وعزّ الشرق أوّله دمشق

الاثنين، 30 يناير 2012

بيتزا "القاعدة" وفرّامة العرعور

في صيف 2003 نشرت مجلة "نيويوركر" الأمريكية تقريراً للمحقق الصحفي المعروف سيمور هيرش، سرد تفاصيل التعاون الوثيق بين أجهزة الأمن السورية من جهة، والمخابرات المركزية الأمريكية ومكتب التحقيقات الفيدرالي من جهة أخرى. ولقد أوضح هيرش أنّ الفريق الأمريكي حصل من نظيره السوري على ما يشبه تفويض الـ "كارت بلانش" لدراسة وتدقيق آلاف الملفات الوثائق والمستندات السرية التي تخصّ رجالات منظمة "القاعدة" في ألمانيا بصفة خاصة، وفقاً للمعلومات التي استجمعتها الأجهزة السورية من أنصار "القاعدة" والمتعاطفين معها في مدينة حلب خصيصاً. كذلك أشار التقرير إلى فضل الجانب السوري في إفشال عمليتين ضدّ القوّات الأمريكية: واحدة ضدّ الأسطول الخامس في البحرين، والثانية ضدّ هدف في أوتاوا بكندا.

من جانب آخر، استند هيرش إلى معلومات متعددة المصادر، بينها مقابلة مباشرة مع بشار الأسد، ليؤكد بأنّ النظام السوري كان يسعى إلى بناء "قناة خلفية" للحوار مع الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن، أو رجالات الصفّ الأوّل في الإدارة، مستغلاً استماتة الأجهزة الأمنية الأمريكية للحصول على معلومات ملموسة عن كوادر وخلايا "القاعدة". وكان هذا الخيار يستجيب أيضاً لـ "فلسفة" الأسد في تدعيم الشطر الاقتصادي من  "الإصلاح" الداخلي، الذي ظلّ يمنحه الأولوية على الملفّات الأخرى، السياسية والإدارية والدستورية والحقوقية. وهكذا لم يكن من المدهش، على سبيل المثال، أنه أثار مسألة إصلاح الاقتصاد السوري لدى استقباله ريشارد برنز، مساعد وزير الخارجية الأمريكي آنذاك، الذي جاء ليتحدّث عن دعم سورية وإيوائها لمنظمات "إرهابية" تضعها واشنطن على لائحة الأهداف المطلوبة في "الحرب الأمريكية الشاملة ضدّ الإرهاب". أكثر من ذلك، نقلت أوساط أمريكية استغراب الأسد لأنّ الأمريكيين متلهفون على معرفة موقف سورية من "حزب الله" و"الجهاد الإسلامي"، ولكنهم لا يكترثون بالإصلاح الاقتصادي في سورية!

وقد لاح آنذاك، وهو أمر بدا منطقياً تماماً، أنّ الأسد يسعى إلى الحصول على ثمن سياسي ـ اقتصادي إذا ما قرّر نظامه الاستجابة للمطالب الأمريكية، والكفّ عن دعم وإيواء المنظمات التي تواصل واشنطن وضعها على لائحة "الإرهاب". والأسد الابن لم يكن يشذّ في هذا عن نهج عريق اعتمده الأسد الأب طيلة سنوات "الحركة التصحيحية"، وتمثّل في تحويل السياسة الخارجية (وبين تفاصيلها دعم سورية وإيوائها لمنظمات تسبّب الصداع لحلفاء أمريكا هنا وهناك في المنطقة) إلى عوامل مناورة، وبالتالي عناصر مساومة، تدرّ المال والمساعدات، وتمدّ اقتصاد النهب والفساد، واقتصاد الدولة المتهالك، بأسباب الحياة.

اليوم، وعلى نحو متفاوت الوضوح والشدّة منذ انطلاق الانتفاضة السورية في آذار (مارس) الماضي، لا يشذّ الأسد عن النهج الذي حكم سلوك طغاة العرب البائدين، أو الذين ينتظرون: اتهام منظمة "القاعدة" بالوقوف خلف كلّ الشرور، من التظاهر والإضراب والعصيان المدني، إلى التفجيرات والكمائن وتهريب السلاح. وفي رفع هذه الفزاعة لا نعدم صديقاً للنظام غير منتظَر (صحيفة الـ"دايلي تلغراف" البريطانية، اليمينية، ذات التعاطف العريق مع إسرائيل والصهيونية العالمية) تنقل عن الشيخ عمر بكري إنذاراً بأنّ عمليات "القاعدة" آتية ضدّ النظام (بينها، كما ذكر الشيخ، عملية بيتزا مفخخة ضدّ مجلس الشعب!).

والحال أنّ بكري نفسه كان قد عرض تقديراً منافياً تماماً، نشرته صحيفة "كريستشيان ساينس مونيتور"، قبل 14 يوماً من تصريح البيتزا المفخخة، قال فيه بالحرف: "إذا شاء السنّة الاستعانة بالقاعدة، فإنّ القاعدة سوف تنتشر في كل مكان من سورية. لكن القاعدة أجرت بحثاً بين السنّة في سورية، فوجدت أنهم ليسوا مؤيدين لانتفاضة تستخدم العنف". كذلك كان أيمن الظواهري، في شريط يعود إلى شهر تموز (يوليو) الماضي، قد أبدى تعاطفه الشديد مع الانتفاضة السورية، ولكنه أوضح بجلاء أنّ أخوته في "القاعدة" ليسوا متورطين في أي عمليات ضدّ النظام السوري، لأنهم منشغلون تماماً بـ"الحرب المستعرة مع الصليبية المعاصرة".

وفي ترويج المزيد من الأكاذيب حول نفوذ الإسلام المتشدد، قد يتلقى النظام العون من جهة ليست غير منتظَرة فحسب، بل تزعم عداء النظام ومعارضته والحضّ على القتال ضدّه أيضاً، مثل الشيخ الأشهر عدنان العرعور: لقد بدأ بفتوى تحرّم التظاهر، ثمّ انتهى إلى فرّامة لفرم مؤيدي النظام، أو مقصّ لألسنة البعض في المجلس الوطني السوري، أو جهاز لتركيب أذناب بلاستيكية لزعماء العشائر المتقاعسين! صحيح أنّ للشيخ جمهوره الذي يطرب لأسلوبه، وثمة نفر يرفع له الرايات، إلا أنّ العرعور محض صوت منفرد، نشاز في يقيني؛ وليس، البتة، أحد صنّاع الإجماع في الشارع الوطني السوري الأعرض.

ثمة، في المقابل، مثال الطبيب السوري المعتقل معد طايع، الذي فقد أطفاله الأربعة دفعة واحدة، ثمّ لحقت بهم أمّهم بعد ساعات، جرّاء سقوط قذيفة على بيت العائلة، في اللاذقية. فإذا لم يكن هذا الرجل هو صانع الإجماع الأمضى في تراث الانتفاضة السورية، وبه تواصل الانتصار على المدفع والدبابة والحوامة والزورق الحربي والقاذفة المقاتلة، وتهزم الواقفين خلف هذه الآلة الجهنمية من ضباط وعناصر أمن وشبيحة ومرتزقة وأفراد ميليشيات طائفية... فبئس بيتزا البكري وفرّامة العرعور، لأنهما طراز من التضليل يخدم أكاذيب النظام، ويُلحق الأذى بأخلاقيات الانتفاضة.  

الخميس، 26 يناير 2012

واشنطن والمعادلة المفرغة: إسقاط النظام السوري أم سقوطه؟

الآن إذْ تدخل الانتفاضة السورية شهرها الحادي عشر، يجد بعض الساسة الأمريكيين أنفسهم أكثر اضطراراً إلى التعليق عليها، بمقدار أعلى من الوضوح؛ وأكثر شهية للمناوشة حولها، بين ديمقراطي هنا وجمهوري هناك، أو بين الرئيس الأمريكي نفسه، وأحد أبرز المرشحين الجمهوريين لانتخابات الرئاسة. وهكذا، أعلن الأوّل، باراك أوباما، في خطبته السنوية عن حال الاتحاد، أنّ "نظام الأسد سيكتشف قريباً أنه لا يمكن مقاومة قوة التغيير وتجريد الشعب من كرامته"، وبالتالي فإنّ "أيام النظام السوري أصبحت معدودة على غرار نظام القذافي". الثاني، ميت رومني، لام الرئيس على تأخره في إطلاق هذا التصريح، لأنه يصدر اليوم فقط "بعد إراقة الكثير من الدماء في ذلك البلد"، والمطلوب أن "تُظهر أمريكا دورها القيادي على المسرح العالمي، وتعمل على نقل هذه الأمم النامية نحو الحداثة".

من جانبه، رأى السناتور جون كيري، رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأمريكي، أن سورية "على حافة الحرب الأهلية"، ولهذا كان "تصعيد العنف" الموضوع الأبرز في حواراته مع ساسة الشرق الأوسط، أثناء جولة استغرقت 11 يوماً.  ورغم أنّ كيري كان أحد أنشط محاوري بشار الأسد (ليس حول الإصلاح والديمقراطية وحقوق الإنسان بالطبع، بل حول إحياء قناة التفاوض السورية ـ الإسرائيلية حصرياً)، فإنّ توصياته للإدارة الأمريكية شدّدت على فتح الحوار مع "عدد كبير من الحلفاء"، والتشاور مع الجامعة العربية ودول مجلس التعاون الخليجي "للنظر في ما يتوجب اتخاذه، خطوة خطوة". زميله في الحزب ومجلس الشيوخ روبرت ب كيسي الابن، رئيس اللجنة الفرعية للشرق الأوسط، ذهب أبعد فرأى أنّ الجامعة العربية "لا تقوم بكلّ ما في وسعها القيام به"، وعلى الولايات المتحدة أن تبذل المزيد من الجهد.

وثمة رأي (ينضوي كاتب هذه السطور في عداد القائلين به) يرى أنّ البيت الأبيض ما يزال غير حاسم بصدد، أو غير مستقرّ تماماً على، تحديد سياسة مفصلة وملموسة وقابلة للتطبيق المرحلي حول إسقاط النظام السوري، رغم اليقين المتزايد ـ والذي يلوح، اليوم، أنه صار جازماً ـ بأنّ سقوط النظام صار استحقاقاً لا محيد عنه. الفارق بين "إسقاط" و"سقوط" هو جوهر إشكالية، إذا جاز اعتبارها هكذا، جعلت واشنطن تتأخر كثيراً في النطق بالعبارة/ الدرّة (أي الإعلان الصريح عن ضرورة تنحي الأسد)، فتواصل تقليب الملفّ السوري على نار خامدة تارة، وأخرى متقدة طوراً. وثمة، كما هو معروف ومتكرر، سلسلة أسباب وجيهة، سورية داخلية صرفة وإقليمية دولية أيضاً، جيو ـ سياسية وعسكرية واجتماعية واقتصادية ودينية، تجعل الملفّ السوري أشدّ تعقيداً، وإنذاراً بالمخاطر والمزالق، من أن تُصاغ في تناوله معالجات يسيرة أو سريعة.

فأن يتبنى البيت الأبيض مفهوم الإسقاط، أمر يعني المشاركة في الجهود المفضية إلى زعزعة أركان النظام، سواء أكانت سرّية أم علنية، ودبلوماسية صرفة، أم تساندها إجراءات استخباراتية وعسكرية ولوجستية متعددة، بينها إقامة المناطق الآمنة، والممرّات الإنسانية، وربما خطوط الإمداد في حال إقرار مشاريع تدخل عسكرية من أي نوع؛ وهذا ما لم تحسم الإدارة أمرها فيه، بل يصحّ القول إنها عازفة عنه عملياً (لحسن حظّ الشعب السوري، وانتفاضته التي أرادها وطنية، سلمية، غير مرتهنة لقوى خارجية سبق للسوريين أن ذاقوا مرارة تواطؤها مع النظام). غنيّ عن القول، أيضاً، إنّ سورية ليست العراق، وليست ليبيا، بمعنى أنها ليست كعكة مصالح تسيل اللعاب المحرّض على التدخل الخارجي؛ ونظامها، من جانب آخر، هو الأفضل لحليف الولايات المتحدة الأفضل، إسرائيل، كما أنه خير الممانعين طرّاً: نظام "ممانِع"، لا يمانع!

في المقابل، ليس على البيت الأبيض حرج ـ بل على عاتقه الواجب، كلّ الواجب! ـ في تأييد طموحات الشعب السوري إلى الحرية، والكرامة، والديمقراطية، والمساواة، الخ... وبالتالي فإنّ اعتماد مفهوم سقوط النظام يعني ردّ المهمة إلى السوريين أوّلاً، أصحاب الحقّ والغاية، دون تدخّل خارجي من أي نوع (لحسن حظّ سورية، هنا أيضاً!). وفي هذا المستوى يصبح تقليب التصريحات بين ساخنة وباردة، وتصعيد الضغوطات اللفظية أو خفضها، والإيحاء بتقديم الملفّ إلى الصدارة مرّة أو دفعه إلى الظلّ مرّة أخرى... محض تنويعات على الرياضة الكلاسيكية العتيقة التي هي امتياز الدبلوماسية على مرّ العصور: فنّ التخفّي والمناورة. فهل من المعقول أن يعلن مسؤول أمريكي (أو روسي، إيراني، أوروبي...) أنه ضدّ الحقّ، والخير، والعدالة؟ بل هل حدث أن النظام السوري ذاته، الذي يقتل ويعذّب ويحاصر ويدمّر ويحرق، أعلن ذات يوم أنه ضدّ هذه القِيَم؟

هي معادلة مفرغة، إذاً، لا تُلام الولايات المتحدة حين تعتبرها الخيار الأسلم، والأكثر أماناً، لضمان مصالحها القومية، والحفاظ على استقرار سياساتها الخارجية، في الطور الراهن على الأقل؛ وفي المقابل، لا غرابة أن يكون النفاق هو سيّد اللعبة التي يديرها البيت الأبيض في مخاطبة السوريين والنظام على حدّ سواء. ولعلّ من المفيد هنا الرجوع إلى أقرب محتوى ملموس، أي غير مفرغ في الحدّ الأدنى، لموقف أمريكي صارخ من النظام السوري، كان أيضاً اشبه بتسطير مدوّنة سلوك: ائتلاف مجلس النوّاب الأمريكي، صيف العام 2005، للتصويت بأكثرية ساحقة على قرار يدين بشدّة "النظام الحاكم في دمشق"، على خلفية "الانتهاكات الفاضحة لحقوق الإنسان والحريات المدنية للشعبين السوري واللبناني". وإذا كان منبر الخطابة قد شهد، يومها، تقاطر الأصوات المعتادة التي تعادي النظام السوري لأنها إنما تكره العرب أجمعين (وفي الطليعة، بالطبع، إيليانا روس ليتنن من فلوريدا وتوم لانتوس من كاليفورنيا)؛ فإنّ المنبر ذاته شهد تلك الأصوات التي طالبت الجمعية العامة للأمم المتحدة باتخاذ قرار "يحصي انتهاكات النظام السوري لحقوق الإنسان، ويعبّر عن دعم الشعب السوري في نضاله من أجل الحرية واحترام حقوق الإنسان والحريات المدنية والحكم الديمقراطي وإقامة سلطة القانون".

تلك كانت "لغة جديدة" في أقلّ تقدير، لم تغب عنها الدلالات الهامّة للحقبة، حتى إذا كان المرء من فئة لا تملك أيّ أوهام حول "نزاهة" الولايات المتحدة في الدفاع عن حقوق الإنسان أينما انتُهكت في الشرق الأوسط (بما في ذلك العراق، آنذاك، أيضاً!)، وأياً كان النظام الذي ينتهكها. لكنها اللغة التي ذهبت أدراج الرياح، مع ذلك، وكان ينبغي لها أن تذهب هكذا بالضبط، لأنّ مواقف الإدارة الفعلية من النظام السوري كانت ترتكز على حسابات أخرى مختلفة، باردة أكثر، منطلقة في المحتوى الفعلي من القراءة الإسرائيلية لأحوال النظام، وتحديداً ذلك الارتياح القديم المتجدد إزاء هضبة جولان محتلة تكتنفها السكينة والسكون، ولا تخترق هدوء بطاحها طلقة من بندقية صيد.

مقاربة أوباما لم تمسّ جوهر المقاربة التي صاغتها وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة كوندوليزا رايس، ولا مبالغة في افتراض يرى أنّ الكثير من عناصرها ما يزال ساري المفعول حتى الساعة. يُضاف إلى هذا أنّ إحياء القناة السورية ـ الإسرائيلية اكتسب صفة جذابة عند أوباما، على حساب القناة الفلسطينية ـ الإسرائيلية، وتفادياً لمزيد من الإنجرار العبثي خلف ما يُسمّى "قضايا الحلّ النهائي"، مثل القدس وحقّ العودة وتفكيك مستوطنات الضفة وسواها، حيث الحلول عالقة، أو جامدة آخذة في مزيد من الجمود. ذاك كان النصح الذي خرج به، ورُفع إلى البيت الأبيض، بعض أفراد فريق الشرق الأوسط الذي عمل في الخارجية الأمريكية خلال ولايتَيْ بيل كلينتون، وفي طليعتهم أمثال دنيس روس وروبرت مالي وآرون ميللر.

الأخير نشر مقالة لافتة، عنوانها ببساطة: "إبدأ من سورية"، ناشد فيها أوباما أن يضع جانباً، أو إلى حين، السلام العربي ـ الإسرائيلي أو الفلسطيني ـ الإسرائيلي، وأن يبدأ من حيث لا ينصحه أحد أن يبدأ. ومنذ الفقرة الأولى في مقاله كتب ميللر أنّ أوباما: "سوف يُقصف بالتوصيات حول كيفية مقاربة صنع السلام العربي ـ الإسرائيلي، وهنالك نصيحة واحدة محددة ينبغي أن لا يأخذ بها، وهي جعل السلام الإسرائيلي ـ الفلسطيني أولوية عليا. لا صفقة في الأفق هنا. ولكن هنالك فرصة لاتفاقية سورية ـ إسرائيلية، على أوباما أن يغتنمها".

وما أراد ميللر البناء عليه هو، في الواقع، سجلّ مفاوضات بدأت منذ سنة 1973 حين وافق حافظ الأسد على قرار مجلس الأمن الدولي رقم 338، الأمر الذي عنى اعتراف نظامه بأنّ الدولة العبرية جزء لا يتجزأ، عملياً وحقوقياً، من تكوين المنطقة ونظام الشرق الأوسط السياسي والجغرافي. ولقد تواصلت فصول السجلّ على نحو أو آخر، سرّاً أو علانية، في عهد الأسد الأب كما في عهد وريثه، وفي ولايات إسحق شامير وإسحق رابين وشمعون بيريس وبنيامين نتنياهو وإيهود باراك وأرييل شارون وإيهود أولمرت، على الجانب الإسرائيلي. وفي حصيلة الحال، الراهنة أو تلك التي ابتدأت مع مفاوضات أيار (مايو) 1974 تحت خيمة سعسع، وأسفرت عن تطبيق نظام فصل القوّات الذي أسكت المدافع الثقيلة مثل الرشاشات الفردية الخفيفة، كان الناظم الفعلي لعلاقات القوّة العسكرية والأمنية بين النظام السوري وإسرائيل أبعد ما يكون عن مسمّيات مثل "حالة العداء" أو "حالة الحرب".

ولكن... كما سلّم أوباما بسقوط نظام مبارك، وقبله زين العابدين بن علي، وبعده معمر القذافي وعلي عبد الله صالح، فلا مناص من التسليم بسقوط بشار الأسد، الشخص والعائلة قبل النظام والمنظومة. وليس من اللائق، بالطبع، أن يجأر سوري بالدعاء إلى واشنطن، أو أية عاصمة أخرى، كي تقوم بإسقاط النظام نيابة عن السوريين أنفسهم؛ ولا عجب، في المقابل، أن يتعالى المزيد من أصوات ساسة أمريكا في التعليق على الانتفاضة، وذلك ليس لأنها تدخل شهرها الحادي عشر والنظام يزداد دموية وشراسة، بل لأنّ معركة الانتخابات الرئاسية الامريكية على على الأبواب.

"أيام النظام السوري أصبحت معدودة"، بالفعل، كما قال أوباما؛ ولكن ليس بفضل أية معادلة مفرغة يقتات عليها البيت الأبيض، أو يتلهى بها ساسة استشراقيون يريدون من أمريكا أن تقتادنا إلى الحداثة، أو يجترّون دوراً قيادياً كونياً، لا يحول ولا يزول!

الأحد، 22 يناير 2012

حبّة موسكو وقبّة الأسد

لعلّ "رجل الجهاز" هو التوصيف الأفضل لمفردة الـ"أباراتشيك" الروسية؛ التي اشتهرت على امتداد حقبة طويلة، خاصة خلال عقود الحرب الباردة، وبدا أنها اليوم طُويت مع انطواء صفحة "الحزب الشيوعي لعموم الإتحاد السوفييتي"، حسب التسمية المندثرة. هو، في أكثر صفاته وفاء لشخصيته، منفِّذ أوّلاً؛ ومطواع مطيع ملتزم بالأوامر العليا، ثانياً؛ ومحترف، عالي الموهبة، في النفاق والرياء، ثالثاً.

وإذا كان "الحزب الشيوعي للاتحاد الروسي"، وريث الحزب الأمّ، قد تخلّص من نموذج الـ"أباراتشيك"، وبنسبة ملحوظة ولافتة حقاً؛ فإنّ بعض جيوب الحزب، ورموزه المخضرمة، ومنظماته الدائرة في فلكه، ما تزال تحتفظ بعقلية النموذج، ولعلها تُعليه إلى مرتبة القدوة أيضاً. هذه حال "اتحاد كتّاب روسيا"، حيث تعثر على خليط عجيب متنافر من غلاة القوميين الروس، والعنصريين، والستالينيين، وعَبَدة الأفراد... حتى ليبدو أنّ ما يوحّدهم، بالقياس إلى ما يفرّقهم، ليس سوى حسّ النوستالجيا، بالمعنى المَرَضي غالباً، وسلوكيات شخصية الـ"أباراتشيك"، دون سواها. وكما يليق بالتقليد العريق، عن ربّ الدار الذي يضرب بالدفّ أفضل من جميع أفراد الأسرة، فإنّ رئيس الاتحاد هو الـ"أباراتشيك" الأمثل، ونمط القياس الأعلى!

فاليري غانيتشيف، الرئيس العتيد، هو الأب الروحي لتيار القومية الروسية المتطرّف، وذلك منذ مطالع سبعينيات القرن الماضي، سواء من خلال موقعه كمدير لدار النشر "الحرس الفتي"، أو عمله في مكتب الدعاية في اتحاد الشباب، الكومسومول، ورئاسة تحرير جريدته المركزية؛ وضولاً إلى مكتب الدعاية في الحزب الشيوعي، رئاسة تحرير المجلة الأدبية "رومان ـ غازيتا"، التي يتفق الكثيرون على أنها تضمّ العناصر الأشدّ محافظة في المشهد الأدبي الروسي الراهن بأسره. لله في خلقه شؤون، وما كان للرجل أن يُذكر هنا لولا أنه أدلى بدلوه في أمر لا يخصّ القومية الروسية، من قريب على الأقلّ؛ ولا الأدب الروسي، القديم أو الحديث أو المعاصر؛ ولا محاسن أو مساوىء الـ"أباراتشيك"...

لقد أفتى الرئيس العتيد بما يلي، على ما نقلت عنه "سانا"، وكالة أنباء النظام: "سورية هي بلد مسلم ولكن جنباً الى جنب مع المسيحيين والديانات الأخرى والمعتقدات المختلفة. وهذا التنوع يشكل نموذجاً للتعايش والصداقة بين أطياف الشعب الواحد، وإن محاولة تغيير هذا النسيج بتهديدات واعتداءات على سورية والقيام بالأعمال التخريبية نرفضه جملة وتفصيلاً، ونقف إلى جانب الحلّ السلمي لكلّ المشاكل والمواضيع، وندعم جهود الشعب السوري في اتجاه تحقيق الاستقرار والسلام على أرضه، وندعو له بالصمود لمواجهة هذه الهجمة الشرسة". حسناً، الكلام إلى هنا يحتمل أكثر من تأويل، ولا يختلف كثيراً عن أقوال أي "ممانِع" عربي، يتمنى الخير لبلدنا، ويطالب بإنهاء "الأزمة" سلمياً، مبدياً براءة الحمام ورقّة اليمام!

بيد أنّ غانيتشيف، وباسم اتحاد كتّاب روسيا وليس باسمه شخصياً فحسب، ذهب أبعد حين منح بشار الأسد جائزة "أحد أهم رجال الحقل السياسي والاجتماعي والحكومي"، وذلك بسبب "صموده في مقاومة الهيمنة الغربية في محاولة إملاء إرادة مستعمري عالمنا الحالي على الشعب السوري". وقال الرئيس العتيد، في خطبة تسليم الجائزة إلى سفير النظام في موسكو: "توجد مجموعات متضررة من مقاومة الهيمنة تحاول استثارة الشارع، ونرى ازدواجية المعايير في التعاطي مع الأحداث في المنطقة"؛ مشدداً على أن "سورية كاحدى أروع التشكيلات الاجتماعية، تتعرض لهجمات همجية لتفتيتها تحت اسم ثورة".‏

الهمجية مصدرها الهجمات المعادية، إذاً، وليس أجهزة النظام الأمنية ومفارزه العسكرية وميليشياته الموالية؛ وغانيتشيف لم يسمع البتة بمقتل الآلاف، وبينهم أطفال ورضّع، والتمثيل بالجثث، وسرقة الأعضاء البشرية، واغتصاب الصبايا والنساء، وممارسة أبشع صنوف التعذيب، واعتقال عشرات الآلاف، وتحويل المدارس والملاعب والساحات العامة وعربات القطارات وحاويات السفن إلى سجون؛ ولم تبلغه أخبار حصار القرى والبلدات والمدن، واستهدافها بأسلحة ثقيلة شتى، من المدفعية وراجمة الصواريخ، إلى الحوّامة والقاذفة المقاتلة... وهذه الانتفاضة ليست من أجل الحرية والكرامة والديمقراطية والعدالة والمستقبل الأفضل، بل هي "هجمة شرسة"، فقط، وليس على الشعب السوري إلا أن ينتظر الأصلاح من الاسد، "الذي يلاقي تطلعات شعبه، وشعبه يدعمه"، في "حلّ مشاكل الأزمة الحالية".

يبقى أنّ هذه الجائزة ليست أرفع ما يمنح اتحاد كتّاب روسيا، من جهة؛ وليست أرفع ما حصل عليه آخرون في سورية، من جهة ثانية: رئيس اتحاد الكتّاب السابق، علي عقلة عرسان، حصل على جائزة أعلى قيمة في الواقع (وسام الفنون من روسيا الاتحادية)؛ كما كُرّم محمد ابراهيم العلي، الروائي/ اللواء المتقاعد، بمنحه جائزة شولوخوف؛ رغم أن الحيثيات كانت متشابهة في الحالات الثلاث، من حيث اعتماد اللغة الخشبية ذاتها. كذلك فإنّ غانيتشيف ليس ذلك الفارس الهمام الذي يُعتدّ بجوائزه، فما بالك بأقواله، إذْ سبق له أن امتدح حفل تكريم عدد من "متقاعدي" اتحاد كتّاب النظام، فأطرى بعضهم بالاسم، دون أن ينتبه إلى أنّ هاني الراهب رحل عن عالمنا وهو مطرود من الاتحاد، وأنطون مقدسي فُصل من عمله في وزارة الثقافة، وعلي كنعان يقيم في المنفى!

ومع ذلك فقد ابتهج إعلام النظام، وطبّل للجائزة وزمّر؛ إذْ كيف للمرء أن يتوقع منهم عدم مسخ الحبّة إلى قبّة!

الخميس، 19 يناير 2012

محاورو النظام السوري: باعة أساطير أم سعاة أوهام؟

منذ أن فاجأت الانتفاضة السورية، ومثلها جميع الانتفاضات العربية، الغالبية العظمى من شرائح المثقفين والنُخَب والشخصيات المعارضة، فأخذتهم على حين غرّة، ومن حيث لا يحتسبون كما يتوجب القول؛ صدرت عن هؤلاء سلسلة "قراءات" للأوضاع القائمة، أو القادمة، تراوحت بين ردّ الفعل المعبّر عن الحماس الشديد، أو ردّ الفعل المتشكك بحذر شديد، أو ردّ الفعل الذي يسعى إلى تمويه المفاجأة بأقنعة شتى تميل إلى السفسطة عموماً، ولكنها لا تفلح دائماً في إخفاء عناصر شعورية دفينة مثل الارتباك والحرج والحيرة و... بعض الجرح النرجسي، أيضاً! لم يكن سهلاً، في منح فضيلة الشك إلى هذه الحال المعقدة، أن يكتشف مثقف سُجن ثلاث أو أربع أو سبع سنوات، أنه كان غافلاً إزاء، وربما قاصراً مقصّراً في إدراك، هذا الحراك العبقري الفذّ الذي كان يعتمل في صدور الصبايا والشباب، واندلع بغتة وبقوّة، فهزّ أركان نظام استبداد وفساد وراثي، أمني وعسكري واستثماري، يواصل البقاء منذ 41 سنة بصفة ديناصورية أو تكاد.

هذا المثقف ـ والأمثلة على نموذجه ماثلة للعيان، وافرة كثيرة، فلا حاجة إلى تعيين بعضها إسمياً ـ انضوى في صفّ الانتفاضة دون إبطاء بالطبع، وكما للمرء أن ينتظر من "مثقف ثوري" أو "مثقف عضوي" أو "مثقف ملتزم"؛ ولكنّ "القراءات" التي اقترحها للانتفاضة سرعان ما انقلبت عنده إلى هواجس، ثمّ ارتيابات (شبه ديكارتية أحياناً!)، فاشتراطات (تتوسل "العقل" دائماً، وتُعلي شأن "السياسة" بوصفها "توسطات" وليس تظاهرات!)، وصولاً إلى حال مدهشة من القطع، وبعض القطيعة، مع أهل الانتفاضة أنفسهم، والشباب منهم بصفة خاصة. وهكذا، رأيناه ينحو باللائمة على رافعي شعار "الشعب يريد إسقاط النظام"، لأنه غير واقعي، وغير قابل للتحقق؛ ويطري تيّار الحوار مع النظام لأنه، في المقابل، سلوك "واقعي"؛ ولا يتردد في الاعتراف بأنّ النظام لن يقبل الحوار أصلاً، ولكن هذا هو المطلوب: إحراج النظام أمام الشرائح المترددة من أبناء الشعب!

هو، في جانب آخر لا مفرّ من اقترانه بهذه المعادلة، يتعامى تماماً عن حقيقة أنّ آلة البطش الفاشية التي اعتمدها النظام في قمع الانتفاضة، وانطوت على استخدام كلّ الأسلحة وكلّ النيران وكلّ الفظائع وكلّ صنوف التنكيل الهمجية، بما في ذلك التصفية الجسدية المباشرة، والتمثيل بالجثث، واعتقال الرضّع وتعذيب الأطفال واغتصاب الصبايا والنساء... لا مكان في قواميسها لمفردة "حرج"، ولا لأية مفردة أخرى توازيها في المعنى والدلالة. بيد أنّ هذا التعامي هو، في حقيقته الباطنية، والسيكولوجية ربما، صيغة في مداراة حرج المثقف صاحبنا، وليس حرج النظام عملياً؛ وثمة، هنا، مسعى للتحايل على اصطفافات وطنية وسياسية وأخلاقية صارت جلية وصريحة، ولا تقبل التوسط أو التسوية أو المساومة.

والمرء، إلى هذا، لا يعدم عند صاحبنا المثقف إياه ذلك التذاكي في تقليب الموقف من النظام، ورأس النظام شخصياً، على وجه وقفا، في آن معاً: هو، تارة، مستبدّ، يائس، يقود البلاد إلى الكارثة، ولا سبيل إلى بقائه على رأس الحكم؛ ولكنه، تارة أخرى، جدير بأن ينقلب إلى مواطن صالح خدم بلاده، ويستحقّ التكريم والتعظيم وكامل حقوق المواطنة! هو، مرّة، "الرئيس الدكتور" الذي يتوجب التوجه إليه لإنقاذ البلاد من الأخطار المحدقة بها؛ ولكنه، مرّة أخرى، رأس نظام مستبد فاسد يتوجب رميه في "تنكة الزبالة"! وإذْ يدعو إلى الحوار مع النظام، سواء من أجل هدف "الإحراج" دون سواه، أو لاكتساب فئات اجتماعية أخرى إلى صفّ الانتفاضة؛ فإنّ صاحبنا المثقف يعترف بأنّ كلّ ما يعد به رأس النظام هو "الحرب على الإرهاب"!

وأمّا الرافعة الكبرى في تفكيره، ولعله يرى فيها سلاحه السجالي الأمضى، فهي هذه المعادلة العالقة، أو بالأحرى المعلّقة عن سابق قصد وتصميم، بحيث تسدّ الآفاق جميعها ولا تفتح إلا كوّة واحدة، تفضي إلى الحوار مع النظام: النظام عاجز عن إخلاء الشوارع من المتظاهرين، والمتظاهرون عاجزون عن إسقاط النظام. حسناً، فما العمل إذاً؟ يجيب صاحبنا: الحوار الوطني، بين الجميع، ومع الجميع، على غرار ما يقترح "المثقفون". إجابة فرعية، على السؤال ذاته، تذكّر بالمثال الأوروبي، وفي أوروبا الشرقية خاصة، حيث كان المجتمع المدني والمثقفون هم الذين أسقطوا الدكتاتوريات؛ الأمر الذي يوحي بأنّ الحراك الشعبي الراهن، المتمثل في الاحتجاجات والتظاهرات والإضرابات، هي الأفق المسدود؛ والأفق الآخر، المفتوح، هو ذاك الذي ينخرط فيه مثقفو المجتمع المدني.

وقارىء هذه الآراء، خاصة إذا كان غريباً عن الملفّ السوري، أو غير ملمّ بتاريخ نظام الاستبداد والفساد الورثي هذا، قد يقع بالفعل أسير سطوة المعادلة، التي تبدو أقرب إلى "العقل" و"السياسة"، كما تحمل صفات "الواقعية" و"الاعتدال". ولا يزيد في جاذبية هذا الطرح إلا أضاليل النظام التي تقول إنّ السلطة تدعو إلى الحوار الوطني، والمعارضة هي التي ترفض المبدأ وتعطّل المصالحة. العارف، في المقابل، ليس بحاجة إلى قدح الذاكرة لكي يستعيد النقيض تماماً، فلا يكشف لعبة النظام في التضليل والمراوغة، بينما البطش يزداد وحشية ودموية، فحسب؛ بل يتنبه إلى مقدار البؤس في أطروحات هذا النموذج من المثقفين المعارضين دعاة "الحوار الوطني". ذلك يجعلهم، على نحو أو آخر، باعة أساطير، أو سعاة أوهام، أو أتباع منزلة بين المنزلتين... لعلها أدهى وأمرّ!

ذلك لأنّ الأسد الابن، ومنذ السنة الأولى لتوريثه، عبّر عن مزاج كاره للمثقف المعارض، اختلطت في ثناياه عناصر التهكم والسخرية والاحتقار والتخوين، بل إنكار الوجود أيضاً، وذلك في حديث شهير إلى صحيفة "الشرق الأوسط" اللندنية، مطلع العام 2001. ولقد بدأ من مبدأ التخوين، ليس دون فذلكة معتادة: "في كلّ المجتمعات هناك الأبيض وهناك الأسود وهناك حسنو النيّة وسيئو النية"، وبذلك: "لا نستطيع أن نقول إننا أمام حالة مطلقة. هل يمكن أن نقول بأنّ كلّ الناس عملاء؟ هذا مستحيل. هل يمكن أن نقول إنّ كلّ من يطرح فكرة ظاهرها إيجابي هو وطني؟ أيضاً هذا مستحيل". ولقد اعتبر أنّ أفعال هؤلاء المثقفين (وهي، للتذكير المفيد، لم تتعدّ البيانات وارتياد المنتديات، فلا أحد تظاهر، ولا أحد اعتصم أو أضرب) إنما "تمسّ الاستقرار على مستوى الوطن"؛ ثمّ اختار للأمر احتمالين: "أن يكون الفاعل عميلاً يخرّب لصالح دولة ما، أو أن يكون جاهلاً ويخرّب من دون قصد"؛ وجزم حول النتيجة: "الإنسان في كلتا الحالتين يخدم أعداء بلده".

كذلك لجأ الأسد إلى ما أسميناه، آنذاك، مداواة المثقفين بما كان هو الداء... في ظنّه، بالطبع. ولقد سأل، في التعقيب على بيانات المثقفين: "أنا لا أعرف من هم هؤلاء الأشخاص الذين سمّوا أنفسهم المثقفين. هل هم مثقفون فعلاً أم ماذا؟ لا توجد لديّ معلومات". كان ذلك التصريح مدهشاً من رئيس أحاط نفسه، منذ انطلاق سيرورة توريثه، برهط من الكنوقراط غير البعثيين إجمالاً، ممّن شكّلوا "مجموعة الـ 18"، أو الـ G-18 حسب تعبير الكاتب الأمريكي المنافق فلنت ليفريت، من أمثال ماهر المجتهد، نبيل سكر، سمير سعيفان، رياض الأبرش، سامي الخيمي، غسان الرفاعي، وعصام الزعيم... هذا فضلاً عن بعض المثقفين المنتمين تاريخياً إلى اليسار.

وكان من غير المعقول أنّ الأسد يقصد القول إنه لا يعرف المثقفين المعارضين معرفة شخصية، أو لا يعرف ما الذي يمثّلونه اجتماعياً وسياسياً وثقافياً ومعرفياً، إذْ كيف كان ممكناً له أن لا يعرف مَنْ هو أنطون مقدسي، أو عارف دليلة، أو عبد الرحمن منيف، أو ممدوح عدوان، أو علي الجندي... من موقّعي بيان الـ 99؟ وكيف يمكن لرئيس "شاب"، يعلن نيّة التغيير والتطوير، أن لا يعرف صفوة مثقفي بلده؟ الحقّ أنه كان يعرف معظم مثقفي سورية من موقّعي البيانات وناشطي المنتديات ولجان إحياء المجتمع المدني، وما كان يقصده من إنكار في التساؤل، ("مَنْ هؤلاء؟")، لم يكن يخصّ الهوية والموقع والمعرفة الشخصية، بل يتناول جوهرياً القول إنهم مجرّد نكرات: ما قيمتهم؟ وما أهمية ما يقولون ويكتبون؟

ذلك لأنه، وفي الفقرة التالية مباشرة، يذهب إلى التشكيك حتى في تعريف المثقف كما يمكن أن يحمله أصحابنا، فيسأل، ليس دون النبرة الأكاديمية المعتادة: "لكن ما هو المقصود بكلمة مثقف؟ هي كلمة عامة إلى حدّ ما. هل من يطّلع على مواضيع مختلفة هو مثقف؟ هل صاحب الشهادة العلمية هو مثقف؟ هل من يقرأ كتباً كثيرة هو مثقف؟ هل من يكتب الشعر أو القصة أو الرواية أو يعمل في الصحافة هو مثقف؟ هي كلمة غير واضحة الحدود. وعلى كلّ حال هذا التصنيف غير معتمد بالنسبة لي"! كذلك كان الأسد يعلم أنّ هاجس مثقفي سورية، في تلك الأيام كما هي الحال اليوم أيضاً، لم يكن التوافق حول تعريفات المثقف، بل حول تعريفات الحقّ والحرّية والقانون، وحول الاجتماع والسياسة والاقتصاد والثقافة، وحول الانضمام إلى عالم أخذت فيه الأنظمة الشمولية الدكتاتورية تنقرض واحدة تلو أخرى، وحول ضرورة إحداث تغيير ديمقراطي جوهري في حياة البلاد، وحول الماضي والحاضر والمستقبل.

لكنّ تركيزه على تعريف المثقف، بدل مناقشة آراء المثقفين وفحوى بياناتهم، لم يكن يُراد منه ممارسة رياضة الفذلكة وحدها، بل صياغة تعريف المثقف كما تعتمده فلسفة النظام. هنالك نوعان من الأشخاص، قال الأسد: "شخص يفكّر ويخرج بنتائج ضارّة للوطن"، و"شخص يفكّر ويخرج بنتائج مفيدة للوطن"... هكذا، باختصار شديد. ولأنّه لم يضرب مثلاً على أيّ من الشخصين، فقد كان منطقياً أن يشغل أنطون مقدسي، آنذاك، موقع النمط الأوّل؛ وأن يشغل علي عقلة عرسان موقع النمط الثاني: الأوّل طالب بتحويل سورية من قطيع إلى شعب، والثاني طالب بتحويل المثقفين من بشر إلى سائمة.

وليس مدهشاً أنّ النظام لم يحتمل، في الماضي، نبرة الاعتدال التي طبعت معارضة بعض المثقفين دعاة الحوار، فاتهمهم بـ"إثارة النعرات الطائفية و"وهن عزيمة الأمّة"؛ وأنّ النظام لا يحتملهم اليوم، أيضاً، حتى إذا كان يُحسن ترويج بضائعهم وتغذية هواجسهم، الأساطير منها والأوهام... على حدّ سواء!

الأحد، 15 يناير 2012

قبل بشار الأسد، الطوفان

أتاح "الربيع العربي" للعديد من المراقبين الغربيين، خاصة في الولايات المتحدة، فرصة استئناف واحدة من هواياتهم المفضّلة، التي تستعيد بدورها واحدة من أعرق العادات الاستشراقية الذميمة: إطلاق النبوءات ذات المدى القصير، والكارثي المتكيء على سيناريوهات قيامية لا تُبقي ولا تذر؛ وبالتالي ممارسة مهنة العرّاف، ليس اعتماداً على الحملقة في البلّورة السحرية التقليدية دون سواها، بل عبر "تفكيك" و"تحليل" و"تركيب" معطيات جيو ـ سياسية معقدة، قادمة مع ذلك من أحشاء بلّورات سحرية شتى، افتراضية واستيهامية.

الأمريكي روبرت د. كابلان أحد أبرز هؤلاء، ومن الخير للمرء أن يبدأ من نبوءاته عن قادم الأيام السورية، وكيف برهنت ـ دائماً في الواقع، وبلا أي استثناء يُذكر ـ على صواب تلك الحكمة العتيقة: كذب المنجّمون، ولو صدقوا! على سبيل المثال الأوّل، منذ سنة 1993 تنبأ كابلان بأنّ حافظ الأسد لن ينجح في الحيلولة دون بَلْقَنة سورية، وأنّ 23 سنة من حكمه سوف تنقطع بالضرورة، لأنّ البلاد موشكة على التفكك إلى دويلات. وبالطبع، توشك 19 سنة على الانقضاء دون أن تتحقق تلك النبوءة، وصدِّقوا أنّ صاحبنا المتنبيء لم يكترث بمراجعتها مرّة واحدة، سواء بهدف نقدها أو إعادة تصنيعها.

بيد أنّ الانتفاضة السورية كانت فرصة أشدّ جاذبية من أن تغيب عن بلّورته السحرية، فكان أن تفرّس وحدّق وتفحص، وخرج بهذه النتيجة (وكيف له أن يحيد عنها!): سورية موشكة على حرب أهلية طاحنة، ولسوف تنقسم وتتشرذم و... تتبَلْقَن! وفي مقال بعنوان "سيريانا: بعد بشار الأسد، الطوفان" ـ ذاع صيته سريعاً وانتشر كالنار في الهشيم، قبل أن تبرهن الأيام على هزال خلاصاته ـ انتهى كابلان إلى حكم جامع مانع لا يمتّ بصلة إلى طموحات الشعب السوري في التحرّر من نظام الاستبداد والفساد، وفي التطلع إلى دولة مدنية ديمقراطية، فرأى أنّ "الاحتجاجات" ليست سوى "مآزق هويّات"!

وخذوا، في مثال أعرض يتجاوز سورية إلى المشرق العربي بأسره، ما يقوله كابلان عن حركة التاريخ في هذه المنطقة: "البلدان الواقعة بين البحر الأبيض المتوسط وبلاد فارس لم تكن تحمل إلا القليل فقط من المعنى قبل القرن العشرين. فلسطين ولبنان وسورية والعراق لم تكن سوى تعبيرات جغرافية غامضة، وأمّا الأردن فلم يكن في الوارد أصلاً. وحين نزيل الخطوط الرسمية على الخريطة، فإننا سنجد رسماً عشوائياً بأصابع اليد لتكتلات سكانية سنّية وشيعية تتناقض مع الحدود الوطنية (...) وإذا كان في الشرق الأوسط جزء يتشابه على نحو مبهم مع يوغوسلافيا السابقة، فإنه المنطقة من لبنان حتى إيران، حيث نواجه انحلال نظام الدولة الذي ظلّ، طيلة عقود، الحلّ الكفيل باضمحلال الإمبراطورية العثمانية".

هذا اقتباس من مقالة بعنوان "تحريك التاريخ"، يستهلها كابلان بالقول إنّ أيّ زعيم منذ نابليون بونابرت لم يعكّر صفو الشرق الأوسط كما فعل الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن؛ ويختمها بتشجيع المزيد من أشغال "تهشيم النظام بعد ـ العثماني"، حيث لن تكون العواقب أشدّ كارثية ممّا جرى بعد تقويض الإمبراطورية السوفييتية. وليس دون فضيلة المصارحة، وإنْ تجرّدت من منظومة "الأخلاق" الغربية التقليدية، أنّ كابلان يهتك المسكوت عنه، فلا يتردد في بلوغ الخلاصة التالية، بالحرف: بدل الديمقراطية، خير لنا أن نستقرّ على "نوع من إدارة الحكم، أياً كانت، ولنفكّرْ في خرائط العصور الوسطى حيث لم تكن هنالك حدود واضحة، بل مجرّد مناطق غير متمايزة". وللإيضاح، يتوقف كابلان عند معيار انهيار البلقان التاريخي الذي تفكك على مراحل عدّة، تمثلت خاتمتها في انحلال "دويلات الباحة الداخلية"، هذه التي تبدو دول مثل سورية والعراق مثالها الراهن.

لكنّ كابلان ليس حامل بلّورة سحرية من النوع الرخيص الشائع، وليس مجرّد كاتب يلقي الخلاصات على عواهنها، بل هو صاحب تأثير شبه سحري على كثير من كبار صانعي القرار وراسمي السياسات في أوروبا والولايات المتحدة، وقد مارس هذا الدور طيلة عقود. ومنذ العام 1993، حين نشر كتابه "أشباح البلقان"، وهو يتربّع على عرش تأويل "العالم الجديد"، بوصفه واحداً من أكثر الكتّاب جسارة على التفكير في المحظور، وحماساً لصياغة سيناريوهات مستقبلية حول مسير الأرض نحو الكوارث. والكاتبة إليزابيث درو، في كتابها "على الحافة"، كادت أن تقسم بأغلظ الأيمان أن تخطيطات كابلان هي التي ردعت (نعم: ردعت!) إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون عن تطبيق سيناريوهات عسكرية أشدّ بأساً في يوغوسلافيا العتيقة.

وبين 1993 حين تنبأ كابلان بالبلقنة في سورية، و2011 حين تنبأ لها بالطوفان، كان النظام يواصل البقاء استناداً إلى عناصر، داخلية وإقليمية ودولية، لا يجمعها جامع مع النبوءات؛ وكان الشعب السوري، من جانبه، يواصل التراث الوطني ذاته الذي لم يفضِ به إلى تصارع الهويات، بل إلى اتحادها وائتلافها وانخراطها في انتفاضة شعبية عارمة، ضدّ الاستبداد والفساد والحكم الوراثي العائلي. وغنيّ عن القول إنّ أية بلّورة سحرية لم تكن قمينة بإلهام كابلان كي يتنبأ بطوفان من طراز تاريخي خاصّ، لا يطهّر سورية قبل إسقاط نظام الأسد فقط، بل بعده أيضاً... سواء بسواء.

الخميس، 12 يناير 2012

الشهر العاشر والخطاب الرابع: "عقلية القلعة" ضدّ روح الشرائع



سواء أفرط في شرب الماء، ثمّ انتبه بعدئذ أنّ الأمر قد يُعتبر دلالة على "توتر"، كما قال؛ أو أقلع عن الماء تماماً، ظاناً أنّ هذا سوف يعطي الانطباع المعاكس، بالاتزان والاسترخاء والتماسك؛ وسواء أخطأ في لفظ آية قرآنية، أو أطنب في مديح العروبة، وتهكم على "المستعربين"، أو ارتدّ إلى بعض مفردات أبيه (تعبير "الإخوان الشياطين" مثلاً)، هو الممسوس بعقدة التفوّق على الأب؛ فإنّ خطاب بشار الأسد الرابع ردّد، طيلة ساعتين إلا قليلاً، أصداء ما أنتجته، وأعادت إنتاجه، الخطابات الثلاثة السابقة. وحين ظهر في ساحة الأمويين ـ "فجأة"، كما قيل للحشود المحتشدة والمحشّدة ـ كان لافتاً أنّ مديح الأمويين على هذا النحو الاستعراضي أضاف الإهانة إلى جراح أهل حيّ الميدان، على سبيل المثال، حيث سقط مواطنون سوريون أبرياء ضحية أحدث ألعاب النظام الدموية، الهادفة إلى ترهيب البلد وخداع العالم. في خطاب مدرج جامعة دمشق لم يكترث الأسد بتقديم كلمة عزاء واحدة لشهداء عملية التفجير الإرهابية تلك، كما لم يجد ضرورة لمواساتهم، وهم أقحاح الشام، حتى في ذروة تغنّيه بأمجاد بني أمية!

والأضاليل الأحدث عهداً لم تختلف عن سابقاتها إلا في ثلاثة إنذارات، حرص الأسد على إلباسها لبوس "الثبات" على الموقف، و"الصمود" في وجه المؤامرة، وردّ الكيد إلى نحور الخصوم؛ ليس دون أن يذهب خطوات أبعد في إعادة استهلاك أكاذيب فاضحة مثل عدم وجود أوامر بإطلاق النار على المتظاهرين، في المثال الأبرز. وهكذا، كان إنذاره الأول يقول إنّ النظام ينوي، قريباً، تعميم صيغة "جماهيرية" من الخيار الفاشي الصريح، هذه المرّة، سبق له أن طبّقها في الأسابيع الأولى من عمر الانتفاضة، في مناطق محددة من قرى طرطوس وبانياس وجبلة. ما كان البعثيون الأوائل يسمّونه "الجيش الشعبي"، أو "الحرس القومي" في حقبة أخرى، يسمّيه النظام "دوريات" شعبية مسلحة لا تتمثل وظيفتها في حماية المواطنين، كما توحي مدلولات تسمياتها، بل في حماية... الجيش!

هذا العكس للأدوار لا يستهدف إسقاط المفهوم المنطقي والوطني الشائع الذي يقول إنّ الجيش هو الذي يحمي الشعب، فحسب؛ بل يسعى إلى إبطال مهامّ الجيش في الدفاع الوطني، ضدّ إسرائيل على سبيل المثال، وزجّه في معركة واحدة وحيدة، هي أمن النظام، ضدّ أعداء النظام، بالتكافل والتضامن مع المنظمات والمفارز والخلايا المدنية/ شبه العسكرية، التي يمكن أن تنوب عن قطعات الجيش النظامية في حصار المدن واجتياحها واستباحتها. الأسد أوجز الصيغة في هذه الفقرة، التي لعلها كانت أخطر ما ألمح إليه في خطابه الأخير: "علينا أن نتوحد وأن نحسم، ولكن المحور الأساسي هو كيف يقف المواطن مع الدولة. وفي بعض الحالات دخل الجيش إلى مدينة وكان هناك من يسيطر عليها من الإرهابيين، ولا أريد أن أقول يحتل، فقام أشخاص من سكان المنطقة بتشكيل فرق لحماية مجنبات الجيش لكي يدخل. وفي مناطق أخرى شكلوا دوريات مراقبة لكي يمنعوا الإرهابيين من القيام بأعمال القتل والتخريب أو الفتنة في بعض المناطق. وفي مناطق أخرى كانوا يدلون بمعلومات".

وكعادة أقواله التي يرتجلها، ولا تكون مدوّنة أصلاً في الخطاب المكتوب مسبقاً، كان هذا التصريح هو الأوضح حتى الساعة، لجهة الكشف عن مخططات النظام في تجييش المدنيين، ليس من خلال ما اعتاد حزب البعث تسميته بـ"المنظمات الشعبية"، أي اتحادات ونقابات الطلاب والشبيبة والعمال والفلاحين، فضلاً عن موظفي فروع وشُعَب الحزب في المناطق الأكثر التفافاً حول النظام؛ بل في تشكيلات مستحدثة خصيصاً لهذه الغاية، الفاشية في الشكل كما في المحتوى. والنظام، غنيّ عن القول، سوف يلجأ إلى عدد من طرائق الفرز الدقيقة، الطائفية أو المناطقية أو العشائرية، التي تتيح تشكيل تلك الوحدات المدنية، وعسكرتها وتسليحها وتدريبها، بحيث تستهدي بفلسفة تشكيل الفرقة الرابعة، فتكون أشبه بوحدات مصغّرة على شاكلتها، إذْ أنها في نهاية المطاف سوف تعمل تحت إشراف وقيادة ضباط تلك الفرقة، مباشرة أو بالإعارة والتكليف.

الإنذار الثاني مزدوج الوظيفة، أو هو يبعث برسالة إلى الأنصار في الداخل، إسوة بالخصوم في الخارج: أنّ أوراق التوت التي ظلّ النظام يحرص على تقلّد بعضها منذ انطلاق الانتفاضة (مثل المضيّ في مشاريع "الإصلاح"، وإطلاق "الحوار الوطني"، وتجميل الصورة البشعة عن طريق هذه الحملة الإعلامية أو تلك، ومغازلة الجامعة العربية، وإفهام "الحلفاء" الروس والإيرانيين أنّ النظام منفتح على الحلّ العربي...)، لم تعد ذات فائدة. لا هي أخفت عورة للنظام، ولا غسلت يداً مضرّجة بالدم، ولا جمّلت صورة لرأس النظام نفسه؛ بل صار واضحاً أنها لا تنجز إلا نقائض هذه الأغراض (الحملة الشعواء على الجامعة العربية، وعلى "أكثر من ستين محطة تلفزيونية في العالم مكرسة للعمل ضد" النظام، وعلى حوار شبكة الـABC الشهير، في بعض الأمثلة). وكان لافتاً أن يصرّح الأسد بأنه لا يشاهد نفسه على التلفاز، أبداً، وكأنّ في المشاهدة نقيصة؛ او كأنها لا تتيح له ممارسة بعض النقد الذاتي، في أقلّ تقدير!

ورغم ذلك يبدو الأسد مولعاً، أكثر من أي وقت مضى، بتلك المعطيات "الافتراضية" لسلسلة المعارك التي يزعم أنّ نظامه، "الممانع" و"المقاوم" و"المعادي للإمبريالية"، توجّب أن يخوضها ضدّ القوى الخارجية، والتي اعتاد على شرح عناصرها وتفصيل أبعادها والتفلسف حول أساليب مواجهتها؛ منذ خطابه في أوّل مؤتمر قمّة عربي يحضره بعد توريثه، في العاصمة الأردنية عمّان، ربيع 2001، مروراً بذاك الذي هجا فيه "أشباه الرجال" من الزعماء العرب، وصولاً إلى خطابه الرابع الذي لا يكاد يستثني طرفاً من المؤامرة على نظامه. "الأقنعة سقطت الآن عن وجوه هذه الأطراف"، يبشّر الأسد أنصاره، فباتت أجهزته "أكثر قدرة على تفكيك البيئة الافتراضية التي أوجدوها لدفع السوريين نحو الوهم ومن ثم السقوط"؛ وهي بيئة كان يُراد لها "أن تؤدي إلى هزيمة نفسية ومعنوية، تؤدي لاحقاً إلى الهزيمة الحقيقية". أمّا المطلوب في الحصيلة فهو الوصول إلى "حالة من الخوف" وهذا "يؤدي إلى شلل الإرادة، وشلل الإرادة يؤدي إلى الهزيمة"، في ترتيب الأسد... اللاإفتراضي، بالطبع!  

والحال أنّ هذا التأثيم للعالم الخارجي، الذي يعبر الأزمنة والأمكنة والأشخاص، من اتفاقية سايكس ـ بيكو، إلى رفيق الحريري، إلى باربره والترز؛ وهذا الإعراض عن ارتداء أوراق التوت، ونفض اليد حتى من الحملات الإعلامية مدفوعة الأجر، هما أقرب إلى خيار قسري في جانب موضوعي منهما، بسبب فشل محاولات توظيف السياسة الخارجية والإعلام والدبلوماسية لصالح معركة النظام ضدّ الشعب، خاصة حين أخذت تنتقل من طور عنيف وشرس إلى آخر أشدّ شراسة ودموية. بيد أنّ الخيار نافع للنظام في جانب آخر، سيكولوجي وتعبوي غالباً، ويشكّل جوهر الإنذار الثالث: إقناع الموالاة، خاصة تلك الأعلى إخلاصاً، بطبائع "عقلية القلعة"، والصمود في المتاريس، والتدرّب على الحصار، والإعداد للمعارك الختامية الفاصلة... حيث الوجود أو العدم!

وفي تطبيق هذا الإنذار الثالث، واختبار تجلياته على الأرض، ليس من ميدان أكثر انطواء على المخاطر من ذاك الذي يمارسه النظام في مضمار التحريض الطائفي، والتلويح بالحرب الأهلية، وتخويف الأقليات من المستقبل، وترسيخ خلاصة مفادها أنّ بديل النظام هو الفوضى والتفكك والتشرذم وتقسيم البلد، فإمّا النظام وإمّا الطوفان. وإذْ يغدق الأسد المديح على أجهزة الأمن والجيش، أي أجهزة النظام وجيشه الموالي تحديداً، من جهة؛ ولا يتردد في مطالبة المواطنين بالانخراط أمنياً مع النظام، والقتال في صفّه ضدّ الشعب، من جهة ثانية؛ فإنّ روح الشرائع هي التي تُقتل كلّ يوم، من جهة ثالثة، ومعها تنبسط على أجهزة الدولة تلك الفاشية المفتوحة المنفلتة من كلّ عقال، حيث خطّ الدفاع الأخير في القلعة المحاصَرة هو القانون الأعلى، والمتراس الأخير.

الأقصى في ابتذال التحريض ضدّ الانتفاضة أن يحيل الأسد معاناة المواطنين من ندرة وقود التدفئة والغاز والكهرباء إلى هجمات "الإرهابيين" على القطارات التي تنقلها أو المعامل التي تنتجها، وكأنّ المواطن غافل مغفل لا يعرف حدود مسؤولية الدولة عن تلك الندرة، ولا سياقاتها الراهنة التي تتصل بإصرار النظام على تسخير كلّ الموارد لخدمة معركته ضدّ الشعب، وليس لكي يحظى الشعب بالحدّ الأدنى من الطاقة اليومية الضرورية. هنا نموذج يختصر ذلك الابتذال: "هل من الممكن أن يكون الثائر ضد المواطن يقطع عنه الغاز الذي يحتاجه يومياً في أمور الطبخ والطعام لكي يموت من الجوع، ويقطع عنه المازوت والوقود لكي يموت من البرد، ويقطع عنه الدواء لكي يموت من المرض، ويقطع الأرزاق، ويحرق المعامل، والمنشآت الحكومية والخاصة لكي يجعل الفقراء أشد فقراً؟"...

وللوهلة الأولى قد يلوح أنّ هذه الاتهامات لا تنطلي على أحد، وإلا فإنّ هذا "الثائر" الذي يتحدّث عنه الأسد أقرب إلى جيش جرار جبار، قادر على شلّ الحياة اليومية وإعمال الدمار في كلّ مفاصلها الحيوية. بيد أنّ لهذا التحريض وظيفة أخرى خافية، استهدافية ومدروسة، تتوجه إلى قطاعات محددة من جمهور النظام وشاغلي القلعة المحاصَرة دون سواها، وثمة شرائح لا يُستهان بها من هؤلاء لا يصدّقون الاتهامات، وسواها كثير، ويستقبلونها مثل إسفنجة ماصة، فحسب؛ بل هم صاروا أسرى استيهامات شتى لامعقولة، عن سيناريوهات كارثية ومذابح آتية وتصفيات طائفية ودينية وعرقية... تجعل التشبث بالمتراس غاية وجودية دفاعية صرفة، وليس اصطفافاً خلف آل الأسد، أو انحيازاً إلى مكوّنات النظام السياسية والعسكرية والأمنية والاستثمارية، أياً كانت، وكيفما تنوّعت.

الخطاب الرابع أكد حلقة جديدة من الصدام بين عقلية القلعة التي  يهتدي بها نظام الاستبداد والفساد، وروح الشرائع التي تتطلع غليها سورية المستقب؛ كما ذكّر الناس بما لم ينسوه في أيّ يوم حول طبائع هذا النظام، رأسه مثل أطرافه. وإذا جاز للمرء أن يختار الجملة الأكثر تعبيراً عن تلك الطبائع، فإنّ هذه قد تكون الأجدر حقاً بالصفة: "إن أهم شيء ألا يظهر لدينا طبقة محتكرة تستغل الأزمات لكي تبني الثروات على حساب قوت ودماء الشعب". يا سبحان الله، أنظروا مَن يتحدّث!

الأحد، 8 يناير 2012

شرف كوندوليزا



سلّة مهملات التاريخ تحفل بأولئك الذين ظنّوا أنّ التاريخ يمكن أن يسير رأساً على عقب، فكان أن قلب لهم التاريخ ظهر المجنّ، ليس دون توفير دروس بليغة قاسية، لم تُلحق الهزيمة النكراء بنظرياتهم وخططهم، التكتيكية منها أو الستراتيجية، فحسب؛ بل أنزلت بهم العقاب المباشر، البليغ والقاسي بدوره. ولا تنقضي سنة إلا ويقدّم التاريخ جردة حساب تُلقي بالمزيد من هؤلاء إلى قاع السلّة؛ فيتعظ من يحسن إدراك العظة، ويتابع الغيّ كلّ متعامٍ متلهف على القفز إلى "مزبلة التاريخ"، حسب تعبير الثوري والمنظّر الروسي ليف دافيدوفيتش تروتسكي.

والسيدة كوندوليزا رايس اكتسبت صفة "الأولى" في مناح عديدة، بينها أنها كانت أوّل امرأة أفرو ـ أمريكية تشغل منصب وزيرة الخارجية الأمريكية، وأوّل مستشارة لمجلس الأمن القومي الأمريكي، وأوّل مستشارة شخصية لشؤون الشرق الأوسط لدى حاكم ولاية تكساس، جورج بوش (الذي سيُنتخب رئيساً للولايات المتحدة، مرّتين). وهي عندي ـ شخصياً، لأسباب تخصّ بلدي سورية، فضلاً عن شؤون فلسطينية وعربية ودولية شتى ـ أحدث نزيلات سلّة مهملات التاريخ، خاصة بعد أن أصدرت كتابها الجديد "لا يعلو عليه شرف: مذكرات سنواتي في واشنطن". وهذا المجلد الضخم، الذي يقع في أكثر من 700 صفحة، يسعى إلى تبييض صفحة رايس، وترقيتها إلى مصافّ الشرف الأعلى الذي يلمّح إليه العنوان، فلا تنتهي معظم فصوله إلا إلى تثبيت النقائض، أو كشف ما تمّ التستّر عليه من وقائع فاضحة (حكايتها في مطبخ معمّر القذافي، على سبيل المثال).   

في ما يخصّ سورية، تظلّ رايس مبتكرة نظرية "التغيير من داخل النظام"، وليس تغيير النظام؛ عبر الإصلاحات التجميلية تارة، أو ممارسة الضغوط اللفظية طوراً، فضلاً عن الغمز بين حين وآخر إلى طراز منتقى من "معارضة" سورية مستهلَكة، متأمركة سرّاً أو علانية، ومنقطعة الصلة عن الشعب السوري والمعارضة الفعلية في الداخل. ولعلّ الكثير من تدابير تلك النظرية، وهي في كلّ حال فقيرة محدودة التفاصيل، ما تزال معتمَدة اليوم أيضاً في واشنطن، حتى إذا كان هذا الناطق الرسمي أو ذاك، باسم البيت الأبيض أو الخارجية، يُدخل عليها تعديلات لفظية بدورها، تتلاءم ما أمكن مع برهة التبريد أو التسخين في مخاطبة النظام السوري.

وخلال محاضرتها الشهيرة، التي ألقتها في جامعة القاهرة صيف 2005، قالت رايس: "طيلة 60 سنة بحثت بلادي، الولايات المتحدة، عن الاستقرار على حساب الديمقراطية في هذه المنطقة، هنا في الشرق الأوسط، ولم ننجز أيّاً منهما. الآن نحن نتخذ مساراً مختلفاً. نحن ندعم الطموحات الديمقراطية لكلّ الشعوب. وثمة اليوم أنظمة غير ديمقراطية تهدّد الحرّية. البعض يظنّ أنّ هذه واحدة من حقائق التاريخ الثابتة. ولكن هناك مَنْ يعرفون الأفضل. ويمكن العثور على هؤلاء الوطنيين المتعطشين للحرّية في بغداد وبيروت، في الرياض ورام الله، في عمّان وطهران، وهنا في القاهرة تحديداً". ليس في دمشق، طبعاً، رغم أنها جارة بيروت وبغداد وعمّان؛ ورغم أنّ النظام السوري كان نسيج وحده في تدشين الاستبداد الوراثي، وحكم العائلة؛ ورغم أنّ الاجهزة الأمنية السورية أقدمت، في الفترة ذاتها، على إعلاق منتدى الأتاسي واعتقال أبرز قياداته.

اليوم، لأنها لم تعد في الموقع الرسمي، وصار امتداح "الربيع العربي" مغنماً لكلّ رافع عقيرة في واشنطن، لا تتردّد رايس في إصدار هذا الحكم الرهيب على النظام السوري: "لقد أتى دوركم. وأياً كان النظام الذي سيخلفكم، فإنه لن يكون أسوأ في نظر شعبكم، وفي نظر العالم، ممّا كنتم عليه أنتم"؛ ثمّ تردف، خلال واحدة من جولات توقيع كتابها: "الأسد يقود سورية إلى حافة الحرب الأهلية"، وتنكيله بالمعارضين "يخلق وضعاً بالغ الخطورة"، وإسقاطه "سوف يكون أمراً عظيماً للشعب السوري، ولمصالح الولايات المتحدة، وكلّ الباحثين عن شرق أوسط أكثر سلاماً"! وقد يصعب أن ينتظر المرء من رايس موقفاً صامتاً إزاء جرائم النظام السوري (الانتفاضة تجبّ ما قبلها في واشنطن أيضاً، والحقّ يُقال!)؛ إلا أنّ الانقلابات الفاضحة في المواقف، بين ليلة وضحاها، أقرب إلى "الشقلبة" منها إلى التنقّل أو التبدّل.

وذكر الله بالخير صديقنا القاصّ الفلسطيني محمود شقير، صاحب القصة القصيرة البديعة "ابنة خالتي كوندوليزا"، حيث تنقلب الستّ مثيلة، شبيهة وزيرة الخارجية الأمريكية، إلى كابوس يطبق على خناق ابن خالتها شكري النجار، إذْ يرى نفسه متزوجاً منها، وضيف العرس ليس سوى وزير الدفاع الأمريكي الأسبق دونالد رمسفيلد. وأمّا شرط مثيلة/ كوندوليزا لإتمام النكاح فهو، ببساطة: إنجاز مشروع الشرق الأوسط الكبير! ونفهم من الحوار بين العريس والعروس أنّ الخاتمة السعيدة لن تتمّ قبل "سنتين أو ثلاث سنوات، وقد نحتاج إلى شنّ حرب أو حربين"؛ وبعدها: "شعوب بأكملها ستنعم بالديموقراطية! وآنذاك سنفرح أنا وأنت".    

.. ما خلا أنّ مشروع الديمقراطية العربي انطلق في غياب كوندي، فلم تكن ابنة خالته، ولا خالته، ولا عمّته؛ ولم يكن لها فيه فضل، بل إنّ العكس هو الصحيح؛ وأن الستّ ليست اليوم في عرس، أو حتى في حلم به، بل هي قابعة حيث يتوجب أن تبقى: في سلّة مهملات التاريخ!

الخميس، 5 يناير 2012

معمار "القيادة السورية": ثلاثة مستويات وحلقة واحدة.. ضيّقة


أحدث الجولات، في سياق الطور الراهن من خيارات العنف التي يعتمدها النظام السوري لكسر الانتفاضة الشعبية، العارمة المتعاظمة منذ تسعة أشهر ونيف، هذه المعركة العجيبة التي تدور اليوم: بين عدنان السخني، محافظ النظام في الرقّة، شمال شرق سورية، في صفّ السلطة؛ وحفنة من أشجار الزيتون، في المزرعة المتواضعة التي يملكها المحامي والناشط المعارض عبد الله الخليل، في الصفّ المقابل. ونعرف أنّ الاحتلال الإسرائيلي، والفقه الصهيوني إجمالاً، يكره أشجار الزيتون، ولا يتورّع عن اقتلاعها بشتى الذرائع، أو حتى من دون ذريعة؛ لكنّ المرء يتساءل عن هذا المزاج الفاشي الذي يحكم عقل المحافظ السخني، ضدّ أشجار الزيتون تحديداً، فيدفعه إلى عدم الاكتفاء بهدم منزل الخليل (تماماً كما يفعل الصهاينة بالفلسطينيين)، بل يجاريهم في بغض هذه الشجرة المباركة.

ويكتب الخليل، وأضعف الإيمان أن نقتبس سطوراً من مناشدته إلى الرأي العام: "الأشجار عمرها أكثر من خمسة عشر عاماً، وهي في طور الإنتاج الكامل (...) القليل جداً من دول العالم من يلجأ لهذا الأسلوب ويقطع الأشجار، إنها طريقة الإنسان البدائي الأول، وتدل على قصر النظر، ومحاولة يأسه لكسر الإرادة. لقد أرسلوا الكثير من الرسائل الواضحة والصريحة، طالبين الكف عن مساندة المعتقلين والدفاع عنهم، ويبدو أن الرسالة القادمة هي اقتلاع أشجار الزيتون. إن تلك الأشجار عزيزة علي، وليس هناك من شجرة إلا ومسحت يداي أغصانها أوجذرها أو ثمرها، رغم كثرة عددها، إلا أنها ليست أغلى من سورية وحرّيتها".

ثمة، بالطبع، جرائم أبشع بكثير من هذه التي يزمع محافظ الرقة ارتكابها، وثمة سياسات أرض محروقة اعتمدتها مختلف أجهزة السلطة ضدّ الأرض بما عليها من بشر، وليس الشجر وحده، أو الزرع والضرع. بيد أنّ هذه الواقعة تنطوي على رمزية خاصة مزدوجة، يتمثل مدلولها الأوّل في ما سبقت الإشارة إليه من اشتراك سلطات النظام مع سلطات الاحتلال الإسرائيلي في الموقف من هذه الشجرة تحديداً؛ وينتهي مدلولها الثاني إلى طبائع سلوك رجالات الصفّ الثالث من معمار النظام، أي أمثال الوزير، أو المحافظ، أو رئيس فرع مخابرات أو أمن جنائي، أو رجل اعمال شبّيح متعهد لقطعان شبيحة هنا أو هناك. هي، على هذا، رمزية تصنّف التركيب البشري، إذا جاز التعبير، لنظام آفل مندحر منهزم، يقاتل بكلّ الأسلحة لتحسين شروط انسحابه من المعركة، إذْ أنّ بقاءه رُفع من لائحة الخيارات، وصار محالاً.

وحلم رجال الصفّ الثالث هؤلاء يمتزج عندهم بالكابوس، على نحو مطابق تماماً في حالات عديدة: إذا أجاد تطبيق سياسات القمع والقهر والتنكيل بالمواطنين، والمتظاهرين بصفة خاصة، أو إذا ابتدع وابتكر أساليب أقذر وأشنع، فإنه قد يرتقي إلى أعلى في مدرّج المعمار؛ أو، على النقيض، إذا تعثر أو قصّر أو خاب، فإنه يُخسف إلى أسفل، إذا لم يخضع بعدئذ إلى حساب عسير. مزدوجة، كذلك، وسائل السلطة في ضبط هؤلاء عند حدّ فاصل، قاطع كالسيف: الترغيب، وغضّ النظر عن الفساد والإفساد والمباذل كافة، بل تشجيعها وتسهيل الانغماس فيها؛ وإلا، فالترهيب بأكثر من سيف واحد مسلط على رقاب هذا الصنف من رجالات النظام، حيث تتراوح السيوف بين العزل أو التأديب أو المحاكمة أو الإقصاء، ولا يغيب عن بعض نماذجها قرار التصفية الجسدية المباشرة.

إلى الطابق الثاني من معمار النظام ينتمي بعض رؤساء الإدارات الأمنية المركزية، وأعضاء القيادة القطرية لحزب البعث، والفئة العليا من التجار ورجال الأعمال (شركاء، وخدم، أفراد من الطابق الأوّل في المعمار، حصراً، من أمثال الأخرس والشلاح والغريواتي والنحاس، وطلاس، والشهابي، وحمشو...)؛ فضلاً عن شخصيات منتخَبة من "الحرس القديم"، سبق لهم أن تسيدوا في القطاعات الأمنية والعسكرية الحساسة، ثمّ تقاعدوا أو أُقيلوا لأسباب متباينة. ومفردة "بعض" تفيد، هنا، في التشديد على أنّ هذا الطابق ليس مفتوحاً لجميع شاغلي تلك الوظائف بالضرورة، أو بحكم الموقع الصرف، إذْ يعتمد أمر اقترابهم من آلة القرار العليا على معايير غير ثابتة البتة، وغير مستقرّة، تتفاوت وتتبدّل وفقاً للمتغيّرات في رأس الهرم.

وعلى سبيل المثال، صحيح أنّ اللواء عبد الفتاح قدسية هو رئيس جهاز المخابرات العسكرية؛ إلا أنّ نائبه اللواء علي يونس ليس بعيداً عن الهرم، بل لعلّه أقرب إليه من رئيسه المباشر؛ وكذلك الحال مع اللواء جميل حسن، مدير إدارة المخابرات الجوية، الذي ـ رغم طاعته العمياء لسادته، ومزاجه الدموي الشهير ـ ليس أقرب إلى الحلقة الأثيرة من العقيد قصي ميهوب، رئيس فرع حرستا (والمهندس المرجّح خلف الهجوم الكاريكاتوري المزعوم ضد مقرّ الفرع). في مصنّف آخر، يتمتع رجال من أمثال اللواء المتقاعد علي دوبا واللواء المتقاعد محمد الخولي (الأوّل قاد المخابرات العسكرية طيلة عقود، وكذلك فعل الثاني في مخابرات القوى الجوية) بصلاحيات خاصة إثر تعيينهما مستشارَين للشؤون الأمنية، والتحاقهما بمكتب خاصّ في القصر الجمهوري، ومنحهما التخويل باستدعاء أو فرز عدد من الضباط المتقاعدين أو الإحتياط أو العاملين في مواقع أمنية وعسكرية أخرى، للإنضمام إلى ذلك المكتب (الأمر الذي لا يمكن أن يتمتع به قدسية أو حسن).      

داخل الحلقة الأعلى، الأضيق، وحتى قبل أسابيع معدودات، كان يتربع بشار الأسد (في شخصيته الأمنية والعنفية الأقصى اعتمالاً، واكتمالاً، منذ توريثه صيف 2000؛ وفي صفات كانت خافية تماماً على كثير من المغفلين أو المتغافلين ـ حتى في صفوف المعارضة ـ ممّن آمنوا بشخصياته الأخرى، "المسالمة" أو "الإصلاحية" أو "الشابة" أو "الممانِعة"...)؛ صحبة العميد ماهر الأسد (الشقيق، والقائد الفعلي للفرقة الرابعة والحرس الجمهوري، والمنفِّذ الثاني للحلّ الأمني، بعد شقيقه الكبير)؛ والعميد ذو الهمة شاليش (ابن عمّة الأسد، ورئيس حرسه الشخصي، والمشرف الفعلي على جهاز أمن الرئاسة، وصاحب الصلاحيات الأمنية والعسكرية والمالية الواسعة التي تتجاوز بكثير رتبته العسكرية أو موقعه الوظيفي)؛ والعميد حافظ مخلوف (ابن خالة الأسد، والضابط الأبرز في الفرع 251، والأقوى نفوذاً في جهاز المخابرات العامة بأسره)؛ واللواء علي مملوك (المدير الرسمي للجهاز ذاته). في الخلفية، ودون أن يشارك مباشرة في الاجتماعات الدائمة لهذه الحلقة، لا يغيب رامي مخلوف ـ بوصفه صيرفيّ النظام الأدسم، والأخلص، وليس ابن خال القصر فحسب ـ عن صنع القرارات الحاسمة، تماماً كما كشف بنفسه في الحوار الشهير مع أنتوني شديد، من صحيفة "نيويورك تايمز".

اليوم تشير التقارير إلى تبدّل ملحوظ لا يمسّ التركيبة الفعلية، وإنْ كان يعزّز القبضة العائلية على السلطة، أكثر من ذي قبل، وربما على نحو غير مسبوق طيلة 41 سنة من عمر "الحركة التصحيحية". ذلك لأنّ حافظ مخلوف قد هبط من علٍ، كما يتردد (وكما توحي أنباء فشله في محاولة السفر إلى روسيا أوّلاً، ثمّ إلى سويسرا مؤخراً)، بسبب الحصيلة غير المرضية لأدائه الأمني في العاصمة دمشق تحديداً، ونطاق عمل فرع المنطقة عموماً، بالقياس إلى ما تمتّع به من نفوذ وسلطات. كذلك تشير التقارير إلى أنّ العماد آصف شوكت، نائب وزير الدفاع، قد حلّ مؤخراً محلّ مملوك، بل ونُقلت أنباء عن لقاء عاصف بين الرجلين كاد أن يودي بأحدهما، على أيدي المرافقين! وإذا صحّت هذه المعلومات، وثمة الكثير من المعطيات التي تؤكدها من واقع حركة الأجهزة المركزية ومناقلات الضباط، فإنّ آلة القرار انضغطت أكثر فأكثر، حتى صارت مقتصرة على عائلة الأسد، والصهر، وابنَيْ الخال!

وبالمقارنة مع مفصل هامّ في تاريخ "الحركة التصحيحية"، صبيحة اغتيال رفيق الحريري (وذاك تطوّر نوعي حاسم في سنوات حكم الأسد الابن، أيضاً)؛ كانت "القيادة السورية" ـ والمزدوجات، هنا، مردّها غموض التعبير، وطابعه الاصطلاحي غير المتجسد في الواقع العملي ـ تتألف من الأسد، وشقيقه ماهر، واللواء غازي كنعان وزير الداخلية آنذاك، واللواء آصف شوكت رئيس الاستخبارات العسكرية، واللواء بهجت سليمان الرجل الأقوى في جهاز أمن الدولة، وعبد الحليم خدّام النائب الأوّل للرئاسة والمدنيّ الوحيد في الرهط. فيما بعد، انتُحر كنعان (إذا جاز هذا الاشتقاق!)؛ وانشقّ خدّام (إذا جاز تصنيف عزله انشقاقاً!)؛ واعتكف شوكت (بعد مشاحنات مع الأسد، نجمت عن فضائح أداء جهازه إزاء قصف موقع "الكبر" واغتيال العميد محمد سلمان، وقبله اغتيال عماد مغنية...)؛ وخُسف سليمان إلى مرتبة سفير، في العاصمة الأردنية عمّان.

وما انضمام رجال من أمثال شاليش ورامي وحافظ مخلوف، وعودة شوكت بعد مصالحة عائلية اقتضتها معركة المصير، إلا ردّة إلى الوراء في عُرف التقاليد الأمنية الصارمة التي أرساها الأسد الأب طيلة عقود، وانحطاط في سوية المعايير، كان محرّكه الأوّل أنّ انتفاضة الشعب السوري لم تجبّ ما قبلها على صعيد تقويض جدران الخوف كافة، فحسب؛ بل جبّت أيضاً، وقزّمت، وهزمت، معظم أركان الفلسفة الأمنية للنظام.

وإذا صحّ القول إنّ في وسع النظام أن يعثر دائماً على بدائل لأمثال كنعان وخدّام وسليمان ومخلوف، مثلما فعل الأسد الأب عندما استبدل أمثال حكمت الشهابي وعلي حيدر وناجي جميل وشفيق فياض وابراهيم الصافي ومحمد حيدر وعبد الرؤوف الكسم... في وسع الأسد الابن أن يستبدل معظم أعضاء حلقات النظام الأضيق، بآخرين أعلى كعباً في الولاء والبطش والاستبداد والنهب. بيد أنّ السؤال يظلّ، مع ذلك، قائماً وعالقاً: لماذا يتوجب على البدلاء أن يفلحوا في ما عجز عن إنجازه الأصلاء؟ وحتام تملك أيّة حلقة، عتيقة أو جديدة، مفتوجة أو مغلقة، مهارات دموية ودامية لإيقاف مسيرة سورية نحو مستقبل أفضل؟

وكم من الأشجار ـ زيتون رقّاوي، ونخيل ديريّ، وكرز إدلبي، وفستق حلبي، ومشمش حموي، ولوز شامي... ـ ينبغي أن يقتلع النظام، في مستوياته الثلاثة وحلقاته كافة، كي تُبعث عظام رميم، هي آخر ما تبقى من حكم مستبدّ فاسد، آيل إلى زوال؟