وعزّ الشرق أوّله دمشق

الاثنين، 31 ديسمبر 2012

ألا لا يجهلن أحد على موسكو!

 اختُتم العام 2011 بحماقة، أقرب إلى إضافة الإهانة على جراح السوريين، كان صانعها رئيس "اتحاد كتّاب روسيا"؛ وها هو العام 2012 يُختتم بضلالة، روسية بدورها، تأخذ على بعض المعارضين السوريين "انعدام الخبرة السياسية"، بطلها وزير خارجية الاتحاد الروسي... ليس أقلّ. وبين هذا وذاك، ثمة قاسم مشترك أوّل هو الجهل الموروث، وقسط جليّ من التجاهل المتعمّد؛ وسمة مشتركة، ثانياً، هي انبثاق الحماقة والضلالة من ذهنية "رجل الجهاز"، التوصيف الأفضل لمفردة "أباراتشيك" الروسية التي اشتهرت على امتداد حقبة طويلة، خاصة خلال عقود الحرب الباردة، وبدا أنها طُويت مع انطواء صفحة "الحزب الشيوعي لعموم الاتحاد السوفييتي"، حسب التسمية المندثرة.

الأوّل، فاليري غانيتشيف، باسم اتحاده العتيد، ثمّ باسمه شخصياً؛ كان قد منح بشار الأسد جائزة "أحد أهمّ رجال الحقل السياسي والاجتماعي والحكومي"، وذلك بسبب "صموده في مقاومة الهيمنة الغربية في محاولة إملاء إرادة مستعمري عالمنا الحالي على الشعب السوري". وقال غانيتشيف، في خطبة تسليم الجائزة إلى سفير النظام في موسكو: "توجد مجموعات متضررة من مقاومة الهيمنة تحاول استثارة الشارع، ونرى ازدواجية المعايير في التعاطي مع الأحداث في المنطقة"؛ مشدداً على أنّ "سورية، كاحدى أروع التشكيلات الاجتماعية، تتعرض لهجمات همجية لتفتيتها تحت اسم ثورة".‏ وكانت "سانا"، وكالة أنباء النظام، قد نقلت عن غانيتشيف هذه الدُرَر التنظيرية: "سورية هي بلد مسلم، ولكن جنباً الى جنب مع المسيحيين والديانات الأخرى والمعتقدات المختلفة. وهذا التنوع يشكل نموذجاً للتعايش والصداقة بين أطياف الشعب الواحد، وإن محاولة تغيير هذا النسيج بتهديدات واعتداءات على سورية والقيام بالأعمال التخريبية نرفضه جملة وتفصيلاً".

الثاني، سيرغي لافروف، اعتبر أنّ قرار أحمد معاذ الخطيب، رئيس الائتلاف الوطني السوري، برفض تلبية الدعوة الروسية لزيارة موسكو (وتشديده، في المقابل، على الاستعداد لحوار يشترط تنحّي رأس النظام)؛ كان مفاجئاً له، وهو قرار ناجم عن انعدام خبرة الخطيب في السياسة. في المقابل تجلّت خبرات لافروف السياسية على هذا النحو: "هدف الائتلاف الوطني السوري هو إسقاط النظام السوري، وهذا يخالف ما اتفقنا عليه في جنيف"، ولا نعرف مَن اتفق مع مَن، على ماذا، ساعة إعلان تشكيل الائتلاف؛ أو هذه: "إذا كان رئيس الائتلاف سياسياً جدياً، فإنّ من واجبه أن يسمع تحليلنا"، وكأنّ ذلك "التحليل" لم يشتهر في أربع رياح الأرض، وبدأ وتواصل وانحصر في تأييد النظام، وتسليحه، وتعطيل قرارات مجلس الأمن الدولي.

شتان، مع ذلك، بين حماقة رئيس اتحاد كتّاب ستاليني محنّط، وضلالة رئيس دبلوماسية القوّة الكونية العظمى الثانية، الأمر الذي يستدعي إلى الذاكرة شطحة لافروفية سابقة، هيهات عندها أن يقاوم المرء رغبة استدعاء عمرو بن كلثوم: ألا لا يجهلن أحدٌ علينا/ فنجهل فوق جهل الجاهلينا! ففي واحدة من مداخلاته الألمعية حول الوضع السوري، أدلى لافروف بالتصريح التالي لإذاعة "كوميرسانت إف إم" الروسية: "فى حال انهار النظام القائم في سورية، فسيغري هذا بعض بلدان المنطقة لإقامة نظام سنّي في البلد"؛ وهذا ما يقلق صاحبنا، لأنه سوف "يؤثر على مصير المسيحيين والأكراد والعلويين والدروز، وهو الأمر الذى قد يمتد إلى لبنان والعراق"!
مَن الناصح الأريب الذي وضع في دماغ لافروف أنّ الأكراد أقلية طائفية، في المقام الأوّل؟ وإذا كان هؤلاء، والحديث يخصّ أكراد سورية تحديداً، ينتمون إلى السنّة، في الغالبية الساحقة، فكيف يمكن أن تهددهم "دولة سنّية"، أو تؤثر على مصيرهم؟ وهل ثمة أي معنى ملموس، أصلاً، وراء هذا التعبير، الخاطىء والقاصر والركيك؟ وإذا كانت "دولة سنّية" هي الشبح الآتي الذي تريد موسكو تفاديه، فما هي إذاً تسمية الدولة الراهنة التي تساندها الحكومة الروسية، وتريد الإبقاء عليها؟ وكيف فات لافروف أنّ السنّة في سورية يشكلون قرابة 70 بالمئة من السكان العرب، وبالتالي فإنهم ليسوا "طائفة" هنا (كما هي حالهم في العراق أو في إيران، مثلاً)، لأنهم ببساطة أغلبية السكان، والكتلة الأكبر ضمن التشكيلات الدينية والمذهبية والإثنية واللسانية السورية.

وكيف تعذّر على خبراء وزارة الخارجية الروسية، إذْ لا حاجة في هذا إلى علماء اجتماع من العيار الثقيل، أن يشرحوا للسيد الوزير تلك الحقيقة البسيطة التي تقول إنّ التطلع إلى الحرّية والمستقبل الأفضل ليس موضوع اختلاف بين أديان السوريين وطوائفهم، بل هو هدف الإجماع الأعرض اليوم، مثلما كان محلّ اتفاق وتراضٍ في الماضي أيضاً. ما لا يقلّ أهمية، في المقابل، هو أنّ النظام الحاكم ليس ابن طائفة واحدة منفردة، حتى إذا كانت إحدى ركائزه تقوم على تجييش محموم لطائفة بعينها، والإيحاء بتمثيلها، وتعهّد مصيرها. وليس للنظام دين واحد، أيضاً، مهما أتقن رجاله ألعاب التمسّح بالأديان أو التزلف للمتدينين، وخاصة في أوساط السنّة... للمفارقة، غير المدهشة أبداً.

وبين غانيتشيف ولافروف، وأضرابهما كثر هناك، ثمة طراز مشترَك من التشبيح الدولي، تحت ستار قوّة عظمى تتصرف على نحو "مسؤول" و"متعقّل"، وتسعى إلى التهدئة والسلام، وليس إلى التسخين والحرب. فلا عجب، إذاً، أن يأنف معاذ الخطيب التبحّر في "خبرة" كهذه!

السبت، 29 ديسمبر 2012

سورية: جيش النظام يتقهقر وسيناريوهات الكارثة تتقدّم

 في أواخر نيسان (أبريل) 2011 قامت وحدات من الفرقة الرابعة المدرعة ـ مدعومة بعشرات الدبابات وآلاف الجنود، وبعد قصف مدفعي تمهيدي مباشر ـ باقتحام مدينة درعا، واجتياح ساحاتها والكثير من شوارعها الرئيسية. الفيديوهات التي نُشرت على موقع "يوتيوب" آنذاك، والتي سُرّبت من عناصر النظام أنفسهم، بقصد الردع والترهيب، أظهرت عشرات المواطنين من أهل درعا، وقد بُطحوا أرضاً على بطونهم، وجنود الفرقة الرابعة يدوسون على ظهورهم، وسط تعالي الهتاف الهستيري: "الله! سورية! بشّار وبسّ!". قبل درعا، وبعدها بأسابيع قليلة، كانت الفرقة الرابعة تنتشر أيضاً في ريف دمشق، وحمص، وحماة، واللاذقية، وحلب، وإدلب، ودير الزور، والحسكة، والسويداء؛ وكان ماهر الأسد، القائد الفعلي للفرقة، بمثابة آمر الفرقة الأوحد، ورئيس أركانها المفوّض بصفة مطلقة، يعاونه (بسبب من انعدام الخبرة العسكرية) جمهرة، منتخَبة ومنتقاة بعناية، من ضباطه الخلّص المقرّبين.

روح العجرفة لدى جنود الفرقة، من ضباط وصفّ ضباط وأفراد، كانت في أوجها، ولم يكن المرء بحاجة إلى التدقيق في وجوه الجنود، أو الإصغاء إلى هتافاتهم، لكي يدرك أنّ هؤلاء هم العمود الفقري لأمن البيت الأسدي، ونظام "الحركة التصحيحية" عموماً، من جانب أوّل. كان جلياً، من جانب ثانِ، أنّ المنخرطين في تحقير المواطنين، على غرار ما جرى في درعا وبانياس وعشرات المناطق الأخرى، يدركون أنّ أساليب الإهانة هذه ليست ناجعة فحسب، من أجل كسر روح الانتفاضة؛ بل هي الوحيدة اللائقة بكلّ معارض، أو متظاهر، أو محتجّ (لم يكن أحد يرفع عصا، في تلك الحقبة، وكانت الصدور العارية هي السلاح الوحيد الذي يُشهره الحراك الشعبي).

بعد نحو عام، مطلع نيسان (أبريل) الماضي، وفي حمص هذه المرّة؛ تسرّب فيديو جديد يُظهر اللواء بديع العلي، القائد الجديد (الشكلي، أيضاً) للحرس الجمهوري، وهو يتحدّث إلى مجموعة مختلطة من ضباط الحرس والفرقة الرابعة، في مناسبة ما اعتبره النظام، آنذاك، نصراً عسكرياً حاسماً في حمص (اللواء العلي سخر من معركة ستالينغراد، بالمقارنة مع سقوط حيّ بابا عمرو!). الهتاف، بادىء ذي بدء، لم يعد يتذكّر سورية، وصار مقتصراً على رأس النظام (بالروح! بالدمّ! نفديك يا بشار!)؛ كما استُبدل الخجل من صفة الشبّيح، بالفخار بها (شبيحة للأبد! لأجل عيونك يا أسد!). وأمّا أقوال اللواء نفسه، فقد كشفت ـ دون وعي منه، أغلب الظنّ ـ بعض خفايا، ومزايا، هذه الوحدات الموالية: الترغيب الصريح، عبر التلويح بالترفيع والسيارات؛ والاعتراف باستحداث "وحدات مغاوير" للعمليات الخاصة، يدربّ عناصرها مدربون من داخل القطر ومن خارج القطر (في أوّل تلميح/ زلّة لسان حول وجود "الحرس الثوري" الإيراني)؛ والتلفّظ بتعبير "المناطق الآمنة" داخل القطر، التي ينتمي إليها بعض أفراد الحرس الجمهوري والفرقة الرابعة، ويمكن بالتالي أن يسافروا إليها لقضاء إجازاتهم... 

اليوم، في المقابل، قياساً على أمثلة الفشل العسكري المتعاقبة، في ريف دمشق ودرعا وحلب وريف حلب وحماة وإدلب ودير الزور وريف الرقة وجبل الزاوية وجبل التركمان، فضلاً عن دمشق العاصمة ذاتها، أو حيثما انتشرت أو تنتشر وحدات من الفرقة الرابعة والحرس الجمهوري؛ لم يعد النظام يزجّ هذه الوحدات في قتال مباشر على الأرض، خسرته أصلاً في معظم نقاط الاشتباك، وصار يعمد إلى تأمين انتشارها ضمن وضع غير قتالي، أو سحب بعضها هنا وهناك، تمهيداً لإشراكها في معارك ختامية، يلوح أنّ رأس النظام ينوي خوضها في مواقع ذات طبيعة مفتاحية و"ستراتيجية"، مثل دمشق العاصمة، ومناطق حمص المتاخمة لمحافظة طرطوس، وبعض البلدات الكبرى في جبال الساحل السوري.

وإذا كان هذا الخيار بمثابة إقرار ضمني بإخفاق الفرقة الرابعة والحرس الجمهوري، في مهامّ كسر روح الانتفاضة شعبياً، وكذلك دحر القدرات العسكرية لمختلف تشكيلات المقاومة المسلحة؛ فإنّ الخيارات البديلة (استخدام سلاج الجو، والمدفعية الثقيلة والصاروخية، والبراميل المتفجرة، والألغام البحرية...)، تتجاوز مستوى اليأس، أو "خيار اللاخيار" على حدّ وصف الصحافية الروسية صوفي شيفارنادزة بعد لقائها مع بشار الأسد مؤخراً. هذه، في وجهة أولى، خيارات انتحارية لا تضمن للنظام أيّ ثبات على الأرض، بل تكفل له العكس من حيث تعرّض مواقعه للقضم التدريجي من جانب كتائب الجيش الحرّ؛ وهي، في وجهة ثانية، خيارات تسير على نقيض ما ينصح الحلفاء، لأنها تؤذي جهودهم المحمومة لإيجاد مخرج للنظام ذاته، ولهم أيضاً، وتُكسب المعارضة مزيداً من هوامش المناورة المضادة.

على سبيل المثال، يتردد أنّ الخبراء الروس، العسكر مثل رجال الاستخبارات، ضاقوا ذرعاً بعدم إصغاء النظام إلى نصائحهم، وخاصة واحدة "ذهبية" بينها، مفادها أنّ القصف الجويّ لن يبدّل شيئاً على الأرض، مقابل انهيار وحدات النظام الكلاسيكية (كما في سقوط الكتائب والأفواج الصاروخية هنا وهناك، وسقوط مدرسة المشاة في حلب، وحصار المطارات العسكرية والمدنية...). وهذا اعتبار يتعزز أكثر، بالمعنى العسكري واللوجستي الصرف، حين توضع في الاعتبار حقيقة تمكّن المقاومة من الحصول على أسلحة مضادّة للطيران، غنمتها من الترسانات التي انسحبت منها وحدات النظام الموالية، أو التشكيلات العسكرية الكلاسيكية التي ظلّت على هامش المواجهات، بقرار من الأسد في الواقع، خشية مسارعتها إلى الانشقاق عن النظام إذا سنحت الفرصة.

على الجانب الإيراني، يتردد أنّ بعض المراجع الدينية، وتلك الأمنية أيضاً (في مكتب المرشد الأعلى علي خامنئي، شخصياً) لم تعد تخفي خشيتها من لجوء الأسد إلى تحويل الطائفة العلوية، على المستوى المدني والأهلي الصرف، وفي الضيع والقرى والبلدات، إلى حطب يشعل معارك النظام الاخيرة. ذلك لأنّ طهران باتت ترى في علويي سورية جزءاً منتسباً، بالإرادة أو بالقسر، إلى التيار الشيعي الإقليمي العريض. ولهذا صار واجباً على إيران، التي تزعم تصدّر الصفّ الشيعي، أن تتصدّر أيضاً جهود حماية سواد العلويين المدنيين من أيّ أذى جماعي قد يلحق بهم؛ سواء أتى من طوائف أخرى، لأسباب سياسية أو طائفية شتى؛ أو تسببت فيه سيناريوهات الكارثة، التي قد يلجأ إليها الأسد في محاولات أخيرة، قصوى وانتحارية.

الفارق بين فيديو درعا، أواخر نيسان 2011، وفيديو بابا عمرو، أوائل نيسان 2012؛ هو، على نحو بليغ، خلاصة مآلات، وتناقضات، هذا الطراز من الوحدات العسكرية الموالية، التي تتقهقر اليوم على الأرض، وبالتوازي معها تتقدّم سيناريوهات الكارثة، حيث اليأس والروح الانتحارية هي الطاغية على ذهنية الطغاة. هي، في مستوى أوّل، ذراع النظام الضاربة في قمع الانتفاضة، انتشرت حيثما اقتضت عمليات حصار المدن أو اقتحامها أو قصفها، عبر المدرعة أو الدبابة أو الحوّامة، فضلاً عن كامل الأسلحة النارية الأخرى. وهذه، الفرقة الرابعة في المثال الأبرز، وحدة مدرّعة في الأساس، لكنّ تسليحها نخبوي ومتميّز، وترسانتها لا تقتصر على العدّة العسكرية بل تشمل أدوات القمع الأخرى (من العصا الكهربائية إلى الغاز المسيل للدموع، مروراً بالهراوة والقنابل المسمارية...)؛ وامتيازات عناصرها، من حيث الراتب والتعويضات والسكن والتأمين، لا تُقارن بما يحصل عليه العسكريون في جميع وحدات الجيش السوري الأخرى.

لكنها، في مستوى ثانٍ، ترنّحت تحت عدد من الضغوطات اليومية، أبرزها الأوّل هو اهتراء معنويات أفراد الفرقة أمام الصمود الأسطوري للتظاهرات، وارتقاء الشعارات يوماً بعد يوم، في علاقة طردية مع اشتداد آلة القهر. كلّما حوصرت منطقة، ودُمّرت بيوتها وسُفكت دماء أبنائها، نساء ورجالاً وشيوخاً وأطفالاً، ارتفعت أكثر فأكثر روحية المطالبة بإسقاط النظام، والتعريض المباشر برموزه العليا، بشار الأسد وشقيقه على نحو محدد. وكلما أوغلت الفرقة في الإجراءات الكفيلة ببثّ الفرقة بين السوريين (مثل قصف مئذنة هنا، أو العبث بمسجد هناك، أو كتابة شعارات مذهبية وطائفية بين حين وآخر...)؛ جاء الردّ الشعبي أكثر تمسكاً بالوحدة الوطنية، وأعلى وعياً بمخططات النظام.

نمط الضغط الثاني كانت تصنعه حقيقة أنّ الفرقة هجين مختلَط من بقايا وحدات عسكرية سابقة، كانت لها صولاتها وجولاتها في التاريخ القمعي لـ"الحركة التصحيحية"، وتوجّب على حافظ الأسد أن يفككها ويعيد تركيبها، بين حقبة وأخرى. تلك السيرورة فرضتها اعتبارات تخصّ قطع الطريق على الأجندات الخاصة لقادة تلك الوحدات، من أمثال رفعت الأسد (قائد "سرايا الدفاع")، وعلي حيدر (قائد "الوحدات الخاصة")، وعدنان الأسد (قائد "سرايا الصراع")... صحيح أنّ هؤلاء باتوا خارج المشهد القيادي، حتى قبل أن تبدأ عمليات توريث الأسد الابن، إلا أنّ ما جرى تكريسه على نطاق التوريث داخل البيت الأسدي، جرى أيضاً استلهامه بصياغات متغايرة على صعيد مناقلة النفوذ والامتيازات بين قادة الصفّ الأوّل، ووكلائهم قادة الصفوف الثانية والثالثة.

وفي العموم، يعرف الضابط في الفرقة الرابعة أنّ ماهر الأسد اختار له البقاء في كتائبها، فلم يشمله بأعمال التطهير التي أعقبت اندلاع الانتفاضة، لأنّ ولاءه ثابت، وقد تمّ التحقق منه خلال هذه العملية أو تلك؛ كما لا يجهل، وهنا التفصيل الأهمّ، أنّ انتماءه إلى هذه العشيرة أو تلك، من هذه الضيعة التابعة لهذه المنطقة، وليست تلك التابعة لمنطقة أخرى، كان حاسماً في ترشيحه للبقاء. لكنه، أغلب الظنّ، لم يتطهر تماماً من ذاكرة شخصية تضمنت ولاءاته السابقة، وامتيازاته التي لم تكن أضأل، بل كانت أوفر ربما، مع ضباط من أمثال العقيد معين ناصيف (صهر رفعت الأسد، والضابط الأبرز في "سرايا الدفاع")، أو العميد هاشم معلا (بطل حصار حلب، 1980، و"مدمّر الإخوان المسلمين" حسب التسمية المفضّلة لدى محبّيه)، أو العميد محسن سلمان (حاكم لبنان العسكري أواسط الثمانينيات، إسوة بحاكمها الأمني غازي كنعان)...

اليوم صارت أقلّ ظهوراً تلك الفيديوهات التي تصوّر همجية أفراد الوحدات الموالية ضدّ أبناء الشعب السوري، والمدنيين العزّل بصفة خاصة؛ ليس لأنّ التسريبات صارت نادرة، بل ربما لأنّ مستوى المشاركة في الهمجية انحسر على الأرض، وانتقل إلى السماء! وما تتعرّض له هذه الوحدات من ضغوط بنيوية تخصّ تركيبها الأصلي، وأخرى لوجستية وعسكرية ناجمة عن هزائمها على الأرض، لا تبدو وكأنها تبدّل الكثير في سلوك الولاء الأعمى، والذهاب أبعد في خيانة الوطن والشعب. ولهذا فإنها تتقهقر على الأرض، ولكنها لا تنفصل عن الخيارات الأخرى التي تنذر بسيناريوهات الكارثة، والأرجح أنها لن تتورّع عن الانخراط فيها. كيف لا، وهي صفّ "الشبيحة للأبد"!

الخميس، 20 ديسمبر 2012

انقلابات الشرع: الدرجة صفر في المعنى... والمبنى!

 قارىء تصريحات فاروق الشرع الأخيرة، سيّما ذاك الطراز من القرّاءالمعتادين على، والمتمرّسين في، إدراك ما يستبطنه خطاب رجالات النظام السوري، من أهل الصفّ الثاني السياسي بصفة خاصة؛ لن يخطيء، أغلب الظنّ، في ردّ الشرع إلى الإطار الوحيد الذي تبقى له، اليوم، في هرم سلطة "الحركة التصحيحية": أنه بوق عراه الكثير من الصدأ، بحكم الوضع على الرفّ، والبقاء طويلاً في العتمة، ولزوم الصمت، أو الإلزام به؛ فضلاً عن ندرة الاستخدام، إلا حين يشاء أهل الصفّ الأوّل (بشار الأسد، ومَنْ ينوب عنه، أو ينقل أوامره، في الحلقة الأمنية/ العسكرية/ الاستثمارية الأضيق)، توجيه رسالة مبطنة، غلافها الخارجي مثير برّاق وهّاج!

فلنقترح، بادىء ذي بدء، أحد آخر الأمثلة على دور البوق هذا، في وظيفته المحدّدة هذه: في أيلول (سبتمبر) من العام 2007، وخلال مؤتمر صحفي مرتّب عن سابق قصد، شنّ الشرع على المملكة العربية السعودية غارة لفظية مفاجئة (واستخدام هذه المفردة توحي به العملية التي كانت قاذفات إسرائيلية قد نفّذتها قبل ساعات، حين اخترقت حرمة الأجواء السورية من جهة الساحل السوري، بعد أن اخترقت جدار الصوت، وحلّقت فوق مساحات واسعة من المنطقة الشرقية ـ الشمالية، من بادية دير الزور إلى تخوم المثلث السوري ـ العراقي ـ التركي، مروراً بمطارَين عسكريين في الأقلّ، وقصفت موقع "الكبر"، وعادت أدراجها سالمة). غارة الشرع تلك لم تدهش جمع الصحافيين الحاضرين، فحسب؛ بل باغتت حفنة من الصحافيين السوريين أنفسهم، خاصة أولئك المرتبطين مباشرة بالأجهزة السياسية والأمنية للنظام.

صحيح أنّ العلاقات السورية ـ السعودية كانت، منذ اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري في شباط (فبراير) 2005 واستكمال انسحاب القوات السورية من لبنان في نيسان (أبريل) من السنة ذاتها؛ قد شهدت الكثير من المدّ والجزر والبرود والدفء، حول ثلاثة ملفات إقليمية كبرى، هي لبنان وفلسطين والعراق. وصحيح، كذلك، أنّ التدهور بلغ مستوى الشتائم على لسان الأسد نفسه (ولكن ليس على غرار الشرع، في توجيه غارات الشتائم المباشرة، وتسمية المسمّيات بأسمائها)؛ حين أطلق على بعض الزعامات العربية، وبينهم ضمناً ملك السعودية عبد الله بن عبد العزيز والرئيس المصري السابق حسني مبارك، صفة "أشباه الرجال"، بسبب موقفهم من "حزب الله" والعدوان الإسرائيلي على لبنان، صيف 2006.

ولكن الصحيح، أيضاً وقبلئذ، أنّ الرياض ظلت حريصة على مستوى من العلاقة مع دمشق لم يهبط عن الحدّ الأدنى، ولكنه صعد ذات يوم إلى مستوى ضمان السلوك المستقبلي للنظام السوري أمام واشنطن وباريس في أعقاب التقرير الأوّل للمحقق الدولي في اغتيال الحريري، ديتليف ميليس، حين بدا أنّ الضغط الأمريكي ـ الفرنسي على النظام السوري سوف يبلغ مدى غير مسبوق. بالطبع، فوجيء النظام بردّ الفعل السعودي العنيف، الذي بدأ على لسان مصدر رسمي، ثمّ تحوّل إلى حملة إعلامية منظمة نفّذتها وسائل الإعلام السعودية الخاصة، وشبه الحكومية، وبالتالي كان الأوان قد فات على أيّ ترقيع سوريالي للواقعة، من نوع الزعم بأنّ أقوال الشرع تعرّضت للتحريف أو التحوير.

المثال الثاني لدور البوق شهدته الأشهر الأولى بعد انطلاق الانتفاضة، حين عُهد إلى الشرع بتولّي الجانب "السياسي" من خيارات كسر الإرادة الشعبية؛ أي استكمال وظائف المدفع والدبابة والرصاص الحيّ، وقطعان القنّاصة والشبّيحة التي صارت معفاة من كلّ رادع أو وازع في ممارسة الوحشية والهمجية، وممارسة الاعتقالات الواسعة بالآلاف وليس بالمئات. وهكذا، أصدر الأسد قراراً جمهورياً بتشكيل "هيئة الحوار الوطني"، التي "تكون مهمتها وضع الأسس لحوار وطني وتحديد آلية عمله وبرنامجه الزمني". وعند اجتماعه بأعضاء هذه الهيئة، قال الأسد إنّ عليها "صياغة الأسس العامة للحوار المزمع البدء به بما يحقق توفير مناخ ملائم لكل الاتجاهات الوطنية للتعبير عن أفكارها وتقديم آرائها ومقترحاتها بشأن مستقبل الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في سورية، لتحقيق تحولات واسعة تسهم في توسيع المشاركة وخاصة فيما يتعلق بقانونَيْ الأحزاب والانتخابات وقانون الإعلام، والمساهمة في وضع حد لواقع التهميش الاجتماعي والاقتصادي الذي تعاني منه بعض الشرائح الاجتماعية".

تلك كانت سلسلة مهامّ جليلة، لا ريب؛ ما خلا حقيقة أنّ أعضاء اللجنة لم يكونوا سوى أبناء النظام (الشرع، وهيثم سطايحي عضو القيادة القطرية لحزب البعث الحاكم، و ياسر حورية زميله في القيادة)؛ أو المتحالفين معه في ما يُسمّى "الجبهة الوطنية التقدّمية" (صفوان قدسي الأمين العام لـ"حزب الإتحاد الاشتراكي العربي"، وحنين نمر الأمين العام للحزب الشيوعي السوري ـ جناح يوسف فيصل)؛ أو المسبّحين بحمد النظام، الساكتين على جرائمه (عبد الله الخاني، وليد إخلاصي)؛ أو العاملين في مؤسساته (منير الحمش، إبراهيم دراجي). كيف، بمعزل عن حوار الطرشان، كان يمكن لهؤلاء أن يقدّموا إلى رئيسهم "أفضل السبل لتحقيق حوار وطني يستوعب كل أطياف المجتمع، ويعكس اهتمامات ومصالح مختلف الشرائح الاجتماعية والسياسية، التي تؤمن بالحوار سبيلاً لتحقيق الإصلاح والنهوض بالعمل الوطني وتعزيز وحدة البلاد"، كما قالت وكالة أنباء "سانا" الحكومية في وصف أجواء اجتماع الأسد بهم؟

ولماذا انعقد لسان الشرع طيلة 18 شهراً أعقبت فشل جلسات ذلك "الحوار الوطني"، ويبدو اللسان ذاته وقد صار ذرباً تماماً اليوم، كما تشير بعض فقرات الحديث الصحفي الأخير؟ ولماذا يقول، اليوم فقط وليس في تموز (يوليو) 2011، أنّ "القيادة" هي التي "تنصلت" من أشغال الهيئة، ممّا "أدى في نهاية المطاف إلى الإجهاز على الحوار السياسي وفتح الباب على مصراعيه لحوار الرصاص والمدافع"؟ وإذا كان اليوم في مزاج "مكاشفة" مع المواطنين، فهل كانت "القيادة" قد تنصلت من "الحوار" حقاً، أم أنهت عن سابق قصد وتصميم، فصول مسرحية مفضوحة رديئة، قيل إنها كانت ميدان تندّر الأسد نفسه، على نائبه العتيد؟ ومَن السوريّ، طيّب القلب الساذج، الذي يغفر للشرع أنه لا يقول إلا اليوم فقط: "لم تُشكل لجان تحقيق ذات مصداقية منذ بداية الأحداث، وإذا شُكّل بعض منها فإن نتائج التحقيق لم تنشر في وسائل الإعلام، الأمر الذي مهّد لنشر شائعات أفقدت النظام مصداقيته وهيبته أمام المتضررين في الداخل والمراقبين في الخارج"؟

ومن جانب آخر، سبحان الذي جعل مدارك الشرع تغفل، قبل عام ونصف، عن لافتات دراماتيكية مثل هذه: "ندرك اليوم أن التغيير أمر مفروغ منه. إذا لم تأخذ السلطة زمام المبادرة لتحقيقه مع الآخرين فإن التغيير سيحصل بإملاءات أحادية منهم"؛ أو هذه الثانية: "هناك مؤسسات تنفيذية وتشريعية وقضائية مسؤولة مباشرة عن إدارة شؤون الدولة، وهذه المؤسسات لديها رؤساء ومديرون عامون ومجالس إدارة يعملون، أو يزعم بعضهم أنه يعمل، وفق التوجيه، وأحياناً يحسمون قرارهم عندما يشيرون بأصابعهم إلى الصورة المعلقة فوق مكاتبهم مما يعني أن التوجيه لا نقاش فيه"؛ أو هذه اللافتة الثالثة، التي تقول إنّ الأسد: "شخصياً قد لا يعطيك الجواب الشافي مع أنه يملك في يديه كل مقاليد الأمور في البلد. ما يجري في سورية معقد ومركب ومتداخل. إذا حاولت تفكيكه قد يزداد تعقيداً وقد تزداد القطب المخفية فيه بدلاً من أن تهديك إلى الحل"!

قيل الكثير، بالطبع، في تفسير هذه "الهبّة" ـ مع الاعتذار من أشقائنا في الأردن، على استخدام المفردة ـ التي أخرجت الشرع عن صمت القبور؛ ولا زيادة لمستزيد فيها، لأنّ معظم التفسيرات صحيح، ومعظمها غنيّ عن القول، خاصة إذا وُضع في سياق محدّد مشترَك، هو بلوغ النظام حافة المأزق القصوى. وقد يكون المغزى الأهمّ هو اقتران تلك "الهبّة" بكشف النقاب عن المشروع الإيراني ذي النقاط الستّ، وبنشر أقوال الشرع في صحيفة مقرّبة من "حزب الله"؛ الأمر الذي قد يشير إلى أنّ طهران تتعجّل "ستراتيجية منفذ" من نوع ما، وتسعى إلى تجميل الأسد عن طريق تقويل نائبه ما لا ينطق به الأوّل من أقرار بالفشل؛ أو تعيد تسويق الشرع نفسه، كبديل "انتقالي"، كسباً للوقت، أو بهدف اللعب في الوقت الضائع.

الراسخ، في كلّ حال، هو أنّ الشرع كان المثال الأكثر سطوعاً، والأشدّ فضحاً وافتضاحاً، لنموذج في "قيادة" النظام السوري الراهن، و"الحركة التصحيحية" عموماً؛ يجوز معه الحديث عن درجة الصفر في امتلاك أواليات القرار السياسي، والدرجة مئة في الترويج الصائت للقرار إياه، أو للجهة التي تصدره، عبر وظيفة بوق عراه الصدأ. وعلى جبهة أمثال الشرع، وهي "السياسية" كما يُقال لنا، لم يعد في وسع النظام أن يلعب في مضمار ذي مساحة تكفي لإثارة الحدّ الأدنى من غبار مطلوب ذرّه في العيون. لقد تشدّق في الماضي بالحديث عن "الحوار الوطني"، فوجد أذناً صاغية هنا، وقلباً واجفاً هناك، ولساناً أو قلماً أو صوتاً يلهج بالخشية على سورية من الأخطار الثلاثة الرهيبة: الحرب الأهلية، عسكرة الانتفاضة، والتدخل العسكري الأجنبي. الآن بات النظام هو أوّل مَنْ أخرس هذه الفئات، أو سدّ عليها دروب الحوار، سواء مع ممثلي النظام أنفسهم (محمد ناصيف، بثينة شعبان، فاروق الشرع...)؛ أو عبر وسطاء وحلفاء وأصدقاء (من السفارة الروسية، إلى تلك الإيرانية؛ ومن "حزب الله" إلى محمد حسنين هيكل...).

ذلك لا يحول دون وقوع تناقض، أو افتقار إلى درجة كافية من التطابق، بين ما تقرّره، وتوجّه به، الحلقة العليا الأضيق في "قيادة" النظام؛ وما تسفر عنه التطبيقات على الأرض، وخاصة السياسية منها، وسواء اتخذت صفة إجراءات محلية في هذه المحافظة أو تلك (كما حين يسارع الأسد إلى عزل المحافظين)، أم صفة مركزية تشمل البلد (مؤتمر الحوار الوطني، خير مثال). ولهذا فقد تلقى الشرع إشارة توبيخ علنية، ولكنها كانت ساخنة وخشنة (التصريح بأنّ المؤتمر الذي ترأسه كان "كارثة وطنية")، أتته من قيادة الاتحاد الوطني لطلبة سورية، "المنظمة الشعبية" التي تسيّرها الأجهزة.

وكما فشلت الحلول الأمنية في كسر إرادة التظاهر، بل أسهمت في تجذير الحراك الشعبي وفي توحيد قواه وتطوير أدواته وأنساقه؛ كذلك أخفقت ألعاب المخادعة السياسية في اختراق المشهد الوطني المعارض، رغم أنها حققت بالفعل بعض "الاختراقات"! ولقد حدث العكس، على الجبهتين، وبدا أنّ عوامل الفشل الذريع ليست مؤشرات مقترنة بواقعة واحدة، أو بساحة محددة دون سواها، بل هو عجز مريع عن تطوير أداء عسكري/ أمني لا يركن إلا على سطوة الرصاص والدبابة وبرميل المتفجرات ومعسكرات الاعتقال والتعذيب والتصفية الجسدية؛ وأداء سياسي لا يتكيء إلا على استثارة الخواف الطائفي، أو استمالة التردد، أو تفريغ شحنات الاحتقان.

وأياً كان موقع انقلابات الشرع في الخانة الثانية، فإنّ البوق الصَدِىء قمين بإطلاق الكثير من الضجيج والعجيج والجعجعة، ولكن في الدرجة صفر من الثقة في المعنى... وفي المبنى!  

الأحد، 16 ديسمبر 2012

حقوق الإنسان 'العالمي' وعقوق الإنسان السوري

في اليوم العالمي لحقوق الإنسان (10/12 من كلّ عام)، والذي يحتفي هذه السنة بالذكرى الرابعة والستين للإعلان العالمي لحقوق الإنسان، كانت الإحصائيات التي تخصّ حقوق الإنسان السوري تشير إلى المعطيات التالية: القتلى، أكثر من 48,798؛ بينهم 3,653 من الأطفال، و3,662 من الإناث، و5,442 من العسكريين؛ كما قضى تحت التعذيب 1295، وبعضهم مُثّل بجثته على نحو وحشي؛ وسُجّل أكثر من 76,000 مفقود، يصعب تحديد أعداد الأحياء في صفوفهم؛ وتجاوز الجرحى 137,000، دون احتساب المصابين بإعاقات مختلفة؛ ولا تقلّ أعداد المعتقلين عن 216,000، يُحتجزون في معسكرات جماعية مكشوفة صيفاً وشتاء، أو في ملاعب كرة القدم، أو حتى في حاويات الشحن المعدنية؛ والعدد الإجمالي للاجئين خارج سورية بلغ 507.011...

وفي تلك الذكرى ذاتها، أصدرت منظمة 'هيومان رايتس وتش' تقريراً مفصلاً يفيد بأنّ النظام السوري بدأ يستخدم 'الذخائر الحارقة'، ولوحظ هذا في أربع مناطق حتى الساعة: داريا، ريف دمشق؛ ومعرّة النعمان، إدلب؛ وببيلا، ريف دمشق؛ والقصير، حمص. وأوضحت المنظمة أنّ هذه الأسلحة الحارقة 'يمكن أن تحتوي على الكثير من المواد الملتهبة، بما فيها النابالم، أو الثرمايت، أو الفوسفور الأبيض، وهي مصممة لإشعال النار في الأغراض الجامدة، أو إحداث حروق شديدة الإيلام، تصل إلى العظام في أغلب الأحيان، كما يمكنها التسبب في تلف الرئتين'. كذلك تتسبب هذه الأسلحة في 'اشتعال الحرائق على نطاق البنى التحتية، بسبب تأثيرها على مساحات واسعة، مما يعني تعذّر استخدامها بطريقة تميز بين الجنود والمدنيين في المناطق المأهولة بالسكان'.

هذه الحال ـ المريعة الفظيعة، الهمجية البربرية، المنفلتة من كلّ رادع وعقال ـ إنما تتواصل أهوالها بسبب سلسلة من أنساق التواطؤ التي تنخرط فيها حكومات وديمقراطيات وأنظمة تتشدّق باحترام حقوق الإنسان، سواء تلك الحقوق المنبثقة من فلسفات الأنوار أو التنظيرات الليبرالية الغربية (أوروبا عموماً، والولايات المتحدة)؛ أو تلك التي تمتزج فيها تقاليد الاستبداد الستالينية بالأوتوقراطية المافيوية (كما في روسيا فلاديمير بوتين/ ديمتري مدفيديف)؛ أو الطبعة الرثة من هرطقة 'الديمقراطية الاشتراكية'، في الصين أساساً؛ أو حقوق الإنسان كما يختارها، بعد أن يشخّص فوائدها، الولي الفقيه في إيران... وباستثناء مقادير العنف القصوى التي يعتمدها النظام السوري، منفرداً عن أنظمة الكون بأسره عملياً؛ فإنّ الانتهاكات الصارخة ليست جديدة على البشرية، وقد تكررت على نحو أو آخر طيلة العقود التي انصرمت منذ تبنّي الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.

لكنها تعيد التذكير بسلسلة حقائق تخصّ ملفات حقوق الإنسان الكونية من جهة، والإعلان العالمي ذاته من جهة ثانية؛ كما تذهب، بالضحية في المقام الأوّل، إلى نقيض مناخات الاحتفاء والاحتفال والبهجة، لأنها إنما تُسائل جوهر الإعلان ذاته، وأيّ حقوق يحمي، وما طرائق انتهاكه علانية أو في الخفاء. هنا بعض تلك الحقائق:

1 ـ ليس دقيقاً القول إنّ التصويت على الإعلان في الجمعية العامة للأمم المتحدة تمّ بالإجماع، لأنّ 48 دولة صوتت لصالحه، مقابل ثماني دول ضده. ولو أنّ عدد الدول النامية (دول 'العالم الثالث' في عبارة أخرى) كان كما هو عليه اليوم، فإنّ من الصعب تخيّل بلوغ نسبة التصويت هذه، بل لعلّه من الصعب تخيّل الإعلان وقد فاز بالتصويت أصلاً.

2 ـ الدول التي صاغت، ورَعَت وسوّقت التصويت على الإعلان، لم تكن سوى تلك القوى الغربية الكبرى ذاتها، الضالعة في سياسات استعمارية هنا وهناك في العالم، والتي كانت تمارس انتهاك حقوق الإنسان (وحقوق الشعوب، في عبارة أدقّ) حتى وهي تنخرط في معمعة النقاشات المحمومة حول هذه الصيغة أو تلك من فقرات الإعلان نفسه. وقد يكون هذا بعض السبب في أنّ المؤتمر التأسيسي لدول عدم الانحياز (باندونغ 1955) رفض الإعراب عن أيّ دعم سياسي للإعلان، واكتفى رؤساء الدول (وكانوا من الكبار، لمَنْ ينسى: الهندي جواهر لال نهرو، والمصري جمال عبد الناصر، والأندونيسي أحمد سوكارنو، واليوغسلافي جوزيف بروز تيتو...) بالقول إنهم أخذوا به علماً!

3 ـ الإعلان يسكت تماماً عن حقّ الشعوب في تقرير مصيرها (الأمر الذي يتناقض على نحو صارخ مع الفقرة الأولى التي تقول: 'يولد البشر أحراراً ومتساوين في الكرامة والحقوق'). أكثر من ذلك، تسوّغ بعض بنوده مفاهيم الوصاية والانتداب والهيمنة الاستعمارية، حين يحثّ الدول الأعضاء (المستقلة و/أو الاستعمارية) على احترام حقوق شعوبها مثل حقوق الشعوب والأراضي الواقعة تحت سلطتها القانونية (أي: الدول غير المستقلّة و/أو المستعمَرة).

4 ـ الإعلان يحدّد مفهوم حقوق الإنسان انطلاقاً من شخصية الإنسان الغربي وحده، من قِيَمه وثقافته وأعرافه وفلسفاته، ومن حضارته التي كانت هي التي انتصرت (على نفسها، في واقع الأمر!) بعد الحرب العالمية الثانية، حين انعقد مؤتمر سان فرنسيسكو لتأسيس الأمم المتحدة، وتأسيس النظام الدولي الجديد... آنذاك، وليس عام 1992 في أعقاب 'عاصفة الصحراء'، أو 2001 بعد انهيار برجَي التجارة في 11/9، أو 2003 بعد غزو أفغانستان والعراق. الإعلان العالمي لحقوق الإنسان كان وليد تلك البرهة الإجماعية الغربية بامتياز، ولم يكن مدهشاً بالتالي أن تكون صورة العالم كما يرسمها الإعلان هي صورة العالم كما رسمتها لتوّها الحضارة الغربية.

5 ـ إنها، بمعنى النقلات الحضارية الكبرى، تبدأ من اليونان الإغريقي الكلاسيكي، ثم روما الإمبراطورية، ولا تنتهي عند مفاهيم 'صدام الحضارات' و'نهاية التاريخ'؛ بعد أن تمرّ بالكنيسة الكاثوليكية، جدير بالتذكير. هنالك، إلى هذا، منتجات عصر الأنوار، والثورة الفرنسية، والثورة الأمريكية، والآلة البخارية، والثورة الصناعية، والحداثة، والعولمة. وهنالك، بين حين وآخر، فلسفات كانط، ديكارت، نيتشه، هيغل، وماركس. ولا تغيب عن هذا التراث، أيضاً، أحقاب فاصلة شهدت الحروب الصليبية، و'اكتشاف' أمريكا، ومحاكم التفتيش، والفتوحات الاستعمارية، والأنظمة الإمبريالية والفاشية والنازية والستالينية...

6 ـ في صياغة نصّ الإعلان، وبعد الاتكاء المباشر على صورة العالم هذه، جرت الإحالة إلى تراث غربي طويل في صياغة العلاقة الحقوقية بين الحاكم والمحكوم: العريضة الإنكليزية لعام 1627، إعلان الاستقلال الأمريكي لعام 1776، دستور الولايات المتحدة لعام 1787، قانون الحقوق الأمريكي لعام 1791، الإعلان الفرنسي لحقوق الإنسان والمواطن لعام 1789. هنالك، بمعنى آخر، الصالح مثل الطالح، والكوني مثل المحلي، والعامّ مثل الخاص...

هذه ملاحظات لا تصدر بوحي الانحياز إلى أية ثقافة واحدة، أو حتى إلى كتلة ثقافات، مناهضة للثقافة الغربية أو موازية لها؛ خصوصاً وأنّ نقد الاستشراق ـ في أعمال الراحل الكبير إدوارد سعيد، بصفة خاصة ـ دلّنا إلى سُبُل تفكيك مفاهيم مثل 'الشرق' و'الغرب' و'الشمال' و'الجنوب'، وردّها إلى مكوّناتها الباطنية ذات الصلة بعلاقات القوّة والإخضاع والتفوّق والهيمنة، قبل العلاقات الثقافية بين الأمم والحضارات. والحال أن الملاحظات التي تطعن في 'كمال' الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، يمكن أن تصدر عن مهاتير محمد مثل جيمي كارتر، وعن دانييل بيل (أبرز الأدمغة الغربية الرصينة المدافعة عن فلسفات اليمين) مثل نوام شومسكي.

ذلك لأنّ الواقع الفعلي على الأرض يذهب بالكثير من ألق النظرية الكامنة طيّ الفقرات الثلاثين من الإعلان؛ وفي وسع المرء، وربما كان من واجبه، أن يبدأ من الدول الغربية الكبرى نفسها، أو من الولايات المتحدة الأمريكية بالذات: الدولة التي ترفع راية قيادة العالم الحرّ منذ أن وضعت الحرب العالمية أوزارها. وهذه مناسبة للإشارة إلى أن الإعلان كان صنيعة الحلفاء الخارجين من حرب غربية ـ غربية، ألحقت الخراب بالشرق مثل الغرب. والشعوب تملك، الآن كما في الماضي القريب، مسرداً طويلاً لانتهاكات حقوق الإنسان في الولايات المتحدة، وكيف انقلبت تلك الانتهاكات إلى تشريعات أساسية في الدستور الأمريكي نفسه.

هنالك، علي سبيل المثال، حقيقة الغياب التام لكلمة مساواة في ذلك الدستور، الذي لا ينصّ البتة على توفير ضمانات تكفل حقّ المواطن في الغذاء، واللباس، والمسكن، والصحة، والعمل، والراحة، والأجر المعقول إنسانياً، والضمان الإجتماعي في العمل والحياة، وحماية الأسرة والأطفال. أليست هذه في صلب حقوق الإنسان؟ أليس ضمان الحقّ المتساوي في الطعام واللباس والمسكن، هو جوهر الشرائع والحقوق؟ وأيّ حقوق إنسان، حين تثبت هيئة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة أنّ المواطن الأمريكي ليس متساوياً أمام القضاء، وأنّ الأحكام الصادرة بحقّ الأمريكيين السود والآسيويين أقسى بثلاثة، وأحياناً بأربعة، أضعاف من الأحكام الصادرة بحقّ البيض في قضايا مماثلة؟

وقبل قرابة عقد من الزمان كانت شيرين عبادي ـ المحامية الإيرانية المسلمة، غير المتعصبة وغير الأصولية، ابنة العالم الثالث، غير المتطرّفة وغير الراديكالية، حاملة نوبل للسلام ـ قد وضعت الإعلان العالمي موضع مساءلة نقدية، حين ردّت الكثير من أسباب انتهاكات حقوق الإنسان إلى الأنظمة الحاكمة، وأعراف المجتمع البطريركي، والتخلّف والفقر. وفي محاضرة نوبل توقفت عبادي عند أوضاع حقوق الإنسان، ليس في البلدان التي اعتادت انتهاكها فحسب، بل أساساً في البلدان التي اعتادت تمجيد تلك الحقوق وتحويلها إلى أناجيل معاصرة: 'انتهكت بعض الدول المبادىء والقوانين الكونية لحقوق الإنسان عن طريق التذرّع بأحداث 11 أيلول والحرب على الإرهاب الدولي (...) وإنّ قلق المدافعين عن حقوق الإنسان يزداد حين يلاحظون أنّ قوانين حقوق الإنسان الدولية لا تُنتهك على يد خصومها المعتادين تحت ذريعة النسبوية الثقافية فحسب، بل هي أيضاً تُنتهك في الديمقراطيات الغربية، أي في البلدان التي كانت هي ذاتها في عداد روّاد ميثاق الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان'.

وهذا، في واقع الأمر، هو المعنى الآخر للرأي الذي يقول إنّ وثيقة 1948 لم تكن قادرة على تمثيل حصيلة إنسانية مشتركة حول العلاقة بين الحاكم والمحكوم، ولم تكن خالية من الثغرات التي ترقى إلى مستوى المساوىء البنيوية. وذلك، في المقابل، لا يلغي البتة أياً من محاسنها، والتذكير بأنها كانت الخطوة الأولى الأبرز على طريق صياغة تعاقد إنساني عالمي حول حقوق الإنسان، فضلاً عن انطلاق معظم عناصرها من حصيلة نضالات المواطن الغربي ضدّ وحشيَن كاسريَن: الدولة ـ الأمّة، سيّما حين تحتكر العنف؛ والرأسمالية الصناعية، لأنها في طبيعتها لا تكفّ عن احتكار الجهد الإنساني وفضل القيمة.

هذه الحال الازدواجية هي التي تتيح للغرب أن يرفع رايات حقوق الإنسان في ذروة دعمه ومساندته، بل وأحياناً قتاله إلى جانب، أعتى أنظمة الاستبداد في العالم الثالث عموماً، وبلدان الشرق الأوسط خاصة. وهي التي تتيح للنظام السوري، في غمرة تمتّعه بشبكات التواطؤ المتعددة، أن يرتكب أقصى العقوق بحقّ الإنسان السوري، محتفياً على طريقته بالذكرى الرابعة والستين لإعلان حقوق الإنسان 'العالمي'

الأحد، 9 ديسمبر 2012

همنغواي في الانتفاضة السورية

 "همنغواي وغلهورن"، شريط فيليب كوفمان الجديد الذي بدأت عروضه مؤخراً، يدور حول العلاقة العاصفة التي جمعت بين الروائي والقاصّ والصحافي الأمريكي إرنست همنغواي، بالصحافية والمراسلة الحربية الشهيرة مارثا غلهورن، والتي انتهت بالزواج. وهذه الأخيرة لن تدخل التاريخ بصفتها ملهمة رواية "لمَن يُقرع الجرس"، فحسب؛ بل سوف تصبح أوّل زوجة تبادر إلى طلب الطلاق من الكاتب الشهير، خلال زيجاته الأربع. غير أنّ نصف الشريط، وربما القسط الأهمّ فيه، والأكثر حرارة، يسرد ما شهداه معاً من وقائع ما سيُعرف، عن خطأ أو عن صواب، باسم "الحرب الأهلية" الإسبانية (1936 ـ 1939).

عن خطأ على الأرجح، لأنّ تلك الحرب كانت قد اندلعت بين حكم جمهوري منتخَب شرعياً وديمقراطياً، وبين الجنرال الدكتاتور فرنشيسكو فرانكو الذي انقضّ على السلطة الشرعية بمساندة من الكنيسة الكاثوليكية وملاّك الأراضي، وبدعم بالمال والرجال والعتاد من أدولف هتلر وبينيتو موسوليني، وسط صمت متواطىء مارسته القوى الأوروبية الأخرى. على النقيض، سارعت فئات وقوى شعبية واسعة إلى التضامن مع الإسبان، خصوصاً بعد أن هالها صعود التيّارات النازية والفاشية النازية في أوروبا وأمريكا: أكثر من 40 ألف متطوّع، قدموا إلى إسبانيا من 53 بلداً (بينها مصر والمغرب!)، وانخرطوا في "الفصائل الأممية" التي شاركت الإسبان في حرب لاحَ أنها ـ لمرّة واحدة على الأقلّ ـ ذات معنى بالنسبة إلى الشعوب التي تدفع عادة أثمان الحروب، وليس القوى الحاكمة التي اعتادت جني الثمار. 

"إنها حرب الشعراء"، ردّد خصوم الحملة الأممية، ممّن لم يجدوا وسيلة ثانية لمداراة ما انتابهم من حرج شديد وهم يتناقلون أسماء المنخرطين في صفّ الجمهورية: رفائيل ألبيرتي، أنطونيو ماشادو، ميغيل هرنانديز، غارسيا لوركا، بابلو بيكاسو، خوان ميرو، بابلو نيرودا، سيزار فاييخو، أوكتافيو باث، ألكسي تولستوي، إرنست همنغواي، بول روبسون، جون دوس باسوس (وهو شخصية محورية في شريط كوفمان)، أندريه مالرو، سانت ـ إكزوبيري، كلود سيمون، ستيفن سبندر، لويس ماكنيس، و. هـ. أودن، جورج أورويل، كريستوفر سانت جون سبريغ (سيوقّع باسمه المستعار، كريستوفر كودويل، كتاب "الوهم والواقع"، الذي يُعدّ أوّل إسهام معمّق في صياغة علم جمال ماركسي حول الشعر)... والعشرات سوى هؤلاء. كذلك أعطتنا هذه التجربة الفريدة عدداً من أثمن الأعمال الإبداعية، حول المقاومة والتضامن وأهوال الحرب، مثل قصيدة أودن "إسبانيا"، ونصّ أورويل "تحية إلى كاتالونيا"، فضلاً عن لوحة بيكاسو الأشهر "غيرنيكا"، وعمل خوان ميرو "سلسلة الأسود والأحمر".

والحال أنّ تسمية "حرب الشعراء" تلك لم تنطوِ على خطل كبير، بالقياس إلى عدد ونوعية الشعراء الذين شاركوا فيها، أوّلاً؛ وبالنظر إلى أنّ بعض معاركها كانت في واقع الأمر تدور حول الحداثة الإسبانية إجمالاً، والحداثة الشعرية كما بشّر بها لوركا وهرنانديز وألبيرتي بصفة أخصّ؛ بالإضافة إلى كونها معركة من أجل حريّة التعبير، في الأساس. غير أن أكبر دروس تجربة "الفصائل الأممية" أنها كانت مثالاً رفيعاً في التعاضد الأممي على مستوى الشعوب ذاتها، بعيداً عن المؤسسات، أو قريباً من إحدى أرفع مؤسسات الشعوب: الآداب والفنون. وإذا كان العالم قد تبدّل كثيراً، منذ أربعينيات القرن الماضي؛ فإنّ حدود الفارق بين المقاومة والخنوع، والحرّية والاستعباد، والحقّ والباطل... بقيت على حالها جوهرياً.

خصوصاً في هذه الأزمنة الراهنة التي شهدت انتفاضات العرب، وما تزال تشهد فصولها الأشدّ مأساوية في سورية تحديداً؛ ليس بمعنى غياب أنساق التعاضد القديمة، فحسب؛ بل من حيث تحوّلات المفهوم ذاته، وانقلابه رأساً على عقب أحياناً. وهكذا، لا نعدم يساراً ـ عالمياً وعربياً، ماركسياً معتدلاً أو تروتسكياً متشدداً أو حتى ليبرالياً... ـ يقف، عملياً، في صفّ النظام السوري؛ ليس إعجاباً باستبداد وفساد هذا النظام، بل نفوراً من أولئك "الجهاديين" و"الإسلاميين" و"السلفيين"، الذين "تسللوا" إلى قلب الانتفاضة الشعبية. وأياً كان اختلاف المرء مع هؤلاء، في العقيدة مثل الطرائق، وحول الماضي والحاضر مثل المستقبل؛ فإنّ تطوّعهم لقتال النظام هو "تعاضد إسلامي" في الجوهر، يوازي "التضامن الأممي" السالف، أو يعيد إنتاجه بمصطلح الحاضر ومعطياته، حتى إذا خدش الحياء "اليساري"، أو جرح الطهارة "العلمانية".

وفي مستوى آخر، صحيح أنّ النماذج المعاصرة من أمثال همنغواي ودوس باسوس ومالرو وسبندر... لم تهرع إلى تونس والقاهرة وبنغازي ودمشق، للنضال ضدّ دكتاتوريات مستبدة فاسدة أو وراثية؛ إلا أنّ تضحيات أناس من أمثال ماري كالفن، ريمي أوشليك، ميكا ياماموتو، أنتوني شديد، جيل جاكييه، وسواهم من الصحافيين الأجانب الذين قُتلوا أو قضوا في سورية أثناء أداء عملهم؛ هم طبعة أيامنا من همنغواي وغلهورن، بل لعلّ طرائق أجهزة بشار الأسد وشبيحته أشدّ همجية من جيش الجنرال فرانكو! وثمة الكثير من المغزى في أنّ قلّة قليلة، أو بالأحرى: أقلية مخجلة، من ممثّلي الصحافة اليسارية العالمية، تواجدت على أي نحو في حمص أو حلب أو دير الزور؛ إنْ لم يكن بغرض التضامن أممياً مع الشعب السوري الثائر، فعلى الأقلّ من أجل فضح جرائم النظام.

الأرجح أنّ آذانهم لم يبلغها أي جرس يُقرع في سورية، فما بالك بنحيب رضيع قتيل!

الجمعة، 7 ديسمبر 2012

"جبهة النصرة" وجبهات واشنطن: أين الإرهاب الأكبر؟

 وفقاً لقانون خاصّ، يتوجب على مكتب مكافحة الإرهاب، التابع لوزارة الخارجية الأمريكية، أن يقدّم للكونغرس تقريراً سنوياً مفصلاً عن حال الإرهاب في العالم، يشمل الدول والمنظمات التي تنطبق عليها المعايير المعتمدة لدى الأجهزة الأمريكية المختصة. وكان هذا التقرير قد حلّ، منذ سنة 2004، محلّ تقرير سنوي آخر باسم "أنساق الإرهاب العالمية"؛ لكنه، كما للمرء أن ينتظر، استبدل التسمية وحدها، وظلت المقاربة هي ذاتها، سواء من حيث طرائق البحث والاستقصاء والبرهنة، أو لجهة تعريف مفهوم الإرهاب ذاته. طريف، إلى هذا، أنّ آخر تقارير التقليد السابق أقرّ بأنّ عدد المنظمات الإرهابية، بمختلف ما تنتظم فيه من "أنساق" لم ينقص نتيجة ما تسمّيه الولايات المتحدة بـ"الحملة على الإرهاب"، رغم اتساع نطاق الانخراط الدولي في تلك الحملة، بل ازداد؛ وأنّ آخر تقارير التقليد الجديد يطنب في امتداح عملية اغتيال أسامة بن لادن، ولكنه يقرّ ببقاء منظمة "القاعدة"، بل يعترف بأنها تتوسع أيضاً!

ما يعني هذه السطور، هنا، هو حقيقة أنّ التقرير الأخير، الذي صدر رسمياً في أواخر تموز (يوليو) الماضي، لم يسجّل وجود أية منظمة إرهابية سورية المنشأ (رغم أنّ النظام السوري صُنّف، منذ عام 1979، كدولة راعية للإرهاب؛ ويدرج التقرير عدداً من المنظمات والقوى التي يرعاها النظام، بينها الجبهة الشعبية ـ القيادة العامة، و"حزب الله"، و"حماس"، و"الجهاد الإسلامي"... في لائحة المنظمات "الإرهابية"). لكنّ الخارجية الأمريكية أخذت، مؤخراً، تلمّح إلى إجراء وشيك يقضي بضمّ "جبهة النصرة" ـ التي يقاتل عناصرها في المناطق الشمالية من سورية، وخاصة في محيط مدينة حلب، منطقة الباب ـ إلى اللائحة. ولقد جرى التمهيد لهذا عبر سلسلة تسريبات إلى وسائل الإعلام الأمريكية، كما تولى معلّقون نافذون، وخاصة في الصحافة اليمينية، أمر تضخيم دور "الجبهة" في قتال النظام، والتشديد على انتسابها إلى المنظمة الأمّ: "القاعدة".

وهكذا، قالت فضائية الـCNN إنّ وزارة الخارجية الأمريكية تأمل في وضع اللمسات الأخيرة على مشروع إضافة "النصرة" إلى لائحة الإرهاب، لكي يتمّ اعتماده قبيل اجتماع "أصدقاء سورية" في مراكش، يوم 12 الشهر الجاري. والهدف من القرار، فضلاً عن توقيته، هو "عزل المنظمات المتطرفة في سورية، والدفع أكثر باتجه تأييد مجموعة المعارضة السياسية التي تمخضت عنها قمّة الدوحة، في قطر، الشهر الماضي". وفي توصيف "النصرة"، اختارت الفضائية التركيز على "بيان حلب" الشهير، الذي يدعو إلى "دولة إسلامية عادلة"، كما نسبت إلى "معطيات أمريكية" تقديرها بأنّ الجبهة هذه تشكل 9 في المئة من أعداد المقاومين الذين يقاتلون النظام عسكرياً؛ مع تنويه، لافت، إلى أنّ هذه المجموعة تعمدت عدم إعلان انتمائها إلى منظمة "القاعدة".

دافيد إغناتيوس، أحد أبرز المعلّقين اليمينيين في صحيفة "واشنطن بوست"، كتب قبل أيام عن "تعاظم مثير للقلق" في أعداد مقاتلي "الجبهة"، وتطوّع باقتراح الإحصائيات: بين ستة إلى عشرة آلاف مقاتل، و7,5 إلى 9 بالمئة من مجموع "الجيش السوري الحرّ"؛ بعد أن كانت النسبة لا تزيد عن 3 في المئة قبل ثلاثة أشهر فقط، و1 بالمئة مطلع هذه السنة. أمّا تفسير صاحبنا لهذا التزايد في أعداد مقاتلي "النصرة"، فهو أنّ المجموعة "تظلّ الذراع الأشدّ شراسة ونجاحاً في صفوف القوّة الثائرة"؛ وكذلك لأنّ معظم جرحى وقتلى "الجيش الحرّ" هم من أفراد "النصرة"، كما أفاده أطباء ميدانيون.

ومع ذلك، فإنّ إغناتيوس لا ينفي ما رشح من معلومات، سرّبتها الخارجية الأمريكية عن عمد (إذا لم تكن قد تدّخلت في هندستها، على نحو أو آخر)، تفيد التالي:
ـ "النصرة" تعدّ قرابة 2000 مقاتل، استناداً إلى المؤشرات التي يوفّرها العاملون في مختلف المنظمات الدولية غير الحكومية، والأطباء الذين يقومون بمهامّ إسعافية على الأرض؛ من أصل 15 ألف مقاتل، هم عديد "الجيش الحرّ" في منطقة حلب.
ـ في إدلب، غرب حلب، يقارب عدد أفراد "النصرة" 2500 إلى 3000 مقاتل، أو نحو 10 في المئة من عناصر "الجيش الحرّ" هناك.
ـ وفي دير الزور، إلى الشمال الشرقي، تملك "النصرة" 2000 مقاتل، من مجموع 17 ألف ينتظمهم "الجيش الحرّ" في المنطقة؛ وكانت السيطرة على حقل بترول "الورد" بين عمليات الجبهة الأكثر إثارة هناك.
ـ وفي دمشق، هنالك بين 750 و1000 مقاتل للجبهة؛ ومثلهم عدد يتوزع بين درعا، وحمص، وقرى اللاذقية.

والحال أنّ المرء ليس مضطراً للتعاطف مع "النصرة" لكي يقرّ لها بسلسلة طويلة من الخصائص، العسكرية والسلوكية، التي مكّنتها من احتلال الموقع الراهن في مشهدية القتال المسلّح ضدّ النظام؛ والاختلاف مع أطروحاتها العقائدية، أو الكثير من طرائقها في العمل العسكري، لا يُسقط عنها تلك الحقائق الأخرى التي في صالحها: أنها الأقلّ تعدياً على المواطنين، والأقلّ تطلّباً منهم، والأكثر حرصاً على خطب ودّهم (سواء عبر الانضباط اليومي، أو تنفيذ عمليات باهرة تستدرّ التعاطف)؛ إلى جانب مقدار واضح من الذكاء، الميداني تحديداً، في المسارعة إلى ملء الفراغ الذي يخلقه غياب القيادات الأخرى "المعتدلة"، العسكرية في "الجيش الحرّ" أو السياسية في مجموعات المعارضة. والمرء ذاته إذْ يختلف، كما أفعل شخصياً، مع كامل أطروحات "النصرة"، حول مستقبل سورية عموماً، ومفهوم "الحكم الإسلامي العادل" خصوصاً؛ أمر لا يعني منح التصنيفات الأمريكية لـ"الإرهاب" أية مصداقية أخلاقية، أو حتى مفهومية.

وليس جديداً القول إنّ الخطاب الأمريكي الرسمي حول الإرهاب يمقت التعقيد حين يتصل الأمر بتأويل الأسباب الجوهرية الأعمق وراء صعود الإرهاب، ولكنه يعشق التعقيد كلّ التعقيد حين يتصل الأمر بالتحصين القانوني للحرب ضد الإرهاب. هيلاري كلنتون اليوم، مثل كوندوليزا رايس بالأمس، ومادلين أولبرايت قبلئذ، أو على هدي جميع وزراء الخارجية الأمريكية السابقين، تعطي أذناً من طين وأخرى من عجين لدراسات (أمريكية مئة في المئة!) تشدّد على العلاقات السياسية والسوسيولوجية والسيكولوجية والإيديولوجية وراء نهوض العنف وإنقلابه إلى إرهاب. كذلك تُجمع على أنّ الإرهاب يهيمن في ما يشبه الضرورة حين تجد المجموعة الأضعف أنها مضطرة إلى استخدام العنف ضد المجموعة الأقوى، في شروط من انعدام التكافؤ في موازين القوى. وأما حين تلجأ المجموعة الأقوى إلى استخدام المزيد من العنف ضد المجموعة الأضعف، فإنها تضيف إلى إرهاب الدولة الرسمي صفة القمع المطلق العاري.

على صعيد تعريف مفهوم الإرهاب لا تبدو الكوارث التي حاقت بالولايات المتحدة، وخاصة بعد زلزال 11/9، وكأنها أضافت أيّ جديد إلى التعاريف القديمة المعتمَدة في قانون مكافحة الإرهاب؛ ذاك الذي وقّعه الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون عام 1996، وما يزال ساري المفعول سرمدياً. وهذا قانون يقول التالي:
ـ تعبير الإرهاب يصف العنف المقصود مسبقاً، والذي تحرّكه دوافع سياسية، ضدّ أهداف غير قتالية، على يد منظمات محلية أو شبه محلية، أو عن طريق عملاء سريين، وذلك بقصد التأثير في الرأي العام.
ـ تعبير الإرهاب الدولي يعني الإرهاب الذي يصيب المواطنين أو الأراضي في أكثر من بلد واحد.
ـ تعبير المجموعة الإرهابية يفيد أية مجموعة رئيسية أو فرعية تمارس الإرهاب على نطاق محلي ودولي في آن معاً.

والحال أنّ هذه التعاريف ليست قاصرة وخرقاء فحسب، بل يمكن أن ترتدّ على أصحابها وتدينهم بما يدينون به الآخرين. إذْ استناداً إلى حيثيات هذه التعريفات سوف يكون من المشروع أن تُضمّ إلى لائحة المنظمات الإرهابية أسماء جميع أجهزة الاستخبارات الغربية، التي مارست في السابق عشرات عمليات الاغتيال الفردي، وتدبير الانقلابات العسكرية، وزعزعة الاستقرار الداخلي للدول والأمم. ولسوف يكون من المشروع أن تتصدّر اللائحة وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، دون سواها، بوصفها "أمّ الوكالات" الإرهابية، بلا منازع. وقد يليها في أهمية ـ ودناءة، وقذارة، وهمجية... ـ الأداء، جهاز الموساد الإسرائيلي؛ قبل أن تلتحق بهما أجهزة مثل الـ MI5 البريطاني، والـ DST الفرنسي، وما إلى ذلك من مختصرات "متمدّنة" ذائعة الصيت.

كذلك في وسع جماعة "أبو سيّاف" الفليبينية، التي ما تزال مدرَجة على لائحة الإرهاب الأمريكية للعام 2011، أن تطالب بضمّ منظمات "الموساد" و"الشاباك" و"الشين بيت" الإسرائيلية إلى اللائحة ذاتها؛ ليس على خلفية اغتيال عشرات المدنيين الفلسطينيين (الذين لا تذكرهم تقارير الخارجية الأمريكية، لا بالخير ولا بالشرّ!)، فحسب؛ بل أيضاً على خلفية انتهاك حرمة وسيادة دول أخرى في الشرق والغرب، بهدف اغتيال الخصوم. وفي وسع مجموعة "آوم شينريكيو" اليابانية، الباقية بدورها على اللائحة، أن ترفع دعوى تقارن فيها بين فلسفتها القيامية، والفلسفة القيامية لعشرات الفرق الدينية والعنصرية الأمريكية. وما دام ضخّ الغاز السام في أنفاق طوكيو يعدّ عملاً إرهابياً، فلماذا لا ينطبق المبدأ ذاته على تضليل مواطنين أمريكيين من أفراد فرقة "الفرع الداوودي" ودفعهم إلى الانتحار الشعائري الجماعي، حرقاً بالنار المقدسة، أو خنقاً بالغاز السام التطهيري؟ أليس في وسع منظمة "كاخ"، اليهودية الدينية المتطرفة، أن تقارن نفسها بالتطرّف الأمريكي الذي كان وراء تفجير المبني الفيديرالي في أوكلاهوما؟

"جبهة النصرة" ليست فطراً شيطانياً ولد في غفلة من الزمن، أو بمعزل عن ممارسات النظام الوحشية ضدّ أبناء سورية العزّل؛ لكي لا يذهب المرء أبعد قليلاً ـ أو يرتدّ خطوة واحدة إلى الوراء، ليس أكثر ـ فيتلمس طبائع المظالم التي تتخلّق في شروطها عبادة البندقية، وثقافة السلاح، وروحية العنف المضادّ لعنف أصلي أشدّ وطأة وعاقبة. صحيح أن فلسفة "النصرة"، العسكرية والعقائدية، قد لا تكون مستحبة، أو مقبولة؛ ولعلّ الكثيرين، على شاكلتي شخصياً، يرفضها جملة وتفصيلاً؛ إلا أنّ الرغائب والتفضيلات شيء، وما يستولده الواقع على هيئة محصّلة تلقائية، لا رادّ لها، ولا رادع أحياناً؛ شيء مختلف تماماً. وكما يتشدد علماني سوري في مسألة فصل الدين عن الدولة، وحمل غصن الزيتون وحده؛ لا يتردد إسلامي في التشدد، بدوره، حول القتال من أجل "دولة إسلامية عادلة"، والاستشهاد في سبيلها...

العاقبة، في هذَين الأقصييَن، وسواهما كثير، هي الشعب السوري ذاته، أولاً وآخراً، ولا بديل عن محض الثقة العليا لهذا الشعب، ولتاريخه القديم والحديث والمعاصر، وقِيَمه وأخلاقياته، وأنّ انتفاضته من أجل الحرية والكرامة والديمقراطية ودولة القانون والمساواة... هي المنتصرة أخيراً، وأياً كانت المشاقّ والآلام. وللإدارة الأمريكية، أو سواها، في مؤتمر "أصدقاء سورية" أو في أقبية مؤتمرات أعدائها، أن تضمّ مَن تشاء إلى لوائح التأثيم، أو قوائم الترقية؛ فالمعادلة، في موازين الانتفاضة السورية، من هذا الشعب بدأت، وعنده سوف تبقى.   

الاثنين، 3 ديسمبر 2012

حين يتباكى فوكوياما على الأسد

في مناسبة صدور الترجمة الفرنسية لكتابه الجديد "بداية التاريخ: منذ أصول السياسة وحتى يومنا"، قام الأمريكي الشهير فرنسيس فوكوياما بزيارة إلى باريس، حيث أدلى بمجموعة أقوال تخصّ "الربيع العربي"؛ في ضوء عمله الجديد على نحو محدد، ثمّ اتكاءً على مجموع أعماله السابقة، وخاصة كتابه الأوّل، والأشهر، "نهاية التاريخ: "، 1992، بصفة عامة. وأغلب الظنّ أنّ الناشر الفرنسي (بالاتفاق مع المؤلف، لا ريب) شاء تبديل العنوان الإنكليزي الأصلي للكتاب (وكان قد صدر السنة الماضية، في الولايات المتحدة، بعنوان "أصول النظام السياسي: من عصور ما قبل التاريخ وحتى الثورة الفرنسية")، بآخر أكثر جاذبية للقارىء؛ ليس لأنه يوحي بتغطية الأزمنة المعاصرة، أيضاً، فحسب؛ بل لأنه يلعب على التناقض بين تبشيرَين: نهاية التاريخ، ثمّ بدايته، عند صاحبنا "المفكّر السياسي" نفسه.

وفي فصول مسهبة تمتد على أكثر من 580 صفحة، يستعرض فوكوياما تطوّر السياسة في مختلف الأحقاب، والأمم، والثقافات؛ ولا يتردد، جرياً على عادته، في استسهال الخلاصات واستبصار المآلات واستهواء ما يلبّي مزاجه، وما يدغدغ منهجية لم تعد مكرورة ومعادة ومستهلَكة فقط؛ بل صارت مفرغَة من أيّ عناصر قابلة لاستثارة سجال حقيقي وحيوي. أمّا "الأطروحة المركزية"، التي يتعمّد فوكوياما تحويلها إلى علامة فارقة لكلّ كتاب جديد يصدره، فإنها هذه: المكوّنات الثلاثة لأيّ نظام سياسي حديث هي دولة قوية ومكينة، وقانون حاكم تخضع له الدولة، ومواطنون قادرون على محاسبة الحكومة. وإذْ يقارن سبل تطوّر هذه المكوّنات في الصين والهند والعالم الإسلامي وأوروبا، وكيف اتخذت وجهة عنيفة تارة أو سلمية طوراً، ونأت عنها الأديان والعقائد أو شاركت في صياغتها، وكان الفشل مصير كلّ التجارب التي لم تنهض عليها منذ البدء؛ يطمح فوكوياما إلى رأب الصدع بين قطبَين أقصيَين: الصومال، حيث صراعات القبائل والزمر المسلحة والنظام الفاشل؛ والدانمرك، حيث أفضل نماذج الاشتراكية الديمقراطية، في طبعتها السكندنافية.

الفيلسوف الفرنسي ميشيل سير، خلال حوار مع فوكوياما، طرح سؤالاً حول احتمال وجود تناقض بين "الربيع العربي" وأطروحة "نهاية التاريخ"، فأجاب الأخير على دفعتين، أو انطلق من قراءتَين إذا جاز التعبير. فهو، أوّلاَ، تكرّم بالقول إنّ "الحدث إيجابي جداً"، إذْ "لا يمكن نيل الديمقراطية دونما تعبئة اجتماعية"، وهذا يتطلب أن "يشعر الناس بالسخط، وينتابهم الغضب من طريقة تعامل الحكومة المتسلطة معهم"؛ بل رأيناه يغمز من قناة رأي ظلّ سائداً في الغرب حتى كانون الثاني (يناير) 2011، مفاده أنّ الدين الإسلامي يحضّ المؤمنين على طاعة الحاكم، حتى إذا كان طاغية مستبداً. القراءة الثانية، الفوكويامية بامتياز كما يصحّ التذكير، تنتقل مباشرة إلى موقع ملتبس تماماً: "ولكن إذا نظرنا إلى ما يجري في سورية، حيث نشهد حرباً أهلية منذ 18 شهراً، يصبح واضحاً أنّ ذلك الرأي قد انطوى".

حسناً، فهل انطوى بمعنى "إيجابي"، ضمن الروحية التي طبعت مزاج فوكوياما في توصيف "الربيع العربي"، من جانب أوّل؛ وضمن المقارنة التي يعقدها مع الشعوب الأوروبية، "التي لم تنل الديمقراطية إلا من خلال مقاومة سلطة الملك، ومواصلة الكفاح حتى تحقيق مطالبها"، من جانب ثانٍ؟ كلا، على نقيض ما قد يظن ساذج، لأنّ فوكوياما يتباكى على النظام السوري عملياً، حتى إذا لم يتجاسر على ذرف الدموع علانية: "الدولة هي الجهة التي تحتكر العنف المشروع (...) لكنّ سورية سوف تواجه مشكلة كبيرة إذا سقط الأسد، لأنّ الدولة سوف تتفكك"... وبالتالي، سوف تنهار "الركيزة" الأولى في أطروحته الجديدة عن المكوّنات الثلاث في بناء الديمقراطية!

تعساً للسوريين، إذاً، حسب مخطط فوكوياما، لأنهم لن يفلحوا أبداً في تحقيق مطالبهم المشروعة: لا ديمقراطية من دون دولة قوية ومكينة (يمثّلها نظام بشار الأسد، الذي يتولى "العنف المشروع"، امتياز الدولة)، ولا سبيل إلى ديمقراطية حقة إلا بإسقاط هذا النظام؛ فما العمل، إزاء وضع كافكاوي عالق، مغلق وممتنع؟ الأحرى القول إنه وضع فوكويامي، قبل أن يكون كافكاوياً، يحيلنا مجدداً إلى سلسلة الأطروحات السالفة التي ظلت تقود الرجل من تناقض إلى آخر: نهاية التاريخ، وانتصار الإنسان الليبرالي، وليد اقتصاد السوق، خاتم البشر الوحيد الممكن في أحقاب ما بعد سقوط جدار برلين؛ ثمّ عودة التاريخ، في البلقان والكويت والعراق وفلسطين وأفغانستان، فضلاً عن  منعطف 11 أيلول، و"الحملة على الإرهاب"، وانتهاك الحقوق المدنية في عقر دار الديمقراطيات الغربية؛ ثمّ تراكم المآزق الكبرى التي أخذت تهزّ الدولة الرأسمالية المعاصرة، لأنّ "التاريخ لا يمكن أن ينتهي ما دامت علوم الطبيعة المعاصرة لم تبلغ نهايتها بعد، ونحن على أعتاب اكتشافات علمية ذات جوهر كفيل بإلغاء الإنسانية في حدّ ذاتها،"، كما كتب فوكوياما... نفسه، الذي يقول اليوم إنّ التاريخ أكثر ابتداءً من أي عهد مضى في عمر الإنسانية!

لهذا، أجدر بالسوريين أن يقولوا: تعساً لـ"مفكر سياسي" يستخدم مصطلح الحرب الأهلية بخفة استخدام مصطلحات شتى، متلاطمة متضاربة، يأخذ بعضها بتلابيب بعض، فلا تنتهي إلا خبط عشواء. فضيلتها الكبرى أنها، مع ذلك، تكشف سوأة "منظّر" عن الديمقراطية، يتباكى على طاغية آيل إلى سقوط.

الاثنين، 26 نوفمبر 2012

خامنئي في إهاب ماركس

 كوندوليزا رايس، على سبيل التذكير المفيد، هي اليوم أستاذة العلوم السياسية في جامعة ستانفورد، وسبق لها أن تولت منصب مستشارة الأمن القومي في ولاية جورج بوش الابن الأولى، ثمّ وزيرة الخارجية في ولايته الثانية؛ وبذلك كانت أوّل امرأة من أصل أفرو ـ أمريكي تبلغ الموقع الأوّل، وثاني امرأة في الموقع الثاني، بعد مادلين أولبرايت، خلال ولاية كلنتون الثانية. قبل هذا، ومنذ مطالع ثمانينيات القرن الماضي، عملت رايس مستشارة في رئاسة الأركان المشتركة، وفي مجلس الأمن القومي لشؤون الاتحاد السوفييتي وأوروبا الشرقية في عهد جورج بوش الأب (خلال حقبة سقوط جدار برلين، وتفكك المعسكر الاشتراكي)، وفي حملة بوش الابن الأولى.

هذا التذكير بالسجلّ الاكاديمي والوظيفي يبيح للمرء أن يتحرّى عند رايس مقدار الحدّ الأدنى من الرصانة السياسية أو الفكرية، حتى حين يختلف تماماً مع مواقفها، أو يخالفها في جميع ما تعرب عنه من آراء. وهكذا، بعد طول غياب واحتجاب عن التعليق على الانتفاضة السورية، خرجت رايس بمقال في صحيفة "واشنطن بوست"، عنوانه "سورية نقطة مركزية للحفاظ على تماسك الشرق الأوسط"، ينتهي إلى خلاصتَين، بين استنتاجات أخرى مكرورة على نحو أو آخر. الأولى تقول إنّ إيران المعاصرة هي كارل ماركس القرن التاسع عشر: الأخير هتف: "يا عمّال العالم اتحدوا!"، طالباً منهم أن يتخلصوا من "الوعي الزائف" بالهوية الوطنية، لأنّ المصالح المشتركة التي تجمعهم عابرة للحدود، وأكبر من تلك التي تربطهم بطبقات تقهرهم باسم القومية؛ والأولى، إيران، تهتف: "يا شيعة العالم اتحدوا!"، لأنّ الاصطفاف خلف المذهب أهمّ من التشبث بالهويات الوطنية، في السعودية والبحرين والعراق ولبنان وسورية... حسب لائحة رايس.

والحال أنّ هذا القراءة للوقائع الراهنة في المنطقة لا تختزل الجوهر الشعبي والديمقراطي في الانتفاضات العربية عموماً، والسورية بصفة خاصة، فقط؛ بل تمسخ حركية التاريخ، قديمه ووسيطه ومعاصره، في المنطقة بأسرها، إلى صراعات مذهبية وإثنية فقط؛ كما تسطّح علم اجتماع الطبقات والعقائد والهويات إلى محض استقطابات جامدة، ساكنة تارة، أو قابلة لأبسط أنماط الاستغلال والتحكّم الخارجي طوراً. وإذا كانت المقارنة بين ماركس وطهران (سواء مثّلها الوليّ الفقيه، أو محمود أحمدي نجاد، أو جنرالات "الحرس الثوري"...) مضحكة وسطحية وبلهاء، إذا جاز قبولها على أي وجه أصلاً؛ فإنّ الهبوط بالانتفاضة السورية إلى سوية مشاحنات سنّية ـ شيعية، ولعبة قوى أقليمية محورها التصارع بين المذهبَين، يكشف منسوب الانحدار السياسي، أسوة بذاك الفكري والعقلي، الذي يمكن أن تنحطّ إليه تحليلات رايس، أستاذة العلوم السياسية، وصاحبة السجلّ الوظيفي والأكاديمي الذي سبقت الإشارة إليه.

إنها لا تخاف على شعوب المنطقة من جور أنظمة استبداد ونهب وتوريث ومافيات (سبق لإدارات البيت الأبيض أن ساندتها، سرّاً أو علانية، لأنها كانت في طليعة خَدَم المصالح الأمريكية هناك)؛ وتضرب صفحاً تاماً، كاملاً، عن دورها هي شخصياً في اجتراح أردأ، وأسوأ، النظريات عن حاضر المنطقة (ابتداءً من "الفوضى الخلاقة"، مروراً بـ"الفاشية الإسلامية"، وانتهاءً بـ"الشرق الأوسط الجديد"...). مخاوفها تتركز على، لأنها إنما تنبثق من، "البنية الهشة" لدول المنطقة، وعنها تقول: "كلّ دولة مهمة هي إنشاء حديث، خلقه البريطانيون والفرنسيون، الذين رسموا الحدود مثل خطوط على ظهر مغلّف، وغالباً دون اكتراث بالفوارق الإثنية والطائفية".

وبهذا فإنّ بنية المنطقة تقوم على التالي: "البحرين، المؤلفة من شيعة بنسبة 70 في المئة، يحكمها أمير سنّي. السعودية أُنشئت بـ 10 بالمئة من الشيعة في مناطقها الشرقية الأغنى. العراق يتألف من شيعة بنسبة 65 بالمئة، وعرب سنّة بـ 20، وما تبقى خليط من الكرد وسواهم، حكمهم دكتاتور سنّي بقبضة من حديد، حتى سنة 2003. سكان الأردن فلسطينيون بنسبة تقارب الـ70 في المئة. لبنان منقسم بين السنة، والشيعة، والمسيحيين. ثمّ تأتي سورية: تجمّع من السنة، والشيعة، والكرد وغيرهم، تحكمهم أقلية علوية". حسناً، ألم تكن هذه "الهشاشة" في ذهن رايس حين كانت في هرم صناعة القرار، ساعة اتخذ البيت الأبيض قرار غزو العراق؟ ولماذا لم تكن "الهشاشة"، إياها، عائقاً أمام آمال انتقال "فيروس" الديمقراطية، بوصفها إحدى ذرائع رهط المحافظين الجدد في تبرير اجتياح العراق؟

تلك أسئلة صارت نافلة عند رايس، أغلب الظنّ، لأنّ الطور الراهن من تفكيرها يحتمل المطالبة بتسليح المعارضة، ولكن ليس دون التحذير من تغلغل "القاعدة" إلى صفوفها، خاصة وأنّ "الحروب الأهلية تميل إلى تقوية القوى الأسوأ. وإسقاط الأسد يمكن، بالفعل، أن يجلب هذه القوى الخطرة إلى السلطة". نسلّحهم، أو بعض الذين ننتقيهم  نحن فقط، من جهة؛ ونتخوّف من انتصارهم، لأنه قد يأتي بما هو أسوأ، من جهة ثانية. وتلك منزلة تناقض بين التعاطف مع المعارضة والتخوّف منها، يجوز أن تُقارَن بموقف آخر يعود إلى مطلع العام 2007: في يوم أوّل، طالبت رايس بإطلاق سراح الناشط المصري أيمن نور؛ وفي يوم تالٍ، عقدت اجتماعاً مع أربعة مسؤولين أمنيين عرب، كان بينهم المصري عمر سليمان... سجّان نور!

فكيف لا يتبدى آية الله علي خامنئي، عندها، في إهاب الرفيق كارل ماركس؟

الجمعة، 23 نوفمبر 2012

سورية والعسكرة: النظام يتقهقر وأشباه الملائكة لا تتقدّم!

 إذا راجع المرء وقائع الأيام الثلاثة الأخيرة من المواجهات بين قوّات النظام السوري ومختلف كتائب المقاومة والجيش الحرّ، فإنّ الحصيلة تبدو مثيرة للدهشة، في جوانب عديدة، عسكرية ولوجستية؛ تفضي، بالضرورة، إلى ترسيم محتوى أكثر إدهاشاً للجوانب السياسية أيضاً، وقبلئذ في الواقع. لقد دارت اشتباكات مباشرة في أكثر من 340 نقطة مواجهة، ساخنة منذ أسابيع، وليست طارئة؛ وتمكن المقاتلون من اقتحام كتيبة الدفاع الجوي، في ريف حلب الغربي، ومدرسة الشرطة، والفوج 46 ـ قوّات خاصة؛ وفوج النقل 274، ومقرّ قيادة لواء التأمين الإلكترونية في الغوطة الشرقية، في ريف دمشق؛ وكتيبة الدفاع الجوي في منطقة الحجر الأسود، جنوب العاصمة؛ وكتيبة الدفاع الجوي والإشارة، جنوب دمشق، بالقرب من منطقة السيدة زينب؛ وأسقطوا طائرة مروحية في كفرزيتا، ريف إدلب، وأخرى في الغوطة الشرقية؛ وسيطروا على مطار الحمدان، في البوكمال، على الحدود السورية ـ العراقية، ويحاصرون مطار دير الزور العسكري...

في المقابل، قصف طيران النظام أكثر من 400 نقطة، في مختلف أنحاء سورية؛ وتعرضت أكثر من 77 منقطة لقصف بالهاون، وقُصفت 76 بالمدفعية الثقيلة، و22 أخرى بالقصف الصاروخي؛ وتتواصل الحملة العسكرية على بلدة داريا، في ريف دمشق، المحاصرة منذ عشرة أيام، تحت وابل الأسلحة الثقيلة كافة، مع انقطاع تامّ للماء والكهرباء؛ وسُجّل استخدام الغازات السامة ضدّ بلدة حرستا، ريف دمشق؛ وراجمات الصواريخ، للمرّة الأولى، في مناطق دمشق الجنوبية؛ ولم يتوقف قصف قرى جبل الأكراد، سلمى والمارونيات والمريج وسواها، في اللاذقية. عدد الشهداء تجاوز الـ 300، بينهم 17 طفلاً، وعشر نساء؛ معظمهم من دمشق وريفها، وحلب، وإدلب، وحماة، ودرعا، ودير الزور، وحمص.

جلي، إذاً، أنّ النظام يتقهقر على الأرض، أو يتفادى القتال المباشر في معظم المناطق؛ كما أنه (وهذا تفصيل لافت تماماً) لا يعود لاسترداد المواقع التي خسرها، حتى إذا كانت تحتوي، بحكم اختصاصها، على مخازن أسلحة حساسة وصاروخية، مثل كتيبة الأفتريس في غوطة دمشق، حيث الصواريخ ليست بعيدة المدى فقط، بل يمكن أن تحمل رؤوس أسلحة كيماوية أيضاً. جلي، كذلك، أنّ النظام بات يكتفي بالقصف الجوّي أو الصاروخي أو المدفعي، ويركّز القسط الأكبر من الجهد العسكري لقطعاته الموالية، الفرقة الرابعة والحرس الجمهوري بصفة خاصة، في العاصمة وريف دمشق؛ ويُبقي على وحدات أقلّ في محيط حلب، بعد تعذّر "الحسم" الذي وعد به النظام؛ وفي دير الزور أيضاً، لأسباب صارت تنحصر في غرض شبه وحيد، هو الإبقاء ما أمكن على منطقة فصل بين الشمال الشرقي ومحاور حلب/ جبل الزاوية/ إدلب/ معرّة النعمان.    

وليس عسيراً إدراك هذه الإحداثيات، العسكرية الصرفة، إذا استرجع المرء سلسلة الحقائق المضادة التي اقترنت، وتوجّب أن تقترن، بالخيارات المركزية التي استقرّ عليها النظام في قهر الانتفاضة. فاللجوء إلى االعنف العاري، كما في ارتكاب المجازر في مناطق مأهولة بسكان من السنّة، تعويلاً على دفعهم إلى ارتكاب مجازر مضادة في مناطق مجاورة مأهولة بسكان من الطائفة العلوية؛ انتهى إلى فشل ذريع، خاصة في قرى منطقة الغاب. والإيمان بإمكانية الحسم العسكري، في حصار حلب ودير الزور وحوران وريف دمشق بصفة خاصة، تكشّف عن عجز ميداني فاضح، عرّى أيضاً معنويات قوّات النظام الهابطة إلى حضيض. والمراهنة على أفضلية السلاح الثقيل، في صفّ النظام، مقابل السلاح الخفيف، في صفّ المقاومة والجيش الحرّ؛ انقلب إلى ما يشبه الخيار صفر في الإنجاز العسكري على الأرض، وبات السلاح الثقيل المفضّل عند النظام هو... البراميل المحشوة بموادّ متفجرة، تُلقى من الجوّ كيفما اتفق، فيحدث أن تسقط على أرتال المواطنين المتجمهرين أمام مخبز أو محطة وقود.

ولعلّ جهاز النظام العسكري (وهو، للتذكير، ليس الجيش السوري النظامي، ولا حتى مقدار الثلثَين في عديده وعدّته) بلغ ذروة عليا في وتائر الضغوطات اليومية التي أخذ يخضع لها منذ مطلع الانتفاضة، حين زُجّ في معركة مفتوحة ضدّ الشعب؛ بدأت بمواجهة بين بنادق العميد عاطف نجيب ضدّ المتظاهرين في درعا، مقابل زهور الشهيد غياث مطر الملقاة تحت أقدام عسكر ماهر الأسد في داريا؛ وكان محتماً أن تنتقل إلى الطور الراهن: حراك جماهيري ديمقراطي ضدّ استبداد وراثي فاسد، ومقاومة شعبية ضدّ جيش مسلّح حتى النواجذ ومنفلت من كلّ عقال. ومرّة أخرى يصحّ التذكير بأنّ السذّج وحدهم، إلى جانب المتعامين عن إبصار الاعتمالات الجدلية الأبسط في حركة التاريخ، هم الذين يواصلون الحنين إلى زمن الزهور مقابل البراميل المتفجرة (إذْ أنّ عهد البنادق قد مضى وانقضى!)؛ وإلى مظاهرات لا تخرج من المسجد، ولا تضمّ في صفوفها إلا أشباه الملائكة حَمَلة اغصان الزيتون، أياً كانت طبائع الوحوش الكاسرة التي تواجههم في صفّ النظام؛ ولا نعدم بينهم مَنْ يتابع التفجع، الكاذب غالباً، وسيء الطوية عموماً، على "ثورة سلمية" صارت اليوم "ثورة مضادة", لأنها... تعسكرت!

النمط الأوّل من الضغوط اليومية على جيش النظام (وكتائب الفرقة الرابعة هي مثاله الأبرز) مصدره اهتراء المعنويات أمام الصمود الأسطوري للحراك الشعبي، واستمرار الشعارات في علاقة طردية مع اشتداد آلة القهر. كلّما حوصرت منطقة، ودُمّرت بيوتها وسُفكت دماء أبنائها، نساء ورجالاً وشيوخاً وأطفالاً، ارتفعت أكثر فأكثر روحية المطالبة بإسقاط النظام، وتسمية رموزه العليا. وكلما أوغلت هذه الوحدات في اتخاذ الإجراءات الكفيلة ببثّ الفرقة بين السوريين (مثل قصف مئذنة هنا، أو العبث بمسجد هناك، أو كتابة شعارات مذهبية وطائفية بين حين وآخر، فضلاً عن ارتكاب المجازر المباشرة...)، جاء الردّ الشعبي أكثر تمسكاً بالوحدة الوطنية، وأعلى وعياً بالغايات الأبعد لتلك الإجراءات.

نمط الضغط الثاني ما تزال تصنعه حقيقة أنّ عسكر النظام، تماماً على شاكلة الفرقة الرابعة، هو هجين مختلط من بقايا وحدات عسكرية سابقة، كانت لها صولاتها وجولاتها في السجلّ القمعي على امتداد تاريخ "الحركة التصحيحية"، وتوجّب على حافظ الأسد أن يفككها ويعيد تركيبها، بين حقبة وأخرى. أهداف التفكيك وإعادة التركيب كانت تتراوح بين قطع الطريق على الأجندات الخاصة لقادة تلك الوحدات، من أمثال رفعت الأسد (قائد "سرايا الدفاع")، وعلي حيدر (قائد "الوحدات الخاصة")، وعدنان الأسد (قائد "سرايا الصراع")؛ أو تغيير وظائفها في سلّم خدمة الاستبداد، بين شديد إلى أشدّ. صحيح أنّ هؤلاء باتوا خارج المشهد القيادي، حتى قبل أن تبدأ عمليات توريث الأسد الابن، إلا أنّ ما جرى تكريسه على نطاق التوريث داخل البيت الأسدي، جرى أيضاً استلهامه بصياغات متغايرة على صعيد مناقلة النفوذ والامتيازات بين قادة الصفّ الأوّل، ووكلائهم قادة الصفوف الثانية والثالثة.

وهكذا، يعرف الضابط في الفرقة الرابعة أنّ ماهر الأسد اختار له البقاء في كتائبها، فلم يشمله بأعمال التطهير التي أعقبت اندلاع الانتفاضة، لأنّ ولاءه ثابت، وقد تمّ التحقق منه خلال هذه العملية أو تلك؛ كما لا يجهل، وهنا التفصيل الأهمّ، أنّ انتماءه إلى هذه العشيرة أو تلك، من هذه الضيعة التابعة لهذه المنطقة، وليست تلك التابعة لمنطقة أخرى، كان حاسماً في ترشيحه للبقاء. لكنه، أغلب الظنّ، لم يتطهر تماماً من ذاكرة شخصية تضمنت ولاءه السابق، وامتيازاته التي لم تكن أقلّ، بل كانت أوفر ربما، مع ضباط من أمثال العقيد معين ناصيف (صهر رفعت الأسد، والضابط الأبرز في "سرايا الدفاع")، أو العميد هاشم معلا (بطل حصار حلب، 1980، و"مدمّر الإخوان المسلمين" حسب التسمية المفضّلة لدى محبّيه)، أو العميد محسن سلمان (حاكم لبنان العسكري أواسط الثمانينيات، إسوة بحاكمها الأمني غازي كنعان)...

ثمة، هنا، اختلاط في ماضي المرجعيات وحاضرها، ليس لأنّ القدماء كانوا شرفاء مع الشعب، والجدد أوغاد، فالموازنة هنا غير مطروحة أساساً؛ بل لأنّ الولاء الأعمى لا تكفيه عصا واحدة يتوكأ عليها، خاصة إذا اختلطت امتيازات الأمس، بكوابيس اليوم، وتبدّى المصير من خلال هذا الخليط المتنافر، ضدّ الشعب تحديداً، وفي مواجهة شارع لم يرفع حجراً في وجه الدبابة خلال الأشهر الأولى من عمر الانتفاضة. أمّا حين صارت الدبابة عُرضة لقذيفة مضادة للدروع، وبات مَنْ في داخلها غير محصّن من احتمال الموت حرقاً داخلها، وأضحى كابوس العودة إلى الأهل مقترناً بالكفن... فإنّ طراز الضغوطات الأولى انصهر في طراز الضغوطات الثانية، لكي يصنع طرازاً ثالثاً من ضغوطات يختصرها هذا السؤال الحارق: حتام نقاتل أهلنا، ونقتلهم أو نُقتل بأيديهم، دفاعاً عن آل الأسد وآل مخلوف وآل شاليش وآل الأخرس...؟

وهذه حال سياسية جدلية، بدورها، يتوجب أن يتفقه فيها القائلون بمخاطر "الثورة المضادة"، إذا أجازوا لرؤؤسهم أن تخرج قليلاً من الرمال: كما أنّ منطق المواجهة اقتضى حقّ "جبهة النصرة" في الدعوة إلى "دولة إسلامية عادلة"، لأنّ أفراد الجبهة هم في طليعة المقاتلين ضدّ جيش النظام؛ فإنّ منطق المواجهة ذاته اقتضى، على الصفّ الآخر، إطلاق شعار "الأسد، أو نحرق البلد"؛ لكي لا يقتبس المرء شعارات أخرى أشدّ بغضاء وطائفية وشططاً، على الجانبين. وكما أنّ من حقّ زيد أن يرفض الدعوة الأولى، فإنّ من حقّ عمرو أن يأبى الثانية، دون تخوين أو تشبيح او تكفير؛ ويستوى، هنا، أن يكون الرافض مسلماً، سنياً أو علوياً أو درزياً، أو مسيحياً؛ متديناً أو علمانياً، متعسكراً أم متمدناً؛ ومن الخير أن لا يُطرح عليه أي سؤال يخصّ الهوية المذهبية، أصلاً، سواء اكتُسبت بالولادة أم بالانتماء، وكذا الحال في ما يخصّ هويته الإثنية.

تلك مسائل بديهية بالطبع، ولا مناص من تكرارها والتشديد عليها، كلما تعيّن التذكير بالبديهي. ما يدهش، في المقابل، هو أنّ سيرورات "عسكرة الانتفاضة" وعبادة البندقية هنا، وسيرورات "سلمية الانتفاضة" وعبادة الصدر العاري هناك، اقتضت من أنصار العبادتَين، معاً وبالتكافل والتضامن، أن يتوحدوا في... ذمّ "الائتلاف الوطني السوري" الوليد؛ لأنه يبشّر بإمكانية ائتلاف، ناجح على نحو ما، قابل للأخذ والردّ والتعاطي، بين البندقية والصدر العاري! هنا تتخلّق، استطراداً، حصيلة سياسية ناجمة عن حصيلة الجوانب العسكرية واللوجستية في سلوك النظام الراهن، بحيث أنّ ما يُطرد من سياسة عبر باب العسكرة، يدلف من النافذة في إهاب سياسة تعسكرت، أو عسكرة تسيّست. وهذا، في الحالين، تركيب جدلي لا ينفع معه الاختزال: لا انتفاضة أشباه الملائكة، ولا حرب العسكر. ومن محاسن الثنائيات الجدلية أنّ السيرورة يمكن أن تصبح متبادلة، فيختفي شبيه الملاك خلف درع المحارب، والأخير خلف أجنحة الأوّل!       

الاثنين، 19 نوفمبر 2012

القصيد والنشيد: انتفاضة أخرى

 يندر أن يُجرح وجدان العرب ـ في فلسطين بصفة خاصة، جرّاء الهمجية الإسرائيلية؛ ولكن من المحيط إلى الخليج، جرّاء مباذل الاستبداد العربي بأنماطه كافة ـ إلا ويحنّ ذلك الوجدان إلى، أو يتشبث بمدلولات، نشيد/قصيد وطني متفق عليه: "موطني". ونتذكّر أنّ بين أبرز أسباب هذه المكانة أنّ الأصل كان قصيدة للشاعر الفلسطيني إبراهيم طوقان، ثمّ انقلب إلى أنشودة للانتفاضة الفلسطينية سنوات 1936 ـ 1939، ضدّ الانتداب البريطاني وموجات الهجرة اليهودية؛ واعتُبر النشيد غير الرسمي لفلسطين، قبل أن تستقرّ منظمة التحرير على نشيد "فدائي"؛ كما اعتمده العراق نشيداً وطنياً رسمياً، سنة 2003.

السبب الآخر، الفنّي هذه المرّة، قد يكون مردّه أنّ القصيدة اعتمدت تشكيلاً وزنياً متنوعاً وطليقاً، يتخفف كثيراً من تواتر تفاعيل بحر الرمل، ويمزج ببراعة بين الموشّح والعمود الخليلي، ويعتمد الكثير من الصياغات الذكية لبناء إيقاع رديف عن طريق التكرار: "موطني/ الجلال والجمال/ والسناء والبهاء/ في رُباكْ/ والحياة والنجاة/والهناء والرجاء/ في هواك/ هل أراكْ/ سالماً منعَّما/ وغانماً مكرَّما/ هل أراكْ/ في علاكْ/ تبلغ السِّماكْ"... ولأنّ القصيدة كُتبت مطلع ثلاثينيات القرن الماضي، فتشبعت بمزيج متوازن من جزالة تلك الأحقاب، ونزوعات التحديث التي تميّز بها شعر طوقان، في آن معاً؛ فإنّ تلحينها، على يد الأخوين فليفل، ثنائي الإبداع الموسيقي الأشهر في هذا الميدان الخاصّ من التأليف الموسيقي، جعل اتساق فتنتَي الشعر والموسيقى أشبه بانبلاج نور على نور.     

ومنذ انطلاق انتفاضات العرب، وانفلات العنف الأقصى في خيارات النظام السوري على وجه الخصوص، أسوة بهذه الأيام إذْ تتعرّض غزّة لجولة جديدة من الوحشية الإسرائيلية؛ ظلّ "موطني" يتردد ويتعالى ويُستردّ، مكتسباً شحنات أبعد مغزى، مثيراً تداعيات أشدّ ائتلافاً مع الوقائع المعاصرة. ولم تكن هذه السيرورة قد خلت من سمة أخرى تخصّ تجدّد النشيد، وتجديده، ولكن على نحو اتخذ صفة السخرية المريرة من المآلات التي انتهى إليها الموطن في ظلّ النظام العربي المعاصر. ومن المعروف أنّ تلك المرارة قد بلغت مستوى عَكْس كلمات القصيدة الأيقونية، لتصبح هكذا: "موطني/ الوبال والضلال والبلاء والرياء/ في رباك/ والطغاة والبغاة والدهاء لا الوفاء/ في حماك/ ها أراك لا سواك/ خانعاً مكمماً بقادتكْ مسمّماً/ ها أراك ها أراك/ كُبّلتْ يداك/ تصطلي لظاك/ موطني".

والحال أنّ التراث الشعري ـ الغنائي العربي الحديث يحفل بعشرات القصائد الوطنية التي خلّدها، أوّلاً، نصّ شعري فصيح وحماسي وأخاذ؛ قبل أن تستكمل تخليدها أغنية تلهج بها الألسن وتردّدها الحناجر، في غمرة تفاعل رفيع للمعنى الشعري، والنغم الموسقي، والمطمح الوطني والإنساني. هنالك القصيدة الأشهر "يا ظلام السجن"، التي كتبها الصحافي السوري نجيب الريس عندما كان سجيناً في قلعة جزيرة أرواد سنة 1922، وقيل إنه لحّنها بنفسه وبمشاركة زملائه في السجن. جديرة بالتأمل تلك الحقيقة التي تقول إنّ القصيدة كانت في البدء موجهة ضدّ الانتداب الفرنسي في سورية، ثمّ تحوّلت إلى نصّ ـ أغنية ضدّ الطغيان، أياً كان؛ فضلاً عن أنّ مكانتها، واسترجاعها الدائم في الوجدان العربي، يثيران إشكالية العلاقة بين الوطنيّ والديمقراطي في الوعي السياسي العربي المعاصر.

هنالك، من جانب آخر، استعادات لأشعار ـ أناشيد أخرى تعود إلى أحقاب سابقة، مثل "بلاد العرب أوطاني"، قصيدة فخري البارودي، التي عاد إليها المطرب العراقي كاظم الساهر؛ و"في سبيل المجد"، قصيدة عمر أبو ريشة، التي استلهمها شباب الانتفاضة السورية في أشرطة مختلفة؛ وكذلك قصيدة الأخطل الصغير "نحن الشباب"، التي لقيت اهتماماً مماثلاً. وهذه إعادة إنتاج تستجيب، على نحو او آخر، لمبدأ العرض والطلب في سوق الأغنية العربية المعاصرة؛ ولكنها تتوازى مع حنين جلي إلى شعر تنهض خصوصيته على ارتباط الموضوع الوطني (بالمعنى الأعمق لمفهوم المواطنة، وليس بمعنى انتماء الهوية وحده)، بأغنية ترسخت شعبيتها عبر العقود (بسبب من تميّز لحنها وجاذبيتها الموسيقية، وليس بسبب موضوعها الوطني وحده).

في سورية، على سبيل المثال، ترافق إقبال الأجيال الفتية على ترديد "حماة الديار"، قصيدة خليل مردم بك التي صارت النشيد الوطني السوري، مع اهتداء إلى سلسلة القِيَم السياسية والإنسانية والأخلاقية التي تختزنها الكلمات، في جانب أوّل؛ وانشداد إلى موسيقى الأخوين فليفل، ملحنَيْ النشيد، كان مفاجئاً من جيل اعتاد على تذوّق أغنيات وفيق حبيب وجورج وسوف وعلي الديك، في جانب ثانٍ. وهنا، أيضاً، توجّب أن تتدخّل المرارة الشعبية إزاء جرائم قطعات الجيش الموالية للنظام (وهم بعض "حماة الديار"، في نهاية المطاف!)، فيتحوّر النشيد الأيقوني لكي يناسب الحال. النصّ الأصلي يقول: "حماة الديار عليكمْ سلامْ/ أبَتْ أنْ تذلَّ النفوس الكرامْ/ عرين العروبة بيت حرام/ وعرش الشموس حمىً لا يُضام/ ربوع الشآم بروج العَلا/ تحاكي السماء بعالي السنا"؛ وقد أصبح، عند "فرقة المندسين" السورية الساخرة: "حماة الديار عليكم سلام/ الشعب يريد إسقاط النظام/ دم الشرفاء عليكم حرام/ فهبّوا لنصرة شعب يضام/ ربوع الشآم تعاني الأسى/ وتشكوا إلى الله ظلماً قسا"...

هي انتفاضة عربية أخرى، إذاً، ولكن على صعيد القصيد والنشيد معاً؛ وأكْرِم بها من مشاركة مباركة!

الجمعة، 16 نوفمبر 2012

بين دمشق وغزّة: أيّ فارق في هوية الضحية وطبائع الجلاد؟

العدوان العسكري، في أغراضه الردعية ـ الأمنية بصفة خاصة، ركيزة كبرى قام عليها كيان إسرائيل منذ حروب تأسيسها، ولم يكن ارتكاب المجازر خياراً مستبعَداً ضمن هذه العقيدة، والأمثلة عديدة، ومستويات الوحشية التي انطوت عليها كانت قياسية على الدوام. في عبارة أخرى، لم تكن إسرائيل بحاجة إلى ذريعة لكي تطلق عملية "عامود هاعنان"، فتمارس ما اعتبرته "قصاص السماء" ضدّ غزّة، بما في ذلك اغتيال أحمد الجعبري، القيادي في "كتائب عز الدين القسّام"، وهو الأبرز ربما، والقائد الميداني الفعلي. غير أنّ انتفاء الحاجة إلى ذريعة لا يعني، من جانب آخر، أنّ التخطيط لهذا العدوان لم يضع في الحسبان إمكانية استغلال سياقات معيّنة تشهدها المنطقة، قد تساعد في تخفيف الضغط "الأخلاقي" الذي قد يخضع له جيش العدوان الإسرائيلي في ناظر الرأي العام العالمي.

وهكذا، إذا ما قورن عدد شهداء غزّة، جرّاء القصف الإسرائيلي؛ بعدد شهداء سورية، جرّاء قصف النظام السوري لمناطق في حلب ودير الزور وريف دمشق وسواها... فإنّ المقارنة لن تنعقد لصالح القصف الأوّل (أقلّ من عشرة فلسطينيين، مقابل أكثر من مئة سوري)، فحسب؛ بل سيبدو من حقّ جنرال إسرائيلي أن "يتفاخر" بها، قياساً على سلوك أيّ من جنرالات بشار الأسد! ومع حفظ الفارق بين عدوان "وطني"، يمارسه استبداد سوري محلّي؛ وآخر صهيوني، تمارسه دولة معادية قامت على العدوان والاستيطان والعنصرية؛ فإنّ فارق الضحية، بين سوري وفلسطيني، غير قابل لحفظ تمييزي (إلا عند أولئك "الممانعين"، و"القومويين"، الذين قد يساجلون بأنّ مجزرة يرتكبها طاغية عربي ضدّ أبناء بلده، أقلّ مضاضة من مجزرة يرتكبها كيان أجنبي غاصب!).

في المقابل ثمة مَن يذهب أبعد، ليس دون وجه حقّ، فيساجل بأنّ توقيت عملية "عامود هاعنان" لم يكن قد استهدف هذا الغرض وحده، حتى إذا كان تخفيف بعض الضغط الأخلاقي عن جيش العدوان الإسرائيلي يستحقّ ضبط التوقيت عند سياق يتيح عقد المقارنات بين وحشية أجنبية وأخرى عربية. الغرض الآخر، في نظر هؤلاء، هو تخفيف الضغط الهائل الذي يتعرّض له النظام السوري، ليس أخلاقياً فقط، بل سياسياً وعسكرياً، عن طريق "محاصصة" من طراز ما، تحقق الغاية الإسرائيلية، كما تلوح وكأنها تُشرك النظام السوري في الحملات العسكرية لمحاربة "الإرهاب": كوادر "كتائب القسّام"، في غزّة؛ و"العصابات المسلحة"، و"القاعدة"، و"الجهاديين"، و"المندسين"... في سورية.

هذه المساجلة تتكيء على فرضية مفادها أنّ الموقف الإسرائيلي الفعلي، الذي لا يُفصّل علانية بالطبع، وإنما يُلتمس في الأفعال على الأرض، يفضّل الإبقاء على النظام السوري الراهن، رغم كلّ مزاعمه عن "الممانعة" و"المقاومة"، لأنه يظلّ أفضل لأمن إسرائيل، وأعلى ضمانة، من أيّ نظام سوري قادم، معلوماً كان أم مجهولاً. ورغم يقين إسرائيل، الذي بات نهائياً وقاطعاً، بأنّ نظام "الحركة التصحيحية" يوشك على السقوط، والأمور مرهونة بخواتيم الوقت وبعض الترتيبات السورية والإقليمية؛ فإنّ النقاش الإسرائيلي الداخلي، في الحلقة الأضيق من صناعة القرار الأمني ـ العسكري، انتهى إلى ترجيح خيارات مدّ النظام بمزيد من أسباب الاستمرار... إلى حينٍ محسوب تماماً، بالطبع، حين ستستقرّ إسرائيل على صيغة عسكرية و/أو سلمية، لمعالجة ملفّ البرنامج النووي الإيراني.

العلائم تقود المراقب للموقف الإسرائيلي ـ وخاصة ذاك الذي خَبِر مقدار السلام الفعلي، المتين والمنيع، الذي هيمن على وديان وسهول وتلال الجولان المحتلّ (مقابل حالة "الحرب" المعلَنة رسمياً!)؛ وذاك الذي يحسن استذكار طبيعة الخدمات المباشرة، وغير المباشرة، التي أسداها نظام "الحركة التصحيحية" طيلة أربعة عقود ونيف ـ إلى خلاصتَين، بين آراء أخرى أضعف دلالة ربما، حكمتا القرار الإسرائيلي. الأولى عسكرية صرفة، تطرحها غالبية الجنرالات، وترى أنّ إطالة عمر النظام سوف يتكفّل بإلحاق المزيد من الأذى بالجيش السوري، عدداً وعدّة ومعنويات؛ وهو جيش يظلّ عدوّاً لإسرائيل في الكمون البعيد، ومرشّح لأن يصبح أشدّ عداءً، وأقوى شوكة، في سورية المستقبل، بعد سقوط النظام الراهن.

الخلاصة الثانية عسكرية ـ أمنية مختلطة، ترى أنّ استمرار تآكل النظام السوري سوف ينتقل ـ حكماً وسريعاً، وليس من باب الاحتمال والتدريج ـ إلى هضبة الجولان، وعلى جميع خطوط المواجهة مع الاحتلال الإسرائيلي. الخطر هنا سوف يتمثل في قفز "القاعدة"، أو هذه أو تلك من الكتائب المسلحة ذات التوجه الإسلامي والجهادي المتشدد، إلى ملء الفراغ في الجولان، الأمر الذي سيضع إسرائيل في مواجهة مفتوحة، هي الأولى من نوعها، مع طرائق القتال التي تعتمدها "القاعدة"، واختبرتها وجرّبتها في أفغانستان والعراق واليمن. يزيد في الأخطار أنّ مناطق الفصل بين القوّات، على امتداد الجولان، تشكّل طبوغرافية اختلاط معقدة، ومربكة تماماً، بين قوّات الاحتلال الإسرائيلية، والجيش السوري، ومراقبي الأمم المتحدة.

وكانت المعطيات تفيد بتوافق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو مع وزير الدفاع إيهود باراك على تفضيل الخلاصة الأولى، ميدانياً وعلى المستوى العسكري؛ وتدعيمها سياسياً، عن طريق الاستنجاد بمجموعات الضغط الأمريكية، لإقناع إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما بأن تبقى الضغوطات على النظام السوري مقتصرة على الدبلوماسية والعقوبات الاقتصادية. إلا أنّ الأمر أخذ يتبدّل في الآونة الأخيرة، وبدا أنّ إسرائيل تريد للتبدّل أن يتخذ صفة تهويلية، وذلك عن طريق إجراءات مسرحية مثل إخلاء جبل الشيخ من السيّاح، بذريعة نجاح "مسلحين سوريين معارضين للنظام" في الوصول إلى مناطق قريبة من ذرى حرمون، و"على الحدود مع إسرائيل".

ومع اندلاع أولى المواجهات العسكرية بين قوّات النظام السوري والمقاومة الشعبية في بعض قرى وبلدات الجولان المحاذية للاحتلال الإسرائيلي، وخاصة ريف مدينة القنيطرة (بريقة، وبير عجم)، أخذ تبدّل الموقف الإسرائيلي يتجلى أكثر، وبات أوضح. ذلك لأنّ هذه المواقع السورية تقع في منطقة الفصل منزوعة السلاح، وبالتالي لا يحقّ للجيش السوري أن يستخدم فيها أيّ طراز من الأسلحة الثقيلة أو المدفعية؛ وما دام جيش النظام السوري قد قصفها بشدّة، وبمعدّل قذيفة في كلّ دقيقة، وسكت الجانب الإسرائيلي عن عمليات القصف (ما خلا تلك "الطلقات التحذيرية"، الخلّبية، التي استهدفت ذرّ الرماد في العيون)؛ فإن التفسير يصبح بسيطاً بقدر ما هو جلي: أنّ عمليات القصف هذه تخدم إسرائيل، ولهذا فإنها لم تسكت عنها فحسب، بل قبلتها وتقبّلتها، إذا لم يذهب الظنّ إلى ترجيح احتمال تطوّعها لتقديم العون في التنفيذ.

ولقد لاح، في المقابل، أنّ جنرالات الجيش الإسرائيلي قد أحنوا الهامة أمام أقطاب المؤسسة الأمنية، فعرضت التلفزة الإسرائيلية لقطات سخية من جولة تفقدية قام بها الجنرال أفيف كوخافي، رئيس جهاز الاستخبارات العسكرية، "آمان"، على بعض نقاط حدود الاحتلال الإسرائيلي. صحيفة "يديعوت أحرونوت" نقلت عن كوخافي هذا التصريح الدراماتيكي الدالّ: "إنّ المعارك السورية تقع على مبعدة أميال قليلة من إسرائيل، وهى تهدد أمننا"؛ فضلاً عن أنّ "القتال بين الجيش النظامي السوري والثوّار يقترب شيئًا فشيئًا من الخط الحدودي بيننا وبين سورية". أمّا جرعة التهويل الختامية فقد انتهت إلى التالي: "تشير تقديرات الاستخبارات الإسرائيلية إلى أن هضبة الجولان ستصبح، فى الوقت القريب العاجل، منطقة ضعيفة مع ضعف الحكم المستمر فى سورية"؛ وأنّ "عدم سيطرة النظام السوري على الحدود، وتسلل المزيد من عناصر نظام الجهاد العالمي، خلق أوضاعاً جديدة تهدد النظام الأمني في إسرائيل".

أليست هذه هي جرعة التحذير، الأمنية ـ العسكرية، الأشدّ تهويلاً، منذ قرابة 40 سنة، أو حتى قبلئذ؟ متى تحدّث جنرال أمني إسرائيلي عن اقتراب "نظام الجهاد العالمي" من حدود الاحتلال، مقترناً بتقدير صريح عن "ضعف الحكم المستمر" على الضفة الأخرى؟ وإلى جانب إغماض العين وصمّ الآذان عن قصف بلدات مثل بير عجم وبريقه، وتوفير المعلومات الاستخبارية والتجسسية حول انتشار "الثوار"، وذلك عن طريق إطلاق القنابل الضوئية في نطاق عمليات جيش النظام السوري... ما الذي يمكن لإسرائيل أن تفعله، لكي يعود النظام السوري إلى سابق عهده في حُسْن حماية "الحدود"، كما فعل طيلة أربعة عقود؟

المرء يعود بالذاكرة إلى 18 شهراً خلت من عمر انتفاضة الشعب السوري، وإلى التصريحات التي نسبتها صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية إلى رامي مخلوف، ابن خال الأسد، صيرفي النظام، وتمساح الاستثمار والأعمال الأشرس، بصدد العلاقة الوثيقة بين استقرار النظام السوري، واستقرار إسرائيل. آنذاك، قال مخلوف بالحرف: "إذا لم يتوفّر استقرار هنا، فلا سبيل إلى استقرار في إسرائيل"؟ بعد أسابيع قليلة، سوف يفتعل الأسد حكاية السماح لعدد من الفلسطينيين باقتحام حدود الاحتلال الإسرائيلي في محاذاة بلدة مجدل شمس، على السفح الجنوبي لجبل حرمون، في الجولان المحتل. وكانت تلك رسالة إلى أصدقاء إسرائيل، والعالم بأسره، أنّ الأسد مستعد لخرق المحرّمات، وافتعال حرب فلسطينية ـ إسرائيلية (لن تتضمن إرسال جيش النظام ذاته لعبور الحدود، غني عن القول!)، حفاظاً على نظام الاستبداد والفساد الذي ورثه عن أبيه.

والمرء يتذكّر، أيضاً، أنّ مناحيم بيغن، رئيس الوزراء الإسرائيلي سنة 1981؛ وأرييل شارون، وزير الدفاع الصقر؛ ويوسف بورغ، وزير الداخلية الممثل للأحزاب الدينية المتشددة؛ وجدوا فرصة ذهبية سانحة لإصدار قرار من الحكومة الإسرائيلية، صادق عليه الكنيست بعدئذ، وقضى بضمّ الجولان المحتلّ إلى دولة إسرائيل. كان حافظ الأسد منشغلاً، يومها، بتنفيذ مجازر جبل الزاوية، وسرمدا، وسوق الأحد وحيّ المشارقة في حلب، وساحة العباسيين في دمشق، وسجن تدمر... ولم تكن الفرصة متمثلة في انشغال جيش النظام بمعاركه ضدّ الشعب السوري، إذْ كانت الحكومة الإسرائيلية واثقة تماماً أنّ الأسد الأب لن يحرّك ساكناً في كلّ حال؛ بل لأنّ ضمّ الجولان سيمرّ دون حرج دبلوماسي، ودون تعاطف دولي مع نظام يذبح مواطنيه في طول سورية وعرضها؛ وبالتالي فهو غير مكترث بخسران أرض محتلة، هو عاجز أصلاً عن تحريرها، لا بالحرب ولا بالسلام.

وهل للمرء أن يردّد: ما أشبه اليوم بالأمس، إذاً، بين قرار ضمّ الجولان، وعملية "عامود هاعنان"، من حيث استغلال السياقات المجاورة، أو البناء عليها؟ أغلب الظنّ أنّ الإجابات، با ستثناء تلك التي يمكن أن تصدر عن "الممانع" و"القوموي" دون سواه، لن تفلح في طمس البُعد الأكبر في معادلات المقارنة: فارق طبائع الجلاد لا يصنع فارقاً نظيراً، في هوية دم الضحية!