء المثقف إلى قضايا شعبه، وانحيازه إلى الحقّ والحرّية والمساواة والديمقراطية، ودفاعه عن مجتمع مدني علماني وتعددي تنظّم علاقاته دولة القانون.

وأجدني مدفوعاً ـ اليوم أيضاً، في مناسبة ما يتكاثر طبخه من مجالس وهيئات قيادية ـ إلى التشديد على موقفي، والحفاظ على مسافتي النقدية، ولكن ليس من برج المراقب وحده، بل من موقع المنحاز والمنتمي والمنخرط. ولهذا أرى واجباً عليّ إعلان انضوائي في صفّ المبادرة التي أعلنتها "الهيئة العامة للثورة السورية" مؤخراً، بصدد توحيد الجهود لتشكيل مجلس وطني للإنتفاضة، تنهض معاييره على مبدأ العودة إلى الثوّار على الأرض، أوّلاً وقبلئذ، عند ترشيح الشخصيات الجديرة بعضوية المجلس، ليس دون تمحيص دقيق يُعهد به إلى لجنة رقابية تُنتخب من قلب الهيئة. مهمة المجلس ينبغي أن تبدأ من التوافق على، والمهمّ أكثر: المضيّ أبعد في إنجاز، أهداف واضحة وعملية يقتضيها برنامج الإنتفاضة الداخلي أوّلاً، بما يكفل إبعاد الحراك الثوري الداخلي عن مماحكات الخارج، سيّما منها الصراعات الجانبية بين "زعيم سياسي" هنا، و"نجم فضائي" هناك.

ذلك لأنّ عناوين الإنتفاضة الشعبية الظافرة ليست مجهولة أو مضيّعة أو متيتمة، وليس عسيراً تحديد مرجعياتها الميدانية والسياسية، والباحث عن قادة الإنتفاضة الفعليين لن يضلّ السبيل إلى ساحات درعا وحماة ودير الزور وحمص والقامشلي واللاذقية وإدلب ودمشق وحلب... وحيثما، وكيفما، أطلق النشطاء أشغال الإنتفاضة دون رجوع إلى قادة المعارضة في الداخل، وبالتالي دونما حاجة إلى تنصيب قيادات لها من الخارج. ومع حفظ التقدير التامّ لكلّ مناضل مخضرم، عارض وضحّى وعانى في قليل أو كثير، على امتداد 41 سنة من استبداد آل الأسد؛ وكذلك حفظ الدور لكلّ مَنْ أيقظته الإنتفاضة من سبات عميق، فصار معارضاً بعد أن كان صامتاً أو متحذلقاً أو موالياً أيضاً؛ فإنّ مبدأ التعيين والترئيس والإنتخاب الكاذب، واستفحال شراهة عقد المؤتمرات المتسرعة، والغرق أكثر فأكثر في هوس طبخ اللجان والمجالس القيادية كيفما اتفق... كلّ هذا لا يخدم الإنتفاضة، في يقيني الشخصي بالطبع، أياً كانت النوايا والمقاصد. لعلّه، في المقابل، يُلحق بها الأذى، خاصة حين يشيع البلبلة والفرقة، فلا يخدم في النهاية إلا في مدّ النظام بأسباب بقاء إضافية، لم تكن طغمة بشار وماهر الأسد تنتظرها، أو تحلم بها!

الأحد، 28 أغسطس 2011

وضاح اليمن وشبّيح موسكو

جاء في "الأغاني" أنّ زوجة الوليد بن عبد الملك، أمّ البنين، أقامت صلة عشق مع عبد الرحمن بن إسماعيل الخولاني (الذي لُقّب بـ"وضاح اليمن"، لوسامته)، وكانت ترسل إليه فيدخل إلى مخدعها، ثمّ تخبئه في صندوق وتقفل عليه إذا داهمها زائر، حتى اكتشف أمرها خادم فوشى بها إلى الخليفة. ولقد سارع الوليد فدخل على أمّ البنين في مخدعها، وتعمّد الجلوس على الصندوق الذي وصفه الخادم، ثم قال: يا أمّ البنين هبي لي صندوقاً من هذه الصناديق، فقالت: كلّها لك يا أمير المؤمنين؛ قال ما أريدها كلها وإنما أريد هذا الذي أجلس عليه، فقالت: فيه أشياء من أمور النساء، فقال: ما أريد غيره، فقالت: خذه يا أمير المؤمنين.

وهكذا، دعا الوليد أن يُحمل الصندوق إلى مجلسه، فأزاح البساط، وأمر عبيده أن يحفروا حفرة عميقة، ثمّ خاطب الصندوق، قائلاً: يا هذا، إنه قد بلغنا شيء إنْ كان حقاً فقد كفّناك ودفنّا ذكرك وقطعنا أثرك إلى آخر الدهر؛ وإنْ كان باطلاً فإنّا دفنّا الخشب وما أهون ذلك! ثم قذف بالصندوق في الحفرة، وهيل عليه التراب. صاحب "الأغاني"، أبو الفرج الأصفهاني، لا يؤكد وجود وضاح في الصندوق تلك الساعة، ولا ينفيه؛ لكنّ الخليفة ارتاح، وأمّ البنين نجت من الفضيحة، وما وقعت عين على وضاح اليمن بعدئذ.

وأعترف أنني لا أستطيع مقاومة إغراء استدعاء هذه الحكاية كلّما بلغني جديد فاضح من يفغيني ماكسيموفتش بريماكوف، رئيس وزراء روسيا الأسبق، ووزير خارجيتها الأسبق، والمرشح الرئاسي في انتخابات 2000. العنصر الذي يستدعي الحكاية هو "المعرفة المعمقة" التي يزعم بريماكوف امتلاكها عن الشرق الأوسط، شعوباً وأنظمة؛ "الدفينة" في صناديق خشبية مغلقة لا تنفتح على احتمال واحد، بل تتخذ صيغتين متناقضتين في الظاهر، يتبيّن فيما بعد أنهما على درجة عالية من التكامل في الباطن.

ففي الصيغة الأولى، كان ذلك الصحافي الشابّ مجرّد مراسل لإذاعة موسكو وصحيفة الـ "برافدا" في الشرق الأوسط، يتجوّل في بيروت ودمشق وعمّان والقاهرة وبغداد، خلال عقد الستينيات وحتى مطلع السبعينيات. ولقد صار مقرّباً من القيادات التقليدية في الأحزاب الشيوعية العربية، وأخذ يطرح على أمثال خالد بكداش وفهمي السلفيتي وعزيز محمد أسئلة مربكة حول العلاقة بين القومية والإشتراكية، وضرورة الاعتراف بحدود 1967 وليس 1948 في رسم الخريطة الفلسطينية، والموقف من القيادات والكوادر المجدِّدة ـ أو، في التوصيفات السوفييتية القدحية: "الإنشقاقية" أو "التحريفية" أو "اليسراوية" ـ أمثال رياض الترك والياس مرقص وياسين الحافظ، لكي نقتبس أسماء من الحزب الشيوعي السوري التاريخي وحده.

وأمّا في الصيغة الأخرى، الباطنية، فقد كان بريماكوف الوجه العلني لشخصية "مكسيم"، الاسم المستعار لرجل الإستخبارات السوفييتية الأبرز في المنطقة، كما اتضح سنة 2000 من كشوفات المجلد الضخم "أرشيف متروخين: الـ KGB في أوروبا والغرب". بيد أنّ مآلات بريماكوف الراهنة، السياسية والفكرية، تؤكد أنّ الرجل يعيش أطوار صيغة جديدة، لم يعد فيها مكترثاً حتى بالحفاظ على ذلك التوازن الخفي بين الظاهر والباطن. وأحدث الأمثلة هي تنظيراته الراهنة للإنتفاضات العربية، حيث يبدو تفكيره مطابقاً لذلك التشبيح الإستشراقي الذي يمارسه رهط الذين يعتبرون أنفسهم "خبراء شرق ـ أوسطيين"، من أمثال باتريك سيل وجوشوا لانديس وفلنت ليفريت.

وفي حديث مع مجلة "دير شبيغيل" الألمانية، نُشر قبل أيام، اعتبر بريماكوف أنّ روسيا تعرف خفايا الشرق الأوسط أكثر من أية دولة أخرى في الغرب، ولهذا فإنّ وقوفها مع نظامَيْ معمر القذافي وبشار الأسد ليس نابعاً من المصالح، بل من القراءة الصائبة لحقائق التاريخ، من جهة؛ ولأنّ هذه "التحركات الشعبية"، التي يشهدها العالم العربي، لن تسفر عن أنظمة ديمقراطية، بل ستعيد إنتاج الأنظمة الأوتوقراطية ذاتها، من جهة ثانية. وكان المرء سيعتبر الكلام رأياً، هزيلاً بالطبع وركيكاً وخاطئاً، لولا جرعة التشبيح التالية التي يضيفها بريماكوف: هل تمكنت قناة "الجزيرة" من تصوير معمّر القذافي وهو يرتكب المجازر؟ هل يضمن أحد أنّ المعارضة السورية لا يسيطر عليها الإخوان المسلمون؟ وهل يملك الغرب إحصائيات دقيقة عن نسبة الديمقراطيين والعلمانيين، بالمقارنة مع الإسلاميين والأصوليين، داخل صفوف المعارضات العربية؟

وتسأله "دير شبيغل"، أما يزال مؤمناً بتصريحه، سنة 2007، أنّ بشار الأسد "رجل رؤيا ستراتيجية عميقة" فلا يجيب مباشرة، ويراوغ قليلاً، قبل أن يحيل الإجابة إلى كلمة حقّ يُراد بها باطل: الغرب ليس مهتماً بالديمقراطية في سورية. والإنصاف يقتضي التذكير بأنّ بريماكوف كان قد أعطى تصريحه ذاك لوكالة الأنباء السورية الرسمية، سانا، وقال بالحرف إنّ الأسد "شخصية سياسية بارزة، وصاحب رؤيا ستراتيجية عميقة فى التعامل مع قضايا المنطقة والعلاقات الدولية"!

وبوصفه أحد آخر المتبقين من رجالات تلك "المعرفة" السوفييتة البائدة، التي كانت على نحو ما خبيئة الصناديق الخشبية، قبل انقلابها إلى تشبيح سياسي وفكري ملحق بمؤسسات المافيا الروسية وأنظمة الإستبداد العربية؛ فإنّ إرث بريماكوف تصحّ فيه حكمة الوليد بن عبد الملك: إنْ كان باطلاً، وهكذا كان بالفعل، فإنّ الخشب هو الذي يُدفَن اليوم... وما أهون ذلك!

الخميس، 25 أغسطس 2011

لا إله إلا بشار، وعلي فرزات رسّام الكفّار... سورية: انفلات العربدة من كلّ عقال

ينتهي نهار الإستبداد السوري في ساعة متأخرة من الليل، مع "ظفر" جديد تحققه زمرة من الشبيحة، أو طراز جديد منهم صار يضع اللثام على الوجه، استئناساً ربما بمبدأ "إذا ابتليتم بالمعاصي فاستتروا"؛ أو، في تفسير آخر، لأنّ البعض من الشبيحة صار يستشعر دنوّ ساعة الحساب أمام الشعب، وأمام قانون حقيقي تنوي سورية المستقبل الركون إليه، لا صلة تجمعه مع قوانين الغاب والمافيا التي سنّها النظام، ثمّ أباح لعصاباته ذاتها أن تدوسها وتنتهكها. صحيح أنّ خاتمة "الظفر" ذاك تمّت تحت جنح الظلام، وكما يليق بأشدّ الجبناء خسّة وانحطاطاً، إلا أنّ البداية وقعت في ساحة الأمويين: على مبعدة أمتار من وزارة الدفاع العتيدة، ومبنى الإذاعة والتلفزيون الأغرّ، وعلى مرأى ومسمع حواجز أمنية منتشرة في محيط الساحة كانتشار الفطر الشيطاني.

وهكذا، في دولة "الإصلاحات" التي يتبجح بشار الأسد بإنجازها، كان لا بدّ من سقوط ستار جديد يكشف المزيد من وجوه دولة العصابات والأجهزة، حيث يمتزج الذعر بالحقد، وتنقلب أواليات الدفاع عن النظام إلى سلوك همجي صرف، وغريزة انتقام بهيمية، لا تعاقب المعارض بوسائل تنكيل لا عدّ لها ولا حصر فحسب، بل تقتصّ من الجسد في ذاته، ومن أعضاء فيه يخالها الوحوش مصادر خطر مباشرة على أمن النظام. بعد ذبح الزجّال الحموي إبراهيم القاشوش، وجزّ حنجرته التي صدحت ضدّ الأسد وضدّ شقيقه ماهر، بالاسم والتعيين الذكي الصائب؛ ها هم الشبيحة ينقضّون على رسام الكاريكاتير السوري الكبير علي فرزات، فيعرّضونه لضرب مبرّح، ويلقونه مثل شاة ذبيحة في ظاهر دمشق، ليس قبل استهداف الجزء الذي يخيفهم أكثر في بدنه: أصابعه التي ترسم!

 الأرجح أنّ اعتقال فرزات على النحو الكلاسيكي، كأنْ تداهم بيته ثلة من رجال الأمن لاقتياده إلى أحد الفروع، كان سيصيب النظام بحرج بيّن؛ فالرجل شهير، وضمير نقدي حيّ عكس هموم السوريين على الدوام، وتألق أكثر من أي عهد مضى خلال أسابيع الإنتفاضة؛ وهو، إلى ذلك، رسّام كاريكاتير معروف عربياً وعالمياً، والمنطق الذرائعي البسيط يقول، بلسان حال النظام: لا ينقصنا الإحراج! بيد أنّ المنطق الثاني، غريزة إنزال العقاب بالمعارضين، وعلى النحو الهمجي الأشنع، ليس في مقدورها أن تنحسر أو تنطفيء في مواجهة اعتبارات الإحراج، ولهذا تدبّر الآمرون الذين يحرّكون قطعان الشبيحة هذا المخرج: لا نعاقبه على الملأ، بل في السرّ، وبالوحشية المطلوبة؛ ولا نعتقله رسمياً، بل نرسل إليه الشبيحة ملثّمين، لاختطافه من قلب العاصمة، أو بالأحرى إنزاله عنوة من سيارته، لكي يكون عبرة لكلّ من تسوّل له النفس الظنّ بوسائلنا وأساليبنا. وفي تنويع آخر على الرسالة إياها: لسنا مضطرين إلى الإعتقال إذا كنّا ننوي العقاب، بل يمكن أن نختطف، ولن نفعل هذا في العتمة، بل تحت الأضواء الساطعة.

أمّا التنويع الذي يخصّ شخص فرزات الفنان، المثقف، المنحاز إلى صفّ الشعب والإنتفاضة، الممثّل لشريحة آخذة في التوسّع والتجذّر، فإن الرسالة مزدوجة كما للمرء أن يرجّح: شطر منها إلى هذه الشريحة، وشطر ثانٍ إلى الفئة الموازية التي ينضوي فيها أمثال دريد لحام ورياض عصمت وصفوان قدسي. للشريحة الأولى تقول الرسالة إنّ مَنْ يذهب بعيداً في معارضة النظام، بريشته أو بقلمه أو بصوته أو بما امتلك من صيغة تعبير فنّية أو أدبية أو فكرية، سيلاقي مصائر مماثلة، ضمن مستويات متغايرة من العقاب المباشر، الذي قد يبدأ من اقتلاع الحنجرة أو كسر اليد، ولا ينتهي إلا عند إلقاء الجثة حيثما اتفق، في نهر أو على أرض. لأصحاب الشريحة الثانية، إذا كانوا في الأصل بحاجة إلى تنبيه أو مخاطبة، لا تقول الرسالة إلا الوجيز الواضح: اتعظوا بما جرى للقاشوش وفرزات، واعتبروا! 

وقد يخجل أيّ مافيوزي عريق من دناءة هذا السيناريو، إذْ أنّ انفلات العربدة من كلّ عقال سوف يشير بالضرورة إلى نقائض مراميها، كأن يبغي المافيوزي من التنكيل بالناس إظهار القوّة العاتية التي يمتلكها، فلا يبرهن لهم إلا على أنه خائف ومرتبك ومتخبط، ضعيف الحيلة، خائر القوى. أيّ نظام قوي هذا الذي يلجأ إلى اختطاف فنان، على هذا النحو الفاضح الجدير بالعصابات وحدها، بهدف معاقبته جسدياً، وكسر يده؛ والأخير لا يستخدم إلا الحبر الأسود والضمير اليقظ والعين الحصيفة، في نهاية المطاف؟ ألم يبشّر الأسد أتباعه، قبل أيام قليلة فقط، بأنّ النظام صار أقوى، وأنّ "الوضع الأمني أفضل"؟ أهذا، اختطاف فرزات وتحطيم أضلاعه وكسر يده، في عداد "إنجازات أمنية" تفاخر الأسد بأنّ نظامه حققها مؤخراً، و"لن نعلن عنها الآن لضرورة نجاح هذه الإجراءات"؟

نهار الإستبداد كان قد شهد، في ساعات سابقة، افتضاح أمر "ظفر" من نوع آخر، لا يقلّ تشبيحاً وهمجية وكشفاً لطبائع الدرك الذي يهبط إليه نظام "الإصلاحات"، حيث لم يعد كافياً من المواطن أن يردّد الهتاف الثالوثي المقدّس "الله! سورية! بشار وبسّ!"، وتوجّب أن لا يُشرك السوري إلهاً آخر في بشار وماهر الأسد. شريط الفيديو (الذي حصلت عليه إحدى التنسيقيات من شبّيح في الفرقة الرابعة، لقاء مبلغ زهيد من المال، وصار شهيراً الآن) يُظهر ضابطاً من الفرقة الرابعة يصفع جندياً يُفهم من الحوار أنه كان بصدد الإنشقاق، ثمّ يطلب الضابط من الجندي أن يقول: "لا إله إلا بشار الأسد"، فيهتف الجندي بهذا؛ ثمّ يُطلب منه أن يقول أيضاً: "لا إله إلا ماهر الأسد"، فيفعل. يتعالى، في الأثناء، صوت ضابط آخر يطلب ما معناه: فلننتهِ منه، ونذبحه، ونلقيه في بطن الوادي.

اسم الضابط افتُضح بالطبع، ودُوّن في اللوح المحفوظ الذي افتتحته الإنتفاضة لأهوال مماثلة ارتكبها أعضاء في عصابات همجية، إذْ هكذا يتوجّب تصنيف الوحدة العسكرية التي ينتمون إليها، أياً كانت تربيتها الأخلاقية شائهة، ومهما بلغ ولاؤها من عمى بصر وبصيرة، وكيفما تحدّرت أصولها الدينية أو الإثنية أو الطائفية. وإذا كانت هذه الهمجية المعلنة، المنفلتة حقاً من كل رادع سوى خلائط الذعر والحقد والغريزة الحيوانية، لم تعد مفاجئة للسوريين، وللعالم بأسره في الواقع؛ فإنّ تصويرها بهذا الدم البارد، بغرض توثيق الوحشية أو التفاخر بها أو بيعها كما اتضح مؤخراً، يظلّ تفصيلاً مثيراً للدهشة على الدوام. ثمة، في أشرطة مثل هذه، تذكرة دائمة بحقيقة نظرة هؤلاء إلى سورية، في كونها مزرعة لآل الأسد يُبرّر فيها ارتكاب كلّ وأيّ الأفعال البغيضة الدنيئة، ما دامت تخدم سادة المزرعة، وقادة الشبّيح.

لكنّ حكاية إجبار الناس على تغيير عبارة "لا إله إلا الله" إلى "لا إله إلا بشار الأسد"، ومثله شقيقه ماهر، ليست زلّة لسان من الضابط القبضاي (المرء يتخيّل ارتعاد فرائصه إذا ما أُجبر على المرابطة ساعة من الزمن أسفل تلّ أبو الندى، أو على مقربة من مرصد جبل الشيخ، في الجولان المحتلّ، مثلاً!)، في شريط الفيديو؛ مثلما أنّ تحويل آل الأسد إلى آلهة تجب عبادتها، ليس أمراً طارئاً. في الماضي القريب شاع هتاف يقول "حلّك يا الله حلّك/ يقعد حافظ محلّك"، تردّد مراراً على امتداد عدد من قرى الساحل السوري، في منطقة القرداحة تحديداً، وبعض الوحدات العسكرية الخاصة الأقرب إلى العصابات والميليشيات. صحيح أنّ النظام ليس غبياً إلى درجة الوقوف خلف انطلاق شعارات كهذه، إلا أنّ أجهزته الأمنية والعسكرية الخاصة تغابت تماماً عن ترديده على الملأ، بين الحين والآخر. وما لا يُمنع صراحة، أو يُعاقب عليه، فإنه ضمناً مرخّص به ومُجاز؛ وتلك كانت القاعدة في الماضي، عند تأليه الأسد الأب خلال التظاهرات الهستيرية، وهي تبدو القاعدة اليوم أيضاً، مع الأسدَين الصغيرين.

وسواء تلقى هذا الضابط أيّ أمر أو إيحاء أو ترخيص مبطّن، أو أعطى لنفسه الحقّ وأوحى إليها بأنّ السلوك سليم، بل مشرّف؛ فإنّ مآلات واقعة إجبار الجندي على تأليه بشار وماهر لا تختلف عملياً، من حيث أنها تمثيل تطبيقي لأخلاقيات الولاء الراهنة، ضمن مختلف أجهزة الإستبداد، والتي ترقى أكثر فأكثر إلى سوية العبادة والديانة. طريف، مع ذلك، أن يلحظ المرء ثلاثة تفاصيل لافتة في الواقعة ذاتها: أنّ الضابط أسقط، بصفة غير مباشرة، شعار النظام الأثير (الذي يقول: "الله! سورية! بشار وبس!")؛ وأنّ عبادة الإستبداد ليست توحيدية في رأي الضابط، بل مثنوية، لأنها تجمع إلهَيْن معاً: بشار وماهر؛ وثالثاً، أنّ الضابط جدّف تحت عدسة التصوير، وبالتالي كان في منزلة من اثنتين: إمّا أنه آمِن مطمئن إلى أنّ ما يوم به هو سواء السبيل في ناظر أيّ محاسِب، فرد أو جماعة، أو هو غير مكترث بأيّ حساب أو مساءلة، البتة.

وأولئك الشبيحة الذين نبشوا قبر الطفلة الشهيدة علا جبلاوي (بنت السنتين ونصف السنة، من حيّ السكنتوري في اللاذقية)، ومثلهم الشبيحة الذين أظهرهم شريط فيديو آخر وهم يجبرون السجناء العطاش على الهتاف لبشار الأسد مقابل رشقة ماء على الوجه، أو الشبيحة الذين ذبحوا المواطنين على سطح مسجد الكرك بدرعا وكدّسوا فوق جثثهم قطع السلاح والذخيرة للإيهام بأنهم عصابات مسلحة، أو رفاقهم في السلاح شبيحة الرائد أمجد عباس من جهابذة الدوس على رقاب المواطنين في حيّ البيضا البانياسي، أو شبيحة عاطف نجيب من جلاّدي الأطفال ومُهْدري كرامة الناس في حوران، أو شبّيحة مجزرة سجن صيدنايا التي حرص ماهر الأسد على تصويرها بنفسه... أولئك، مجتمعين، هم أنصار ودعاة وأزلام ورجالات وقادة هذه الديانة النكراء.

إنهم أيضاً، واستطراداً، ثلّة الملثمين التي اختطفت فرزات من ساحة الأمويين، ونكّلت به، كأنما تعلن أنه رسّام الكفّار/ الشعب السوري الذي ينتفض لإسقاط نظام الفساد والإستعباد؛ وأنّ عقاباً مماثلاً ينتظر أمثاله من المجدّفين بحقّ ديانة الإستبداد الأحدث هذه، ممّن لا يهتفون كما أُمر الجندي المنشق البائس. ولكي تكتمل صفة النظام هذه، أي العربدة على طريقة العصابات والميليشيات وتحويل التشبيح إلى أوالية دفاع عمياء ومتعامية؛ كانت وسائل إعلام السلطة الحكومية، وتلك السائرة في فلك النظام،، قد سكتت تماماً عن واقعة اختطاف فرزات، وكأنها جرت على سطح كوكب آخر. دليل آخر، لعلّ بعض السذّج ما يزالون بحاجة إليه، على أنّ "مناخات الإنفتاح" التي يشيعها النظام ليست زائفة وكاذبة وتضليلية فقط، بل هي في ذاتها أدوات عربدة وتشبيح.

وللسذّج، أنفسهم، أن ينتظروا ملمح شجاعة واحداً من صفّ المثقفين، أهل الشريحة الثانية، ممّن تنافخوا شرفاً في الدفاع عن "السلم الأهلي" و"الوحدة الوطنية" و"نهج الإصلاحات"، وتكاذبوا، وتدافعوا بالمناكب في مسيرات النظام المليونية. صمّ بكم عمي فهم راكعون للطاغية، ساجدون لأجهزته، عليهم حلّت لعنة الوطن، وبانتظارهم حساب شعب كفر، مرّة وإلى الأبد، بطواغيت استبداد وفساد آن لها السقوط في مزابل التاريخ.

الأربعاء، 24 أغسطس 2011

تنويه

تداولت مواقع إلكترونية، وصفحات على الـ"فيسبوك" والـ"تويتر"، لائحة أسماء قيل إنها مرشحة لعضوية ما يُسمّى "المجلس الوطني السوري"، كان اسمي في عدادها.

وإذ أؤكد، بالفعل، أنّ صديقات وأصدقاء أعضاء في لجنة الترشيح قد اتصلوا بي، وعرضوا عليّ هذه العضوية؛ أشير إلى أنني قد اعتذرت عن قبولها، على نحو لا لبس فيه، ولا رجعة عنه، ليس دون الإسهاب في شرح الاعتبارات التي تدفعني إلى الإعتذار.

يقيني كان، ويظلّ، أنّ تشكيل هذه المجالس والهيئات واللجان بطريقة التعيين، في مؤتمرات ولقاءات واجتماعات تُعقد في الخارج دائماً، ليس سلوكاً ديمقراطياً بأيّ معنى، أياً كان صدق النوايا خلفه، ومهما وجده البعض ضرورياً لخدمة الإنتفاضة. هذا فضلاً عن الأضرار التي يمكن أن تنجم عن مبادرات يُراد منها توحيد الصفوف، فلا تسفر إلا عن مزيد من التشتت وبعثرة الجهود.

مدهش، مع ذلك، أن يجري تداول أسماء مرشحين اعتذروا مبكراً، على الفور، وقبيل انفضاض اجتماع إسطنبول؛ الأمر الذي يضع علامات استفهام إضافية على جدّية سدنة المشروع، ومرامي الذين سرّبوا الأسماء وكأنهم يحتاجون إلى بعضها من أجل درء الفشل، أو ربما الإيهام بالنجاح، لكي لا يذهب المرء أبعد فيرتاب في احتمال التوريط!

كلّ هذا مؤسف ومحزن، بالطبع، وهو جزء من ظواهر شتى تكاثرت وتتكاثر كلّ يوم. وإذا صحّ أنها تنفع، في قليل أو كثير، الانتفاضة البطولية المجيدة التي يخوضها شعبنا منذ خمسة شهور ونيف؛ فهيهات أن يكون للجوانب المَرَضية في تلك الظواهر أي أثر في تأخير ساعة النصر، الآتية الوشيكة.
باريس في 24 آب، 2011

صبحي حديدي    



 




الأحد، 21 أغسطس 2011

ضاعت الطاسة على الشعب السوري!

ثمة، لدى مجموعات واسعة من المعارضين السوريين في الخارج، شراهة لعقد المؤتمرات واللقاءات والاجتماعات التشاورية، لا تبدو مفرطة فحسب؛ بل هي أفرزت وتفرز ظواهر مَرَضية، حالها في ذلك حال أية تخمة منافية لطبائع الأمور. من بروكسيل ـ 1، إلى أنطاليا، إلى بروكسيل ـ 2، إلى اسطنبول ـ 1، إلى اسطنبول ـ 2، إلى برلين، إلى اسطنبول ـ 3... جرى إعلان لجان وهيئات ومجالس قيادية، بأسماء فضفاضة رنّانة، مثل "المؤتمر السوري للتغيير"، أو "هيئة المعارضة السورية"، أو "لجنة الحوار الوطني"، أو "الائتلاف الوطني لدعم الثورة السورية"، أو "مجلس الإنقاذ الوطني"، أو "هيئة التنسيق الوطني لقوى التغيير الديمقراطي في المهجر"، أو "المجلس الوطني للتغيير"... وهذا الأخير هو الوليد الأحدث عهداً، والذي قد يرى النور خلال أيام.

النوايا، في نفوس غالبية المشاركين، طيبة ومخلصة ونزيهة، عينها على الوطن، وقلبها على الشعب، وفي رأس أهدافها مساندة الإنتفاضة بشتى الوسائل، ثمّ الحرص على الوحدة الوطنية، وقبلها حرص مماثل على توحيد صفوف المعارضة، وسوى هذا وذاك من أهداف تحظى بإجماع عريض، كما يتضح من المداولات والأدبيات في أقلّ تقدير. هنالك، أيضاً، ذلك الحرص الشديد على إظهار هذه المؤتمرات واللقاءات وكأنها تمثّل "جميع أطياف المجتمع السوري"، حسب العبارة التقليدية؛ فلا يتردد مؤتمر في تفصيل انتماءات المشاركين الإثنية والدينية والطائفية والعشائرية، أو يتفاخر مؤتمر آخر بإعلان هويات سياسية أو فكرية، علمانية وإسلامية وليبرالية ويسارية!

ذلك كله يبدو للوهلة الأولى جميلاً، ضرورياً، مفيداً، وصيغة أخرى في العمل الوطني ينبغي أن تكمل الإنتفاضة في الداخل، أو تتولى تمثيلها في الخارج؛ لولا أنّ المشكلة تكمن هنا تحديداً: هل تكفي النوايا الطيبة، أياً كانت مقادير الطهر في مقاصدها، لكي يزعم هذا المؤتمر أو ذاك أية صيغة تمثيلية حقّة، وفعلية قائمة على أسس ديمقراطية في الحدود الدنيا، تسمح للمشاركين بالذهاب بعيداً، وأبعد ممّا ينبغي، إلى درجة تشكيل "مجلس إنقاذ" أو "مجلس وطني"؟ الإجابة التي يفرضها السلوك الديمقراطي الأبسط، هي: كلا، بالطبع، فالنوايا الطيبة لا تنيب بصفتها المجرّدة هذه؛ وليس لحاملها، أياً كانت خصاله ومصداقيته، أن يأنس في نفسه حقّ تمثيل الناس لمجرّد أنه مخلص نزيه حريص على الإنتفاضة والشعب والوطن.

ثمّ إذا كان المواطن المتظاهر في ساحات وشوارع سورية يخرج من داره وهو مشروع شهيد، في الواقع الفعلي وليس في المجاز، يحمل دمه على كفّه، أو تُختزل روحه في حنجرته، من أجل نظام في التمثيل الديمقراطي لا يصادر صوته ولا يزوّر إرادته؛ أفلا يتوجب على المعارضين السوريين في الخارج أن يقدّموا القدوة الحسنة في هذا المضمار، سيّما وأنّ شروط التمثيل الإنتخابي السليم متاحة تماماً أمامهم، إذْ يعيش معظمهم في ظلّ ديمقراطيات غربية تكفل حرّية الاجتماع؟ هل يجوز تنظيم مؤتمر طويل عريض، يتنطّح لقضايا كبرى شائكة، لكنه لا يستند إلى قواعد تمثيلية واضحة، بل يعتمد مبدأ "أهلا وسهلا بلّي جاي"، أو خيار "مؤتمر بمَنْ حضر"، أو المشاركة وفق تلك البدعة العجيبة التي اسمها "عضو مراقب"، أو "عضو ضيف"؟ ولا ينسى المرء بؤس تلك الرياضة القائمة على تلميع المؤتمرات عن طريق إبراز "أعضاء نجوم"، من قادة أحزاب مهجرية، أو أكاديميين طنّاني الألقاب، أو نزلاء مزمنين على الفضائيات.

مَنْ فوّض مَنْ؟ متى، وأين، وكيف؟ ليست هذه علامات استفهام وسؤال وتساؤل، بل هي نقاط نظام وانضباط ومساءلة. ومع استثناءات قليلة، لم يحدث أنّ تنسيقيات الداخل، أو أحزاب المعارضة التي تحترم شعبها ونفسها، أرسلت مندوبيها إلى أيّ من المؤتمرات، ضمن أية صيغة مقبولة من التمثيل الديمقراطي على أسس قاعدية. كان العكس هو الذي يحدث، بصفة عامة، رغم حرص الجميع على عدم الذهاب بالتحفظ إلى مستويات العلن (وهذا، في يقيني، خلل سياسي وأخلاقي لا يليق بشهداء يتساقطون بالعشرات، كلّ يوم). ولدينا مثال حديث العهد، صدر بالأمس فقط، هو تحفظ "الهيئة العامة للثورة السورية" على تكاثر المؤتمرات، والحثّ على "تأجيل أي مشروع تمثيلي للشعب السوري".

وأرى واجباً عليّ، لكي لا يبدو موقفي منفصلاً عن السلوك الشخصي العملي، الإشارة إلى إنّ هذه الاعتبارات جعلتني أعتذر في الماضي، وسأعتذر في المستقبل، عن حضور أيّ مؤتمر ولقاء وملتقى يُعقد في الخارج دون أسس تمثيلية ديمقراطية صريحة وملموسة. ومن الإنصاف التفكير بأنه إذا بات صعباً على السوري ـ المسيّس، المثقف، والمتابع ـ أن يفرز هذا المؤتمر من ذاك، ويميّز ماهية "مجلس الإنقاذ" بالمقارنة مع "المجلس الوطني"؛ فهل من الغرابة أن تضيع "الطاسة" على الشعب السوري، في مختلف شرائحه الاجتماعية والسياسية الأعرض؟

وفي مقام آخر، هو الأهمّ ربما، هل يُلام المتظاهر، الخارج من بيته في طريق مستقيم نحو احتمال الشهادة، إذا اكتفى بعبارة مجاملة من نوع "يعطيكم العافية يا جماعة"، يرسلها لأخوته السوريين المصابين بشراهة المؤتمرات الخارجية؛ ثمّ أدار ظهره، بأدب جمّ لا ريب، وانخرط في تظاهرة حاشدة تستشرف المستقبل وتهتف للوحدة الوطنية وتنادي بسقوط النظام، حيث الطاسة... ليست ضائعة أبداً؟

الخميس، 18 أغسطس 2011

سورية: هزائم الفرقة الرابعة وخيارات الذئب الجريح

منذ الأسابيع الأولى للإنتفاضة السورية بات جلياً أنّ صحيفة "الوطن"، وهي جزء من مملكة رامي مخلوف، تعبّر عن تفاصيل الموقف العملياتي اليومي داخل حلقة النظام الأمنية الأعلى، والأضيق؛ أكثر ممّا تفعل، أو تستطيع أن تفعل، جرائد أخرى حكومية، أو حزبية، مثل "الثورة أو "تشرين" أو "البعث". ولأنّ جرعات التذاكي التي يعتمدها تحرير "الوطن" لها حدودها في نهاية المطاف، بالقياس إلى هول الوقائع، وبالمقارنة مع بلاغة الصورة، فإنّ المخفيّ طيّ العناوين والتقارير والمقالات يظلّ أشدّ انكشافاً وافتضاحاً من كلّ ظاهر علني. هنالك شؤون أمنية بالطبع، وأخرى سياسية، وثالثة حزبية، ورابعة اقتصادية... والناظم الدائم هو خطّ التضليل المنهجي، إذا جاز تصنيف السلوك الديماغوجي ضمن أية منهجية.

خذوا، على سبيل المثال، هذا الخبر الذي نشرته "الوطن" يوم أمس: "نفى مصدر رسمي سوري لصحيفة الخليج، الأنباء التي تحدثت عن حصول انفجارات في مقر الفرقة الرابعة التي يقودها العميد ماهر الأسد وأكد أن هذه الأخبار عارية عن الصحة تماماً". المصدر هذا، ولا نعرف صفته المدنية أو العسكرية أو الحزبية، اعتبر أنّ "الأخبار التي تحدثت عن حصول انفجارات كبيرة في مقر الفرقة الرابعة قرب معضمية الشام عارية عن الصحة تماماً"؛ وأنها، بطبيعة الحال والعادة، "تأتي في إطار الإشاعات التي تستهدف الجيش السوري والفرقة الرابعة تحديداً منذ بداية الأحداث". كذلك، في نصّ الخبر ذاته، أكد المصدر أنه لاصحة للأنباء عن وقوع "انفجارات ضخمة وقوية دوّت في مطار المزة، وحصول انشقاق كبير داخل الجيش السوري، وإعدامات بحقّ الضباط والجنود المنشقين"؛ وهنا أيضاً أكد المصدر أنّ هذه الأخبار "تأتي في إطار الحرب النفسية وحرب الإشاعات التي تستهدف سمعة الجيش والقيادة السورية".

ليس المرء أمام مريب يكاد أن يقول خذوني، كما في القياس الشائع، فحسب؛ بل أيضاً أمام طراز طريف من الإثبات بنيّة النفي، في نبرة الخبر التي تتوسل الإيحاء بالموضوعية، مثلما في مفرداته التي تطابق حقيقة الواقعة رغم أنها تسعى إلى الانفلات منها. صحيح، وصار أمراً يتضح يوماً بعد آخر، أنّ الغالبية الساحقة من ضباط وصفّ ضباط وأفراد الفرقة الرابعة يدينون بالولاء الأعمى لقائدهم الفعلي، العميد ماهر الأسد، وعلى نحو لا يُقارن بولائهم للقائد الأعلى للجيش والقوات المسلحة، الفريق بشار الأسد. صحيح، كذلك، أنّ قائد الفرقة انخرط ـ منذ أسبوع الإنتفاضة الأوّل، وبعد تظاهرات درعا مباشرة ـ في عمليات متواصلة من فرز، وإعادة فرز، عناصر هذه الفرقة لكي لا يقتصر ولاؤهم على الإنحيازات العسكرية أو السياسية أو الشخصية، وحدها؛ بل أيضاً على اعتبارات طائفية وعشائرية صرفة، تجعل مصير الفرد مرتبطاً بمصير الفرقة، ومصير النظام في الحساب الأخير.

كانت عمليات الفرز تلك ضرورة قصوى، سياسية ونفسية وعسكرية، لكي تصبح الفرقة الرابعة ذراع النظام الضارب في قمع الإنتفاضة، ولكي تنتشر حيثما اقتضت عمليات حصار المدن أو اقتحامها أو قصفها، عبر المدرعة أو الدبابة أو الحوّامة، فضلاً عن كامل الأسلحة النارية الأخرى، الثقيلة قبل الخفيفة. هذه فرقة مدرّعة في الأساس، وتسليحها نخبوي ومتميّز، وترسانتها لا تقتصر على العدّة العسكرية بل تشمل أدوات القمع الأخرى (من العصا الكهربائية إلى الغاز المسيل للدموع، مروراً بالهراوة والقنابل المسمارية...)؛ وامتيازات عناصرها، من حيث الراتب والتعويضات والسكن والتأمين، لا تُقارن بما يحصل عليه العسكريون في جميع وحدات الجيش السوري الأخرى. ولهذا، حين زُجّ بالفرقة في عمليات كسر الإنتفاضة، تنقّلت كتائبها من محيط المقرّ في المعضمية، إلى مناطق حوران، ثمّ ريف دمشق، وبانياس، وحمص، وتل كلخ، وجسر الشغور، واللاذقية، وحماة، وجبل الزاوية، ومعرّة النعمان، ودير الزور، والبوكمال، وحماة مجدداً، ودير الزور مجدداً، فاللاذقية مجدداً، وجبلة هذه الساعة...

وفي أداء مهامها القمعية هذه، أو حين كانت بعض وحداتها المدرّعة تُوضع تحت تصرّف المفارز الأمنية التابعة لأجهزة المخابرات العامة أو العسكرية أو الجوية أو الأمن السياسي؛ أو حين يُستعان بها لتمهيد الشوارع والساحات أمام زحف قطعان "الشبيحة" وميليشيات النظام الأخرى التي تتقنّع بأسماء شتى؛ ظلّت الفرقة الرابعة تخضع لمزيج من الضغوط اليومية الهائلة، تكفّلت بإدخالها في متوالية جهنمية أرادها النظام أن تكون انتصارات ساحقة ضدّ الإنتفاضة، فانقلبت إلى سلسلة من الهزائم الميدانية النكراء. وكان السيناريو الكلاسيكي قد انطوى على وصول هذه الوحدات إلى القرى أو البلدات أو المدن، وفرض الحصار عليها، قبل اقتحامها، وقتل المواطنين أو حرق الشوارع والساحات أو قصف المجمعات السكنية، ثمّ الاضطرار إلى الإنسحاب الذليل، ليس دون إذكاء عزيمة المنتفضين أكثر من ذي قبل!

وإلى جانب الإرادة الشعبية العبقرية هذه، ترنّحت دبابات ماهر الأسد تحت ثلاثة أنماط من الضغوط اليومية، أوّلها اهتراء معنويات أفراد الفرقة أمام الصمود الأسطوري للتظاهرات، وارتقاء الشعارات يوماً بعد يوم، في علاقة طردية مع اشتداد آلة القهر. كلّما حوصرت منطقة، ودُمّرت بيوتها وسُفكت دماء أبنائها، نساء ورجالاً وشيوخاً وأطفالاً، ارتفعت أكثر فأكثر روحية المطالبة بإسقاط النظام، والتعريض المباشر برموزه العليا، بشار الأسد وشقيقه على نحو محدد. وكلما أوغلت الفرقة في الإجراءات الكفيلة ببثّ الفرقة بين السوريين (مثل قصف مئذنة هنا، أو العبث بمسجد هناك، أو كتابة شعارات مذهبية وطائفية بين حين وآخر...)، جاء الردّ الشعبي أكثر تمسكاً بالوحدة الوطنية، وأعلى وعياً بمخططات النظام.

نمط الضغط الثاني كانت تصنعه حقيقة أنّ الفرقة الرابعة هي هجين مختلط من بقايا وحدات عسكرية سابقة، كانت لها صولاتها وجولاتها في التاريخ القمعي لـ"الحركة التصحيحية"، وتوجّب على حافظ الأسد أن يفككها ويعيد تركيبها، بين حقبة وأخرى. تلك السيرورة فرضتها اعتبارات تخصّ قطع الطريق على الأجندات الخاصة لقادة تلك الوحدات، من أمثال رفعت الأسد (قائد "سرايا الدفاع")، وعلي حيدر (قائد "الوحدات الخاصة")، وعدنان الأسد (قائد "سرايا الصراع")... صحيح أنّ هؤلاء باتوا خارج المشهد القيادي، حتى قبل أن تبدأ عمليات توريث الأسد الابن، إلا أنّ ما جرى تكريسه على نطاق التوريث داخل البيت الأسدي، جرى أيضاً استلهامه بصياغات متغايرة على صعيد مناقلة النفوذ والامتيازات بين قادة الصفّ الأوّل، ووكلائهم قادة الصفوف الثانية والثالثة.

وهكذا، يعرف الضابط في الفرقة الرابعة أنّ ماهر الأسد اختار له البقاء في كتائبها، فلم يشمله بأعمال التطهير التي أعقبت اندلاع الإنتفاضة، لأنّ ولاءه ثابت، وقد تمّ التحقق منه خلال هذه العملية أو تلك؛ كما لا يجهل، وهنا التفصيل الأهمّ، أنّ انتماءه إلى هذه العشيرة أو تلك، من هذه الضيعة التابعة لهذه المنطقة، وليست تلك التابعة لمنطقة أخرى، كان حاسماً في ترشيحه للبقاء. لكنه، أغلب الظنّ، لم يتطهر تماماً من ذاكرة شخصية تضمنت ولاءه السابق، وامتيازاته التي لم تكن أقلّ، بل كانت أوفر ربما، مع ضباط من أمثال العقيد معين ناصيف (صهر رفعت الأسد، والضابط الأبرز في "سرايا الدفاع")، أو العميد هاشم معلا (بطل حصار حلب، 1980، و"مدمّر الإخوان المسلمين" حسب التسمية المفضّلة لدى محبّيه)، أو العميد محسن سلمان (حاكم لبنان العسكري أواسط الثمانينيات، إسوة بحاكمها الأمني غازي كنعان)...

ثمة، هنا، اختلاط في ماضي المرجعيات وحاضرها، ليس لأنّ القدماء كانوا شرفاء مع الشعب والجدد أوغاد، فالموازنة هنا غير مطروحة أساساً؛ بل لأنّ الولاء الأعمى لا تكفيه عصا واحدة يتوكا عليها، خاصة إذا اختلطت امتيازات الأمس، بكوابيس اليوم، وتبدّى المصير من خلال هذا الخليط المتنافر، ضدّ الشعب تحديداً، وفي مواجهة شارع لم يرفع حجراً في وجه الدبابة. وهذا يصنع الضغط الثالث، إذْ أنّ من المحال على ماهر الأسد، مثلما كان محالاً على سواه في الماضي، أن ينتزع الحسّ الوطني الأصيل من نفوس أفراد الفرقة الرابعة، جميعهم أو غالبيتهم الساحقة. محال، كذلك، أن يحوّلهم إلى مجندين صمّ بكم عمي يقاتلون سورية بأسرها من أجل نظام آل الأسد وآل مخلوف وآل شاليش وآل الأخرس وآل الشلاح وآل الغريواتي. والقاعدة الذهبية التي تسري على أبناء الطائفة العلوية أينما كانوا، تسري بالضرورة على أفراد الفرقة الرابعة: هذه طائفة وطنية عريقة، لها ما لكلّ السوريين، في كلّ أعراقهم وأديانهم وطوائفهم ومشاربهم، من حصة في الحرية والكرامة والديمقراطية؛ مثلما دفعت، إسوة بالسوريين، ثمناً باهظاً جرّاء سياسات نظام الإستبداد والفساد، هذا الذي لا يمثّل طائفة واحدة، ولا يقتصر على دين بعينه.

خبر "الوطن"، حول انشقاقات ومواجهات وإعدامات داخل صفوف الفرقة الرابعة، ليس بحاجة إلى تدقيق أو تمحيص، إذاً، فهو حصيلة منطق بسيط محّص ذاته بذاته، ودقّقته أسابيع الإنتفاضة، حيثما توجهت كتائب الفرقة الرابعة، في جنوب سورية مثل وسطها، وفي شرقها وشمالها مثل غربها وساحلها. وما لا تستطيع "الوطن" التعمية عليه هو حقيقة انسحابات هذه الكتائب من قرى وبلدات ومدن دخلتها بذرائع كاذبة، ثمّ خرجت منها بذرائع أدهى كذباً، فلم تفلح في إخفاء التسمية الوحيدة الفعلية التي تصف ذاك الدخول وهذا الخروج: الهزيمة النكراء. وما يطلق عليه النظام صفة "وقف العمليات العسكرية"، اليوم، ليس سوى التوصيف البائس الأشدّ مراوغة لانهزام تلك العمليات العسكرية، وأنّ كامل خيارات الحلّ الأمني ـ العسكري، التي اعتمدها النظام في مواجهة الإنتفاضة، تدنو من حافة الإنهيار الختامية.

ولقد رأت سورية اجتماع بشار الأسد مع 500 من كوادر حزب البعث ("صحّ النوم" كما قد يقول له قائل ساخر، أو "لماذا لا تسمع نصيحتي؟" كما قد يعقّب رجل جادّ مثل أدونيس، صاحب نظرية تحميل حزب البعث، وحده، أوزار مآسي سورية المعاصرة)، لكي يذرّ المزيد من الرماد في عيون أتباعه (بافتراض أنّ العيون ما تزال شاخصة إليه أصلاً)، فيعيد المعزوفة المكرورة إياها، حول إصلاح "نابع من قناعة ونبض السوريين وليس استجابة لأي ضغوط خارجية". وقبل هذا استمع السوريون إلى تصريحات الجيران الأتراك، الذين نفضوا أيديهم من تسريبات مهلة الـ 15 يوماً التي تردّد أنهم منحوها للأسد كي يحسم؛ فبدا وكأنهم يعلنون الوجهة الثانية للفخّ الذي قيل إنهم نصبوه للأسد وشقيقه: هيهات أن تبلغا الحسم، وهذا آخر كلامنا! وبالأمس، فقط، وبعد قرابة 2600 شهيد وعشرات الآلاف من المفقودين والسجناء والجرحى، انتبه الرئيس الأمريكي باراك أوباما إلى أنّ الوقت قد حان لكي يتنحى الأسد!

أين موقع الفرقة الرابعة، من هذا كلّه؟ أغلب الظنّ أنّ الأنماط الثلاثة للضغوط التي تتعرّض لها كتائب ماهر الأسد هي، في منطقها الجدلي الموازي، ما تبقى أمام عناصرها من خيارات: إمّا متابعة الولاء الأعمى، والذهاب أبعد في خيانة الوطن والشعب؛ أو أعادة توزيع الإنحيازات، بحيث تُنقل البندقية من كتف إلى كتف؛ أو، أخيراً، الرجوع إلى جادة الوطن والحقيقة، حيث لن تزر وازرة وزر أخرى في سورية المستقبل ودولة القانون. ولا يغيب، بالطبع، ذلك الخيار الرابع، الرهيب، الذي قد ينتهجه أيّ ذئب جريح، لا يترنّح  ويتهاوى فحسب، بل يخرّ أرضاً وينزف ويحتضر...

الأحد، 14 أغسطس 2011

زهرة طلاس وشيخ القرداحة

ظهور نفر من حرس "الحركة التصحيحية" القديم، برعاية محمد سلمان، وزير الإعلام الأسبق، يذهب بالمرء إلى استفقاد واحد من أقدم هؤلاء الحرّاس، بل الأقدم طرّاً كما يجوز القول: العماد أوّل المتقاعد مصطفى طلاس، الذي قضى 32 سنة في وزارة الدفاع السورية، و52 سنة في السلك العسكري. وحين تقاعد، سنة 2004، تسلّم من بشار الأسد "وسام أمية ذا العقد"، فكان ذاك هو الأرفع بين 39 وساماً محلياً وعربياً وأجنبياً، يَعجب المرء كيف يطيق سيادة العماد حمل أثقالها على صدره!

وليس الأمر أنّ طلاس كان غائباً تماماً عن الساحة السياسية، بعد تقاعده، إذْ أصدر كتاباً بعنوان"ثلاثة أشهر هزّت سورية"، أماط فيه اللثام عن بعض أسرار الصراع بين حافظ الأسد وشقيقه رفعت، سنة 1984؛ ولم يتوقف عن الإدلاء بدلوه في إغداق المدائح على شخص بشار الأسد، وهجاء المعارضة، وشتم ملوك وأمراء ورؤساء العرب الذين لا يشبهون رئيسه في البطولة والإباء والمقاومة والممانعة، ولم يتورّع عن استخدام أقذع الألفاظ في توصيفهم (قصيدته الشهيرة "غزة والفضيحة العربية" تعقد مقارنة بين جبين حسني مبارك ومؤخرة تسيبي ليفني!). وفي كلّ حال، حين كان العماد يغيب في واحدة من أسفاره السياحية الطويلة، كانت سيرته تظلّ جارية على الألسن من خلال نجلَيْه: فراس، رجل الأعمال والعضو الأصيل في الصفّ الأوّل من تماسيح المال والفساد والنهب؛ ومناف، العميد في الحرس الجمهوري، والذراع الضاربة بالنيابة عن أمثال ماهر الأسد وحافظ مخلوف، خاصة في صفوف فريق من المثقفين والفنانين يزعم معارضة النظام.

وفي الأسابيع الأولى للإنتفاضة، منتصف نيسان (أبريل)، توهّم طلاس أنه ما يزال صاحب نفوذ لدى أهالي حمص، باعتباره ابن المحافظة في نهاية المطاف، فعرض على سيّده الأسد أن يعقد اجتماعاً مع فعاليات حمص لتهدئة الأجواء. ولم يكن مدهشاً، إلا للعماد وحده، أنّ الحماصنة أسمعوه كلاماً صارماً وحازماً؛ ليس لكي يستقرّ في أذنيه، بوصفه الوسيط، بل لكي ينقله إلى رئيسه، باختصار بليغ: "الشعب السوري ما بينهان"! الصلة الثانية بالإنتفاضة كانت أعلى بلاغة، من حيث الرمز والتمثيل البصري على الأقلّ، وذلك حين نجحت جماهير الرستن (بلدة طلاس، ومسقط رأسه) في تقويض تمثال حافظ الأسد، وكان الأضخم على نطاق القطر لأنّ الذي أمر بتشييده كان، بدوره، الأعلى رياء ومداهنة وخنوعاً.

وهكذا ظلّ الرجل يثبت أنه لم يفلح أبداً في الصعود إلى أيّ موقع أعلى من ذاك الذي أراده له الأسد الأب منذ عام 1971: وزير دفاع مزمن ثابت مقيم، لا حول له ولا طول، ضاحك أبداً، يقرض الشعر الرديء، وينتحل المؤلفات. يحدث، أيضاً، أن يطلب من الميليشيات الحليفة للنظام في لبنان أن لا تؤذي الوحدة العسكرية الإيطالية المرابطة هناك، كي لا تذرف جينا لولو بريجيدا دمعة حزن. إلى هذه وتلك، سبق له أن خاض في قضية سلمان رشدي و"الآيات الشيطانية"، كما عكف على تطوير الخصائص المورفولوجية لزهرة التوليب بحيث يصبح اسمها على يديه: "زنبق خزامى الأسد"، Tulipa Hybrida Assadiana، كما أسماها في كتابه "ورد الشام".

وإذْ يتعالى الحديث اليوم عن احتمال عودة رفعت الأسد إلى سورية، في شخص بطل مجازر تدمر وحماة والمحاصِص في السلطة والمتضامن مع البيت الأسدي، وليس البتة فارس الديمقراطية المزيّف المتباكي على الحرّيات وحقوق الإنسان؛ فإنّ طلاس يُفتقد، دون أن يُنتظر بالضرورة. ذلك لأنه، وقبل أن يسرد وقائع الصراع الدراماتيكية في كتابه آنف الذكر، كان أوّل مسؤول رفيع المنصب كشف النقاب عن أسباب وجود رفعت الأسد خارج البلاد، رغم أنه ما يزال يشغل منصب نائب الرئيس لشؤون الأمن القومي. وفي تصريح شهير لمجلة "دير شبيغل" الألمانية، أعلن طلاس أنّ النائب الهمام لا يقيم في جنيف لأسباب صحية، أو لأداء مهمة رئاسية، بل لأنه شخص غير مرغوب فيه.

وبالطبع، جرت في الماضي وصلات شتم وشتم مضادّ بين طلاس وأجهزة رفعت الأسد الإعلامية، ولكنّ حدّة الخلاف بين العمّ وابن أخيه الوريث كانت تمنح العماد المتقاعد حصانة في الردّ، وربما غمزة تشجيع من رأس النظام، كما كانت الحال في أواخر عهد الأسد الأب. الميزان تبدّل اليوم، والأرجح أنه سوف يتبدّل أكثر، وبالتالي لم يعد مسموحاً للعماد أن يردح على هواه ضدّ العمّ، لأنّ وحدة البيت الأسدي صارت فريضة ستراتيجية في سياقات بحث النظام عن المنجاة؛ والفاشل في الحفاظ على تمثال الوالد في الرستن، ليس له أن يتطاول على شيخوخة العمّ في القرداحة... أو تلك هي المعادلة التي يمكن أن تسير في ذهن ماهر الأسد، المعجب أبداً بعمّه، على الأقلّ.

وهكذا، ورغم أنّ تراباتها السخية تعجّ بأزاهير برّية شتى، بديعة فاتنة أصيلة، بنات تاريخ سوري عريق عتيق، لن يكون نظام آل الأسد فيه سوى فاصلة في مجلّد زاخر، فإنّ جبال الساحل السوري أبت استنبات الزهور الطلاسية؛ ليس لأنها نقيض الطبيعة، فحسب، بل لأنها نتاج النفاق والافتعال، ولعلّها لم تطلع أصلاً إلا في مخيّلة العماد وحده. ويا لها من مخيّلة، والحقّ يُقال!

الخميس، 11 أغسطس 2011

سورية: طائفة تتململ، وجيش يرتبك، وحرس قديم يستفيق


تعود الحكاية إلى خريف العام 2003، حين وُضعت على مكتب بشار الأسد مذكرة أعدّها جهاز أمن الرئاسة الخاصّ، الذي تشمل صلاحياته الإستخبارية كلّ، وأيّ، الميادين في معمار السلطة، سواء على صعيد الآلة موحّدة أم الأفراد منفصلين. كانت المذكّرة توجز سلوك محافظ (ضابط متقاعد، عمل سنوات طويلة محافظاً لواحدة من كبريات المحافظات السورية، ولسنا نعفّ عن ذكر اسمه هنا إلا لأسباب قانونية صرفة)؛ وكيف أنه جمع من الرشاوى والعمولات ما بلغ رقماً فلكياً (وهنا أيضاً، نترك لمخيّلة القارىء أن تحلّق عالياً عالياً في تحديد الرقم). لقد فاحت رائحته أكثر مما ينبغي، قالت المذكرة، وأخذ المواطنون يجأرون بما هو أكثر من الشكوى والدعاء الى الله، اذْ باتت جيوبهم عاجزة عن سداد "المكوس" التي يفرضها سيادة المحافظ.

أما العنصر الأهم، وهو الذي طرأ فجعل جهاز أمن الرئاسة يتدخل ويسطّر تلك المذكرة، فهو أنّ السيد المحافظ ذهب أبعد ممّا هو مسموح به في علاقاته مع الجهات التعاقدية خارج القطر، وباتت صلاته بالدول والحكومات، قبل الشركات، تهدد أمن الدولة بالخطر. إلا أنّ المذكرة لم تذهب بعيداً، في المقابل، فتطلب إحالة المحافظ إلى القضاء ـ لا سمح الله! ـ بل إحالته إلى التقاعد ليس أكثر، خصوصاً وأنه قارب السبعين. تقول الحكاية إن الأسد ـ وكان، آنذاك، ما يزال محطّ آمال الكثيرين، حتى في أوساط المعارضة، بوصفه "الشابّ"، و"المعلوماتي" و"العصري" ـ ردّ بما يفيد أنّ هذا المحافظ بالذات هو جزء من "أمانة الوالد"، وبالتالي لن يخون الفتى أمانة أبيه أياً كانت الحال. وفي توضيح معنى "الأمانة" هنا، نذكّر بأن المحافظ وقف الى جانب الأسد الأب حين قاد "الحركة التصحيحية" سنة 1970، وأنه (أي الضابط، حينذاك) تخلى عن أهله وعشيرته وأبناء ضيعته من جماعة صلاح جديد، والتحق بصفوف الأسد!

نستعيد هذه الحكاية بمناسبة التئام شمل عشرات من رفاق هذا المحافظ، سبق لهم أن شغلوا مناصب مختلفة في السلطة، الحكومية أو الحزبية، تراوحت بين عضو قيادة قطرية لحزب البعث، أو أمين فرع للحزب، أو وزير، أو معاون وزير، أو محافظ. محمد سلمان، وزير الإعلام طيلة سنوات من عهد الأسد الأب، عقد مؤتمراً صحفياً (في بيته!)، أعلن خلاله إطلاق ما أسماه "المبادرة الوطنية الديمقراطية"، بالنظر إلى أنّ "البلد يمرّ بأزمة وطنية، ويجب على المواطنين المخلصين أن يبادروا لإنقاذ الوطن من أزمته"، مؤكدا على "ضرورة أن يبذل الجميع، معارضة وسلطة، الجهود للحيلولة دون وقوع أمرين خطيرين على حاضر الوطن ومستقبله، وهما الحرب الأهلية والإقتتال الطائفي من جهة، والتدخل الأجنبي عموماً من جهة أخرى".

طريف، إلى هذا، أنّ سلمان ربط المبادرة بالأسد شخصياً، داعياً إياه إلى "تولي زمام المبادرة"، آملاً في أن يترأس مؤتمراً وطنياً "يضع الحلول الناجعة للخروج من الأزمة الراهنة"؛ وكأنه يقول، إذْ يذرّ الرماد في العيون على النحو الأقلّ احتراماً للعقول، إنّ الزمام لم يكن في يد الأسد منذ 11 سنة. كأنه، أيضاً، ينفي عن الأسد صفة رأس الحلّ الأمني، والآمر الفعلي خلف كلّ ألوان السلوك الوحشي في قمع الإنتفاضة؛ منذ اليوم الأوّل، حين أجاز ابن عمّته عاطف نجيب استخدام الذخيرة الحيّة ضدّ أبناء درعا، وحتى اليوم حين يأمر شقيقه ماهر الأسد بقصف مئذنة مسجد عثمان بن عفان في دير الزور.

ليس أقلّ طرافة، من جانب آخر، أنّ سلمان انتقد القيادة القطرية لحزب البعث، ليس لأنها سارت وتسير خلف ضابط الأمن، بحيث صار فرع الحزب محض شعبة ملحقة بفرع الأمن؛ أو لأنّ أمثال محمد سعيد بخيتان، الأمين القطري المساعد والرئيس السابق لمكتب الأمن القومي، وهشام بختيار، رئيس المكتب الراهن (بعد أن "أصلحه" الأسد، فأسماه: مكتب الأمن الوطني!) أتوا أساساً من الأجهزة الأمنية. جوهر نقد سلمان مصدره أنّ قيادة البعث الحالية "سارت على سياسة الإقصاء لمعظم المسؤولين الذين كانوا في الحزب والدولة، وهؤلاء المسؤولون لا يستطيعون أن يقفوا متفرجين"! كأنه يجهل الجهة التي كانت وراء سياسة الإقصاء تلك، أو كأنّ الأسد الابن لم يكن صاحب القرار الأوّل في تلك السياسة، أو ـ وهنا وجه آخر للطرافة ـ كأنّ عضوية القيادة القطرية ينبغي أن تكون مدى الحياة، على غرار الرئاسة الأسدية!

لم يكن طريفاً، مع ذلك، أن يصرّح سلمان بأنه "لا تستطيع طائفة لوحدها أن تفكر بحكم سورية لوحدها"، دون الذهاب خطوة إضافية في إيضاح الإشكالية الرديفة التالية: لا تستطيع، بالفعل؛ ولكن هل اشتغلت منظومة أمنية ـ عسكرية ـ استثمارية تضمّ كلّ الطوائف، مثل هذه التي جرى توريثها للأسد الابن من الأسد الأب، على استدراج أبناء طائفة واحدة إلى هذا الوهم؟ وهل جرى منح بعض أبناء هذه الطائفة امتيازات، في الأجهزة الأمنية والجيش والمناصب، فضلاً عن شتى ميادين النهب والفساد والإثراء الفاحش، بحيث يلوح الوهم حقيقة فعلية على الأرض، ويصبح مصير الطائفة مرتبطاً وجودياً بمصير النظام؟ وإذا كانت هذه، بالضبط، حال الأسرة الأسدية، ومن خلفها آل مخلوف وآل شاليش، تجاه شرائح واسعة من أبناء الطائفة العلوية، فأيّ زمام سوف يوضع في يد الأسد، اليوم مثلما الأمس في الواقع؟

وفي استذكار الأمس، وإذا صحّ أنّ جميع أشاوس هذه "المبادرة الوطنية الديمقراطية" هم من البعثيين، ومن القياديين السابقين في الحزب والسلطة تحديداً، أفلا يصحّ استطراداً أن يطرح المرء السؤال التالي: أين كان سلمان ورفاقه حين شهد العالم بأسره مهزلة انعقاد ما يُسمّى "مجلس الشعب السوري"، على نحو كرنفالي أقرب إلى استعراض السيرك منه إلى أيّ اجتماع بشري، من أجل تعديل المادة 83 من الدستور لكي تلائم توريث بشار الأسد، بعد ساعات معدودات على وفاة أبيه؟ أين كان هؤلاء أنفسهم، وسواهم عشرات، حين أصدر الأعلى صلاحية بينهم آنذاك، عبد الحليم خدّام دون سواه، القانون رقم 9 تاريخ 11/6/2000 القاضي بتعديل المادة 83 ليصبح عمر رئاسة الجمهورية الدستوري مطابقاً لعمر الوريث آنذاك (34 سنة)، إلى جانب ترفيع الضابط بشار الأسد من رتبة عقيد إلى رتبة فريق، دفعة واحدة (قافزاً عن رتبة عميد، ولواء، وعماد، وعماد أوّل... وعن فترة في الخدمة العسكرية الفعلية لا تقلّ عن 25 سنة)، وتعيينه قائدًا عامًا للقوات المسلحة؟

ذلك المؤتمر القطري التاسع كان، في حقيقة الأمر، يختتم فصلاً إضافياً في تاريخ "الحركة التصحيحية"، دون أن يدشّن في الآن ذاته أيّ فصل جديد في الحركة الجديدة، الوجيزة الخاطفة التي أسفرت عن تنصيب الأسد الابن، وكانت غالبية الرفاق أبطال "المبادرة الوطنية الديمقراطية" هم، أيضاً، أبطال تلك الحقبة. لهذا كان المؤتمر أشبه بترجيع مكرور لصدى المؤتمرات الحزبية السابقة التي عُقدت في عهد الأسد الأب: تصفيق وتهليل وعبادة فرد، وتقارير زائفة عن الأوضاع التنظيمية والداخلية والسياسية والاقتصادية، وإعلان العزم على الإصلاح والتجديد وتقديم الدماء الشابة، ثمّ انتخاب قيادة جديدة ذات دماء شابة في العمر البيولوجي وحده، ولكنها ذات عقول مكبلة طائعة مطيعة، وأيدٍ مغلولة إلى الأعناق، وحناجر لا تتقن سوى الهتاف بحياة القائد.

فضيلة مبادرة سلمان ورفاقه أنها قد تكون واجهة، مدنية وبعثية في المقام الأوّل، لحال التململ التي أخذت تصيب شرائح النخبة من رجالات السلطة السابقين ومحاربيها القدماء، ليس من حيث الصفة التمثيلية لأسماء على غرار محمد نهاد مشنطط (وزير سابق)، عماش جديع (وزير ومحافظ سابق)، مروان حبش (وزير وعضو قيادة قطرية سابق)، محمود جيوش (وزير سابق)، عادل نعيسة (عضو قيادة قطرية سابق)، وفيق عرنوس (أمين فرع حزب سابق)، أمين أبو الشامات (وزير سابق)، نظمي فلوح (معاون وزير سابق)، حسين عماش (رئيس سابق لهيئة مكافحة البطالة)، سليمان العلي (وزير سابق)، ناظم قدور (وزير سابق) وعلي سليمان (معاون وزير سابق)؛ بل من حيث ما يمكن أن ينطق به هؤلاء نيابة عن، أو بلسان، سادة سابقين: علي دوبا (المخابرات العسكرية)، محمد الخولي (مخابرات القوى الجوية)، علي حيدر وحكمت الشهابي وعلي الصالح وشفيق فياض وإبراهيم صافي (المؤسسة العسكرية المحترفة)، وسليمان حداد (مطبخ القرار السياسي ـ الأمني)...

هؤلاء كانوا أشدّ سطوة، وظلوا الأقرب إلى حلقة النظام الأضيق حتى دنت ساعة تجريدهم من سلطاتهم وإحالتهم إلى التقاعد القسري، لسبب جوهري هو الخشية من أن يعكروا صفو سيرورات توريث الأسد الابن. وإذْ يرجّح المرء وقوفهم، وسواهم، خلف هذه الواجهة المدنية البعثية التي أطلقها سلمان مؤخراً، فذلك ليس نابعاً من صحوتهم على ضرورات الإصلاح والديمقراطية وحقوق الإنسان وكرامة المواطن السوري، بل لأنهم أخذوا يستشعرون تململ شرائح واسعة من أبناء طائفة صارت تتبصّر مصائرها على نحو أوضح، وأخذت تدرك ـ ببطء، ولكن على نحو منتظَم ومتدرج ـ أنّ منابع الأخطار على الوطن ليست تظاهرات الشعب، بل تحالف قَتَلة الشعب وناهبي الوطن.

وبهذا المعنى فإنّ هجاء سلمان للحلّ الأمني، والتصريح بأنّ "استخدام القوات المسلحة واعتقال الآلاف يضع العصي في عجلة التغيير السياسي المنشود"، هو الوجه المكمّل لاعتزال العماد علي حبيب، وزير الدفاع السابق. الحمقى وحدهم يمكن أن يصدّقوا حكاية المرض، فالرجل ليس مُقعداً لكي يغادر المنصب في هذه الظروف الحرجة، ومنصبه فخري في الأساس، وكان خيراً للسلطة أن تبقيه في الحال الفخرية حتى إشعار آخر. ورغم مسؤوليته الأخلاقية عن كلّ توريط لوحدات الجيش النظامية في أعمال العنف ضدّ الشعب، فإنّ العماد حبيب ليس طراز الضابط العامل المحترف الذي يستسيغ الإنحناء المستديم أمام العميد ماهر الأسد، كما أنه ليس الطراز الذي يمكن أن يرفض تنفيذ الأمر العسكري أو ينشقّ على القيادة؛ ولهذا فإنّ الإعتزال كان الأنسب الذي يلائم شخصيته.

اعتزال ليس بينه والعزل كبير فارق، ولكن دلالاته لا تقتصر على حال الإرتباك التي أخذت تصيب بعض قدماء ضباط الجيش المحترفين، إزاء تبعثر المرجعيات التي تصدر الأوامر العسكرية، والطابع الوحشي الذي صار يقترن بالمهامّ الميدانية، واتساع الفجوة بين عقيدة الجيش الوطنية وانحطاط صورته في ناظر الشعب. هي حال مركّبة من التردد، والحيرة، والحرج، والعزوف، تارة؛ والاضطرار إلى الدخول في مواجهات، وإنْ محدودة، مع قوى الأمن و"الشبيحة"، تارة أخرى؛ فضلاً، بالطبع، عن الإنشقاقات، رغم ضعف نطاقها، وتأثيراتها السلبية على الروح المعنوية؛ والتخلّف الواسع عن تلبية الإستدعاء إلى الخدمة الإحتياطية.

وتلكم علائم جديدة على اندحار خيار أمني، مدمّر طويل الذراع بقدر ما هو قاصر قصير الأجل، تواصل اعتماده سلطة فقدت كلّ تجانس، ما خلا أنها تتشبث بقاعدة "أمانة الوالد"، تلك التي تدفعها حثيثاً نحو الهاوية.    

الثلاثاء، 9 أغسطس 2011

في ذكرى رحيل محمود درويش: التجارة الرخيصة وامتهان السيرة

لم أشاهد أية حلقة من مسلسل "في حضرة الغياب"، ولا أنوي هذا بالتأكيد. المرء، إذْ يتحلى ببعض الحكمة والحدّ الأدنى من الوفاء لذكرى محمود درويش ـ الإنسان ابن البشر، قبل الشاعر الكبير والنجم اللامع ـ لا يعتب على تاجر رخيص العادات، وممثل بليد ثقيل الظلّ ضعيف الموهبة، مثل فراس إبراهيم. كما لا يصحّ للمرء ذاته أن يعتب على كاتب سيناريو مثل حسن م. يوسف، كان ذات يوم قاصاً واعد الموهبة، مثقفاً أصيل الإنحيازات، قبل أن تجرفه تجارة أخرى ذات صلات ـ واهية تارة أو متينة طوراً، سيّان! ـ بمؤسسات سياسية وإعلامية منحطّة الأعراف، تابعة لنظام الإستبداد والفساد في سورية. غنيّ عن القول، كذلك، إنّ مَنْ أسموا أنفسهم "أصدقاء محمود درويش"، تناوبوا على توجيه الطعنات إلى صديقهم (في غيابه، إذْ هيهات أنّ أحدهم تجاسر على إغضابه في حياته!)؛ مرّة إلى شعره، من منطلق "الحبّ القاسي" الذي استصرخهم، ذات زمن مبكر، أن ينقذوه منه؛ ومرّة إلى سيرته الشخصية، باسم معرفة ـ كاذبة وزائفة، أو سطحية مبتذلة ـ بعاداته وطبائعه وقمصانه وربطات عنقه وأقلامه و... نسائه!

لا أجدني أعتب إلا على أحمد درويش، شقيق الشاعر والقيّم على حقوقه، والناطق باسم ورثته، لأنه منح أمثال فراس إبراهيم وحسن م. يوسف والأصدقاء/ التجار تغطية قانونية كاملة لإنتاج مسلسل تَجمع آراء ثقاة كثيرين على أنه أكثر من مأساة/ مهزلة، وأشبه باستباحة همجية لسيرة الراحل. ولا أنطلق في عتبي هذا إلا من زاوية واحدة وحيدة، هي أنّ أحمد درويش يعرف دقائق الصداقة التي جمعتني مع محمود درويش، وأنّ دافعي في نهاية المطاف هو الحرص على أقصى التكريم (أو لعلّي أقول: الحدّ الأدنى منه!) لشقيقه، وصديقي، بصرف النظر عن حقوق شاعر كبير لا تُمتهن سيرته بهذه الخفّة، بترخيص من الشقيق الأكبر وممثّل الأسرة. سوى ذلك، وبالمعنى القانوني المحض، لا أحد ينازع أحمد درويش في أن يفعل بشقيقه ما يراه مناسباً، فهو حرّ ومخوّل؛ ولا أحد، بالمعنى الأخلاقي والسلوكي، في المقابل، ينبغي أن يأخذ علينا أننا نتدخّل في ما لا يخصّنا.

وفي جانب آخر من هذه الحكاية، فوجئت قبل أيام بوجود توقيعي على بيان ضمّ أكثر من 2000 اسم، يستنكر عرض المسلسل ويطالب بوقفه. والحال أنني، مع احترامي التامّ لكلّ صاحب رأي، لا أرى نفسي في موقع مناشدة الفضائيات، أنا الذي أعتذر عن الظهور على شاشاتها في مسألة أخطر بكثير، هي الإنتفاضة السورية؛ أو التعريض بشخص فراس إبراهيم، الذي أحيل من جديد إلى توصيفي له، أعلاه؛ أو مناشدة هذا المسؤول الفلسطيني أو ذاك، وغالبيتهم لا يتباينون إلا في تقاسم الأدوار حين يتصل الأمر بنبش ذكرى الراحل. ولقد اتضح لي أنّ أحد الأخوة الفلسطينيين، في رام الله، انطلق من نيّة حسنة، واعتبر أنه "يمون" عليّ في إجراء كهذا، وأنه لا يجوز لي أن أغيب عن اللائحة، فأضاف اسمي.

وأجدني، في هذه العجالة، وإذْ ندخل في السنة الرابعة على غياب محمود درويش، أستعيد بعض تفاصيل حرصه الشديد على أن تبقى خصوصيات حياته خاصة تماماً، وإلى درجة الإفراط أحياناً؛ ثمّ أتخيّل، متكئاً على ما كُتب في ذمّ المسلسل، مقدار الخيانة التي تعرّضت لها تلك الخصوصيات، بيد مَنْ يعدّون أنفسهم في مصافّ "أقرب المقرّبين"، ومن أبواب شتى يختلط فيها الحبّ القاسي بالصداقة القاتلة، والتجارة الرخيصة بالتوليف السفيه. وإذْ لا يزال المرء يأمل في افتتاح متحف محمود درويش، وأقصد المتحف الحقيقي الحيّ والحيوي، وليس الصرح البارد والضريح الصقيعي؛ فإنّ الذين اختزلوا ذكراه في مسلسل فراس إبراهيم/ حسن م. يوسف يعرفون أنّ مفردات تلك الذكرى ما تزال غنية ثرية حافلة بالكثير الذي يكرّم محمود درويش، بما يليق بشخصه وحياته ومنجزه الإبداعي، وبما يحترم الملايين من محبّيه، سواء بسواء.

وتلك مفردات، بينها تفاصيل ثمينة مذهلة وجميلة بديعة، لم يكن في وسع التجار والكذبة الوصول إليها، لأنها ليست ولن تكون في متناول أيديهم، أوّلاً؛ وبسبب من رخص التجارة وإدقاع الكذب، ثانياً؛ ولأنهم لم يقرأوا من سيرة محمود درويش إلا الظاهر البسيط، والواقعة المشاع، والشخصية العامة، ثالثاً. وذات يوم، حين ستُكتب السيرة الحقّة، سوف يبدو محمود سليم درويش، ابن حورية، أعظم بكثير من مجرّد قدّيس مسبق الصنع بمواصفات غير آدمية، وأرفع قامة من محض رمز محنّط عن فلسطين، وبالتالي أعلى إنسانية في تقلبات نفسه وجسده، وأرفع قيمة من اختزالاته كافة. وراهنوا أنه سوف يكون أقرب كثيراً إلى حقائق وجود بشري طافح بالهشاشة والقوّة، بالتواضع والغطرسة، بقامة تتطامن نحو السرو مثلما تداني العشب، وبعبقرية الشاعر المتجدد الذي صار أيقونة كونية كبرى، وأثقال الفلسطيني الذي لا يترفّه بالسياسة بل تقترن بوجوده كما الدرب إلى الجلجلة...

وهذا الـ محمود درويش ليس حاضراً في الغياب على النحو الركيك الذي يريدونه، بل كما شاء لنفسه حين ختم "جدارية" عمره:

كأنّ شيئاً لم يكنْ
وكأنّ شيئاً لم يكنْ
جرج طفيف في ذراع الحاضر العبثيّ...
والتاريخ يسخر من ضحاياه
ومن أبطاله...
يُلقي عليهم نظرة، ويمرّ...
هذا البحر لي
هذا الهواء الرطب لي
واسمي ـ
وإنْ أخطأتُ لفظ اسمي على التابوت ـ
لي.
أما أنا ـ وقد امتلأتُ
بكلّ أسباب الرحيل ـ
أنا لستُ لي
أنا لستُ لي...

الأحد، 7 أغسطس 2011

نصر الله وميقاتي وعون: منحبّك!

تداعى عدد من مثقفي لبنان إلى وقفة تضامنية مع الشعب السوري، مساء اليوم، أمام تمثال الشهداء، في العاصمة اللبنانية بيروت. وقد انطوت الدعوة على نصّ قصير، طافح بالشجاعة الأخلاقية والوضوح السياسي، أشار إلى أنّ "النظام الإستبدادي السوري يصمّ أذنيه عن المطالب المشروعة للشعب السوري"، وأنّ "ما يريده السوريون لأنفسهم هو الكرامة الإنسانية والديموقراطية والعدالة الاجتماعية، وإنهاء كابوس ديكتاتورية الجمهورية الوراثية".
وحين سيأتلف هؤلاء، ومَنْ سيلتحق بهم من بنات وأبناء لبنان، سوف تكون أعداد الشهداء في مدينة دير الزور (الذي قرّر نظام بشار الأسد اقتحامها بأكثر من 250 دبابة، وعشرات المدرعات والجرافات، وناقلات جند ماهر الأسد وقطعان "الشبيحة"، بعد قصف وحصار وقطع ماء وكهرباء وتنفيذ حملات اعتقال واسعة)، قد تجاوزت الـ 28 الذين سقطوا حتى ظهر أمس، وبينهم طفلة رضيعة بنت شهرين. الشهيدان هشام الفحل ومهند الأشقر دُفنا في إحدى حدائق دير الزور، لأنّ الوصول إلى مقبرة المدينة كان مستحيلاً تحت وابل القصف؛ والأشرطة التي تسرّبت من دير الزور، ونُشرت على موقع "يوتيوب"، تصوّر مدينة تخنقها سحب الدخان ودويّ الإنفجارات والقذائف. حال حمص والحولة وحماة وإدلب ومعرّة النعمان لم يكن أفضل كثيراً، وثمة نسق عسكري ـ أمني أخذ يتكرّر في كلّ مدينة وبلدة وحيّ.
وحين سيتحلق الأصدقاء اللبنانيون عند تمثال 6 أيار، سوف تطوّقهم أغلب الظنّ، وكما فعلت قبلئذ، قطعان من "الشبيحة" اللبنانيين، الأعضاء في منظمات وأحزاب مناصرة للنظام؛ وكذلك قطعان أخرى من السوريين، جماعة الـ"منحبّك"، صار تعبيرهم عن حبّ رأس النظام عابراً للحدود، أو حيثما تواجد سفير "شبّيح" في هذه العاصمة أو تلك. هنا، أيضاً، ثمة نسق دعاوي ـ أمني صار كلاسيكياً، لأنه ينطوي على "برنامج" يبدأ من تخوين المتضامنين، ثمّ التحرّش بهم بقصد الإعتداء الجسدي، قبيل الطقس الوثني الشهير: الركوع أمام صورة بشار الأسد (وخاصة بعد فتوى الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي، التي قضت بجواز هذه الركعة طبقاً للشريعة!)، وترديد الهتاف الأشهر: "مطرح ما بتدوس/ نحنا بنركع/ نحنا نبوس"!
هؤلاء "شبيحة" في طباق تامّ مع الأداء المناط بوظائفهم، ولهذا فإنه لا طائل من وراء تصنيف سلوكهم في مسمّيات أخلاقية أو سياسية، فهم أدوات تنفيذية تتحرّك وفق إرادات أعلى هي الجديرة بالمساءلة والتفحّص والتمحيص، قبل التفضيح والإدانة والشجب. على سبيل المثال، ليس المرء مضطراً إلى تتبّع هذا التصريح أو ذاك، على لسان أيّ من القياديين اللبنانين المناصرين للنظام السوري، كي تتظهّر حيثيات التصريح في اهتياج "الشبّيح" على الأرض؛ بل يحدث أحياناً أن تكون اللغة، خلف العدسات وخلال المؤتمرات الصحفية، أشدّ "تشبيحاً" من الهراوة والعصا أثناء الإعتصامات، وأشدّ نفاقاً ورياء وذرّاً للرماد في العيون، غنيّ عن القول!
إلى هذا، ثمة أنساق متباينة في تسجيل التضامن مع النظام السوري (أي: مع آلته الأمنية والعسكرية التي قتلت أكثر من ألفَيْ شهيد، والعدّ متواصل)، وتسجيل التضامن مع "الحقوق" و"المطالب المشروعة" للشعب السوري (أي: مع ما سيلقيه النظام للشعب من فتات الإصلاح، ليس أكثر)، في آن معاً. سمع الشعب السوري هذه المعزوفة من أمثال نجيب ميقاتي، ميشيل عون، نبيه برّي، وأسعد حردان؛ كما توجّب أن تصله، وإنْ في تنويعات تتوسّل الحياد أو البراءة، من دار الفتوى (حيث لم يجد مفتي الجمهورية اللبنانية، محمد رشيد قباني، غضاضة في استقبال سفير النظام السوري، ومنحه منصة إعلامية ضدّ الإنتفاضة)، أو من مجلس المطارنة الموارنة (في بياناته التي تتعامى تماماً عن عذابات الشعب السوري).
كأنهم، بأساليب تتفاوت في القليل فقط وتتفق على الجوهري، يصدحون بالهتاف ذاته: منحبّك! ذلك لا يعني أنّ مقدار ألم السوريين واحد متماثل إزاء المنخرطين في الجوقة، إذْ ليس رياء ميقاتي حول "عدم التدخل في شؤون الدول الأخرى"، شبيهاً بوقاحة عون حين يجزم بأنّ الإنتفاضة السورية "أعمال شغب" يحقّ للجيش السوري "القضاء عليها". الأشدّ إيلاماً هو يقين السيد حسن نصر الله، الأمين العام لـ"حزب الله"، بأنّ إسقاط النظام السوري "خدمة جليلة" لإسرائيل؛ إذْ ليس مردّ الألم أنّ الشعب السوري فُطر على مناهضة إسرائيل، فحسب؛ بل أيضاً لأنه وقف إلى جانب المقاومة في جميع الملمات، باستقلال تامّ عن تجارة الممانعة التي ظلّت قاعدة النظام في علاقته بالمقاومة.
وهكذا، إلى جانب صورة الصديقات والأصدقاء اللبنانيين الذين سيشعلون شمعة تضامن مع الشعب السوري، تقفز صورتان موازيتان: الجنرال عون يغادر بيروت تحت جنح الظلام، بضمانة من فرنسا، فارّاً من عسكر حافظ الأسد؛ ونصر الله، يقدّم بندقية إسرائيلية غنمتها المقاومة اللبنانية، هدية إلى العميد رستم غزالي، ضابط الأمن السوري. هي بعض مفردات ذاكرة ليست للنسيان، كما قد يدرك نصر الله على نحو أشدّ حدّة من إدراك عون، قياساً إلى ما يصل "السيّد" من تقارير حول انحطاط شعبيته في ناظر غالبية من السوريين أحبّوه ذات حقبة، ويغمرهم حزن عميق إذْ يبصرونه اليوم يلهج بذكر قتلة الأطفال.
ولهذا فالأرجح أنّ الشعار المضادّ، "ما منحبّك!"، ليس حكراً على بشار الأسد وحده.

السبت، 6 أغسطس 2011

حوار مع صبحي حديدي ـ فصلية "نزوى" العُمانية


صبحي حديدي:

النقد رديف للإبداع، وليس إبداعا في ذاته 

لا أدخل نفسي فـي معركة فاشلة مع نص رديء
 

حاورته: هدى الجهوري


أتاحت زيارة الناقد والباحث والمترجم السوري صبحي حديدي لمكتب الشاعر سيف الرحبي فرصة لإجراء حوار يسبر أغوار تجربته، منذ خروجه من القامشلي إلى فرنسا، من علاقته بالشعر إلى تحوله للنقد، من صداقته بمحمود درويش، واعترافه بانتهاء أدونيس كشاعر، من الترجمة إلى الأسباب التي جعلت رواية من مثل عمارة يعقوبيان تحدث ضجيجا رغم كونها متواضعة، من رفضه للبوكر العربية إلى خوضه تجربة تحكيم جائزة العويس، من دفاعه عن قصيدة النثر، واعترافه أنها مسقوفة، وبحاجة إلى مخارج جديدة، من تبرئته للنقد من أن يكون سببا لتأخر عجلة الإبداع، إلى اعترافه أن النقد رديف للإبداع وليس إبداعا.
ولد صبحي حديدي في القامشلي، عام 1951. تخرّج من جامعة دمشق – قسم اللغة الإنجليزية وآدابها، وتابع دراساته في فرنسا وبريطانيا. نشر العديد من الأبحاث النقدية والترجمات في دوريات عربية وأجنبية مختلفة، وقدّم دراسات معمّقة في التعريف بالنظرية الأدبية والمدارس النقدية المعاصرة. نقل إلى اللغة العربية العديد من الأعمال في الفلسفة والرواية والشعر والنظرية النقدية. يقيم في باريس، ويكتب بصفة دورية في صحيفة «القدس العربي».

vv لنبدأ من منطقة القامشلي في سورية..المدينة التي ولدت وتربيت فيها.. بالتأكيد هنالك حكايات ومصادفات ساهمت في تكوين وعيك. ماذا يخطر في ذهنك بمجرد أن أذكر لك القامشلي؟
- لا يغادر ذهني البتة ذلك النسيج التعددي المذهل الذي تتميز به مدينة القامشلي. نسيج لغوي وثقافي متنوع، لكونها تضم كرداً وآشورين وسريان وأرمن بالإضافة إلى العرب طبعا. يفد إليها الذين يعملون في الحصاد في فترة الصيف، وبالتالي يحدث فيها شكل من أشكال الاختلاط.
 صفة التعددية الثقافية هي الميزة التي كانت تميز القامشلي، وقد أتاحت لي هذه الميزة في فترة مبكرة من عمري فرصة لأن أربي نفسي على التعددية الثقافية، فأنا مثلا أتكلم الكردية بالرغم من أني لست كرديا، وأجيد قليلا اللغة السريانية والأرمنية، وأفهم بعضا من اللغة الآشورية، وكل هذا جراء الاحتكاك بالآخر.
 في القامشلي جمعتني صداقة كبيرة بالشاعر سليم بركات حيث كنّا أبناء مدرسة واحدة، وجيل واحد، وبدأنا الكتابة معا. ولا أكتمك سرا بدأت بكتابة الشعر قبل كتابة النقد. ثم توقفت لأني اكتشفت أنه ليس ميداني، وأن عقلي يميل إلى الجانب التحليلي أكثر.
 القامشلي بالنسبة لي هي هذه الحالة من التعددية الخصبة، وقد تعلمت منها جماليا وذوقيا وبصريا، ولكن للأسف اندثر الآن هذا كله.

vv إدوارد سعيد قال: «المنفى حقل كريم»، وأنت تردد دائما هذه العبارة التي تخصه، فهل تخلصت من ضغط الهوية والانتماء، أم أن هذا الكلام وسيلة للتحايل على المنافي التي نحن أصلا لا نختارها؟
- لكي أصدقك القول أنا لم أبلغ المرحلة التي وصل إليها إدوارد سعيد، حين اعتبر المنفى حقلا كريما.
 أجريت حوارا مطولا مع إدوارد سعيد عام 1995، وبعد انتهائي من الاشتغال على المادة طلب مني أن يكون هذا العنوان هو عنوان الحوار «المنفى حقل كريم». بلغ سعيد هذه المرحلة في تصاعد إحساسه بالغربة والتشرذم.
 أنا لا أتحايل على المنفى، ولكني أحاول استثمار الحس بالتعددية للتفاعل مع الآخر، والتثاقف معه على مستوى الهوية، وليس على مستوى الذائقة والعقل والوعي.
 بالفعل المنفى لم يكن اختياريا، لعلي أجبرت عليه لأسباب سياسية محضة، ولكن عذاباتي لم تكن تخص المنفى، وإنما تخص ما ألم بي جراء الابتعاد عن الوطن، لأني كنت ومازلت مسيسا، واعتبر أن الابتعاد عن الوطن جعلني أخسر الحس بالمشاركة، ربما بهذا المعنى لم يكن المنفى حقلا كريما، رغم أني اعترف أن المنفى في ذاته لم يكن بخيلا عليّ.
لكن اعتقد أن المرحلة التي بلغها إدوارد سعيد عندما قال هذه العبارة، ليست مرحلة يمكن أن يبلغها أي أحد كائنا من كان.
 بالمقابل أنا مضطر لأن أتعايش مع هذه الحالة، وما يساعدني على ذلك أن خياراتي مع الوقت بدأت تتضح أكثر من قبل. تمكنتُ من ترويض نفسي لتحويل العذابات وتوظيفها إيجابيا، من دون أن اضطر إلى مسخ نفسي لكي أتشبه بالآخرين.
 أنا الآن أسير في باريس كالغريب، وهذا ليس إحساسا ضارا بي. فأنا مدين لباريس سواء على مستوى اللجوء الإنساني، وعلى مستوى اللجوء الفكري بالإضافة إلى التربية والتعلم والذائقة، ولكن فعلا أشعر بضرورة التأقلم بالمعنى الإيجابي، بدلا من لعق الجراح في المنفى.

vv كيف استطاع المنفى تدريبك على فهمٍ أعلى للعائلة والبلاد؟
- أظننني تعلمتُ التعامل مع أسرتي بطريقة أفضل، بمعنى أني أصبحت أقل حدة وأقل شرقية، وأنا لم أكن كذلك تماما. كنتُ ديموقراطيا مع الأهل والأصدقاء، ولكن ليس بالدرجة الكافية.
 اعترف أني ربيت ذاتي على طرائق أرقى في التعامل مع الآخرين، وهذا ليس بالمعنى السلوكي فقط، وإنما بالمعنى الثقافي أيضا والإنساني.
 علاقتي بالآخر أيا كان، تأثرت كثيرا بإقامتي في الغرب نتيجة احتكاكي بسلوكيات جديدة. ولكني أيضا بذلتُ جهدا في الغرب لمقاومة سلوكيات شائهة، فالغرب يُقدم هو الآخر صفقة سلوكيات متكاملة، والمشكلة تبقى في أن نختار حزمة السلوكيات الملائمة لنا.
 أظن أني لو بقيت في القامشلي لما كنت استطعت التعامل مع ابنتي بالطريقة التي أتعامل بها الآن، وأنا موجود باريس.
وبالنسبة للبلاد فلم تعد سورية أو الوطن العربي بالنسبة لي كما كان. أنا انتمي لقضايا سورية وقضايا الوطن العربي تهمني أيضا، وأعيش عليها بشكل يومي، ولكن نظرتي توسعت وصرت أرى في سورية حالة تعددية أو مشروع حالة تعددية أكبر مما هي عليه الآن، كأنها صيغة أمل مرتجى.
 في الماضي كنت أتعصب لمسألة الانحياز للبلاد، وكفى بذلك فضيلة. الآن أرى المسألة في إطار أعرض من ذلك بكثير، وأكثر تسامحا.

vv ألا تجهض حق النقد والترجمة عندما تقول أنهما فعل معرفي وليس فعلا إبداعيا، بالرغم من توفر نظريات أخرى تقول بأن النقد هو نص مواز للنص المكتوب؟
- أظن أن النقد الأدبي يقوم بوظيفة أساسية، ولكن قد يتولد من قيام النقد بوظيفته وظيفة أخرى أكثر حيوية، وإن نجح في أن يقوم النقد بالوظيفتين فذلك منتهى الإنجاز بالنسبة له. الوظيفة الأولى هي أن يقترح النقد على القارئ قراءة أخرى تضاف إلى عشرات ومئات القراءات التي قد تبلغ عدد نسخ الكتاب الصادر على سبيل المثال، وينبغي أن تتصف هذه القراءة بأن تكون مسلحة بمنهجية عالية، وتقترح على القارئ قراءة قد تقنع القارئ بأنها أفضل من قراءته الشخصية، وبالتالي ينصف النقد العمل الفني أكثر مما أتيح للقارئ أن ينصف العمل.
خلال هذه السيرورة قد تتيح هذه القراءة النقدية المدربة والمسلحة إمكانية العثور على نظرية نقدية بالمصادفة أو بالقصد مستمدة من العمل نفسه، ومن ثم تتحول إلى أداة تخدم الأعمال الأخرى أي تصبح نظرية صالحة للاستخدام مع أعمال أخرى.
عندما علًق تي إس إليوت على شخصية هاملت في مسرحية شكسبير تحدث عن البديل الموضوعي، ومن ثم تبين له وللآخرين أنّ نظرية المعادل الموضوعي تصلح كنظرية نقدية للكثير من الأعمال التي تتقاطع خطوطها العريضة مع المحتوى الذي قيلت فيه النظرية.
وبالعودة إلى سؤالك حول النقد كونه عملية ابداعية، فأنا لا أظن ذلك. فالنقد يصبح إبداعا بالنسبة لي عندما يكتب الناقد بلغة مجازية، وعندما يمزج عامدا بين الجانبين الإبداعي والتحليلي كما يفعل الناقد عبد الكبير الخطيبي على سبيل المثال، وكما كان يفعل رولان بارت في بعض الأحيان وليس دائما. بالمقابل لدى رولان بارت دراسات أخرى جافة ودقيقة.
الدراسات التي تمزج التحليل بالأسلوب الأدبي لا اسميها إبداعا، وإنما نزوع نحو الإبداع أو تحرش بالإبداع، وأؤكد دائما الناقد يأتي خلف الإبداع، والنقد رديف للإبداع في أفضل الأحوال، ولكن لا يمكن أن يكون إبداعا في ذاته، كما أن الترجمة ليست إبداعا إلا بمعنى نقل الإبداع من لغة إلى أخرى، فهي كالجسر الموصل بين لغتين.

vv ألا تظن أن المترجم الجيد عندما يقدم نصا مدهشا ومغريا بالقراءة هو مبدع مقارنة بمترجم يُسيء إلى النص الأصلي؟
- لا أسمي هذا إبداعا، وإنما أسلوبيات. كأن نقول أسلوب فلان في ترجمة سونيتات شكسبير أفضل من مترجم آخر. الآن لدينا أيضا على سبيل المثال ترجمات كثيرة لقصيدة «أرض اليباب»، نختلف في تقييم إحداها عن الأخرى، ولكن هذا لا يدعونا لأن نقول ترجمة فلان أكثر إبداعا. لأن الإبداع يكون في ذاته.

vv النقاد الجيدون هم: إمّا كتاب شعر فاشلون أو كتاب نثر فاشلون، وبما أنك ناقد جيد فهل يعني ذلك أنك كاتب فاشل؟
- (يضحك). لا أدري إن كنتُ ناقدا جيدا حقا، ولكن أتمنى أن أكون دارس أدب جيداً.
عندما أشيعت هذه المقولة في وقتها كانت كلمة الفشل في سياق آخر، غير الذي نفهمه اليوم. برأيي الشخصي لا يمكن لأي مشتغل في حقل الإبداع سواء أكان في المسرح أو في السينما أو الرواية أو فن التشكيل أو في التصوير الفوتوغرافي أو غيرها أن يمر بالإبداع من دون أن يمر بالشعر سواء نشر ذلك الشعر أم لم ينشره، لأن الشعر هو محطة إنسانية لا مفر منها، وربما من حسن حظ الناقد أن يكون قد بدأ بكتابة الشعر، لأن ذائقته بذلك تكون قد تدربت قليلا على تحسس مشاق ولادة النصوص، وتعرف على كنوز خصائص الجمال المكتنزة في النصوص.
على نحو ما أنا أفضل أن يكون ناقد الشعر قد بدأ شاعرا- مع أن هذا ليس مقياسا- بالمقابل أفضل الناقد المختص بالرواية أن يكون قد بدأ ساردا.
المقولة طريفة، وهي شكل من أشكال تسطيح الناقد، وأرى ضرورة أن يٌعاد الناقد إلى وضعه الطبيعي. فالناس تلوم الناقد عندما لا يُقرأ الشعر، يلام الناقد عندما لا يُلتفت إلى الروايات، أو عندما لا يُفهم الأدب جيدا. بينما الناقد ليس هو الشماعة التي تعلق عليه جميع الأخطاء. وهنا أكرر النقد يأتي خلف الإبداع، وإذا تباطأ النقد فالمشكلة في الإبداع وليس في النقد.

vv دعنا نقترب منك أكثر، لنعرف ماذا كتبت قبل الاتجاه ناحية النقد؟
- حسنا.. نشرتُ الشعر في مرحلة ما قبل الثانوية، كانت مرحلة مبكرة جدا، أذكر أن ذلك كان في عام 1968، وتابعتُ النشر إلى عام 1973 ثم توقفت. كنت أكتب شعر التفعيلة. المشكلة التي دفعتني لأن أتوقف عن كتابة الشعر هو ميلي إلى تحليل قصائدي وأنا أكتبها، وهذا في ظني يقتل عفوية الشعر. أدركتُ فعلا أن مزاجي في التعبير مزاج تحليلي.
 بدأتُ حياتي النقدية منحازا إلى الرواية ومن ثم اتجهت إلى الشعر، وعلى الأرجح أني لم أكن موهوبا في كتابة الشعر، وإلا لكنت أكتب الشعر إلى اليوم.

vv لماذا تستنكر على الناقد والمثقف عدم ممارسة للترجمة، ماذا تضيف الترجمة لكليهما؟
- بالفعل أنا أستنكر على الناقد أو الباحث الذي يملك اللغة الأجنبية أن لا يمارس مسؤولية الترجمة، وهي حقل في منتهى الخطورة. صدر لي ثمانية كتب مترجمة، بينما أتردد في إصدار كتاب نقدي واحد، مع أني كتبتُ الكثير في النقد، وذلك لسبب بسيط هو أني أشعر بالمسؤولية تجاه الترجمة، بينما النقد يمكن ممارسته عبر الدراسات المتفرقة.
ما يحصل أني عندما اقرأ رواية أو دراسة، وأشعر أنها أفادتني كثيرا، أتمنى أن تفيد الآخرين أيضا من أبناء لغتي، وإذا توانيت عن الترجمة، أشعر أني ارتكبت مخالفة كبيرة، لكي لا أقول إنها جريمة.

vv كيف ترى المشهد النقدي اليوم بعد إحسان عباس وشوقي ضيف، و«لماذا لم يعد النقد اليوم بحاجة إلى جهد جماعي» كما قلت؟
- النقاد النجوم الذين ذكرتهم في سؤالك، لعبوا دورا معرفيا حيويا وثمينا جدا، وكان المرء يركن إلى أعمالهم ويثق بها مسبقا. لكن الحياة اليوم تعقدت، والكتابة تعقدت، وبالتالي النظرية الأدبية تعقدت. لم يعد من اليسير في ظني ولادة ناقد نجم نستطيع الارتكان إلى ذائقته وأدواته النقدية.
ليس بسبب أن الأرحام عجزت عن ولادة ناقد، بل لأننا صرنا بحاجة إلى جهد جماعي يوالف بين الكثير من النظريات والمناهج، ويحاول أن يجد بينها صيغة تعددية، وبالتالي فإن أفضل إنجازات النقد العربي لن تتحقق إلا بصورة جماعية، وليس بصورة أفراد، وهذا لا يُلغي طبعا وجود عدد من الأفراد من النقاد اللامعين. ولكن ما أعنيه: أنّ ما أنجزه النقاد في الخمسينيات والستينيات أصبح متعذرا الآن لأسباب تخص الحياة أكثر مما تخص النقاد.

vv قلت يوجد نقاد أفراد كثر..فمن يمكنك أن تسمي منهم؟
-         اطلبي مني الحقل الذي تريدين، وسوف أجيبك.
-          
vv سأسمي لك أربعة أسماء، وسأطلب رأيك فيها؟ فيصل درّاج، محمد لطفي اليوسفي، عبد الفتاح كليطو، جابر عصفور.
- فيصل درّاج: ناقد في الرواية متمكن، دؤوب ومخلص في منهجيته في تحليل الرواية، وهو رجل جدير بالإعجاب، وجدير بالاختلاف أيضا. محمد لطفي اليوسفي: أحد أمكر قراء القصيدة العربية المعاصرة (والمكر هنا صيغة مدح)، وهو يتسم بمنهجية متعددة تمزج بين معطيات النقد الفرنسي، وبين ومعطيات النقد العربي. عبد الفتاح كليطو: ناقد مبدع على غرار الناقد المبدع عبد الكبير الخطيبي، كليطو لا يكتب نقدا بقدر ما يتأمل ويراقص التعبير، ويراوغ النص الذي يدرسه لغويا، وأظنه كاتب مقالات إبداعية أكثر منه ناقد، (وهذا ليس قدحا) ولكنه من النقاد الذين لديهم إبداع في كتابتهم النقدية.
جابر عصفور: أكاديمي مستنير ودؤوب، ولعله من أفضل النقاد المصريين الذين انفتحوا على آداب المشرق وآداب الخليج العربي وبالتالي ثقافته موسوعية، وهو صاحب موقف نقدي وأركز مرة أخرى أنه أحد كبار المستنيرين في العالم العربي المعاصر.

vv أنت ترى أنّ الكتابة عن كتاب جديد في صحيفة، أكثر حيوية للقارئ من تأليف مجلد ضخم، ونعلم أنه لديك الكثير من المقالات المتفرقة التي لم يضمها كتاب إلى الآن.. ألا يدفعك هذا لأن تصبح كاتبا لحظيا في صحف يومية وسيارة؟
- ليس لدينا للأسف ثقافة المراجعة النقدية الصحفية التي تتيح للقارئ مواكبة الإبداع، هذا تقليد موجود عند الغرب وهو تقليد جميل، فقبل أن يصدر الكاتب روايته أو عمله الشعري، يوزع الناشر العمل على الصحف من أجل المراجعة النقدية في الصحف الكبرى، وهم الذين يثق القارئ باختياراتهم، هذه الخطوة تحدث قبل صدور الكتاب إلى المكتبات وبالتالي هنالك عدد من القراء يثقون بمراجعي كتب محددين وبالتالي يشتري القارئ الكتاب ثقة بالمراجع، وهذا أمر له سلبيات إلا أن إيجابياته بالمحصلة أكثر بكثير من السلبيات.
للأسف صحفنا تفتقر لهذا النوع من المراجعات، وإن كانت هنالك مراجعات فإنها تأتي بعد صدور الكتاب، وهي مراجعات سريعة لأننا نفتقر أيضا لثقافة مراجعة الكتاب.
طبعا النشر في الصحف ليس أهم من إصدار كتاب يحتوي على عدة دراسات نقدية، ولا يمكن أن نقارن بينهما فلكل منهما مجال حيوي ولا يمكن المقارنة بينهما، وحقيقة لو سئلت سأقول المراجعة النقدية أكثر حيوية لأن الدراسة النقدية هي ميدان القارئ المدرب، لكن المراجعة الصحفية هي ميدان القارئ العريض الذي يهمني أنا شخصيا في علم اجتماع الأدب.
الأمر بكل بساطة يتعلق بنزعتي المزعجة لي، وربما لآخرين الذين يثقون بكتاباتي نزعة البحث عن الكمال قدر الإمكان لأني لا أرضى بسهولة عن دراسة ما. تجميع النصوص المنشورة لديّ تعليق عليها أرجو أن لا يخدش حياء القارئ، إذ تبدو بمثابة تقديم طعام بائت، أو تسخني له طعاما من البراد وإطعامه إياه. وأرى أنه من الأفضل أن نطبخ له وجبة جديدة، وهذا لا يعني أن الطعام البائت ليس له طعم. من جانب آخر أؤمن أن تأليف الكتب ينبغي أن يبدأ منذ فكرة الكتاب من الفقرة الأولى في الصفحة الأولى إلى الفصل الأول حتى نهايته. بمعنى التخطيط للكتاب. تجميع الدراسات أمر سيأتي ذات يوم، ولكن ليس قبل أن أنشر الكتب التي هي حبيسة جهاز الحاسوب الخاص بي، وأنا أمر عليها وأعدلها وأشتغل عليها، وأشعر كما قلت سابقا أنني لست تحت ضغط نشرها قبل أن أرضى عنها. مزاجي متطلب، كل ما مر يوم أقول أستطيع أن أقدم ما هو أفضل وأردد على نفسي العبارة الشهيرة «عرفت شيئا، وغابت عنك أشياء».

vv يتطلب منك النقد أن تقف على الحياد، بالمقابل لديك أصدقاء من منطقة الشعر والسرد قد تقرأ لهم، وتفكر بالكتابة عنهم..هل أودى بك النقد إلى خسارة أصدقاء؟
- سأكون صريحا معك وأقول التالي، معظم من كتبتُ عنهم لا أعرفهم شخصيا، أو بالأحرى لم أكن أعرفهم عندما قررتُ الكتابة عنهم ما عدا قلة قليلة جدا. وبالتالي لا أبدأ من موقع التقليل من شأن الأصدقاء، فلديّ الكثير الأصدقاء الذين أحبهم جدا، ولكن لم أكتب عنهم لأن نصوصهم ليست صديقتي كما هم أصدقائي، وهم يعرفون ذلك وأظنهم يتفهمون الأمر بصمت فيما بيننا لأنهم يعرفون لماذا لا أكتب عنهم. الجانب الآخر في المسألة أني اتخذت قراري منذ زمن طويل، وهو كالتالي: أن لا أكتب عن النصوص الرديئة. أتمنى أن أحصل على وقت كافٍ وإمكانيات كافية لكي أكتب عن النصوص الجيدة والممتازة وبالتالي لست معنيا بالكتابة عمّا هو رديء.
لذا عندما أكتب عن الأعمال التي تعجبني فأنا أخلق صداقات أكثر مما قد أخلق عداوات، لأني أكتب في تثمينها. أحيانا تخلق لي عداوات غير مباشرة، نصف أعدائي إذا صح وجود أعداء لي من الوسط الذي لم اكتب عنه طبعا باستثناء أصدقائي الذين يتفهمون ذلك بصمت، والنصف الآخر، لأني كتبت عن فلان ولم أكتب عن فلان آخر، مما يخلق لاحقا حساسية. ولكن ليس لي خصومات مباشرة، لأني لا أدخل نفسي في معركة فاشلة مع نص رديء.

vv أنت تردد: فليخجل الكاتب من نفسه إذا لم يكتب في السياسة؟
- الناقد الأدبي أو الناقد السينمائي أو الفني الذي لا يتصدى لكتابة السياسة هو مستقيل من كتابة حيوية وحاسمة ومسؤولة، ليس لأن السياسة داخلة في كل تفاصيل حياتنا، ولكن لأن السياسة تخص النطاق الأعرض من اهتمامات البشر، والتصدي لها مسؤولية تخص الوعي، من جانب آخر تخص الجانب اللغوي لكتابة نص سياسي جذاب، وأيضا قادرا على حمل معلومة سياسية وتحليلها.

vv عندنا لا يبرز الشعراء، ولا تتطور علاقة القراء بالروايات، أو عندما يبتعد القراء عن فعل القراءة يُعلق كل هذا على شماعة النقد؟
- أرى أنه من الضروري عدم تحويل أي ميدان معرفي حول الإبداع سواء أكان النقد أو النشر أو الدراسات الأكاديمية أو الترجمة، أو أي نشاط معرفي آخر إلى مشجب تُعلق عليه مسألة وصول أو استجابة العمل الإبداعي للقارئ. هنالك أعمال كثيرة غاب عنها النقد والنقاد والفعل الأكاديمي، ومع ذلك وصلت إلى القارئ الراجح، ولا يعني ذلك أن وصول المادة إلى القارئ وصول الاشتغال إلى درجة عالية من الكمال، فهذه علاقة شديدة الالتباس وتخص علم الاجتماع بالفعل، وتخص أيضا طبائع القراءة وحساسيات القراءة، تطورات الذائقة في مرحلة ما، ولكن لا شك أن أي نشاط معرفي حول الإبداع يلعب دورا بارزا وحيويا وحساسا في توطيد ظاهرة إبداعية ما أو في التجني عليها أو التقليل من حضوره. وسأضرب على ذلك مثالا بسيطا، رواية علاء الأسواني نجحت نجاحا باهرا ليس في الوطن العربي وحده ولكن لدى الغرب أيضا. نجحت في ذائقة القراءة الأمريكية، وفي ذائقة القراءة الفرنسية، وذائقة القراءة الروسية، وغيرها من الذائقات. إذن هنالك ظاهرة ما تخص هذه الرواية، ولو طلبت رأيي فيها كناقد وكدارس للأدب سأقول هذه رواية لا تعدو أن تكون رواية متواضعة، وهي بالتأكيد ليست أعظم من روايات محمد البساطي في مصر، أو بهاء طاهر، ولكن هنالك سطوة للذائقة تدخلت.

vv ماذا تعني بالسطوة القرائية، وكيف اتفقت أكثر من ذائقة على نجاح عمل تفترض أنه متواضع؟
- ما حدث هو أن كل شريحة قرائية وجدت في عمارة يعقوبيان ما يرضي تعطشها للفن، وبالتالي نجحت الرواية بمعزل عن النقد. لم يقم أي نشاط معرفي برفع علاء الأسواني، وهنالك على العكس تماما روايات قد تكون مغمورة، ويأتي النقد ويسلط عليها الأضواء ومعظم الأعمال الكبرى الأدبية في تاريخ الإنسانية كان النقد غائبا عنها، وغالبا ما كانت القراءة تصطدم بها أولا، ثم تثبت الأيام أنها من الأعمال الكبيرة، من مثل رواية «يوليس» لـ جيمس جويس إنها الرواية الأهم في القرن العشرين.
نخب قليلة جدا من القراء ثم من كبار الشعراء والروائيين انتبهوا لها في ثلاثينيات القرن الماضي من باب الانبهار بتجربته اللغوية الفريدة، فيما بعد تبين أنها العمل الذي يبيع ثالثا بعد شكسبير، وكتاب التوراة، رغم كونها رواية شاقة وصعبة جدا، ورغم أن النقد كان بعيدا عنها. مع وجود الفارق الكبير بين رواية يوليس ورواية عمارة يعقوبيان، لكن هنالك اعتبارت معقدة فرضت حضور الروايتين لا تخص دور النقد.
في الغرب كانوا سعيدين بأمرين فيما يتعلق برواية عمارة يعقوبيان، أولا كونها تقدم صيغة تلصص على المثلية الجنسية في مصر ولأول مرّة رواية تكتب عنها بهذا الوضوح، وفي الغرب هذا حق لا يمكن أن يتم فيه نقاش. ثانيا لظن الغرب من خلال تجربته الاستعمارية لمصر أن له يد بيضاء على هذا الشعب. في مصر نجاح الرواية له علاقة بكشف الفساد من خلال مجتمع يسكن في بناية واحدة، وتقديم اختزال لروح مصر.كان امتياز الرواية أنها تستجيب لمستويات متنوعة من القراءة من ثقافات مختلفة، باختصار العمل حمل نفسه بنفسه دون أن يلعب النقد دوره. أنا أؤكد على أنّ المطلوب من النقد هو أن يكون رديفا للعمل الفني، وأن يمارس دوره في إضاءة العمل والجوانب التي تخفى على القارئ العادي أو حتى المدرب، ولكن إذا تعثر الأدب في وصوله إلى القارئ هذا لا يعني أن النقد هو المسؤول.

vv أعجبتني ملاحظتك أنك لا تكتب عمّا هو رديء؟ بينما هنالك نقاد يقصدون الكتابة عن الأعمال الرديئة أو الساذجة، وإذ بهم يُلمعون العمل ويدفعون القارئ إليها كما حدث على سبيل المثال مع رواية «بنات الرياض»، هذه الرواية البسيطة التي كان يمكن أن تنتهي بسهولة لولا النقد؟
- هنالك ما هو أكثر من ذلك، فثمة مراجعو كتب، ونقاد (إن صح لنا التعبير)، لا يعيشون إلا على الكتب الرديئة، إما لاستسهال الكتابة عنها لأنها رديئة، (حتى مديحها لا يحتاج إلى مشقة) أو يكتب عنها على طريقة ما يسمى بالديوانيات، أي الصداقات والعلاقات، وتقديم الخدمات، خاصة فيما يخص كتابات المرأة، كأن كل ما تكتبه المرأة جدير بالامتداح، وهذا موجود لدينا أكثر من أي مكان آخر. هذا أمر يخص الوعي، ومداومة القارئ على المراجعات الصحفية، إذا كان القارئ لا يكترث بالمراجع الصحفي فهو لا يكترث إن كان قد مدح أو ذم. في مواقع أخرى يكتشفون أن هذا ليس إلا نوعا من الضحك على القارئ.
 فيما يخص المثال الذي ذكرته «بنات الرياض»، فالحقيقة هنالك مؤسسات متكاملة تهتم بترويج الأدب الضحل والسهل، السلطات السياسية ليست غائبة عنها، والأنظمة تشجع بعضها على مديح ما هو ضحل، وللأسف ليست هنالك مساءلات عميقة من قبل القراء. فمن كتب عن عمل رديء لم يخضع لمساءلة القارئ.

vv هنالك الكثير من التركيز على كتابة المرأة خصوصا عندما تتناول التابوه الثلاثي الدين والجنس والسياسة، يتم التعامل مع كتابة المرأة بطريقة تختلف عن تناول كتابة الرجل؟
- أظن، وأتمنى أن تكون هذه الظاهرة قد انحسرت، لأنه في النهاية لا يصح إلا الصحيح، ولا يمكن الكذب طوال الوقت، حتى إن أدب المرأة السعودية بانت حدوده القصوى، وصار واضحا من هي التي تكتب رواية معقولة ومن هي التي تكتب، وعينها على الترجمة والفضيحة واستجلاب الناشر والمترجم والناقد، أعرف الكثيرات (ليس فقط المرأة السعودية)، هناك كتاب كبار أيضا يكتبون وأعينهم على الناشر والمترجم والناقد.
vv هل هنالك كاتبات أو حتى كتاب يعرضون عليك أن تترجم لهم؟
- طبعا يحدث، وبالعكس إذا كتب كاتب باللغة العربية وشعر أنه جدير بالنقل إلى اللغات الأوروبية فهذا طموح مشروع، ولكن أن يعرض عليّ شيء وأن أوافق شيء آخر طبعا. أنا لا أترجم من العربية إلى اللغات الأخرى، إلا في حدود قليلة جدا، لأني أكرس وقتي لفعل العكس أي الترجمة من اللغة الأجنبية إلى العربية، ولكن من تلقاء ذاتي عندما يعجبني عمل كتب بالعربية أخبر بعض الأصدقاء عنه ليقوموا بالترجمة.

vv بما أننا نتحدث عن حقل الترجمة الآن، فما هي آلية اختيار الكتاب الذي تترجمه من اللغة الاجنبية إلى اللغة العربية، وما هي الاشتراطات التي تتبعها قبل الترجمة؟
- ترجمتُ أعمالا في الفكر السياسي، أعمالا في الفلسفة أعمالا في النقد، وروايات وشعر، وكتبا في النظريات الأدبية. اشتغالي متنوع. المعيار الأول هو أن يشدني الكتاب لخصائص متنوعة لأسباب فكرية. الاعتبار الثاني أقيم موازنة، وأحاول قدر الإمكان أن أكون منصفا بين إعجابي بالكتاب، وبين احتمالات إعجاب القارئ العربي به، فإذا حصل نوع من التوازن بين الطرفين، فإني في الاعتبار الثالث أسأل نفسي: ماذا يفيد القارئ العربي هذا الكتاب إذا ترجمته؟ وإذا توصلت إلى إجابة هذا السؤال بإيجابية فلا أتردد أبدا في الترجمة. لكن لم يحدث أبدا أني ترجمتُ عملا لمجرد أني أعجبت به، خشية من الاصطدام بذائقة القارئ العربي.

vv بدأت بكتابة نقد الرواية، لكن أعادك محمود درويش لكتابة نقد الشعر؟
- أنا في البدء جئتُ إلى النقد الأدبي من باب النظرية السياسية، تحديدا من الزاوية الماركسية، وهي التي قادتني إلى علم الجمال الماركسي، وألمع علماء الجمال الماركسيين آنذاك كان جورج لوكاتش في كتابه الشهير «الرواية التاريخية»، و«تاريخ الوعي الطبقي»، ثم صار لديّ نزوع واعترف الآن أنه نزوع خاطئ إلى أن الرواية هي فن التاريخ، وهي القادرة على إحداث تغير اجتماعي، في حين أن الشعر لا يستطيع ذلك لأنه مسألة ذاتية وشخصية، وليس صانعا للتاريخ.
موقفي من الشعر كان أقل تثمينا من موقفي للرواية. الذي أعادني فعلا لثيمة الشعر هو محمود درويش، فكل الفنون التي تتسم بسمات نوعية عالية يجب أن تنتهي إلى الشعر أبو الفنون. قصيدة درويش لم تقنعني أن الشعر هو حامل الجموع والجماهير، وبالتالي أكثر من قد يحمل التاريخ هي الرواية، وإنما أقنعتني أن هذه المهام ليست من مهام الفن. إذ ان قصيدة درويش ساهمت في إحداث تحول كبير في تفكيري. كان درويش في هذه المرحلة ينتقل من كونه شاعر مقاومة والتزام تجاه قضية إلى بدايات تحسس الصيغة الأدبية، حركت قصيدة درويش بداخلي حس مراجعة الذات، بطريقة مختلفة عمّا كان يكتبه الكبار من مثل الماغوط، أدونيس أو سواهما من نجوم تلك الفترة. درويش بهذا المعنى لم يعدني فقط إلى الشعر وإنما طوّر نظرتي إلى وظيفة الفن، وعلاقة الفن بالحياة. أنا الآن أعرف أن وظيفة الفن أكثر سموا ونبلا وأهمية من الخطاب المباشر أيا كان هذا الخطاب. واعتبر نفسي الآن متخصصا في الشعر أكثر من الرواية ربما بالرغم من أني أقرأ رواية أكثر من الشعر.

Vv خرجت في تلك الفترة من وضع سياسي، ودرويش في مرحلته المبكرة كان يكتب شعرا ذا طابع سياسي، ألا ترى أن السياسة جمعتكما أكثر من الشعر؟
- إذا كنت سأتبع المنطق الذي تتحدثين عنه الآن فسيكون الأولى بي أن أبقى في منطقة الرواية، لأن الرواية هي التي تعبر عن المجتمع والطبقات الاجتماعية، ولكن السياسة ليست فقط الموقف من القضية في فلسطين، وليست التاريخ والصراعات. كنت أظن أن الشعر لا يستطيع حمل كل هذه الأفكار وهذا صحيح. الذي أعادني لدرويش هو تحول درويش. اصطدمنا حول هذه الفكرة وقلت له: «أنت ستصبح شاعرا كونيا كبيرا إذا تناسيت وكففت عن اعتبار نفسك شاعر مقاومة.. أنت أكبر بكثير من ذلك». السياسة ليست بالضرورة هي الرافعة التي ترفع الفن، وإنما الفن هو الذي يرفع السياسة. كمن ينظر إلى لوحة واقعية تصور الصراع بطريقة جميلة، ومن ثم ينتقل إلى لوحة جرنيكا لـ بيكاسو هي بالضبط لوحة سياسية بامتياز رغم أنّ بها تجريد وتكعيب.

vv كيف تطورت صداقتك لاحقا بدرويش؟
- بمعزل عن العلاقة الشعرية، كانت بيننا صداقة شخصية، وأنا سعيد لأني عشت في زمنه، كانت علاقة من جانبي بالغة الإثراء، أضافت لي الكثير، كنتُ أراقب ولادة قصيدة درويش من المسودة حتى تذهب إلى المطبعة، وهذه بالنسبة إلى الناقد نعمة لا يحظى بها أي دارس أدب.

Vv هل كان رأيك يهمه؟
- كان يشاركني الرأي، وكان يطلعني منذ مجموعته «لماذا تركت الحصان وحيدا»، لم يصدر أي مخطوط شعري من دون أن اقرأه، نتشاور بعمق ليس من باب إطلاع صديق لصديقه، وإنما من باب التشاور والتناقش، وعندما كان يقتنع بملاحظاتي كان يُغير في نصه، وبصراحة لم أكن أتوانى عن القول أن هذه الجملة غير مناسبة، وهذا العنوان يمكن العثور على ما هو أجمل منه، وكان هذا ناجما عن علاقتنا كأصدقاء وليس من مسؤوليتي كناقد، وهذا أمر أزاوله مع أصدقائي الشعراء الآخرين، فعدد من أصدقائي الكُتاب والكاتبات يشرفونني بقراءة العمل وهو لا يزال مخطوطا، وأقول بصراحة رأيي، ويطلب البعض أن أكتب مقدمة لأعمالهم.

vv هل ترى أن هذه الخطوة مهمة لكاتب السرد أو الشعر، أعني إشراك الأصدقاء من النقاد في قراءة العمل قبل طباعته؟
- لا أظن أن أحدا يُصدر عملا قبل أن يشاور أحدا. المسألة تخص طبيعة العلاقة بين الكاتب والناقد أو الصديق الذي يُطلعه على العمل قبل النشر، إذا كانت العلاقة بها ثقة، وبالتالي المسألة بالغة الأهمية إذا كانت العلاقة تتيح ذلك. عندما كتب تي إس إليوت قصيدته الشهيرة أرض اليباب، وقدمها إلى صديقه وهو ليس ناقدا وإنما الشاعر عزرا باوند (وهو برأيي الشخصي شاعر أهم من إليوت) وحذف منها مقاطع كثيرة، بعضها مقاطع كاملة، وبعضها سطورا، فقال له: إذا أردت أن تكتب قصيدة القرن العشرين، يجب أن تأخذ بهذه الحذوفات، وأنت حر، فأخذ إليوت بكامل الحذوفات، الآن هنالك عشرات الأطروحات الأكاديمية التي تدرس الفارق بين النص الأصلي وبين المخطوط، وأنا بكل تواضع اختلف مع عزرا باوند وكنت أفضل أن يظهر النص كما كتبه إليوت، ولكن المصفاة النهائية هي الكاتب، والمسألة تخص العلاقة بين الاثنين إذا كان الشاعر نجما أظن من التواضع الكبير أن يتشاور مع الصديق سواء أكان ناقدا أو كاتبا أو حتى نجارا، فهذا شكل من أشكال التفاعل المثمر، هنالك ما سأرويه الآن ولا أرويه إلا لأن درويش رواه بنفسه، وكانت أمانة بيني وبينه. ختام قصيدة جدراية وهي عمل درويش الأهم كقصيدة طويلة كان غير ذلك على الإطلاق وكان ضعيفا، قلت له: هذه ليست نهاية تليق بملحمة مهمة كالجدارية، ففكر في الأمر وعدّل التعديل الثاني كان هو وقتها في عمّان وأنا في باريس فقلت له: هذا أفضل، ولكن ليس تماما، وعدل للمرة الثالثة، فقلت له هذه هي الذروة، واتصلت به في ساعة متأخرة من الليل لأني لم أحتمل أن أرد عليه بالفاكس، لأخبره بذلك. وعدّل التعديل الأخير قبل ساعات فقط من دخول المطبعة مما يعني أن لديه قلق على النص، واحترام للقارئ أيضا.

vv كيف ترى الشعر بعد درويش؟
- ثري وجميل ومتعدد، ولدينا تجارب شعرية ناضجة، (وهذا لا يلغي أن درويش خسارة كبيرة)، وكانت له خصوصية مهمة، عدد مبيعات درويش في فرنسا أكثر من الشعراء الفرنسيين أنفسهم، وليس الأمر بسبب كتابته عن القضية الفلسطينية كما يشاع، فدرويش يبيع أكثر من شعرائهم الراسخين من مثل رينيه شار.
 ولكن هذا لا يلغي وجود الكثير من الأصوات الشعرية اليوم، هنالك أسماء كبيرة في جيل سعدي يوسف، في جيل أدونيس، وجيل عباس بيضون، أمجد ناصر، سيف الرحبي.. الكثير من الأسماء تتولى الدفة الآن. ربما الأكثرية في الساحة اللبنانية، ولكن يوجد شعراء جيدون في المغرب العربي، وفي سورية فلسطين، ودول الخليج العربي، ولكن صيغة الشاعر النجم انحسرت وهذا خير للشعر، فنحن بحاجة إلى أصوات متعددة.

vv قلت بأن الماغوط أفضل شعراء المرحلة الأولى، ولم تقل أدونيس، أنسي الحاج، توفيق الصايغ، يوسف الخال؟
- الأفضل في قصيدة النثر، وبالتأكيد هذا رأيي، لأن أدونيس وأنسي الحاج استوردا صيغة قصيدة النثر من فرنسا في تجربة مجلة شعر، وبالتالي قدموا قصيدة النثر، وكأنها شعر مترجم. لكن الماغوط ربما لأنه لم يكن يقرأ لغة أجنبية، لغته خام وطبيعية وشعرية وتلقائية.
 تمكن الماغوط من كتابة قصيدة خالدة، ليست محل إشكال لدى الأجيال اللاحقة. هنالك إجماع على قصيدة الماغوط سواء من قراء النثر، أو من قراء قصيدة التفعيلة. وهذا الإجماع ليس اعتباطا، ونابعا من شعريات خاصة تجلت لديه، ولم تتجل لدى غيره، ولكن هذا لا ينفي أن أنسي الحاج تطور لاحقا تطورا كبيرا.

vv بالعودة للحديث عن الشاعر النجم، ألا تظن أن أدونيس هو الشاعر النجم الآن؟
- لا أظن ذلك، وإن كان هنالك شاعر نجم فهو الشاعر سعدي يوسف، أظن أن أدونيس انتهى شعريا، وإن كنت تقصدين بالنجومية الحضور على الألسن فأدونيس حاضر على الألسن بسبب مماحكاته ومعاركه الفكرية وليس بسبب شعره، فهو يدلي بحديث صحفي ويشتم الإسلام قليلا يشتم الثقافة العربية كثيرا، ومن ثم يثير زوبعة.. أظن أنه توقف شعريا منذ أواسط التسعينيات. وبالتالي لم يعد النجم الأول كشاعر.

vv أخذت القصيدة عدة أشكال في انتقالها من قصيدة الوزن والقافية إلى قصيدة النثر، أنت كناقد هل تراهن على تحول هذا الشكل النثري إلى أشكال أخرى؟
- من أبرز مشكلات قصيدة النثر أنها مسقوفة بالمقارنة مع العمود الذي يمتلك البحور والشاعر يختار من بينها، وكذلك شاعر التفعيلة يمتلك تفاعيل والشاعر ينوع فيما بينها.
براعة شعراء النثر تتجلى في شعرنة النثر، وبالتالي ما يُسمى بالموسيقى الداخلية هو أسطورة، وإن كانت فمعنى ذلك أن هنالك موسيقى في القصة القصيرة وفي المقال السياسي.
امتياز قصيدة النثر(وهذا هو التحدي الكبير) في أنها تتخلى عن الموسيقى المباشرة والإيقاعية أعني التفاعيل والأوزان، وتبحث عن بديل لها من داخلها، وهذا حق مشروع وجميل، لكنه يخلق سقفا للشكل وبالتالي ما يمكن أن يتميز به كاتب الشعر هو المجاز اللغوي والبراعة في استخدام الصور، وخلق مناخات معينة. ولأن الشكل مسقوف كما قلنا، فالشعراء الذين يشعرون بقلق تعبيري ويشعرون بالمسؤولية تجاه شعرهم يحاولون إيجاد تقنيات جديدة كأن يُدخلوا خط سردي خفيف على شعرهم كما يفعل أمجد ناصر مثلا، الذي أدخل إلى شعره خطاً حكائياً بسيطاً، ومال لاستخدام القصيدة الكتلة، بمعنى الفقرة الكاملة، وليست المقطعة. ومادمت في عمان فأنا أجد أن سيف الرحبي في الآونة الأخيرة بدأ باعتماد صيغة حوارية، وهذا جزء من تفتيش الشعراء عن مخارج. وليد خزندار وهو شاعر فلسطيني ممتاز يكتب داخل القصيدة الواحدة تفعيلة ونثرا، وهذا فيه مشقة كبيرة، الشاعر زهير أبو شايب من الذين أخذوا بالمزج بين شكلين من أشكال الشعر. هنالك مأزق في البحث عن مخارج، (وبالرغم من أني اتهمتُ بأني منظر في قصيدة النثر)، إلا أني أقول لا بد من البحث عن مخارج من داخل الشكل وليس من خارجه. على قصيدة النثر أن تكسر سقفها من الداخل.
على مدار التاريخ لم تكن الأشكال ثابتة، وأخطأ من توهم أن مستقبل الشعر هو قصيدة النثر. أدونيس عاد لكتابة قصيدة التفعيلة.. أشكال التعبير لا تموت، وينبغي التنويع فيما بينها.

vv من الملاحظ وجود حالة من الرفض بين من يكتب النثر وبين من يكتب الأشكال الأخرى من الشعر؟
- بالفعل كان هنالك نوع من التعصب من قبل عدد كبير من الشعراء، ومن ثم أدرك الشعراء أنفسهم أن المسألة ليست مسألة صراع تخيلي. أحمد عبد المعطي حجازي كان ضحية عباس محمود العقاد الذي رفض اعتبار قصيدته شعرا، وصنفها في خانة النثر، لكن لاحقا أصبحت قصيدة النثر مقبولة بدليل أن محمود درويش نفسه في ديوانه الأخير كان أكبر هم لديه هو محاولة كسر الهوة بين قصيدة النثر والتفعيلة. صحيح أنه لم يطلق على ما كتب قصيدة النثر، وأظن أن ذلك كان من باب المكابرة، لأنه بالفعل كتب قصيدة النثر داخل المجموعة الواحدة. التصالح بين الأشكال وعدم التعصب في صالح الشعر العربي عموما. وبالنسبة لي يطربني محمد مهدي الجواهري، كما يطربني عباس بيضون، كما يطربني محمود درويش.

vv كانت آخر شاعرة حصلت على نوبل عام 1996 فيسوافا شيمبورسكا، هل يحمل ذلك دلالات على تراجع الشعر؟
- نوبل أولا ليست معيارا، وإن كانت مؤشراً على أن الرواية هي الشكل الأقرب لتمثيل التاريخ. الروايات بالإجمال تركز على تصوير عذابات البشر، لذا ليس من الغريب أن يفوز روائي رديء من مثل كريكتش بمجرد أن له رواية رديئة حول الهولوكست والمحرقة.
وإذا ما خرجنا من إطار نوبل، الرواية في الإطار العربي ليست ديوان العرب، كما قد يظن البعض.أنا اعترف بوجود مشكلة في إقبال القارئ على الشعر، بسبب شكل قصيدة النثر والتي هي غير شائعة مثل قصيدة التفعيلة، وبالتالي قصيدة التفعيلة لا تطرح جديدا، ولم يعد فيها نماذج لامعة تشتغل عليها، وما تبقى من العمودي تقرأه شرائح محافظة وتقليدية. لذلك حجم قراءة الرواية أوسع، وموضوعاتها تستجيب أكثر لهواجس المجتمع. ولكن في تقديري حضور الشعر موجود في دواخل المبدع العربي الروائي، والدليل هنالك الكثير من الشعريات داخل الرواية. أنا أحث على أن تكون الرواية بعيدة قدر الإمكان عن الشعرنة. ولكن ألاحظ إصرار كتاب القصة والرواية في الوطن العربي على إدخال الكثير من اللغة الشعرية، مما يدلل على وجود الشعر.

vv دعيت لتحكيم البوكر فرفضت، بالمقابل قبلت التحكيم في مسابقة العويس؟
- ليس لديّ أي اعتراض على الجائزة، بالعكس أنا أشجعها، وأتمنى استمراريتها. اعتراضي له علاقة بطبيعة النظام الداخلي. أنا لا أظن أنها تتلاءم مع روحانية البوكر. لستُ ضد لجان التحكيم، فالمشكلة ليست في أسماء اللجان، ولكن برأيي يجب تكريس فكرة أن تذهب جائزة البوكر إلى العمل وليس إلى صاحب العمل، يجب أن ننظر للعمل وننسى مثلا أنه لعلوية صبح، أو أنه لأنسي قنديل أو عبده خال. في البوكر الغربية لا يحكم نقاد بل على العكس يتهربون من النقاد. لذا قد يشارك ضابط متقاعد ولكنه قارئ جيد للرواية، أو حتى مهندس زراعي، لأن البوكر العالمية تهتم بتكريس عمل بذاته، وليس اسما. الجائزة العربية لم تتمكن إلى الآن من الإفلات من سطوة الاسم.
أقول هذا وليس لي موقف معاد للجائزة. بالمقابل جائزة العويس عالية الاحتراف في مجلس التحكيم، وموضوعية جدا، ولا يتدخل أصحاب الجائزة في النتائج، والتحكيم يتم بصورة سرية للغاية.

قاصة من عُمان

جرى الحوار في تشرين أول (أكتوبر) 2010

ونُشر في فصلية "نزوى" العمانية، العدد 65، أيار (مايو) 2011