وعزّ الشرق أوّله دمشق

الأحد، 30 أكتوبر 2011

غليون العلوي والأسد الديمقراطي

في مطلع أيلول (سبتمبر) الماضي، حين أخذت الصحافة العالمية تتداول اسم الدكتور برهان غليون كرئيس قادم للمجلس الوطني السوري، كانت أسبوعية الـ"إيكونوميست" البريطانية ـ المعروفة برصانتها، وسعة اطلاعها، وحرصها على دقة المعلومة ومصداقية المصدر ـ قد وقعت في خطأ فادح. لقد اعتبرت أنّ غليون ينتمي إلى الطائفة العلوية، وبنت بعض نقاط تحليلها لحال المعارضة على معطيات هذه النتيجة، قبل أن تسارع إلى إدرك الخطأ الشنيع، فتصحّح، وتعتذر. بيد أنّ الأذى كان قد حدث لتوّه، إذْ نقلت المعلومة عشرات الصحف والمواقع والمدوّنات الإلكترونية التي تأخذ، عادة، موادّ الـ"إيكونوميست" على محمل الجدّ؛ ثمّ لم تكترث إلا قلّة منها بتصحيح الخطأ (على سبيل المثال الأبرز، ما يزال القسم الفرنسي في موسوعة ويكيبيديا الإلكترونية الشهيرة يؤكد، حتى ساعة تحرير هذه السطور، أنّ غليون من أبناء الطائفة العلوية).

وأمّا مصدر المعلومة الخاطئة فهو جوشوا لانديس، مدير مركز دراسات الشرق الأوسط، والأستاذ في جامعة أوكلاهوما، والمشرف على الموقع الشهير Syria Comment، وصديق النظام السوري (وليس، البتة، صديق سورية البلد والشعب والثقافة والتاريخ، كما تجدر الإشارة دون إبطاء). إنه، إلى هذا، مستشار دائم حول الشؤون السورية، ترجع إليه كبريات وسائل الإعلام الغربية (من الـ"نيويورك تايمز" والـ"إيكونوميست"، إلى الـCNN و"الجزيرة" الإنكليزية)، وثمة ركن دائم في موقعه، عنوانه "لانديس في الأخبار"، يتحفنا بأحدث تحاليله حول كلّ صغيرة وكبيرة في سورية. هذه، بالطبع، أبهى أيامه في النصح، وأدسم مواسمه في الإفتاء، فالانتفاضة تتصدّر العناوين، وتتردد على الألسن، كما تتوالى مشاهدها أمام الأبصار؛ وهنا، استطراداً، فرصة صاحبنا لكي يصول ويجول، دون أن يغادر عادته الأثيرة: أنه لا يملّ من رفع العقيرة دفاعاً عن "استقرار" سورية، في عهدة آل الأسد دائماً، وبالضرورة، حتى تحت نير أسوأ أعراف الاستبداد والفساد، وأشدّ الممارسات الأمنية والعسكرية وحشية؛ وإلا فإنّ البديل هو انزلاق سورية إلى حروب شتى، دينية وإثنية وطائفية ومناطقية...

خطوط تفكير لانديس مطابقة لذلك التشبيح السياسي الاستشراقي الذي ينتجه أمثال البريطاني باتريك سيل والأمريكي فلنت ليفريت، ممّن يعتبرون أنفسهم "خبراء" في تأويل ألغاز سورية وخفايا معضلاتها الجيو ـ سياسية. لكنّ فارق لانديس هو أنّ تطبيله للنظام يبدو أسوأ من ذاك الذي ينخرط فيه أنصار السلطة وأبواقها، ولعله يبزّ الجميع في إطلاق تحذيراته الكابوسية من أنّ سورية لم تكن موحّدة في أيّ يوم، وانقسامها إلى طوائف وإثنيات نجم أصلاً عن تشرذم حدودها بين الدول؛ وبالتالي... حذار، حذار من فتح أبواب جهنم! كذلك فإنّ الرجل، لا سيما بعد إيفاده إلى سورية بمنحة من مؤسسة فولبرايت، صار صاحب القول الفصل في هاجس الغرب الأعظم: بديل النظام ("العلماني" رغم مظاهر القمع والقهر والنهب والتسلط العائلي، كما يذكّر لانديس دون كلل أو ملل)، ليس أية قوّة أو قوى علمانية ديمقراطية، منفردة أو مجتمعة، بل جماعة الإخوان المسلمين، وحدهم!

ولانديس، في جانب آخر من ابتلائنا بـ"خبراته"، هو طراز من صبية الاستشراق، أو فتيانه في أفضل حال، ممّن ينقلبون ذاتياً، أو يقلبهم بعض عباقرتنا أبناء جلدتنا، إلى نطاسيين لا يُشقّ لهم غبار في تشخيص أمراضنا السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتنموية والثقافية والنفسية، قبل مداواتها والسهر على شفائنا منها؛ وذلك بالرغم من اعتمادهم شبه الكليّ على "معرفة" بائسة جاهزة سطحية قائمة على الكليشيهات، وعلى هذه وحدها حصراً أحياناً. وشرّ البلية أنّ بعض هؤلاء يُسقط حساباته العقائدية على ما هو جوهريّ وحاسم وغير قابل للمساومة في قضايا شعوبنا، كما حين يساجل يساري أممي بأنّ العاجل هو مناهضة الإمبريالية، وأن سقوط النظام السوري (حتى بعد انكشاف جرائم لا تقبل الالتباس، مثل حصار المدن وقصفها، وقتل الأطفال، وخطف واغتصاب النساء، والتمثيل بجثث المعارضين بعد تصفيتهم، وتحويل المشافي إلى مراكز اعتقال وتعذيب...) إنما يخدم الأجندات الامريكية!

كذلك يتقن لانديس فنون ذرّ الرماد "الوطني" في العيون، عندما تعزّ ذرائع الدفاع عن النظام، خاصة في مسائل ذات محتوى أخلاقي لا يقبل التعمية أو التورية. ذلك ما حدث حين استهجن قرار مجلة "فوغ" الأمريكية ـ بصدد الاعتذار عن الملفّ الذي كانت قد خصصته لإطراء أسماء الاخرس، عقيلة بشار الأسد، وسحبه نهائياً من الأرشيف الإلكتروني للمطبوعة ـ معتبراً أنّ المجلة ما كانت ستتجاسر على اتخاذ القرار ذاته لو أنّ الملفّ تناول السيدة الأولى في إسرائيل! ربما، قد يُقال بحقّ، ولكن ما صلة افتراض كهذا بإصرار لانديس على مديح الأخرس، والتشديد على أنها وزوجها "صورة جميلة، ولكن داخل نظام دكتاتوري"؟

إنه تشبيح "الخبير/ المستشرق"، ليس أكثر وليس أقلّ. فإذا جاز لصاحبنا "الخبير" أن يجزم بأنّ برهان غليون علوي، ثمّ أن يعتذر ويتابع استخدام "الخبرة" ذاتها وكأنّ شيئاً لم يكن؛ فما الذي سيعيقه عن الإفتاء بأنّ بشار الأسد ديمقراطي مخضرم متمرّس، وهو ليس رأس نظام الاستبداد والفساد الآيل إلى سقوط، بل... القائد السرّي للانتفاضة الموشكة على الانتصار؟ كلّه استشراق في استشراق؛ أو، كما ستقول الحكمة الشعبية، "كلّه عند العرب صابون"!

الخميس، 27 أكتوبر 2011

"معارف" النظام السوري: تطويع الأداة وتربية الوحش



أغلب الظنّ أنّ النظام السوري، وعلى نقيض من الرأي الشائع في أوساط مراقبيه ومعارضيه على حدّ سواء، تعلّم الكثير من الدروس خلال الأشهر السبعة التي انصرمت منذ انطلاق الانتفاضة، وتنوّع ما تعلّمه وتشعّب، فتوزّع بين معرفة أمنية ـ عسكرية صرفة، وأخرى أمنية ـ استخباراتية، وثالثة أمنية ـ سياسية، ورابعة أمنية ـ دعاوية، وخامسة أمنية ـ دبلوماسية... ومع ذلك، بئس هذه الحصيلة التي لا تستجمعها إلا معارف مرتكزة أوّلاً على الخيار الأمني، الذي ينتج الأداة قبل العقل، والطاعة قبل المبادرة، والهاجس قبل اليقين، والانحياز الأعمى قبل الانخراط الإرادي.

وهكذا، في المعرفة الأمنية ـ العسكرية، تعلّم ضباط الفرقة الرابعة، إسوة بصفّ ضباطها وأفرادها، العاملين مثل المجنّدين، كيف تنقلب استباحة حيّ، أو قرية أو بلدة أو مدينة بأسرها، إلى رياضة باردة، جديرة بالقاتل المأجور، أو القاتل المرتزق، أو القاتل الشبّيح. وكان لا مفرّ لهؤلاء، في قيامهم بدور الأداة الطيّعة، ثمّ في وفائهم لشبكات الولاء التي تستولد منظومات مصالح سياسية واجتماعية واقتصادية متباينة أو متجانسة، لا تغيب عنها غرائز الانضواء الطائفية أو العشائرية أو المناطقية، من أن يستسهلوا الذهاب بالهمجية إلى حدودها القصوى. كأنّ القتال صار عندهم معركة وجود أو عدم، ليس ضدّ شرائح واسعة من مواطنيهم المسالمين العزّل وحدهم، بل أيضاً ضدّ "الوطن" الذي ينتمي إليه المتظاهر، بوصفه وطناً خائناً أو مندساً أو عميلاً أو سلفياً أو... وفي واحد من أبرز مستويات هذه الحصيلة أنّ الفرقة الرابعة انسلخت عن شخصيتها العسكرية، بأي معنى مهني أو تعبوي أو لوجستي لهذه الشخصية، فصارت الفرقة عيّنة مصغّرة عن عصبة أو عشيرة أو طائفة، أو لعلّها في الواقع كفّت عن الحاجة إلى أي تصنيف ومسمّى، ما خلا أنها أداة دفاع عن النظام، صمّاء عمياء بكماء!
 
وفي المعرفة الأمنية ـ الاستخباراتية، يُصاب ضابط مثل اللواء جميل حسن، رئيس جهاز استخبارات القوى الجوية، بعُصاب من طراز جنوني خاصّ، تتفاقم أعراضه الباثولوجية بين حدّين أقصَيَن: إرضاء الحلقة الأمنية العليا (الضيّقة، المغلقة، التي لم يحظَ بـ"شرف" الانضمام إليها)، عن طريق استعراض عضلات جهازه، وارتكاب المزيد فالمزيد من الفظائع؛ والعجز عن نيل ذلك الرضا العسير، لأنّ الانتفاضة تُلحق به وبأجهزته الفشل الذريع، فلا تسير النتائج إلا بما لا يشتهي اللواء وسادته. وهكذا، لأنّ الجهاز فشل في كسر إرادة ناشط مثل غياث مطر، كان نموذجاً ناصعاً وعالي التمثيل لمعجزات الانتفاضة في جذب الشباب إلى العمل الوطني وصياغة الحراك الجماهيري، توجّب أن يُصفّى الفتى، وأن يتمّ التمثيل بجسده على نحو بالغ البشاعة والوحشية، وأن تُسلّم جثته إلى أهله بهذه الهيئة: عبرة لمَنْ يعتبر، في ظنّ اللواء، الذي فاته بالطبع أنّ العبرة الأخرى ـ شهيد الانتفاضة، وشهيد سورية ـ هي الأشرف للفتى وأهله، والأبقى في ضمير بلده وذمّة التاريخ.

بذلك فقد كان طبيعياً أن تنحطّ المعرفة الأمنية ـ السياسية، في المقابل، إلى سوية سفلى من ابتذال الخطاب وإدقاع المفردات وتقزيم المصلحات، توجّب أن تحزن رأس النظام نفسه في المقام الأوّل، هو الذي ـ حتى قبيل توريثه، وخلال أشهر تدريبه على الحكم ـ نصب نفسه في مقام الفيلسوف والمنظّر والمفكّر والحكيم وعالم الاجتماع والاقتصاد والسياسة... في آن معاً! الكون السوري، وفق منظور الأسد الأمني ـ السياسي، هو مؤامرة على نظام "ممانع" و"مقاوم"، سبق للغرب أن حاكها، فخرج النظام فيها منتصراً، وكذلك سيفعل اليوم إزاء الأطوار الأحدث من تلك المؤامرة ذاتها (لا يمرّ شهر، في واقع الأمر، إلا ويعلن أحد وجوه السلطة أن "المؤامرة" انتهت وصارت وراء النظام). والكون السوري، عند الأسد دائماً، لن يحيد عن طريق "الإصلاحات" حتى يبرهن أنه مثال يُحتذى في الديمقراطية وحقوق الإنسان، وأنّ رأس النظام جدير بقيادة المعمورة في أربع رياحها وليس سورية وحدها، كما هتف أحد دُمى ما يُسمّى "مجلس الشعب" ذات يوم قريب. وأمّا "الإصلاحات" ذاتها (مثل قوانين الأحزاب والإعلام والانتخابات تعديل الدستور...) فإنها لا تأتي، إذا أتت حقاً، إلا وقد صار استحقاقها وراء الحراك الشعبي، هذه المرّة، ولم تعد قيمتها تساوي الحبر الذي كُتبت به، فكيف بالدماء الزكية التي أُريقت في درب المطالبة بها على وجه أمثل، غير مزيّف وغير ملفّق.

وليس أدلّ على ما آلت إليه معارف النظام الأمنية ـ الدعاوية من العودة، بين الفينة والفينة، وحسب مقتضى الحال، إلى ما يطلق عليه النظام تسمية "المسيرات المليونية"، كما حدث مؤخراً في الحشود التي غصّت بها ساحة الأمويين، في قلب العاصمة دمشق، على سبيل استقبال وفد الجامعة العربية. ذلك لأنه حتى تلك القاعدة التي تبيح للمرء أن يفعل ما يشاء إذا كفّ عن الحياء، لم تعد تكفي لتفسير مقدار تخبّط النظام في هذا الركن من معارفه، وكم فقد من حسّ اكتراث بما يقول الناس، داخل سورية وخارجها، إزاء هذا المسرح الردىء الفاضح والمفضوح. كان البعض يتساءل، عن حقّ بالطبع: لماذا لا تظهر العصابات المندسة مرّة واحدة خلال هذه المسيرات المليونية، رغم أنها صيد ثمين دسم لكلّ "إرهابي" مبتديء؟ أو، في المقابل: لماذا يظهر الرصاص الحيّ والغاز المسيل للدموع والشبيحة والأمن والدبابات... كلما حاول مئات من المتظاهرين، وليس مئات الآلاف، الاقتراب من ساحة الأمويين، أو ساحة العباسيين، أو ساحة السبع بحرات، أو حتى ساحة المرجة؟

جديد هذه المعرفة الأمنية ـ الدعاوية، وهي نقلة ذات طرافة مريرة سوداء، أنّ الجماهير المليونية هذه أخذت تسرق ألحان الزجّال والمغنّي الشعبي الشهيد إبراهيم القاشوش، بعد أن تقلبها رأساً على عقب، بما يجعلها تتمات أشدّ ابتذالاً لتلك الهتافات التي تركع أمام صورة الأسد وتقبّلها، أو تُعلي مقامه إلى مستوى الألوهة، أو تضعه بديلاً للحرّية في الثالوث الشهير "الله! سورية! بشار وبسّ!". جديد آخر هو سرقة الهتاف الشعبي المعروف "الذي لا يشارك/ ليس عنده ناموس"، بحيث يصبح "الذي لا يشارك/ أمّه حمصية"، في تعريض وضيع بنساء حمص وبالمدينة العريقة المناضلة. وأمّا الذي لم يكن جديداً، بقدر ما صار فاقعاً أكثر وقليل الحياء أيضاً، فهو نصرة النظام عن طريق حشد السيارات الفارهة ومركبات الشبيحة و... عربات الدفع الرباعي، ذاتها التي اتهمها الأسد بالمشاركة في التآمر على نظامه!

ورغم أنها تأتي في المرتبة الأخيرة من هواجس نظام يعيش سكرات الموت، ويدافع عن وجوده بالنواجذ والأسنان، في الداخل أوّلاً، وعبر الخيارات الأمنية والعسكرية والاستخباراتية والدعاوية، فإنّ المعرفة الأمنية ـ الدبلوماسية تطلّ على استحياء بين حين وآخر، حين تشترطها اعتبارات خارجية أساساً. وهكذا، بصدد التعامل مع مبادرة الجامعة العربية، لم يذهب وليد المعلم، وزير خارجية النظام، إلى درجة شطب الجامعة العربية من خريطة الكون؛ أو ضمّ الدول العربية إلى اللائحة التي توعدها بالويل والثبور إذا تعاملت مع المجلس الوطني السوري، أو اعترفت به. صحيح أنّ مندوب النظام الدائم لدى الجامعة العربية أرغى وأزبد، هناك في القاهرة، إلا أنّ "الأجواء الإيجابية" التي أعلن النظام انها سادت اجتماع الأسد مع وفد الجامعة العربية، كانت هي كلمة السرّ في إعلام النظام، إسوة بالترغيب بدل الترهيب.

بيد أنّ الدبلوماسية ليست، بالطبع، هذه الـ"حرتقات" الصغيرة التي يديرها أمثال وليد المعلم وبثينة شعبان وفيصل المقداد، في نيويورك أو في موسكو أو في بكين؛ بل هي، في المقام الأسبق، ذلك التبرّم الذي أخذ يعتري خطاب حلفاء النظام، من روسيا إلى الصين إلى إيران؛ وارتفاع "المنسوب"، اللفظي على الأقلّ، للتوصيفات التي صارت تصدر عنهم لدى الحديث عن أعمال العنف والقتل والمجازر المرتكبة بحقّ المتظاهرين السوريين العزّل. والدبلوماسية هي، كذلك، ما يقوله ألان جوبيه، وزير الخارجية الفرنسي، من أنّ سقوط النظام صار حتمياً مهما استغرق من وقت؛ وما تعنيه مغادرة السفير الأمريكي روبرت فورد، الآن تحديداً، ولأسباب قد تتصل فعلاً بارتخاء قبضة النظام على بعض أجهزته ومشايعيه ومناصريه، بحيث يمكن أن يتعرّض السفير إلى ما هو أشدّ وطأة من الحجارة والبيض. والدبلوماسية، في ما هو أهمّ من هذا وذاك، هي أيضاً المصير الأسود الذي انتهى إليه دكتاتور حليف، هو معمّر القذافي؛ والمصير التالي الذي ينتظر الدكتاتور الحليف الآخر، اليمني علي عبد الله صالح...

وفي مقابل معارف النظام، التي تنشغل بتطويع الأداة وتربية الوحش، ثمة تلك المعارف الموازية التي اختزنتها الانتفاضة الشعبية، وتختزنها كلّ يوم، والتي تنشغل بتطوير أنساق المقاومة، وتربية وعي سياسي وإنساني وطني وديمقراطي كفّ عن كونه مأثرة الانتفاضة الكبرى، لكي يصير تراث سورية اليومي وسلاحها الأمضى. وها أنّ ضباط الفرقة الرابعة ينتقلون من حال التخبط والتعثر إلى حال الانتكاس، وبينهما حال الحيرة أمام أسئلة موجعة: لماذا؟ إلى متى؟ وما العاقبة في نهاية المطاف؟ وها هو غياث مطر يغادر صورته الأولى، فتى داريا الباسم الوادع المنشغل بعروسه وبأهله وبمهنته الشعبية، ليصبح واحداً من رموز سورية، فيتردد اسمه على الشفاه والألسن والقلوب، كما على اللافتات والصور، في رأس كلّ التظاهرات. "إصلاحات" النظام يمسخها الحراك الشعبي إلى أضحوكة، وألحان القاشوش تنتصر على قاتليه فتتردد على ألسنة مشايعي النظام في الساحات ذاتها التي حلم الشهيد بالغناء في جنباتها، ولم يبق من دبلوماسية السلطة سوى تلك النكات التي تروي "هلع" الأوروبيين من أن يعاقبهم النظام بمنع تصدير "علكة سهام" إلى أسواقهم!

تربية أداة مقابل تربية إرادة، وتراث قتل مقابل تراث حياة، وسوري شبيح مقابل سوري ثائر، ولا عزاء في هذا للذين ينزّهون سورياً عن قتل شقيقه السوري؛ والمعركة، التي دخلت شهرها الثامن، اقتضت تسيير الدبابة وراجمة الصواريخ والحوّامة، ضدّ الصدر العاري والأهزوجة الشعبية ورسم الكاريكاتير؛ وبالتالي فإنّ حصيلتها الأهمّ، حتى الساعة، هي عجز السلاح عن كسر الإرادة، وصمود المواطن الأعزل الباحث عن الحرّية في وجه المواطن الشبيح المناصر للاستبداد، وسقوط معارف النظام أمام معارف الشعب. أمّا الحصيلة الختامية فإنها انتصار الانتفاضة ذات ساعة آتية لا ريب فيها، ولعلّها أقرب أجلاً ممّا يظنّ الطغاة ومؤسسات تربية الوحوش الكاسرة.

الأحد، 23 أكتوبر 2011

فتّحْ عينك.. أنت في كفرنبل!

 منذ التظاهرات الأبكر في مسيرة الانتفاضة السورية كانت لافتاتهم قد شدّت الانتباه إلى نبرتها اللاذعة، ومضمونها السياسي العميق، وطرافة ما تمزجه من متناقضات ومفارقات، وبراعة جمعها بين الفصحى والعامية؛ فضلاً عن مهارة التقاط جانب خاصّ في تسميات أيام الجُمَع، وإبرازه على نحو ذكي وساخر ومرير وتحريضي في آن. ومن جانبي، كانت برهة انشدادي الأولى إلى هذا الطراز من الانفراد الإبداعي، كما أجيز لنفسي وصفه دون تردّد، هي تلك اللافتة التي تقول: "فتّحْ عينك/ مافي نقطة: سلمية، سلمية"؛ أي، بالطبع، أنها ليست سلفية، ردّاً على ادعاءات النظام، وعلى لآراء التي تنتهي إلى خلاصة مماثلة، رغم زعمها الاستقلال عن صفّ النظام (مثل الذريعة الأشهر، حول خروج التظاهرات من المساجد).

لافتات أخرى قالت: "مطلوب في سورية مشايخ ومفتون يعبدون الله دون فرعون"، و"شركة أسد ومخلوف لمكافحة الجراثيم: دبابات، حوامات، مدافع، مدرعات، فرع خاص للشبيحة"، و"من يملك القدرة على رؤية الحقيقة لا يتجه إلى ظلها"، و"لمن يدّعي الخشية على الوطن.. الفراغ أفضل من بشار وزبانيته"، و"متنا ونموت وتبقى سورية"، و"كلّنا أمهات حمزة الخطيب" حين تكون التظاهرة نسائية. وفي التعليق على موقف المجتمع الدولي، قالت لافتة: "يبدو أننا نطلب الحماية ممن يحتاج لحماية سفرائه أولاً"؛ وفي السخرية من وعيد النظام ضدّ المجتمع الدولي، قالت أخرى: "بماذا تهددون؟ هل ستصدّرون الشبيحة إلى أنحاء العالم؟"؛ وهنا ما أعلنته لافتة في التعليق على نهاية نظام معمر القذافي: "نتائج دوري الإجرام: خرج القذافي من الدور نصف النهائي/ وتأهل بشار للدور النهائي"!

ولا تنجو المعارضة السورية من التنبيه، والنقد اللاذع حين يتطلب الأمر، فتقول لافتة: "إلى المعارضة السورية.. اتحدوا وكونوا على مستوى تضحيات الشارع الثائر"؛ وتقول أخرى، شهيرة وحظيت باهتمام واسع بالنظر إلى ما انطوت عليه من طرافة وانتقاد عميم وخيبة رجاء: "يسقط النظام والمعارضة.. تسقط الأمة العربية والإسلامية.. يسقط مجلس الأمن.. يسقط العالم.. يسقط كل شيء"! وأخيراً، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ اللافتات المكتوبة بالإنكليزية تظلّ في عداد الأذكى والأنضج، والأسلم لغوياً أيضاً، على نطاق التظاهرات السورية جمعاء.

أصحاب هذا الامتياز هم أهالي بلدة كَفْرَنْبِلْ (كما يحلو لهم لفظ الاسم، خلافاً لتسمية أخرى تعتمد "كَفْر نُبْل"، مصدر نَبُل ينبُل نُبلاً)، التي تقع في محافظة إدلب، غرب معرّة النعمان، ويتميّز أبناؤها (قرابة 30 ألف نسمة) بنسبة عالية في عدد حَمَلة الشهادات الجامعية (65 بالمئة من السكان) وخرّيجي الدراسات العليا (15 بالمئة). كما يفاخر بعضهم بأنّ نسب البلدة يعود إلى إلى نابيلو بن ياكين بن منسا بن ميران بن سام بن نوح، وبالتالي فإنّ تاريخ نشوئها غير بعيد عن تواريخ الحواضر السامية العتيقة التي قامت على سفوح ووديان وهضاب جبل الزاو، أو جبل الزاوية الحالي. كذلك يتحدّث أهلها، ليس أقلّ تفاخراً أيضاً، عن الهجرات التي خرجت من كفرنبل بعد وصول الإسكندر المقدوني إلى المنطقة، فبلغت جبلة على الساحل السوري، وتل كلخ في جبال حمص، والكرد في شمال شرق سورية، والبدو في سهول حماة، وتدمر في بادية الشام؛ إلى جانب تركيا في آسيا الصغرى، وقرطاجة في تونس!

وفي ربيع 1905 ذُهلت الرحالة الإنكليزية جرترود بيل إزاء العدد الكبير من المدن الدارسة والمدافن القديمة في منطقة جبل الزاوية، وعلى تخوم كفرنبل تحديداً، كما سحرتها تلك البرّية الجميلة حيث التلال الخضراء وبساتين الزيتون والعشب الطالع على الصخور التربة الحمراء المكتظة بزهور الياقوتية وشقائق النعمان. صحيح أنها لم تجد ما كانت تبحث عنه (لوح ديونيسيوس النافر)، إلا أنّ بيل غادرت جبل الزواية لا كما جاءت إليه: مفعمة بتاريخ حافل، وغنى بشري، ومشهدية جمالية فائقة أغرتها برقاد ليلة كاملة... داخل قبر! بعد 106 سنوات، سوف يرفع أبناء كفرنبل لافتة، لا تتوجه إلى نظام بشار الأسد بقدر ما تخاطب أحفاد بيل، وبينهم دعاة الرأفة تحديداً: "إلى جمعيات الرفق بالحيوان/ حاولوا حمايتنا/ لم يعد أحد يكترث لإنسانيتنا"!

وإلى جانب حفنة من الشهداء، كان في طليعتهم أمثال محمد عبد القادر الخطيب، أحمد العكل، عمر محمد سعيد الخطيب، أحمد ابراهيم البيور، عبد الله حمود الداني، أحمد حمد الفريدة، مصطفى سليم حزب الله (لا علاقة، البتة، بين كنية هذا الشهيد والحزب اللبناني الذي يساند النظام مساندة عمياء، غنيّ عن القول)؛ صنعت كفرنبل أمثولات مجيدة لا تُحصى، في التضحية والشجاعة والصبر والثبات والإصرار على انتصار الانتفاضة. ولم تكن عذابات أهلها مشرّفة لبلدتهم، الجميلة الوديعة الهادئة في العادة، فحسب؛ بل صارت قدوة تُحتذى في أرجاء جبل الزاوية، وعلى امتداد سورية بأسرها؛ وكابوساً يقضّ مضجع النظام، ويُلحق الفشل الذريع بكلّ ما ارتكبته الأجهزة الأمنية من ممارسات وحشية في مسعى قهر البلدة.

"فتّحْ عينك.. أنت في كفرنبل!" عبارة ينبغي أن تكون في بال الداخل إلى البلدة، سواء ذاك الذي يأتيها حاجّاً مستبشراً يستلهم الأمل من عتباتها الثائرة الشريفة، أم ذاك الذي يقتحمها شبّيحاً قاتلاً، ميّت الضمير ومرتعد الفرائص.

الخميس، 20 أكتوبر 2011

حزب العمال الكردستاني والنظام السوري: وكالة أم عمالة؟

بين علائم سكرات الموت، وهي الحال التي يعيشها النظام السوري في الطور الراهن من تدابيره الأمنية ـ العسكرية الهادفة إلى قمع الانتفاضة، أنّ تخبّط الخيارات صار السمة الأبرز في تعامل النظام مع الشطر الكردي من شرائح الحراك الشعبي؛ وأنّ المآلات المنطقية لذلك التخبط أسفرت عن انقلاب شبه تامّ، وربما رأساً على عقب، في مجمل السياسة التي حاول النظام اتباعها مع المواطنين الأكراد منذ ساعة انطلاق الانتفاضة، أواسط آذار (مارس) الماضي. ومن برهة "الرشوة"، حين أرسل بشار الأسد ضباطه وممثليه إلى احتفالات عيد النوروز في منطقة الجزيرة السورية؛ مروراً بـ"جمعة آزادي"، التي أفصحت عن الترابط الوثيق في هموم العمل الوطنية والديمقراطية السورية، بين كرد وعرب؛ وصولاً إلى برهة اغتيال الناشط الكردي المهندس مشعل التمو، والتي كانت واحدة من سلسلة عمليات نفّذتها الأجهزة في مسعاها إلى افتعال أو تسعير بؤر احتقان إثنية وطائفية ودينية، في مناطق من سورية تمّ انتقاؤها بعناية فائقة.

ضمن سياقات مماثلة، تخصّ الملفّ الكردي تحديداً، ليس مستغرباً أن يكون النظام قد استطاب خيار شنّ هجوم مضادّ على تركيا، بهدف الإفلات قليلاً من ضغوطات حكومة رجب طيب أردوغان، الراهنة أو تلك التي يُحتمل أن تتعاظم في المستقبل القريب؛ وذلك عن طريق استخدام الورقة الوحيدة التي ما تزال متاحة، حتى إذا كانت محدودة النطاق والتأثير، ومحفوفة بالمخاطر البالغة: تحريك حرب بالوكالة، عن طريق حزب العمال الكردستاني، الـ PKK. ولم يكن تصريحاً مجانياً ذاك الذي أطلقه أردوغان، تعليقاً على العملية العسكرية التي شنّها الحزب مؤخراً وأودت بحياة 26 جندياً تركياً في جنوب شرق تركيا، واعتبر فيه أنّ "حزب العمال الكردستاني أصبح أداة بيد قوى خارجية تسعى لضرب الأمن والاستقرار في تركيا". وثمة مؤشرات عديدة توحي، وبعضها يؤكد تماماً، أنّ الـ PKK قد عرض خدماته على كلّ من إيران والنظام السوري، حتى إذا لم يرتقِ التعاون مع الدولتين إلى مستوى التحالف ضمن محور ثلاثي، واقتصر على عمليات كرّ وفرّ موجعة للأتراك.

وبينما يواصل أكراد سورية، بغالبية ساحقة، مشاركات نشطة في اشغال الانتفاضة، فيتساوون مع أبناء وطنهم العرب، أو يتفوّقون تماماً حين تكون المناطق الكردية هي ساحات التظاهر (كما حدث في مسيرة تشييع الشهيد تمو)؛ يقرأ المرء تصريحات مدهشة لبعض قادة الكردستاني، لا تتعاطف مع النظام السوري فحسب، بل تلصق الخيانة بأشقائهم أكراد سورية، وتطعن في شرف الانتفاضة ومقاصدها أيضاً. الرجل الثاني في الحزب، جميل باييك، يشاطر النظام الرأي بأنّ الانتفاضة "مؤامرة خارجية"، وهو على يقين من أنّ أجهزة الأمن السورية "لا تستهدف المدنيين الأبرياء"، وأنّ مجموعات المعارضة السورية ليست "قوى ديمقراطية" بل زمر متفرقة "طامعة في السلطة". يوسف زيدان، زميله في القيادة ومسؤول العلاقات الخارجية، لا يتورّع عن حثّ إيران والنظام السوري على بناء "حلف ثلاثي"، هدفه "مواجهة مخططات تركيا في المنطقة"! ولكن هل يقول باييك أو زيدان كلمة واحدة عن أنساق التمييز والاضطهاد التي يتعرّض لها الأكراد في سورية أو إيران؟ وهل يرى، أحدهما او كلاهما، أي وجه لانخراط أكراد سورية في الانتفاضة، دفاعاً عن تلك الحقوق، وثقة بأنّ إسقاط النظام هو البوّابة الأولى لاستعادة حقّ المواطنة السوري، بادىء ذي بدء، ومعه حقوق الأكراد؟

يُضاف إلى هذا أنّ تقارير صحفية كانت قد أشارت إلى نجاح الحرس الثوري الإيراني في القبض على زعيم الحزب مراد قراييلان، الصيف الماضي، ثمّ إطلاق سراحه بعد مفاوضات مطوّلة انتهت إلى إبرام "صفقة ناجحة" مع الرجل، وبالتالي مع قيادة الحزب عملياً. وكان لافتاً أنّ إيران لم تؤكد الخبر تماماً، ولكنها أعلنت أنها بالفعل اعتقلت شخصاً يحمل نفس الاسم، ولكنه ليس زعيم الكردستاني، فأطلقت سراحه! مدهش، من جانب آخر، أنّ قراييلان كان قد أدلى بحديث للقناة الثانية في التلفزة الإسرائيلية، اعتبر فيه أنّ أعداء إسرائيل هم أنفسهم أعداء الأكراد، وحثّ على وقف التعاون بين تل أبيب وأنقرةّ، وتقديم المساعدات الضرورية للحزب كي ينجح في محاربة تركيا! فإذا كان اليوم مستعداً لوضع حزبه في خدمة إيران والنظام السوري، ضدّ تركيا، فإنّ من حقّ المرء أن يتساءل عن ميزان صداقة/ عداء إسرائيل في هذا المثلث: منْ صديقها، ومَنْ عدوّها؟

وقائع التاريخ، الحديثة والقديمة، تسمح بالقول إنّ تاريخ الأكراد يقوم على سرديتين متكرّرتين، متكاملتين على نحو ما جدلي، رغم تناقضهما في الشكل والمحتوى. من جانب أوّل، ثمة وقائع السردية التي تروي موجات متعاقبة من الاضطهاد الإثني والسياسي والثقافي، على يد أمم صغرى وأمم كبرى، إقليمية وكونية؛ وثمة، من جانب ثانٍ، وقائع سردية الخيانة ذات الطابع المزدوج: أولى على يد الحلفاء أو الأصدقاء، أو ما صنّفهم الأكراد ـ عن خطأ، أو حسن نيّة، أو أمل كاذب ـ في عداد الحليف والصديق؛ وخيانة ثانية ذاتية اقترفتها قيادات سياسية كردية على مرّ تاريخ الأكراد، الحديث منه خصوصاً، إمّا بسبب تحليلات خرقاء تنتهي إلى نتائج كارثية، أو بسبب صراعات طاحنة داخلية بين مختلف القوى والأحزاب الكردية.

أولى الخيانات الكبرى وقعت سنة 1918 حين نصّت مبادىء الرئيس الأمريكي وودرو ولسون على حقّ تقرير المصير لكلّ الأقليات غير التركية في ظلّ الدولة العثمانية، ثم حين أقرّت اتفاقية سيفر لعام 1920 على إقامة دولة كردية، لكي تأتي اتفاقية لوزان، بعد ثلاثة أعوام فقط، فتوزّع المناطق التي يعيش فيها الأكراد على تركيا وإيران والعراق وسورية والإتحاد السوفييتي. على المراقب ذاته أن يتذكر أنّ أحدث الخيانات المعلصرة جاءت كذلك من رئيس أمريكي، هو جورج بوش الأب، الذي حثّ الأكراد على التمرّد ضدّ نظام صدام حسين، ثمّ تخلى عنهم، وتركهم فريسة لقاذفات الدكتاتور ومدفعيته الثقيلة.

وكان حزب العمال الكردستاني في طليعة دافعي الأثمان الباهظة لقاء التواطؤ الأمريكي ـ التركي القديم/ الجديد حول المسألة الكردية عموماً، وحقوق أكراد تركيا ومطامحهم بصفة خاصة، وذلك بعد سقوط صدّام حسين وإقرار الحكم الذاتي في كردستان العراق. وكان الجنرال المتقاعد جوزيف رالستون (الذي تولى مهمة عجيبة اسمها "الموفد الأمريكي الخاصّ لمجابهة الـ PKK"!)، قد رفض التفاوض مع أية جهة تمتّ بصلة إلى "هذه المنظمة الإرهابية" على حدّ تعبيره. إلا أنّ بعض القيادات الكردية العراقية ذاتها لم تكن بريئة من مسؤولية التواطؤ إياه؛ إنْ لم يكن جرّاء المشاركة اللوجستية، فعلى الأقلّ بسبب التزام الصمت المطبق. آنذاك أعلن رالستون أنه التقى بعدد من كبار المسؤولين الأكراد، وأوضح لهم بجلاء أنّ واشنطن لن تقبل بتحويل الأراضي العراقية إلى "ملجأ آمن لإرهابيي الـ PKK"، لأنّ وجود هؤلاء في شمال العراق "لا يمكن أن يكون في مصلحة العراق، خصوصاً وأنّ تركيا هي أفضل صديق يمكن أن يكسبه العراق في الجوار". ولقد كان مدهشاً أن يستخدم الجنرال المتقاعد، والعضو السابق في رئاسة أركان الجيش الأمريكي، عبارة "الملجأ الآمن" بالمعنى السلبي القدحي، متناسياً أنّ هذه هي التسمية التي أطلقها جورج بوش الأب على شمال العراق، بوصفه... ملجأ الأكراد الآمن!

وفي كتابه "نهاية العراق: كيف خلق العجز الأمريكي حرباً بلا نهاية"، يروي الأمريكي بيتر و. غالبريث أنّ الحاكم الأمريكي السابق للعراق بول بريمر، حين زار مكتب مسعود البرزاني للمرّة الأولى ورأى صورة والده الملا مصطفي البرزاني معلّقة على الحائط، سأله: مَن هذا؟ وغالبريث يُعدّ الناطق غير الرسمي باسم أكراد العراق في الكونغرس لأنه تسلل ذات يوم إلى داخل العراق دون إذن، وعاد يحمل الكثير من الوثائق حول قصف حلبجا بالأسلحة الكيماوية، قدّمها إلى لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ، التي كان سكرتيرها. ولكنه يسوق حكاية بريمر لا لكي يسخر من جهل الأاخير الفاضح وعجزه عن التعرّف على صورة الزعيم الكردي الأبرز في العصر الحديث فحسب، بل لكي يذكّر الأكراد بأنّ تجاربهم المريرة مع الغرب لم تنطو فصولها بعد، والقادم قد يكون أشدّ خطورة من الماضي.

وفي مناسبة سابقة، حين تصافح مسعود البرزاني وجلال الطالباني برعاية مادلين أولبرايت، بعد حرب ضروس، كان في وسع المخيّلة البسيطة أن تبصر الدم الكردي الآخر يقطر من بين الكفّين المتصافحتين، وأن تتلمس هذه الحقيقة الفاجعة: كيف يبدو يسيراً تماماً أن ينوب الكردي عن أخيه الكردي، في قتل أخ كردي ثالث. آنذاك، مثلما هو الحال اليوم، كان حزب العمال الكردستاني خاسراً كبيراً بالنيابة عن مآلات حرب الخليج الثانية، والمحاصصة الاقليمية الهشة والعشوائية الناجمة عن فشل تحالف "عاصفة الصحراء" في صياغة وتنفيذ سيناريوهات ما بعد الحرب والدمار والانتفاضات المنفّذة بجهاز التحكّم عن بعد. وبالأصالة عن أنفسهم، وبالتالي عن مصالحهم الصغيرة الحقيرة، كان أكراد آخرون يقبضون ما يدفعه الحزب من أثمان!

فما الذي يجعل الكردستاني يفترض اليوم أنّ التعاون مع النظام السوري سوف يكون أفضل، أو أنه لن ينزلق سريعاً إلى صيغة الارتهان، وربما العمالة، بعد الانخراط في الحرب ضدّ تركيا بالوكالة؟ هل تجهل قيادة الحزب أنّ النظام أخذ يبدي عصبية إضافية تجاه أكراد سورية بعد احتلال العراق، وكأنهم حصان طروادة الذي قد يلجأ إليه الأمريكيون إذا شاؤوا زعزعة استقرار النظام؟ ألم تلجأ السلطة إلى الهراوة الغليظة، ثمّ الرصاص الحيّ على الفور، خلال المواجهات التي وقعت إثر مباراة كرة قدم في القامشلي، ربيع 2004، وتصرّفت على نحو فاشيّ وكأنها تجتاح مدينة حماة مجدداً، ممثّلة هذه المرّة في القامشلي والحسكة وعامودا وديريك والدرباسية وعين العرب وعفرين، أو كأنها تعيد إنتاج دروس مجزرة حماة بغية تلقينها للمواطنين الأكراد هذه المرّة؟

وكيف ينسى الحزب ذلك الزمن غير البعيد حين كان عبد الله أوجلان، الزعيم التاريخي للكردستاني، يقيم في البقاع برعاية سورية، وكانت التقارير الصحافية الغربية مولعة بوصف تحركاته في سيارة مرسيدس مصفحة تحمل لوحة دبلوماسية سورية، ويرافقها طاقم حراس شخصيين تابعين للأمن السوري... قبل أن تنقلب الحال رأساً على عقب هنا أيضاً، بعدما انحنى الأسد الأب أمام تهديد الأتراك وصار أوجلان طريداً، فلم يمضِ وقت طويل حتى وقع في المصيدة؟

إذا كان الحزب ينسى هذا كله، أو يتناساه عامداً، فإنّ المصيدة سوف تُنصب مجدداً، فيقع الحزب أسير نواس قاتل بين الوكالة والعمالة

الأحد، 16 أكتوبر 2011

مضادات الخوف الحيوية

انقضت الآن خمسة أسابيع على اعتقال المحللة النفسية السورية رفاه توفيق ناشد (66 سنة)، بعد قيام مخابرات القوى الجوية باختطافها من مطار دمشق وهي تزمع السفر إلى باريس؛ ثمّ إنكار وجودها لدى أيّ جهاز أمن أو شرطة، قبل الإقرار بأنها نزيلة سجن النساء في دوما. القضاء السوري، وجرياً على مألوف ما يتلقاه من تعليمات عليا، رفض الإفراج عن ناشد بكفالة مالية، وأبقى عليها قيد الاحتجاز ريثما تفرغ السلطات الأمنية من تدبيج سلسلة الاتهامات المعتادة: التحريض على التظاهر، إضعاف الشعور القومي، ثمّ ـ لكي لا تغيب المفارقة عن التلفيق، وتتأكد المسخرة ـ التسبب في وهن... نفسية الأمة، بالنظر إلى أنّ علم النفس هو اختصاص ناشد!

والحال أنه لا يُعرف عن هذه السيدة أي انتماء سياسي، وهي ليست ناشطة في أيّ تجمّع ثقافي أو أكاديمي له صبغة معارضة، كما أنها ـ في حدود ما أعلم شخصياً ـ لم توقّع على أيّ من بيانات المثقفين السوريين التي طالبت بالإصلاح، خاصة تلك التي صدرت بعد توريث بشار الأسد. هذه السيدة انخرطت، فور تخرّجها من جامعة باريس السابعة، سنة 1985، في ميدان اختصاصها المهني، فمارست العلاج النفسي في مدينة حلب، مسقط رأسها، ثمّ في العاصمة دمشق بعدئذ، سواء في المشافي الحكومية أو في عيادتها الخاصة. وهي من روّاد، التحليل النفسي في سورية، ولها الفضل في تأسيس "مدرسة دمشق للتحليل النفسي"، وعقد مؤتمر مشهود حول علم النفس كان الأوّل من نوعه في تاريخ سورية الحديث.

أمّا "الجريمة" التي رأى النظام أنّ ناشد قد ارتكبتها، واستحقت عليها الخطف من المطار والزجّ في زنزانة واحدة مع القاتلات ومهربات الحشيش والجانيات المحترفات، فهي أنها سعت إلى استخدام علومها من أجل لمّ شمل بنات وأبناء وطنها، وتشجيعهنّ على تبادل الرأي والهواجس، وتحريضهنّ على الكلام غير المباح، وتهدئة مخاوفهنّ... ليس في سياق مظاهرة أو اجتماع سرّي في منتدى أو محفل، بل في بقعة هادئة ومكشوفة هي مركز اليسوعيين في دمشق. وفي أواخر آب (أغسطس) الماضي، وزّعت وكالة الأنباء الفرنسية تقريراً عن هذه الجلسات، نشرته عشرات الصحف العربية والأجنبية، تحت عناوين مختلفة ولكنها تتفق على الأساس: سوريون من أديان وطوائف مختلفة يجمعهم أمر واحد هو الخوف من المستقبل.

التقرير أوضح أنّ المشروع يقوم على اجتماعات أسبوعية، يحضرها في كلّ مرّة ستة من أصل 50، تُطرح فيها مسائل شتى بأكبر قدر ممكن من الشفافية، والتخفف من المحرّم والمسكوت عنه، لا سيما المخاوف الطائفية والدينية والإثنية، واحتمالات الحرب الأهلية. كما أشار التقرير إلى أنّ ناشد تشترك في تنسيق المشروع مع الأب رامي إلياس، المحلل النفسي ومسؤول المركز، واقتبسها تقول التالي: "المفارقة هي أنّ الجميع يشعرون بالخوف في سورية. لماذا يستخدم النظام العنف والقمع؟ لأنه يخاف أن يفقد السلطة. والناس الذين يتظاهرون، ألا يشعرون بالخوف؟ بالتأكيد، ومع ذلك يذهبون" إلى المظاهرات. ثمّ نقرأ ما يقوله مشارك من الطائفة العلوية (عبّر عن الهلع على نفسه وأولاده بعد اقتحام جامع الرفاعي في دمشق)، ومشاركة من الطائفة الدرزية (قالت إنها لا تخشى من الانقسامات الطائفية، بقدر خشيتها من التدخل الأجنبي الذي يمكن أن يقسم البلد)، وثالث مسيحي (روى أنه كان مع النظام حتى ازدادت عمليات القتل، فذهب للتظاهر في دوما، وآواه سكانها الذين يسميهم النظام "سلفيين").

فما الذي يمكن أن يوهن عزيمة الأمّة، إذا اجتمعت شرائح تمثيلية من بناتها وأبنائها، وخاضوا في نقاشات مثل هذه، أو انقسموا حول هذا الأمر أو ذاك، بين مؤيد للانتفاضة وخائف منها مباشرة، أو من تأثيراتها الخارجية؟ وكيف يمكن لجلسات كهذه أن تضعف "الشعور القومي"؟ أليس بعض هذا هو ما تنطح رأس النظام إلى تحقيقه في ما سُمّي بـ"الحوار الوطني"؟ هي أسئلة نافلة، غنيّ عن القول، لأنّ الأصل في قرار اختطاف ناشد كان تجميد مبادرتها هذه، فضلاً عن  تعطيل طاقااتها في العلاج السريري المباشر لمرض كبير عضال اسمه الخوف، مزمن في سورية منذ 48 سنة، حين فُرضت قوانين الطوارىء والأحكام العرفية.

ممنوع على رفاه ناشد استغلال سيغموند فرويد وجاك لاكان وجورج باتاي، أو حتى علماء نفس عرب من أمثال مصطفى صفوان ومصطفى حجازي وسامي علي، في تدريب السوريات والسوريين على كسر حواجز الخوف، وفتح كوى في جدران الصمت، والإبصار بعيداً إلى أمام، نحو الحرية والكرامة والديمقراطية والمستقبل الأفضل. وإذا كانت أجهزة النظام أجهل، بل أشدّ غباء، من أن تدرك خطورة أبحاث ناشد السابقة حول المغزى الثقافي ـ السياسي لشيوع ظواهر الحجاب والنقاب والتديّن الشعبي، وعلاقات الهوية بين الذات والآخر (كما جاء في مقالتها اللامعة "قول ما لا يُقال"، مثلاً)، فإنّ الأجهزة ذاتها لا يمكن إلا أن تستنفر وتستشيط غضباً وحقداً حين تعكف ناشد على رفد الانتفاضة، وإنْ بطرائق غير مباشرة، لكنها عميقة الأثر.

مثل توفير المضادات الحيوية الكفيلة بقتل الخوف، وتزويد الأمّة بكلّ المناعة المطلوبة للوقاية منه، مرّة وإلى الأبد! 

الخميس، 13 أكتوبر 2011

المجلس الوطني السوري: حذارِ من وليد غير خديج!

حتى يعتنق المجلس الوطني السوري، الذي أُعلن عن ولادته من اسطنبول، يوم 2 تشرين الأول (أكتوبر) الجاري، سياسة أخرى غير تلك التي نصّ عليها بيان التأسيس، ويكون لكلّ حادث حديث آخر بالتالي؛ فإنّ تظاهرات "جمعة المجلس الوطني"، التي شهدتها عشرات القرى والبلدات والمدن السورية الأسبوع الماضي، كانت بمثابة تصويت على تلك السياسة في المقام الأوّل، فضلاً عن تأييد هذا المجلس تحديداً، سواء من حيث فكرته الإئتلافية والتحالفية، أو لجهة توازن تركيبته بين الداخل والخارج، وعلى صعيد الأطياف السياسية والحساسيات العقائدية والفكرية. وليس بلا مسوّغ كاف أن يتذكر المرء، هنا، وبين الفينة الضرورية والأخرى، ظروف الولادات العسيرة التي قادت إلى نشوء هذه الصيغة المجالسية، وكم اقتضت من شدّ وجذب ومؤتمرات وملتقيات واجتماعات، وعمليات إجهاض شاقة، لم تخل من مظاهر الحمل الكاذب أيضاً!

وإذا جاز السجال بأنّ أنّ هذه الصيغة الراهنة هي الأنجح حتى الآن، الموفقة أكثر من سواها، الجديرة بصفاتها هذه أن تحظى بالدعم والمساندة، وتوفير كلّ الشروط التي تكفل تلبية ما عُلّق عليها من آمال ومهامّ ومسؤوليات؛ فذلك لأنّ أحد أبرز الأسباب الجوهرية التي أتاحت نجاح الصيغة كان انتصار مبدأ التوافق داخل المجلس، وليس مبدأ التذويب أو الانصهار في كتلة واحدة. ولعلّه لم يعد سرّاً أنّ جولات التفاوض المعقدة، التي سبقت الإعلان عن ولادة المجلس، والتي كان رياض الترك ـ الشخصية الأبرز في المعارضة الديمقراطية الوطنية، الأمين الأوّل الأسبق لـ"حزب الشعب الديمقراطي"، والقيادي في "إعلان دمشق" ـ قد شارك فيها أو صاغ منطلقاتها البدئية والمبدئية، استهدفت بلوغ هذه النتيجة الحاسمة: اعتبار القوى المكوّنة للمجلس مستقلة في تحالفها، وليست مندمجة تحت أية صبغة؛ وأنها، بعد الاتفاق على الخطوط العريضة التي نصّ عليها بيان التأسيس، تعمل بالتوافق على تلك الخطوط وليس بالامتثال لرأي الكتلة العددية، بالنظر إلى أنّ تكوين المجلس، من حيث أعضاء الداخل كما الخارج، اعتمد خيار التعيين والتسمية، ولم ينهض على أي مبدأ تمثيلي انتخابي.

وبمعزل عن تركيبة الجمعية العمومية للمجلس (والمحاصصة بشأنها تعطي الأغلبية للداخل، التنسيقيات وأحزاب "إعلان دمشق" والمستقلين...)، حيث تظلّ النسب قابلة للتعديل بالنظر إلى إبقاء العدد مفتوحاً بين 230 ـ 320؛ فإنّ تركيبة الأمانة العامة للمجلس (29 عضواً) هي التي تستوجب مبدأ التوافق، بدل اعتماد قاعدة اتخاذ القرار بالأغلبية، البسيطة منها أو حتى معدّل الثلثين. هذه، في نهاية المطاف، ليست لجنة مركزية لحزب سياسي توافق أعضاؤه على التكتيك والستراتيجية والسياسة والفكر، وانتخبوا قيادة تمثّل إرادتهم في الحلّ والترحال، على نحو يشبه التفويض الحزبي المطلق. وما دامت التركيبة، على صعيد الاسم المحدد وليس الإنابة التمثيلية أو الانتماء الحزبي أو التوزّع بين داخل وخارج فحسب، قامت أساساً على مبدأ التعيين وليس الانتخاب؛ فما الذي يمنحها الحقّ في ادعاء التجانس عند اتخاذ أي قرار لم يحسم الأمر فيه بيانُ التأسيس ذاته؟ 

وهذه، في الاعتبار الأوّل، حساسيات يسارية وقومية وليبرالية وإسلامية وعلمانية وإثنية... قد تختلف، ومن الطبيعي أن تفعل، حول مسائل شتى؛ جمع شملها، مع ذلك، أنها توافقت على هذه الخلاصة الثمينة، الكبرى: "تعبئة جميع فئات الشعب السوري، وتوفير كل أنواع الدعم اللازم من أجل تقدم الثورة، وتحقيق آمال وتطلعات شعبنا بإسقاط النظام القائم بكل أركانه ورموزه بما فيه رأس النظام. وبناء نظام ديمقراطي تعددي في إطار دولة مدنية تساوي بين مواطنيها جميعاً، دون تمييز على أساس القومية أو الجنس أو المعتقد الديني أو السياسي". بيد أنّ اتفاق جميع القوى على هذه الخلاصة جاء نتيجة التوافق العريض على مطلب تكتيكي وستراتيجي في آن (أوحى به الحراك الشعبي، وطلبه، واعتبره سقف وحدة المعارضة وغايتها)، وليس نتيجة ترجيح هذا الرأي أو ذاك، لهذه المجموعة السياسية أو تلك، انحناءً أمام أية أغلبية تحققت داخل المجلس أو هيئاته، أياً كانت.

فما الذي يمكن أن يحدث، على سبيل المثال، عندما تُطرح مجدداً مسألة التدخل العسكري الخارجي في أحد اجتماعات الأمانة العامة، وذلك رغم أنّ البيان التأسيسي حسم الموقف منها بوضوح كاف (يقول النصّ: "يعمل المجلس الوطني مع جميع الهيئات والحكومات العربية والإقليمية والدولية وفق مبدأ الاحترام المتبادل وصون المصالح الوطنية السورية العليا. ويرفض أي تدخل خارجي يمس بالسيادة الوطنية")؟ هذه ليست فرضية ضعيفة الاحتمال، لأنّ بعض القوى داخل المجلس، وعدداً غير قليل من الأعضاء المستقلين، لا تمانع في طلب التدخل الخارجي، بل ترحب به، ولا تعدم استخدام هذا القناع أو ذاك لتجميل وجوهه القبيحة. وبذلك فإنّ التوصّل إلى قرار بهذا الخصوص، وهو بالطبع إجراء يرقى إلى مستوى الارتداد عن النصّ السابق، التأسيسي والتوافقي، لا يمكن أن يتمّ عبر التصويت البسيط، بصرف النظر عن طبيعة ما سيحيط به من تكتلات وتجاذبات.

هذه الحال ينبغي أن تسود، أيضاً، في اجتماعات اللجنة التنفيذية (سبعة أعضاء، قد يُنتظر توسيعهم إلى ثمانية)، سواء تلك التي تخصّ تسيير الأعمال اليومية لمهامّ اللجنة، أو تلك التي تتطلب العودة إلى الأمانة العامة، وربما الجمعية العمومية للمجلس. والحال أنّ هذه اللجنة التنفيذية معنية، أكثر من هيئات المجلس الأخرى، بتعديل ميزان صورتها الديمقراطية، وهو ميزان يبدو خاسراً حتى الساعة، في ناظر الرأي العام السوري، مثل العربي والعالمي، بعد سلسلة العثرات التي أعقبت إعلان اسطنبول. لم يكن مستحباً، في المثال الأول، أن يؤكد برهان غليون، في حواره مع أحمد منصور على "الجزيرة"، أنه الرئيس القادم للمجلس، وأنه المرشح الوحيد، وذلك رغم جدارته بمسؤولية الرئاسة الأولى، التي ستكون دورية في كلّ حال.

فما نفع الإيحاء بأنّ "انتخاب" الرئيس سوف يتمّ خلال اجتماعات قادمة ستشهدها العاصمة المصرية، القاهرة، إذا كان الأمر قد تمّ الاتفاق عليه مسبقاً؛ خاصة وأنه جرى مراراً تقديم غليون بهذه الصفة في لقاءات عربية ودولية علنية؟ ألم يكن من الأفضل مصارحة الناس، خاصة في هذه الإطلالة الإعلامية الأولى للرئيس العتيد، بأنّ التوافق كان سيد اللعبة، وأنّ الأمر مداورة في كلّ حال، فضلاً عن ضرورة تبيان السبب/ الأسباب في أنّ الرئاسة عُقدت للخارج وليس الداخل، كما كان مرجحاً، وكما كان غليون نفسه قد أعلن في بيان شخصي سابق؟ ولست أخفي هنا، ضمن يقين شخصي صرف بالطبع، أنني كنت أفضّل أن يعهد المجلس بالرئاسة الأولى إلى شخصية من الداخل، مثل السيدة فداء حوراني (تكريماً للمرأة السورية، والعربية، ولمدينة حماة المجيدة، ولأسرة سياسية كريمة...)، أو رياض سيف (احتفاء برمزيته الإنسانية والبرلمانية، وموقعه الراهن في المعارضة)، ولا أستثني رياض الترك إلا لأنّ الرجل أكثر انخراطاً في العمل النضالي والقاعدي اليومي من أن يتفرّغ لأي موقع رئاسي.

علينا، بعد سرد كلّ هذه الاعتبارات، أن نمنح المجلس كلّ الوقت اللازم، وقبله الكثير من التأييد والدعم والمساندة، لتمهيد الأرض أمام استكمال مختلف مؤسساته، على نحو آمن وسلس وسليم، في الجوانب السياسية والتنظيمية والقانونية، على اختلاف تعقيداتها ومشكلاتها. ويبهج، كما يستحقّ التحية، أنّ عدداً من أعضاء اللجنة التنفيذية يمارس مهمة مطلوبة جداً، ومستحبة للغاية، هي الانفتاح على المعارضة السورية التي لم تعلن انضمامها إلى المجلس، أو هي انضمت لتوّها إلى سواه (مجلس الإنقاذ، المجلس المؤقت، هيئة التنسيق...)، سواء في مستوى القوى والأحزاب، أو على صعيد الأفراد أيضاً. ننتظر، بصفة خاصة، اقتناع شخصيات من أمثال ميشيل كيلو وعارف دليلة وحسين العودات وعبد المجيد منجونة وفايز سارة وسواهم، بأنّ المجلس الوطني السوري هو حاضنة المعارضة الأفضل في المرحلة الراهنة، ما دامت مظانهم ضدّه ليست جوهرية؛ كما ننتظر من تجمعات، مثل "هيئة التنسيق الوطني للتغيير الديمقراطي"، ومن حسن عبد العظيم شخصياً، تجاوز حساسيات الماضي القريب، والانضمام إلى المجلس من منطلق مبدأ التوافق ذاته، ما دام شعار إسقاط النظام هو القيمة العليا التي لا خلاف عليها، وما دام رفض التدخل الخارجي مسألة لا لبس فيها.

وفي المقابل، للمرء المبتهج بانفتاح المجلس الوطني السوري على أطياف المعارضة السورية، كافة، أن يستهجن لجوء بعض أعضاء المجلس إلى رياضة نشاز، بالغة الضرر والأذى، هي نقض بعض مبادىء بيان التأسيس بذريعة التعبير عن رأي شخصي. نسمع، مثلاً، مَنْ يرحّب بالتدخل الخارجي تحت مسميات لا تنتهي في النتيجة إلا إلى استدراج التدخل الخارجي العسكري؛ ولكننا، رغم تأكيد القائل بأنه يعبّر عن رأي شخصي، نقرأ على الشاشة صفته القيادية في المجلس الوطني السوري (وليس موقعه القيادي في حزبه أو جماعته!)، وكأنها مقامه الأوّل والأسبق! كذلك، وكما "ضاعت الطاسة" على السوريين في التمييز بين أسماء المؤتمرات وما تمخّض عنها من هيئات ومجالس وقيادات، اختلط الحابل بالنابل في تمييز ألقاب السادة أعضاء المجلس: هذا "منسّق عام للمجلس"، لا نعرف ماذا ينسّق، ومع مَنْ؛ وهذه "ناطقة محلية باسم المجلس"، لا نعرف محلّها من الإعراب المجالسي؛ وذاك "عضو" يكتفي بهذه الصفة المتواضعة، ولكن تصريحاته توحي بأنه الرئيس الدوري الآتي؛ وتلك مجرّد "متحدثة"، تجعلنا في حيرة حول الفارق بينها والأخت الناطقة المحلية!

ذلك كله لا يطمس الحقيقة الكبرى، والأهمّ، التي تشير إلى أنّ المجلس الوطني السوري هو أفضل صيغة توصلت المعارضة السورية إلى بلوغها، وإلى التوافق عليها ضمن نطاق هو الأعرض حتى الساعة، رغم أنه ليس الأكمل عدداً وقوى، وليس الأمثل في الأداء الديمقراطي. وإذا شاءت أقدار هذا الوليد أن لا يولد خديجاً منذ الساعة الأولى، فذلك لأنّ الإنتفاضة السورية ولدت راشدة منذ البرهة الأولى، وتعمدت على الفور بدماء السوريين، فاشتدّ عودها دونما أطوار انتقالية، وتصاعدت، وتطامنت، وارتقت... حتى صار محالاً على مَنْ يريد تمثيلها في المحافل الدولية ألا يولد ناضجاً، متعالياً على العرضي الزائل، متواضعاً أمام الأزلي الخالد، وجديراً بأمثولات درعا ودوما وبانياس وحماة وحمص ودير الزور والقامشلي، ولائقاً بأسماء محمود الجوابرة وحمزة الخطيب وغياث مطر.

الرحم كان عملاقاً، فحذارِ أن يعجز المتطوعون إلى تمثيله عن وضعه نصب أعينهم، في كلّ صغيرة وكبيرة، وخاصة في المسائل التي لا مساومة حولها؛ وإلا فإنّ القامة الشامخة لن تنتهي إلى حجب ظلال هؤلاء على الأرض فحسب، إذْ ثمة مصائر أدهى وأمرّ، وأبعد اثراً في نفوس البشر، إسوة بحوليات التاريخ!

الأحد، 9 أكتوبر 2011

مشعل الكرد وصورة الجزيرة




لم تكن مفاجأة، في يقيني الشخصي، أن تلجأ أجهزة النظام السوري إلى اغتيال الصديق المهندس مشعل التمو، المناضل والناشط الكردي البارز، مؤسس "تيار المستقبل" الكردي والناطق باسمه، وعضو الأمانة العامة للمجلس الوطني السوري. كان من المنطقي أن تدرج تلك الأجهزة اسم التمو على لوائح التصفية الجسدية لعدد من قادة المعارضة النشطاء على الأرض، بالنظر إلى أنّ خيار الاغتيال المباشر لا يكتفي بإبعاد الناشط عن ساحة العمل الميداني المباشر؛ بل يسعى أيضاً إلى استفزاز مواطنيه ومناصريه وأحبّته وأهله، وشحن ما يمتزج في نفوسهم من مشاعر الحزن والغضب إلى مستويات عارمة، قد تتيح استدراجهم إلى ردود قصوى، بينها العنف المضادّ.

ليست مصادفة، كما يشير المنطق البسيط، أن يكون أوّل عضو/ شهيد، في الأمانة العامة للمجلس الوطني السوري، حاملاً للمواصفات التالية: كردي، مثقف، معارض مخضرم جرّب التظاهر والاعتصام والاعتقال والحياة السرّية، مدافع عريق عن حقوق الشعب الكردي القومية والديمقراطية في إطار نظام ديمقراطي تعددي، وناقد يقظ لشتى أنماط القصور في العمل السياسي الكردي... ولم يكن مدهشاً، أيضاً، أن تُنفّذ جريمة اغتياله على هذا النحو الصارخ والهمجي، ولكن المتعمَّد تماماً في أدقّ تفاصيله، على مرأى من نجله مارسيل، ورفيقته زهيدة رشكيلو عضو مكتب العلاقات العامة في "تيار المستقبل". أخيراً، لم يكن غريباً أن تفتح الأجهزة الأمنية النار على مشيّعي الجنازة في مدينة القامشلي، حيث وقعت جريمة الاغتيال، وأن تتعمّد الواقعة بدماء المزيد من شهداء الانتفاضة.  

بيد أنّ المدينة في ذاتها كانت مستهدفة أيضاً، بالأصالة عن تمثيلاتها ورموزها ومكوّناتها، وبالنيابة عن منطقة فريدة وذات مقام خاصّ، اسمها "الجزيرة السورية". وبالمعنيين السوسيولوجي والاقتصادي، كانت علاقة البشر مع المواسم الزراعية قد جعلت هذه المنطقة تنفرد عن بقية المناطق السورية في أنّ معظم سكانها خليط ثنائي التركيب: إمّا من الوافدين الذين قَدِموا من مناطق الداخل السوري بحثاً عن العمل الزراعي الموسمي ثم استقرّوا، أو من المهاجرين الذين توافدوا من تركيا والعراق وأرمينيا هرباً من الاضطهاد العرقي أو السياسي.

وذات يوم، في شهر أيلول (سبتمبر) من العام 1973، أعلنت إذاعة دمشق أنّ حافظ الأسد سوف يزور المحافظات الشرقية، وكان الخبر مفاجئاً لأنّ الأسد دشّن عهده بزيارات استعراضية صاخبة إلى جميع المحافظات السورية، باستثناء الشرقية منها، الرقة ودير الزور والحسكة. ويُقال إنه كان يعتبر هذه المحافظات معادية له شخصياً، مثلما هي مناهضة لنظامه؛ أمّا أبناء المحافظات فلم تكن لديهم أوهام حول مدى ما يتعرّضون له من إهمال، فبدا الإعلان عن زيارة الأسد غريباً وباعثاً على الآمال في آن معاً. إلى حين فقط، لأنّ الوقائع اللاحقة كشفت أنّ إشاعة أنباء الزيارة كانت تستهدف خداع إسرائيل، بعد اتفاق الأسد وأنور السادات والملك حسين على موعد بدء الأعمال الحربية في سياق ما سيُعرف باسم "حرب تشرين". ومضت 27 سنة، ورحل الأسد دون أن تطأ قدماه شبراً في تلك "الأصقاع المعادية"!

المثير في الأمر أنّ هذه المحافظات الشمالية هي "أهراء سورية" على نحو أو آخر، وفيها تتمركز ثروات البلاد ومواردها الأساسية: في الحسكة النفط وزراعة الحبوب التي تعدّ محاصيل ستراتيجية، وفي دير الزور النفط، وفي الرقّة الكهرباء وسدّ الفرات. وإذا كان التمييز البيّن يقع على مواطني هذه المحافظات الشمالية بالمقارنة مع سواهم، فإنّ التمييز الذي يعاني منه المواطنون الأكراد أشدّ وأبعد أثراً، وهو بلغ ويبلغ مستوى التجريد من الجنسية والحرمان تالياً من حقوق التعليم وتسجيل الولادات الجديدة والسفر، فضلاً عن التهجير، والتحريم شبه التامّ المفروض على الحقوق الثقافية والسياسية الأساسية.

أمّا "عروس الجزيرة" بامتياز فهي مدينة القامشلي، التي صارت موطناً لأقوام من الأكراد واليزيديين والأرمن والسريان والآشوريين و"المردلية" و"المحلمية" والبدو الرحّل والعشائر المستوطنة... الأمر الذي استدعي تعدّدية أخرى على صعيد اللغات والأديان والمذاهب والتراثات والأساطير والفنون، فضلاً عن طقوس الأفراح والأتراح. حكومات حزب البعث المتعاقبة، ومنذ استلام السلطة سنة 1963، تكفّلت بالإجهاز على الكثير من أخلاقيات التعدّد الراقية هذه، أو رسّخت نقائضها على نحو منهجي مقصود، اعتمد سياسة اللعب على حساسيات طائفية ومذهبية بين المسلم والمسيحي، أو بين المسلم العربي والمسلم الكردي أو اليزيدي، وإيقاظ ما كان منها خاملاً نائماً، وإحياء ما اندثر وانطوى.

لكنّ صورة القامشلي هي أنموذج عن سورية المستقبل، التي من أجل بنائها ينتفض السوريون كلّ يوم، ويضحّون كلّ ساعة؛ وهي، على نحو ما، أمثولة تجعل تعددية البلد، الثقافية والدينية والإثنية، منابع اغتناء متبادل، وموارد خصب وإخصاب. إنها، في المقابل، صورة لا تنسجم مع أغراض النظام، لا سيما في الطور الراهن من خطوط دفاعه الأخيرة: إثارة النعرات، وزرع الفتن، والاشتغال على التفتيت المنهجي في مختلف أشكاله، المناطقية والطائفية والدينية والأقوامية. وهكذا فإنّ اغتيال مشعل التمو ليس سوى خطوة تالية، سبقتها خطوات لم تكن أقلّ خبثاً، في مسعى النظام إلى تدمير الأمثولة، وإلى إشعال الحريق في ثوب العروس، المطرّز بأزاهير النوروز وقمح الفقراء وحداء السهوب...

الخميس، 6 أكتوبر 2011

"فيتو" موسكو والرهان على شرعية رامي مخلوف

قبل أن تستخدم روسيا والصين حقّ النقض في مجلس الأمن الدولي، لتعطيل قرار يدين ممارسات النظام السوري في قمع الانتفاضة الشعبية، كان البلدان قد استخدما في واقع الأمر الحقّ ذاته الذي سبق للولايات المتحدة أن استخدمته، مراراً وتكراراً، لتعطيل أيّ قرار يمسّ إسرائيل، لكي نبقى في قضايا المنطقة. كذلك كانت روسيا والصين تتساويان، في استخدام الـ"فيتو"، مع جميع القوى العظمى التي تحتكر هذا "الحقّ" وتلجأ إليه دفاعاً عن مصالحها القومية، في المقام الأوّل، ومصالح الحلفاء والشركاء والأصدقاء في المقام الثاني، وكلما اقتضت الضرورة. مَنْ كان منهم بلا خطيئة، في هذا المضمار، فليرجم موسكو وبيجينغ بحجر!

غير أنّ هذه الحقيقة البسيطة، التي لا ينكرها أحد حتى في صفوف أشدّ السذّج طوباوية، لا تُبطل مقدار قلّة الأخلاق في استخدام القوى العظمى للـ"فيتو"، هذا إذا توجّب الاكتراث بأي "خلق قويم" في السياسة أصلاً، من جهة أولى؛ كما لا تقي الشعوب أو القضايا محلّ اختلاف تلك القوى، ومبرّر ذهابها إلى النقض، مخاطر ما تنطوي عليه سيرورة تعطيل مشروع القرار، من جهة أخرى. وإذا توفّرت قلّة تعلّق الكثير من الآمال على تمرير أي مشروع في مجلس الأمن الدولي ضدّ النظام السوري، فإنّ غالبية المراقبين يمكن أن تقتفي منطق الأمور الأبسط، فترى في إصدار القرار نافذة ضغط نوعي، معنوي وملموس في آن، لا يجوز إغلاقها أمام الشعب السوري.

من وجهة النظر الصينية، تبدو خيارات مساندة النظام السوري أوضح، وأسهل في الواقع، لأنّ بيجينغ تنفر نفوراً تاماً، وغريزياً على نحو ما، من أيّ "فيروس" ديمقراطي يمكن أن يبلغ الشارع الصيني، حتى إذا ابتدأت حضانته على مبعدة مئات الآلاف من الأميال، أو كان من طينة ثقافية وسياسية مختلفة تماماً. كذلك ليس في وسع الصين أن تهدر، من نيويورك وفي قاعة مجلس الأمن الدولي، استثمارات بمليارات الدولارات في سورية، سواء في القطاع العام أم تلك التي يشهدها القطاع الخاصّ، ويديرها (ليس دون مفارقة صارخة) رجل الأعمال السوري محمد حمشو، أحد كبار تماسيح الفساد في البلد، صاحب قناة "الدنيا" الأشدّ تطبيلاً للنظام وتزويراً لإرادة الشعب وتشبيحاً ضدّ الانتفاضة، والذي يحدث ايضاً أنه... رئيس "مجلس الأعمال الصيني ـ السوري"!

فإذا انتقل المرء من تفويت فرصة الضغط على النظام إلى النقيض، أي إسداء خدمة لمخططاته ومزاعمه ودعاوته، وإلحاق الضرر بالانتفاضة والشعب السوري؛ فإنّ من اليسير ترقّب طبيعة التوجهات التي يمكن أن تتخذها ردود الأفعال المعاكسة في الشارع الشعبي السوري: ابتداء من ارتفاع مقادير البغض للبلدين، إسوة بالحكومتين كما يتوجب القول، مروراً بحرق أعلامهما أثناء التظاهرات، وليس انتهاء بتقديم ذريعة جديدة للذين ضاقوا ذرعاً بسلمية الانتفاضة وأخذوا يطالبون بتسلّحها ويدعون إلى انتهاج عنف دفاعي مضادّ في وجه آلة النظام الوحشية.

لا تُنسى أيضاً، رغم أنها هامشية وغير جوهرية، درجة الإحباط التي قد تصيب الشارع الشعبي إزاء المبتهجين بقرارَيْ الـ"فيتو"، الروسي والصيني، ليس في صفوف السلطة وأبواقها وأتباعها، فهذا أمر منتظَر بالطبع، بل في الأوساط التي تحتسب ذاتها على المعارضة. فإذا تجاهل المرء موقف شخصية هلامية وسلطوية مثل قدري جميل، ممثّل ما يُسمّى "الجبهة الشعبية للتغيير والتحرير في سورية"، الذي اعتبر أنّ الـ"فيتو" الروسي يشبه ما جرى في العام 1956 عندما استخدم الاتحاد السوفيتي حقّ النقض أثناء العدوان الثلاثي على مصر؛ فماذا يُقال في موقف حسن عبد العظيم، حامل هذه المسؤوليات الجسام مجتمعة: الأمين العام لـ"حزب الاتحاد الاشتراكي الديمقراطي العربي"، والناطق باسم "التجمع الوطني الديمقراطي"، والمنسق العام لـ"هيئة التنسيق الوطنية لقوى التغيير الديمقراطي"، الذي دعا موسكو إلى أن تكون "متوازنة" في علاقتها بكلّ من النظام والشعب في سورية؟

مصالح روسيا، التجارية والعسكرية والسياسية، التي تقف وراء مساندة النظام السوري، ليست سرّاً على أحد، ولا ينبغي لها أن تكون مفاجئة إلا لبسطاء العقول ودعاة الخلق القويم في السياسة، والطوبى في الاقتصاد. يقرأ المرء تقريراً حديث العهد في الطبعة الإنكليزية من صحيفة "أخبار موسكو"، فيقع على استثمارات روسية في سورية تبلغ 19,4 مليار دولار، تتركز أساساً في التسلّح والبنى التحتية والطاقة والسياحة. تُضاف إلى هذا حقيقة أنّ الاتحاد السوفييتي المنحلّ كان المزوّد الأكبر لأسلحة الجيش السوري، وأنّ الديون المترتبة على دمشق وصلت إلى 13,4 مليار دولار، محت موسكو القسم الأعظم منها فيما بعد، واستبدلتها بعقد تسليح يبلغ أربعة مليارات، جرى التوقيع عليه سنة 2006.

من المعروف، أيضاً، أنّ إيران هي التي تتعهد سداد غالبية هذه الفواتير، ليس إكراماً للنظام السوري في الاعتبار الأوّل، بل لأنّ بعض هذه الأسلحة يُعاد شحنه إلى طهران، ضمن سياسة موسكو في التحايل على قرار حظر تصدير السلاح إلى إيران، وهذا بُعد أقليمي، ودولي، للموقف الروسي في تأييد النظام. بُعد آخر، ذو طبيعة مشابهة، يتمثّل في التسهيلات التي تحصل عليها موسكو من منشأة الخدمات البحرية الواقعة على الساحل السوري، في طرطوس، والتي ترقى عملياً إلى مستوى القاعدة البحرية. أهمية هذه المنشأة انها تُعتبر نافذة موسكو الثانية على المياه الدافئة بعد ميناء سيباستوبول على البحر الأسود، إذْ أنّ جميع الشحنات البحرية الروسية ينبغي أن تمرّ من مضيق البوسفور، الواقع في المياه التركية.

وفي مطلع أيار (مايو)، سنة 2005، حين قام بزيارته الرسمية الأولى إلى دمشق (وكانت أيضاً أوّل زيارة يقوم بها رئيس روسي إلى سورية، في عهد الإتحاد الروسي) اختار ديمتري ميدفيديف صحيفة "الوطن" السورية الخاصة، وليس أية صحيفة أخرى حكومية مثل "البعث" أو "الثورة" أو "تشرين"، لتوجيه رسالة إلى الشعب السوري. أغلب الظنّ، اعتماداً على المنطق البسيط، أنّ المستشار الذي نصح مدفيديف باختيار "الوطن" لم يكن جاهلاً بشؤون سورية المعاصرة، وكان يعرف أنّ الصحيفة أطلقها ويملكها رامي مخلوف، ابن خال الرئاسة وأشدّ رجال الأعمال السوريين نفوذاً وسطوة، وأعلاهم سيطرة على ميادين المال والاستثمار والتجارة والتصنيع المحلي. وبذلك فإنّ استقراره على اختيار هذه المطبوعة بالذات لم يكن عشوائياً ولا بريئاً، وكان إرسال إشارات ذات مضامين سياسية واقتصادية واستثمارية هو القصد؛ لم يغب عنها المغزى الإيديولوجي ربما، في تفضيل القطاع الخاصّ على الحكومي.

مدفيديف ـ ونقتبسه، هنا، في نصّ صحيفة "الوطن" السورية ـ استذكر علاقات التعاون التاريخية بين البلدين، وعدّ عشرات المشاريع الصناعية ومشاريع البنية التحتية؛ ثمّ انتقل مباشرة إلى ما يهمّ موسكو بصفة أولى في ميزان العلاقات الدولية، أي نظام تعدد الأقطاب، وقال: "قبل كل شيء يجب تفعيل الحوار السياسي المتعدد الأبعاد، وتجمعنا فكرة إقامة نظام عالمي عادل يقوم على سيادة القانون الدولي، ومساواة كل الدول – أكانت كبرى أم صغرى ـ والتعامل بينها من أجل حلّ القضايا العالمية، بما فيها التحديات والمخاطر الجديدة التي نواجهها في القرن الحادي والعشرين".

وللوهلة الأولى تبدو هذه النقطة أقرب إلى تحصيل حاصل متفق عليه ويحظى بإجماع طبيعي، لولا أنّ ما وراء الأكمة فيها يُظهر منطقاً آخر مختلفاً، لعلّه يطيح بقسط كبير من روحية الاتفاق. ذلك لأنّ النظام السوري يمدّ يد الصداقة إلى موسكو، ولكنّ القلب يخفق لهفة على تحسين العلاقات مع واشنطن، قبلئذ وبعدئذ وفي الغضون، فهذه لا تكتسب الأولوية على المستوى العملي التكتيكي فحسب، وإنما قد تكون الغاية القصوى والعليا على المستوى الستراتيجي كذلك. وموسكو لا تجهل هذا، بل كانت تقيم التوازن مع نظام الأسد الابن على هذا المعيار طيلة عهد الرئيس الروسي السابق فلاديمير بوتين، وحتى سنة 2005 عندما قرّر الأسد اتخاذ خطوة نوعية تجاه موسكو حين ضاقت به سبل ترطيب الأجواء مع واشنطن.

والمرء، بالطبع يتمنى أن تلعب موسكو أي دور حيوي يكسر نظام القطب الأمريكي الواحد، لولا أنّ التعويل على روسيا الراهنة هو ضرب من الاتكاء على قوّة عالقة في شباك مآزقها المحلية والوطنية ذاتها، قبل مآزق الكون. وليس جديداً التذكير بأنّ روسيا تعاني من انحدار متواصل في مستوى المعيشة، وتآكل ثابت في القدرة الشرائية، وفشل متواصل في الخطط الاقتصادية، وتضخّم وعجز وبطالة وعصابات مافيا. وروسيا العقد الأوّل من القرن الحادي والعشرين ترتدّ إلى ما يذكّر بروسيا أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وكأنّ مشاهد البلاد اليومية قفزت مباشرة من أفلام سيرغي ميخائيلوفيتش أيزنشتاين.

وإذ ترتدّ هذه الأيام إلى ما يشبه المربّع الأول في حسابات القوّة الدولية، فذلك لأنها تعود من بوّابة واحدة وحيدة هي كاريكاتور التحديث الليبرالي، الذي يتجلّى في صورته الأكثر بشاعة وإثارة للرعب: مخلوق ديناصوري نووي اغترب عن هويته وعن أطرافه الجغرافية والسكانية (25 مليون مواطن روسي يقيمون في بلدان الجوار غير الروسية)، لا يستطيع التقدم خطوة إلى الأمام إلا إذا توقّف في المكان بمعدل زمني يساوي خطوتين إلى الوراء. فكيف يمكن لروسيا، وهي على هذه الحال، أن تتنافس مع سواها من القوى الكونية في إقامة نظام متعدد الأقطاب، تكون فيه مالكة أي قول وفصل، ما خلا "حقّ" النقض" إياه؟ وهل ميادين تنافسها مع واشنطن أو باريس أو لندن أو برلين... انتقلت إلى درعا وحمص وحماة ودير الزور واللاذقية، حيث يختلط دم الشهيد السوري برماد العلم الروسي؟

خطأ موسكو القاتل أنها هذه المرّة، على نقيض سوابق العلاقة مع النظام السوري، تراهن على عصبة تحتضر، آيلة إلى سقوط وشيك، ولا يدلّ سلوكها الانتحاري إلا على سكرات الموت، وقد فقدت كلّ شرعية ما عدا تلك التي ما يزال الـ"فيتو" الروسي يتمسّح بها، ويبحث عنها عند أمثال بشار وماهر الأسد، رامي وحافظ مخلوف، آصف شوكت وعلي مملوك ومحمد حمشو وطريف الأخرس...  فأيّ غرابة، إذاً، في أن لا يتورّع الديناصور الروسي عن مساندة وحوش القمع وذئاب النهب في سورية، على مستوى الأفراد إسوة بالنظام والمؤسسات؟ ولماذا لا تدافع موسكو عن نظام ديناصوري بدوره، وتوريثي أيضاً (حتى إذا اختلفت قواعده عن لعبة الكراسي الرئاسية بين مدفيديف وبوتين)، لا يتقدّم خطوة إلا لكي يرتدّ عشر خطوات؟    

الأحد، 2 أكتوبر 2011

"خوش صموتيم" المثقف السوري


كان يحلو للفنّان الفلسطيني الراحل ناجي العلي أن يعقد جناساً لفظياً طريفاً، ومريراً قاتماً في الآن ذاته، بين حركة «غوش إيمونيم» الإسرائيلية المتطرّفة، وما أسماه حركة "خوش صموتيم" العربية التي ينتسب إليها الحكّام العرب كافة، والتي لا تمارس إلا الصمت في أفضل (أي: خوش) أنماطه! وفي الوسع استخدام ذلك الجناس اليوم أيضاً، لوصف صمت عشرات المثقفين العرب عن قبائح أنظمة الاستبداد العربية، أو انخراطهم في تجميلها تحت ذرائع فاضحة ومفتضَحة؛ وذلك رغم أنّ "خيانة المثقف"، في المفهوم الذي أشاعه الفيلسوف الفرنسي جوليان بيندا منذ عشرينيات القرن الماضي، ليست طارئة في التاريخ، قديمه وحديثه، وليست البتة مفاجئة، بسبب من طبيعة موقع المثقف الإيديولوجي والوظيفي والاجتماعي.

وأبقى في بلدي، سورية، ليس لأنني أدرى بشعاب مثقفيها، كما أرجو، فحسب؛ بل لأنّ الانتفاضة السورية صارت أمّ انتفاضات العرب، ولا فخر، إذْ تدخل شهرها السابع أكثر عزيمة وصموداً، وأشدّ مضيّاً في بذل التضحيات وتطوير ثقافة المقاومة، ومعها تذهب أجهزة نظام الاستبداد والفساد إلى المدى الأقصى في البربرية والهمجية، وفي اليأس والسلوك الانتحاري. وأبقى في سورية لأنّ العشرات من مثقفيها المشاهير يواصلون الانضواء في "حركة صموتيم"، مخجلة تماماً حين تُقارَن بمواقف زملاء لهم، سوريين وعرب وأجانب؛ كما أنها مخزية حين تضع ضمير الصامت أمام تفاصيل الأهوال التي يتعرّض لها بنات وأبناء بلده، وحين تُخرج صمته من نطاق الرأي الشخصي أو الموقف من الانتفاضة، لتنتهي به إلى المشاركة في المجزرة والاغتيال والاعتقال وجلسة التعذيب وكسر التظاهرة، فضلاً عن حصار الحيّ والقرية والبلدة والمدينة، ودكّ البشر والحجر والزرع والضرع بأكثر الأسلحة فتكاً وتدميراً.

ولعلّي أعود إلى برهة مفصلية في تاريخ علاقة المثقف السوري بـ"الحركة التصحيحية"، نظام حافظ الأسد ووريثه بشار الأسد، هي "بيان الـ99"، الذي صدر بتاريخ 27/9/2000، أي بعد قرابة ثلاثة أشهر على توريث الأسد الابن. لم يكن مألوفاً، آنذاك، أن يصدر بيان يحمل تواقيع 99 من أبرز مثقفي سورية، يطالب بثلاث: 1) إلغاء حالة الطوارئ والأحكام العرفية المطبقة في سورية منذ 1963؛ و2) إصدار عفو عام عن جميع المعتقلين السياسيين ومعتقلي الرأي والضمير والملاحقين لأسباب سياسية، والسماح بعودة المشردين والمنفيين؛ و3) إرساء دولة القانون، وإطلاق الحريات العامة، والاعتراف بالتعددية السياسية والفكرية وحرية الاجتماع والصحافة والتعبير عن الرأي، وتحرير الحياة العامة من القوانين والقيود وأشكال الرقابة المفروضة عليها، بما يسمح للمواطنين التعبير عن مصالحهم المختلفة في إطار توافق جماعي وتنافس سلمي وبناء مؤسساتي...

فأين يتموضع اليوم الموقّعون على البيان، وما موقفهم من الانتفاضة تحديداً؟ ثمة أولئك الذين رحلوا عن عالمنا، ومن الوفاء البسيط أن نستذكرهم (أنطون مقدسي، عبد المعين ملوحي، عبد الرحمن منيف، علي الجندي، ممدوح عدوان، عمر أميرالاي)، وأن نعتبر مساهماتهم في نقد الاستبداد معيناً أساسياً يرفد تراث الانتفاضة الإجمالي. ثمة، في المقام الثاني، أناس يواصلون روحية ذلك البيان، بوسائل وتعبيرات شتى، وعلى نحو أوضح انحيازاً إلى الشعب والانتفاضة وسورية المستقبل؛ وكان طبيعياً أن ينالهم من عسف السلطة الكثير، وبعضهم يعيش شرط الحياة السرية أو غادر إلى المنفى. وثمة، ثالثاً، مَن اختاروا تعليق الآمال على النظام ذاته، واعتبروا أنّ إسقاطه شعار "مغامر" أو "غير سياسي" أو "غير ممكن"، ومن الخير حثّ رجالات السلطة أنفسهم على القيام بإصلاحات تكفل انتقال سورية إلى نظام ديمقراطي مدني، وتضمن في الآن ذاته عدم تفكيك مؤسسات الدولة.
 
فئة رابعة اختارت الوقوف في صفّ السلطة، ظاهراً أو باطناً، بذرائع تتراوح بين "الشفقة" على سورية من أخطار المستقبل، أو ازدراء الحراك الشعبي بوصفه محض مظاهرات تخرج من الجوامع، تتألف من "إسلاميين" أو "رعاع" أو "دهماء". مثقفو هذه الفئة لا يتورعون عن الكتابة في إعلام السلطة، أو العمل لدى المؤسسات الحليفة لها، دون رادع أو حرج. وأمّا الكتلة الخامسة، والأكبر للأسف، فهي تنتمي إلى جماعة الـ"خوش صموتيم"، حيث لا يُكسر الصمت إلا في المجالس المغلقة، رغم أنّ تهديم جدران الخوف، واحداً تلو الآخر، صار عادة مفضّلة لدى السوريين منذ انطلاق الانتفاضة. وبالطبعـ لا يُدهَش المرء إزاء صمت مثقفين ينتسبون إلى أحزاب متحالفة مع النظام، وبينها حزبان ما يزالان يزعمان هوية شيوعية (جماعة بكداش، وجماعة يوسف فيصل)؛ أو مثقفين ينتابهم الخواف على مصير الأقليات، طائفية كانت أم دينية أم إثنية، وذاك ترحيل مقنّع لرغبة دفينة في اللوذ بحياض النظام القائم.

هذا هو "خوش الصمت"، لإنه ذروة في النطق ضدّ الانتفاضة عن طريق الإحجام الإرادي عن النطق لأجلها، وليس في الأمر مفارقة أو تضاد إذا تذكّر المرء فلسفة النظام الأمنية الراهنة: مَنْ ليس معهم، فهو معنا نظرياً و... عملياً في المحصلة! وإذا كان انقسام شرائح المثقفين السوريين إلى فئات خمس هو مصيبة، في حدّ ذاته؛ فإنّ انخراط البعض في التراشق بالبيانات وشنّ حملات التخوين، بالنيابة عن أجهزة النظام، ليس المصيبة الأعظم فحسب، بل هو صمت القبور الأعلى صخباً، وجعجعة!

بيان حول المجلس الوطني السوري

العبارة ـ الأمّ التي كنت أنتظرها في بيان إعلان المجلس الوطني السوري، الذي صدر اليوم من اسطنبول، هي التي تقول إنّ المجلس "يعمل على تعبئة جميع فئات الشعب السوري، وتوفير كل أنواع الدعم اللازم من أجل تقدم الثورة، وتحقيق آمال وتطلعات شعبنا لإسقاط النظام القائم بكل أركانه ورموزه، بما فيه رأس النظام، وبناء نظام ديمقراطي تعددي، في إطار دولة مدنية تساوي بين مواطنيها جميعاً دون تمييز على أساس القومية أو الجنس أو المعتقد الديني أو السياسي".



فهذه عبارة ينبغي لها أن تجبّ مماحكات شتى، أدخلت أطراف المعارضة السورية الخارجية في متاهات مخجلة ومخزية، فضلاً عن كونها ألحقت الضرر واشاعت البلبلة، وكانت متخلفة أصلاً عن نبض الشارع الشعبي السوري وشعارات الانتفاضة المجيدة. وهذه العبارة سقف أدنى، حتى إذا شاء البعض اعتباره الأعلى في حوارات الطرشان التي شهدتها أكثر من عاصمة عربية وإسلامية وغربية، يتوجب البناء عليه في كلّ ما سيتولاه المجلس من مهامّ مستقبلية. هي، أيضاً، مسبار ومعيار وبوصلة.



وإذْ أعربُ عن تأييدي التامّ لبيان المجلس الوطني، وانضوائي في قرار الشعب السوري الذي دفع باتجاه وحدة المعارضة في الداخل والخارج، شاكراً الرفاق والأصدقاء الذين سبق لهم أن محضوني ثقة أن أشاركهم ما ينتظرهم من أعباء ثقيلة حين يستكمل المجلس هيئاته؛ فإنني أشدّد مجدداً على ما كنتُ قد بيّنته في مناسبة سابقة، من اعتذاري عن عضوية أي من مجالس الخارج، ليس تهرّباً من العمل الوطني العام (إذْ أذكّر، بتواضع أقصى، أنني أعارض نظام آل الأسد منذ 30 سنة ونيف، من داخل تنظيم سياسي محظور وملاحَق، وليس من موقع المثقف والكاتب فحسب). لقد حافظتُ، ويهمّني أن أحافظ دائماً، على مسافة نقدية واضحة، ملموسة وميدانية، من فصائل المعارضة السورية، عموماً؛ ومن "حزب الشعب الديمقراطي"، الذي أنتمي إليه، بصفة خاصة؛ وسأسعى إلى أن تكون هذه حالي أيضاً، في العلاقة مع المجلس الوليد. وتلك، في يقيني، هي المسافة التي تسبغ المعنى، فضلاً عن الجدوى والشرف، على انتماء المثقف إلى قضايا شعبه، وانحيازه إلى الحقّ والحرّية والمساواة والديمقراطية، ودفاعه عن مجتمع مدني علماني وتعددي تنظّم علاقاته دولة القانون.



ذلك يجعلني أفتح عينيّ، على اتساعهماـ أثناء سيرورة مزدوجة تنطوي على تأييد المجلس الوطني، ومراقبة أدائه، في آن معاً، دون أن يخلّ الواجب الوطني العامّ بالحقّ الشخصي النقدي. لا بدّ، بادىء ذي بدء، من التذكير بأنّ المجلس لا يضم الغالبية الساحقة من قوى المعارضة السورية في الداخل، ولا غالبيتها في الخارج أيضاً، الأمر الذي ينبغي أن لا يمنحه صفة التفويض التامّ، حتى إشعار آخر. يطمئن، من جانب آخر، أنّ المجلس يزمع مواصلة التشاور والتحاور مع الجميع، أياً كانت تلاوين مواقفهم، وما دامت تندرج في خطّ الانتفاضة الجوهري، المطالب بإسقاط النظام ورموزه كافة.
 
كذلك سوف أتذكّر جيداً، وأذكّر كلما أدركت أنّ الذكرى نافعة، بأنّ المجلس العتيد يضمّ جماعات أو هيئات أو أفراداً سبق لهم أن هادنوا النظام، أو غازلوه، أو سكتوا عن جرائمه طيلة أربعة عقود، أو حضّوا على خفض سقوف معارضته أو قبلوا لرأس النظام الاستمرار في منصبه المورَّث حتى بعد إصداره شخصياً الأوامر باستخدتم الذخيرة الحية وارتكاب المجازر والجرائم...



بيد أن الانتفاضة جبّت ما قبلها، بالفعل، وكان قميناً بها أن تهدي البعض إلى سواء السبيل، بصرف النظر عن السوابق؛ وكذا فعل الشعب السوري، الذي تحلى بمقدار مدهش من التسامح إزاء بناته وأبنائه، ومنحهم الفرصة تلو الفرصة لكي يطووا صفحات الماضي ويلتحقوا بالركب النضالي الشريف، والمشرّف. ويبقى أن يبرهن أعضاء المجلس الوطني، لا سيما أولئك الذين أنسوا في أنفسهم إمكانية خدمة الانتفاضة دون تفويض مباشر من شارعها الشعبي والسياسي، أنهم ليسوا أهلاً بالثقة فحسب، بل أنهم ليسوا أقلّ تفانياً وإخلاصاً.

أخلص أمنيات التوفيق للمجلس الوطني
والرحمة لشهدائنا الأبرار الكبار
والنصر لانتفاضة شعبنا المجيدة.