وعزّ الشرق أوّله دمشق

الأحد، 25 مارس 2012

غوطة الإدلبي وانتفاضة الشام

بين الخصال الأبرز لأعمال ألفة الإدلبي (1912ـ2007)، الروائية والقاصّة السورية الرائدة، أنّ مدوّنتها السردية كانت أشبه بسجلّ لذاكرة الشام، ـ كما يحلو لنا، نحن السوريين، أن نسمّي عاصمة بلدنا ـ لا يشمل معالم أحيائها وأزّقتها وعمارتها وخرائطها وتواريخها، فحسب؛ بل يخلّد حياتها اليومية في أكثر تقاليدها أصالة، وأغنى عاداتها تمثيلاً للإنسان، في مظاهر العيش كما في بواطن الوجود. وفي واحدة من الطيات الأجمل، والأصدق، لذلك الباطن البشري جاء التقاط الإدلبي لتحوّلات الحارة الشامية، تحت وطأة عوامل شتى متداخلة، سياسية واجتماعية وثقافية، فضلاً عن ذلك العنصر الخاصّ الحاسم: انخراط الشام في أعمال المقاومة، السرّية والعلنية، ضدّ الانتداب الفرنسي، وانطلاق الثورة السورية الكبرى ("ذاك النفير إلى الدنيا أنِ اضطربي"، كما سيقول سعيد عقل بعدئذ).

والقصة القصيرة "الحقد الكبير"، من مجموعة "وداعاً يا دمشق"، 1963، واحدة من أعذب النماذج في تمثيل حسّ المقاومة ذاك، أو بالأحرى: ثقافة المقاومة، كما ترعرعت في نفوس الكبار، ثمّ تناقلها الصغار، على نحو بالغ الشفافية في أبعاده الإنسانية، متخفف من الخطاب التقريري والحماسة الجوفاء. الشخصية الرئيسية في القصة رجل مقاوِم بامتياز، ولكنه ليس مثالاً ملحمياً ذا صفات بطولية فائقة، ومفتعَلة، بل هو ببساطة: "أبو حامد، بائع الحليب الجوال، بقامته المائلة قليلاً على وعاء الحليب الكبير المعلق على كتفه وسرواله الأزرق، وقد شدّ عليه زناراً أحمر، وارتدى فوقه ميتاناً مخططاً بالأبيض والاسود، وعينيه الصغيرتين اللامعتين تحت حاجبيه الكثيفين، وصوته الحنون وهو ينادي بنغمة ممطوطة: حليب، حليب".

وأبو حامد "رجل طيب، فقير وأبو عيال، يذهب كلّ يوم قبل شروق الشمس ماشياً إلى الغوطة ليبتاع حليبه من ثدي البقرة مباشرة"؛ لكن انحيازه إلى الثورة يبدأ من معطى إنساني بسيط، وتلقائي، هو الحزن على أعداد الشهداء التي تتزايد: "في المعركة التي جرت البارحة في قلب الغوطة استشهد ثلاثة من أولاد الميدان، وخمسة من أولاد الشاغور، وسبعة من الغوطة.. أنا أعرفهم جميعاً.. كل شاب والله مثل النخلة! هؤلاء الشهداء يا أفندي هم شباب أهل الجنة.. يا ليتني أصبح واحداً منهم!"، يهمس أبو حامد. ولن يطول به الزمن، بالفعل، إذْ سيلتحق بركب الشهداء، وسيبصره الطفل (الصوت السارد في القصة) معلّقاً على مشنقة في ساحة المرجة. كذلك لن يمرّ وقت طويل قبل أن يسمع السارد: "حليب.. حليب.. كان للصوت نفس النغمة الممطوطة والجرس الحنون، ولكنه كان ينتهي بأنّة مرتجفة حزينة. عرفتُ الصوت حالاً، كان صوت صديقي حامد الابن الأكبر للحلاب الشهير". وفي ذروة أخرى تُكمل معادلة القصة، سوف يكتشف الفتى السارد أنّ أباه ليس غائباً بداعي السفر أو الأعمال، بل لأنه التحق بالمقاومة الشعبية!

وفي المصادفات العجيبة للانتفاضة السورية، حالها في ذلك حال معظم منعطفات التاريخ الكبرى، أنّ عسكر النظام السوري وأجهزته الأمنية وشبيحته كانوا قد باشروا عملية اجتياح وحشية للغوطة الشامية، في الأيام ذاتها التي تسجّل الذكرى الخامسة لرحيل الإدلبي، وكانت قد أغمضت عينيها للمرّة الأخيرة يوم 22 آذار (مارس)، في صقيع العاصمة الفرنسية باريس، وليس وسط عبق الياسمين في حيّ الصالحية الدمشقي العريق، حيث وُلدت. هي مفارقة أليمة، محزنة ومأساوية، ولكنها بنت الواقع وحده، أن يقارن أبناء الغوطة بين احتلال فرنسي أجنبي، واحتلال (لا يتردد الكثيرون في اعتباره أبشع، أشدّ همجية، وأبعد عاقبة) تنفّذه عصابة من طغاة سورية ومجرميها وفاسديها، ضدّ الغالبية الساحقة من أبناء الوطن الواحد.

وذكرى رحيل الإدلبي تستوجب استذكار مكانتها الأدبية، فهي انتمت إلى جيل أدب الخمسينيات السوري الذي شهد نهوضاً ملموساً، ومميّزاً تماماً، في عدد النساء كاتبات القصة والرواية، من جانب أوّل؛ وكذلك النوعية الفنّية العالية، والمفاجئة حتى بمعايير أزمنتنا الراهنة، لتلك الكتابات، من جانب ثانٍ. بين أبرز الأسماء كانت ماري عجمي (1888ـ1965)، نازك العابد بيهم (1887ـ1959)، وداد سكاكيني (1913ـ1991) صاحبة «أروى بنت الخطوب» الذي يُعدّ أوّل عمل نسوي جدير بحمل صفة الرواية بالمعني الفنّي للمصطلح، وسلمى الحفار الكزبري (1923ـ2006). وهذا هو الرعيل الذي سيمهّد الدرب لكاتبات الجيل التالي، الستينيات والسبعينيات، من أمثال قمر كيلاني، ناديا خوست، دلال حاتم، ليلى صايا سالم، غادة السمان، وسواهنّ.

جيل الإدلبي كان قد مثّل أطوار التأسيس والريادة في الجانب الفنّي، كما تولى تقديم المزيد من مبادرات تحرير المرأة وانعتاقها في الجانب الاجتماعي، وراكم بالتالي الكثير من المدلولات الثقافية ـ السياسية الناجمة عن ائتلاف هذين الجانبين. وأطوار التأسيس تلك كانت، أيضاً، مراحل متدرجة في ترسيخ الشكل وتطوير الأدوات والموضوعات، وكانت مجموعة الإدلبي الأولى "قصص شامية"، 1954، هي الأنضج في مستويات فنّية عديدة تشمل تحرير اللغة من إسار البلاغة التقليدية، وتخليص الحكاية من التضخيم العاطفي الميلودرامي، واقتحام موضوعات شبه محرّمة، واعتماد ضمائر سرد متغايرة متبادلة الوظائف...

وفي وسع الإدلبي أن تقرّ عيناً بما سطّره، ويسطّره كلّ يوم، أبناء الغوطة الشماء، حافظو ذكر وذكرى أبو حامد الحلاب، حيث صار "الحقد الكبير" ضدّ الفرنسيين، انتفاضة عارمة ضدّ طغاة الوطن؛ فارقها النوعي، الأكبر، أنها تتسامى على الأحقاد كافة.

الخميس، 22 مارس 2012

روسيا و"الدولة السنّية" في سورية: أعمدة الحكمة الخرقاء

أغلب الظنّ أنّ سيرغي لافروف، وزير الخارجية الروسي، يعرف عن النظام الحاكم في سورية أكثر بكثير من معلوماته عن سورية ذاتها، البلد والشعب والتاريخ، وفي مسائل ذات حساسية سياسية واجتماعية بالغة، مثل وضع الطوائف والأقليات، وفارق أن لا تكون أقلية إثنية ما، أقلية دينية أو مذهبية أو طائفية بالضرورة، وبالاستطراد الآلي التبسيطي. والأمر يدعو إلى استغراب شديد في الواقع، ليس لأنّ لافروف يمثّل القوّة الكونية العظمى الثانية، فحسب؛ بل لأنّ الاتحاد الروسي، متكئاً على تراث الاتحاد السوفييتي سابقاً، يملك تقاليد عريقة، سياسية واستخباراتية وأكاديمية، في معرفة بلدان الشرق الأوسط، وخاصة تلك التي حكمتها أو ما تزال تحكمها أنظمة صديقة للكرملين.

وهكذا، في الإعراب عن المواقف من النظام، نفهم أن يعيد لافروف تكرار الأسطوانات ذاتها، كلما الناقوس رنّ، حول أنّ تنحي بشار الأسد "لن يكون شرطا مسبقا لحل الأزمة"، وأنّ "مسألة من سيقود سورية في فترة انتقالية لا يمكن تقريرها إلا من خلال حوار يشمل الحكومة والمعارضة"، وأنّ "مطالبة الأسد بالتنحي كشرط لمثل هذا الحوار أمر غير واقعي"... ما لا يُفهم، إلا في سياق الجهل الفاضح أو التجهيل عن سابق قصد، التصريح التالي الذي أدلى به لافروف لإذاعة "كوميرسانت إف إم" الروسية: "فى حال انهار النظام القائم في سورية، فسيغري هذا بعض بلدان المنطقة لإقامة نظام سني في البلد"؛ وهذا ما يقلق الرجل، لأنه سوف "يؤثر على مصير المسيحيين والأكراد والعلويين والدروز، وهو الأمر الذى قد يمتد إلى لبنان والعراق"!

مَن هو الناصح الأريب الذي وضع في دماغ لافروف أنّ الأكراد أقلية طائفية، في المقام الأوّل؟ وإذا كان هؤلاء، والحديث يخصّ أكراد سورية تحديداً، ينتمون إلى السنّة، فكيف يمكن أن تهددهم "دولة سنّية"، أو تؤثر على مصيرهم؟ وهل ثمة أي معنى ملموس، أصلاً، وراء هذا التعبير، الخاطىء والقاصر والركيك والغبي؟ وإذا كانت "دولة سنّية" هي الشبح الآتي الذي تريد موسكو تفاديه، فما هي إذاً تسمية الدولة الراهنة التي تساندها الحكومة الروسية وتريد الإبقاء عليها؟ وكيف فات لافروف أنّ السنّة في سورية يشكلون قرابة 70 بالمئة من السكان العرب، وقرابة 8 بالمئة من السكان الأكراد، وبالتالي فإنهم ليسوا "طائفة" هنا (كما هي حالهم في العراق أو في إيران، مثلاً)، لأنهم ببساطة أغلبية الشعب الساحقة؛ ولا يصحّ توصيف ميول الأغلبية استناداً إلى المعايير ذاتها التي يخضع لها سلوك الأفراد، أو المجموعات المصغّرة؟

وكيف تعذّر على خبراء وزارة الخارجية الروسية، إذْ لا حاجة في هذا إلى علماء اجتماع من العيار الثقيل، أن يشرحوا للسيد الوزير تلك الحقيقة البسيطة التي تقول إنّ التطلع إلى الحرّية والمستقبل الأفضل ليس موضوع اختلاف بين أديان السوريين وطوائفهم، بل هو هدف الإجماع الأعرض اليوم، مثلما كان محلّ اتفاق وتراضٍ في الماضي أيضاً. ما لا يقلّ أهمية، في المقابل، هو أنّ النظام الحاكم ليس ابن طائفة واحدة منفردة، حتى إذا كانت إحدى ركائزه تقوم على تجييش محموم لطائفة بعينها، والإيحاء بتمثيلها، وتعهّد مصيرها.
وليس للنظام دين واحد، أيضاً، مهما أتقن رجاله ألعاب التمسّح بالأديان أو التزلف للمتدينين، وخاصة في أوساط السنّة... للمفارقة، غير المدهشة أبداً. وكما قلنا، ونقول دون كلل: لن يدافع أنصار النظام عن بقائه لأسباب دينية أو طائفية، بصرف النظر عن توفّر أنساق متباينة من الولاء العصبوي؛ بل ستحرّكهم أسباب أخرى أدنى إلى الأرض منها إلى السماء، على رأسها امتيازات السلطة، ومنابع النهب والفساد، والهروب إلى الأمام من ساعة الحساب العسير حين تنقلب سورية من مزرعة إلى دولة حقّ وقانون.

ولن يكون تفصيلاً عجيباً إذا اتضح أنّ ناصحي لافروف في حكاية الترهيب من مجيء "دولة سنّية"، هم أنفسهم الذين نصحوا الرئيس الروسي السابق السابق ديمتري ميدفيديف باختيار صحيفة "الوطن" السورية الخاصة، وليس أية صحيفة أخرى حكومية مثل "البعث" أو "الثورة" أو "تشرين"، لتوجيه رسالة إلى الشعب السوري، عندما زار دمشق في أيار (مايو)، سنة 2010. إذْ كيف للناصح أن يجهل أنّ الصحيفة المحظوظة أطلقها ويملكها رامي مخلوف، ابن خال الرئاسة وأشدّ رجال الأعمال السوريين نفوذاً وهيمنة وسطوة وسيطرة على ميادين المال والإستثمار والتجارة والتصنيع المحلي؟ وإذا كان يعرف، كما يعرف أي ذي بصر وبصيرة، فإنّ نصحه لرئيسه بأن يستقرّ على هذه المطبوعة بالذات لم يكن عشوائياً ولا بريئاً، وكان إرسال إشارات ذات مضامين سياسية واقتصادية هو القصد؛ ليس دون الكثير من المغزى الإيديولوجي، في تفضيل القطاع الخاصّ على الحكومي، وإطراء مافيات المال والأعمال.

مفيد، هنا، أن يعود المرء إلى التشديد على أربعة أعمدة حكمت العلاقات الروسية مع النظام السوري، في عهد الأسد الوريث بصفة خاصة، أوّلها أنّ هذه العلاقات صارت مع الزمن مسألة تحصيل حاصل متفق عليه، ويحظى بإجماع طبيعي؛ لولا أنّ ما معادلاتها الخافية رسّخت منطقاً آخر مختلفاً، لعلّه يطيح بقسط كبير من روحية المظهر. ذلك لأنّ النظام السوري يمدّ يد الصداقة إلى موسكو، ولكنّ القلب يخفق لهفة على تحسين العلاقات مع واشنطن، قبلئذ وبعدئذ وفي الغضون؛ فهذه لا تكتسب الأولوية على المستوى العملي التكتيكي فحسب، وإنما قد تكون الغاية القصوى والعليا على المستوى الستراتيجي كذلك. وموسكو لا تجهل هذا، كما للمرء أن يتخيّل بيسر، بل كانت تقيم التوازن مع نظام الأسد الابن على هذا المعيار، منذ ولاية فلاديمير بوتين الأولى، وحتى سنة 2005 عندما قرّر الأسد اتخاذ خطوة نوعية تجاه موسكو بعد أن ضاقت به سبل ترطيب الأجواء مع واشنطن.

العمود الثاني هو أنّ العلاقات الروسية ـ الإسرائيلية صارت أفضل حالاً من العلاقات الروسية ـ السورية، لا سيما في عهد رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق أرييل شارون، الذي خالف الولايات المتحدة ومعظم الدول الغربية في رفض إدانة سياسة الحديد والنار التي اعتمدتها موسكو في بلاد الشيشان، بل لجأ إلى النقيض فباركها وامتدحها. ولعلّ واقعة قيام بوتين بزيارة إسرائيل ومصر، ولكن ليس سورية، في نيسان (أبريل) 2005، أي بعد أقلّ من ثلاثة أشهر على زيارة الأسد إلى موسكو (حين لاح أنّ العلاقات عادت متينة، بدليل استعداد موسكو لتزويد سورية بصواريخ ارض ـ جوّ متطورة)، كانت بمثابة تذكرة صارخة بأنّ المياه لم تعد تماماً إلى مجاريها؛ وأنّ خيار الأسد في اللعب على حبال روسية، لشدّ انتباه المتفرّج الأمريكي أساساً، لم تكن خافية على موسكو.

في العمود الثالث، وهو جيو ـ سياسي بامتياز، إقليمي ودولي، كانت موسكو تضع العلاقات مع النظام السوري في إطار الفلسفة ذاتها التي أخذت تقود نهج روسيا على امتداد المنطقة، والتي تقوم على قاعدة أولى بسيطة: نحن أصدقاء مع الجميع، أنظمة "الاعتدال" مثل أنظمة "الممانعة"، وإسرائيل مثل إيران، و"حماس" و"حزب الله" مثل السلطة الوطنية الفلسطينية وجماعة 14 آذار في لبنان... والفيصل في هذا كلّه هو مصالحنا الاقتصادية العليا، وهذه وفيرة ويمكن أن تكون مجزية تماماً، من جهة أولى؛ فضلاً عن اكتساب سكوت الشارع العريض المسلم، السنّي بصفة خاصة، عمّا ارتكبته وترتكبه موسكو من مجازر وأعمال قمع في بلاد الشيشان، من جهة ثانية.

في إرساء العمود الرابع، وهو مضمار اقتصادي واستثماري هذه المرّة، كانت موسكو وتظلّ متلهفة على استرداد سوقَيْن وفيرَيْ المردود في الشرق الأوسط، هما السلاح والتكنولوجيا النووية؛ ومن الحماقة المطلقة أن لا تبذل موسكو كلّ جهد ممكن لاستغلال هذين السوقين على النحو الأقصى المتاح. ولقد اتضح هذا في الإشارات العابرة إلى مستقبل التعاون التكنولوجي النووي بين موسكو ودمشق، ثمّ في الاتفاقيات المعلنة والصريحة مع تركيا أثناء زيارة ميدفيديف التي أعقبت زيارته إلى دمشق. ولم يكن بغير مغزى خاص، يغمز من قناة النظام في دمشق، أنّ رسالة ميدفيديف إلى صحيفة "الوطن" السورية انطوت على تذكير بأنّ حجم التبادل التجاري بين البلدين بلغ مليارَي دولار في عام 2008، لكنه هبط إلى 1.136 مليار دولار في عام 2009. ولعلّ اللباقة الدبلوماسية هي التي منعت ميدفيديف من اقتباس الأرقام النظيرة، الأعلى والمتصاعدة باضطراد، لواقع الميزان التجاري بين الاتحاد الروسي وإسرائيل.

وقبل أشهر، حين لجأت موسكو إلى استخدام حقّ النقض في مجلس الأمن الدولي دفاعاً عن النظام السوري، كان الناصحون أنفسهم يغطّون حرج الموقف الروسي (ليس بخصوص الـ"فيتو" وحده، بل إزاء ما بات المشاهد الروسي يتابعه على الفضائيات من جرائم النظام السوري وهمجية قمع الانتفاضة) بتضخيم مصالح روسيا، التجارية والعسكرية والسياسية، تبريراً لمساندة النظام السوري. والصحافة الروسية الموالية للكرملين أخذت تنشر تقارير محمومة عن استثمارات في سورية تبلغ 19,4 مليار دولار، تتركز أساساً في التسلّح والبنى التحتية والطاقة والسياحة. كما ذكّرت بأنّ الاتحاد السوفييتي المنحلّ كان المزوّد الأكبر لأسلحة الجيش السوري، وأنّ الديون المترتبة على دمشق وصلت إلى 13,4 مليار دولار، محت موسكو القسم الأعظم منها فيما بعد، واستبدلتها بعقد تسليح يبلغ أربعة مليارات، جرى التوقيع عليه سنة 2006.

 ومع ذلك، بدا مدهشاً أن تراهن موسكو على نظام صار أقرب إلى عصابة محاصَرة، وعصبة تحتضر، لا يدلّ سلوكها الانتحاري إلا على انهيار وشيك، ولم تعد تملك من شرعية إلا تلك يوفّرها الـ"فيتو" الروسي أو الصيني، والمليارات الإيرانية، بعد ابتعاد دول مثل الهند والبرازيل وجنوب أفريقيا عن احتساب النظام في عداد جولاتها الدفاعية ضدّ هيمنة القوى العظمى في منظمة الامم المتحدة. وإذا جاز القول إنّ موسكو أخذت تسعى، في الآونة الأخيرة، إلى إنقاذ ما يمكن إنقاذه من ركام كوارثها الدبلوماسية الناجمة عن تغطية النظام، فوافقت على الإعلان الرئاسي في مجلس الأمن الدولي حول مهمة كوفي أنان في سورية، كما أنّ لافروف تكرّم وتعطّف فتحدّث عن "أخطاء القيادة السورية"... فإنّ التنظير الروسي لحكاية "الدولة السنّية" لا يعيد الأمور إلى ما قبل انطلاقة الانتفاضة السورية، فحسب؛ بل يوحي بأنّ الحكمة في العلاقة مع النظام السوري كانت عمياء متعامية لا تبصر الحقائق، ثمّ صارت حمقاء خرقاء لا تصدّق إلا الأكاذيب!

الأحد، 18 مارس 2012

صوت ثورة.. صمت عورة!

"احتفالية الشارع السوري" بمرور عام على الانتفاضة السورية، والتي بدأت يوم 15 آذار (مارس) وتتواصل حتى 22 منه، تضمنت فعاليات وأنشطة عديدة، متميزة وغنية وذكية، تحتفي بما أبدعه السوريون من فنون شتى، في الموسيقى والغناء والتشكيل والسينما والمسرح، كان قسط كبير منها وليد الحراك الشعبي الساخن، في الساحات والشوارع والبيوت و… المعتقلات! وأجدني أتوقف عند فقرة حملت اسم "سبت المساواة"، أرادت تكريم المرأة السورية بسبب ما تولّته، وتتولاه كلّ يوم، من أدوار حاسمة في الإبقاء على جذوة الانتفاضة حيّة وحيوية، عبر المشاركة المباشرة في أداء مهامّ شاقة وصعبة، شاءت تواريخ تقسيم العمل أن تنيطها بالرجل وحده.

ولم يكن المكتب الصحفي للاحتفالية يبالغ حين أشار، في تعريف هذه الفقرة، إلى أنّ "المرأة السورية اليوم نسجت قطعة من روح الوطن لن ينساها التاريخ، وقدّمت أنموذجاً للشجاعة والبسالة والعطاء، فكانت قائدة ومتظاهرة وثائرة وكاتبة وفنانة وطبيبة ومتبرعة"؛ كما أنها كانت بمثابة "أمّ لكلّ أبنائها الثائرين، وليس فقط مَنْ عاشوا في رحمها تسعة أشهر". وهذه النبرة العالية في تثمين الموقع والمكانة ليست بنت البلاغة الجوفاء، إذا استعاد المرء تفاصيل ما تعرّضت له المرأة السورية من تغييب وتشويه، طيلة عقود من عمر النظام، سواء في أطوار تشديد القبضة الفاشية على المجتمع، أو في سنوات الاستهلاك والانفتاح والإفساد. وتحت وطأة هذين الأقصَيَيْن، حيث كانت المرأة ضحية "حداثة" زائفة و"تحرّر" كاذب، من جهة؛ أو ضحية ردّ الفعل والمقاومة السلبية (التي صار ارتداء الحجاب، من باب تحدّي السلطة، عنوانها وعلامتها)، من جهة ثانية.

وعلى سبيل المثال الأشدّ ابتذالاً، ومأساوية أيضاً في الواقع، كان جوهر تحرّر المرأة في "فلسفة" رفعت الأسد، شقيق حافظ الأسد وقائد "سرايا الدفاع"، التي كانت مزيج الفرقة الرابعة والحرس الجمهوري في أيامنا هذه، هو التالي: أن تتدرّب الفتيات، بعد نيل الشهادة الثانوية، على القفز بالمظلات، وعلى سلخ جلود الثعابين والتهامها أمام "القائد"، ثمّ اجتياح شوارع العاصمة لإجبار المواطنات ـ من سنّ 15، وحتى 90 سنة ـ على نزع غطاء الرأس (البسيط، وليس الحجاب بالضرورة). مثوبة هذا "التحرّر" هي تسجيل الفتاة في كليات الطبّ أو طبّ الأسنان أو الصيدلة، دون التقيّد بشرط حيازة درجات عالية في امتحان الشهادة الثانوية. دارسو تطورات المجتمع السوري يجمعون على أنّ تلك العربدة كانت السبب الأوّل في انتشار الحجاب، الإرادي وليس القسري، بمعدّلات قياسية لدى شرائح عريضة من صبايا ونساء سورية آنذاك.

إلى هذا فإنّ تكريم دور المرأة السورية في الانتفاضة هو صيغة احتفاء بجدّات لامعات رائدات، من أمثال ماري عجمي (1888ـ1965)، ومريانا مراش (1849ـ1919)، ونازك العابد بيهم (1887ـ1959)، اللواتي لم يلعبن دوراً حيوياً بالغ الأهمية على صعيد النضال من أجل تحرير المرأة السورية، فحسب؛ بل أسهمن في تحرير الرجل، أيضاً! ومن الطريف أن يسترجع المرء ما قاله فارس الخوري في مديح ماري عجمي، بالمقارنة مع ميّ زيادة: "يا أهيل العبقرية/ سجّلوا هذي الشهادة/ إنّ ماري العجمية/ هي مَيّ وزيادة"!

ليس دون أسباب كافية، في الواقع، لأنّ عجمي أسّست مجلة "العروس" في عام 1910، وواصلت إصدار هذه المطبوعة النسائية الأولى من نوعها رغم ظروف القهر العثماني؛ وارتبط كفاحها من أجل المرأة بالدفاع عن أحرار سورية من الرجال المطالبين بالاستقلال، كما تبنّت قضية السجناء السياسيين على النحو الذي تمارسه اليوم منظمات حقوق الإنسان، فأصرّت على زيارة السجون، ونشرت في مجلتها تحقيقات مفصّلة عن بؤس المعتقلات وسوء معاملة المعتقلين.

في حلب كانت مريانا مراش تتولّى تأسيس واحد من أهمّ المنابر التي ستطلق صوت المرأة، "النادي الأدبي"؛ وكانت أوّل شاعرة سورية تطبع مجموعة، بعد أن قامت بنشر عدد من القصائد في الصحف والمجلات. كما افتتحت في حلب ـ متأثرة، على الأرجح، بزيارتها إلى فرنسا حيث أمّت صالونات أدبية شهيرة مثل صالون مدام دي ستال، ومدام دي نوييه، ومدام دي سفينييه ـ صالونها الأدبي الذي ارتاده حشد من الأدباء الرجال (أيّام الحكم العثماني!)، ونشّط الحركة الأدبية على نحو لم تعرف له المدينة سابقة من قبل.

من جانبها لم تكتفِ نازك العابد بيهم بالنضال ضدّ الإستعمارَيْن التركي والفرنسي؛ ولم يقنعها، أيضاً، أنها أسّست جمعية "النجمة الحمراء" التي ستكون النواة المبكّرة لـ"الهلال الأحمر"؛ بل ذهبت إلى حدّ الانخراط المباشر في الجيش السوري، وشاركت في موقعة ميسلون الشهيرة، التي خاضها وزير الدفاع الوطني يوسف العظمة، واستُشهد فيها، وقيل إنه أسلم الروح بين يديّ العابد بيهم. ولم يكن مفاجئاً، وإنْ ظلّ سابقة كبرى، أن يمنحها الملك فيصل الأوّل رتبة نقيب فخرية في الجيش.

ولأبي الطيب المتنبي ذلك البيت الشهير: "ولو كان النساء كما عرفنا/ لفُضّلت النساء على الرجال"؛ والقيّمون على احتفالية الشارع السوري، إذْ يتابعون تخاذل بعض الرجال مقابل أفعال النساء المشرّفة، لا يترددون في اقتباس اللافتة القاسية، ولكن الصائبة المحقّة: "صوت المرأة ثورة، وصمت الرجل عورة"!

الخميس، 15 مارس 2012

سنة على الانتفاضة السورية: أضاليل "أرباح" النظام

إذا جاز الاختلاف في الرأي حول ميزان الأرباح والخسائر بين الشعب والنظام، في حصيلة سنة من عمر الانتفاضة السورية، فإنّ الوقائع الملموسة على الأرض تتمتع باستقلالية عظمى في ترجيح كفّة الحقيقة، وهي تالياً لا تتيح رفاه السفسطة والجدال: بين ما فعلته وتفعله أدوات بطش النظام، في مدن ومناطق مثل درعا وريف دمشق وحماة وحمص ودير الزور واللاذقية، وما استخدمته من صنوف الأسلحة الثقيلة كافة؛ وما حصدته من نتائج هزيلة على صعيد وأد الحراك الشعبي، وإعادة زرع ثقافة الخوف في نفوس السوريين. ليس من اللائق، هنا، تفعيل سجال بين رأي ورأي آخر، حول الرابح والخاسر بين فرقة نظامية خاصة، لا تشبه في تسليحها وامتيازاتها وتركيبها، أية وحدة عسكرية على وجه الكون، وبين شارع شعبي، سلمي، لم يحمل أي سلاح، خفيف أو ثقيل، أبيض أو ناري، حتى هذه الساعة (إذْ أنّ كتائب "الجيش السوري الحرّ" حكاية أخرى، ومعظمها لا يسلّح المتظاهرين بقدر ما يحاول حمايتهم، خاصة في التجمعات السكانية الواسعة). 

كما يتوجب، عقلياً على الأقل، أن يُسقط المرء مبدأ النسبية من الميزان ذاته، لأنّ إقامة تناسب من أي نوع بين تعاظم التظاهرات يوماً بعد يوم، في خطّ متصاعد من حيث العدد والتنوّع والنطاق الجغرافي، لا يتناسب البتة مع اشتداد طرائق النظام الوحشية، والهمجية الصرفة، في محاولة كسر هذا الإيقاع. فليس من مقدار نسبي هنا، في توزيع حصص الانتصار أو الانكسار بين الشعب والنظام، لأنّ اتساع الحراك الشعبي، ضمن هذه السياقات الشاقة من القمع والترهيب والقتل والاعتقال والحصار والقصف العشوائي والأرض المحروقة، هو انتصار صرف للشعب، لا يُنازع. في المقابل، فإنّ عجز أجهزة النظام المختلفة، من الوحدة العسكرية إلى المفرزة الأمنية وقطعان الشبيحة والميليشيات، عن تضييق خرائط الاحتجاج، رغم كل ما اعتُمد من خيارات قصوى لم تحرّم جريمة ولا مذبحة ولا حصاراً، أياً كانت العواقب الإنسانية أو السياسية أو الوطنية، هو هزيمة صرفة للنظام.

فما الذي يتبقى في الميزان من "أرباح" للنظام، إذْ لا مفرّ من أن يكون قد كسب في هذه الجولة أو تلك، واستغلّ ورقة هنا وأخرى هناك، وإلا ـ يقول قائل، بحقّ ـ فكيف تمتّع بدرجة عالية من التماسك الداخلي، ولم تتعرّض مؤسساته المختلفة لانهيارات من أي طراز؟ وإذا صحّت، وتتضح صحتها كلّ يوم، تلك الخلاصة البيّنة التي تشير إلى أنه لم يفلح في حسم المعركة ضدّ الشعب، ولم تنقلب خساراته إلى مكاسب، فما الذي جعل النظام يصمد طيلة عام كامل؟ وأخيراً، هل يجوز الحديث عن وصول الوضع في سورية إلى صيغة "لا غالب ولا مغلوب"، كما يعتبر الكثيرون، بحيث أنّ النظام لم يسقط، والانتفاضة لم تنكسر؛ وما هي آفاق المستقبل إذاً، وفي صالح مَنْ يسير الزمن، وما الذي سيتبدّل في موازين القوى الداخلية، أوّلاً، وتلك التي تتقاطع مصالحها حول الملف السوري عربياً وإقليمياً ودولياً؟

والحال أنّ "أرباح" النظام ليست سوى تلك الثمار ذاتها التي توجّب أن تطرحها خياراته في مواجهة الانتفاضة، ولا سيما اعتماد الحلّ الأمني العنفي المباشر في المقام الأوّل، ثمّ رفده بسلسلة مخططات خبيثة لتفريق الصفّ الوطني، والترهيب من الحرب الأهلية والطائفية، ومحاولة افتعال الشرارات التي يمكن أن تؤدي إلى اندلاعها، وتهويل احتمالات عسكرة الانتفاضة، وتضخيم موقع المكونات الإسلامية المتشددة داخل صفوفها، وتدبير أعمال إرهابية تُنسب إلى "القاعدة"، وإثارة هواجس الأقليات... فضلاً عن تغطية هذا المناخ، كلّه، بأكاذيب "الإصلاحات" السياسية التي تستهدف ذرّ الرماد في العيون. "أرباح" النظام هي، في اختصار بسيط، مزيج من ارتكاب الجرائم وإشاعة الأضاليل، في غمرة يقين مركزي لم تتزحزح عنه الطغمة الحاكمة: إمّا نحن، أو الطوفان!

على سبيل المثال الأبرز، كان النظام قد أدرك منذ اليوم الأول أن اعتماد الحلّ الأمني العنفي المباشر، بما انطوى عليه من فظائع تقشعر لها الأبدان، خاصة في اغتصاب النساء والصبايا، وتعذيب الأطفال والتمثيل بجثثهم، سوف يفلح ذات يوم في جعل بعض السوريين يبحثون عن السلاح، أي سلاح، دفاعاً عن النفس. ولقد حدث مراراً أنّ صواب النظام طاش أكثر، حتى بلغ مستوى السعار والجنون، لأنّ هذا المخطط لا يتحقق بالسرعة التي ينتظرها، ولم تتلهف غالبية من السوريين على اقتناء السلاح، واستخدامه على أي نحو، سواء ضدّ عناصر أجهزة النظام، أو أهلياً بين مواطن معارض وآخر موالٍ. ومجموعة المجازر، التي ارتُكبت هنا وهناك، وفي حمص وجبل الزاوية بصفة خاصة، نفّذتها أجهزة النظام ـ وحرصت على تسريب أشرطتها، والإبقاء على جثث ضحاياها، بل وتعمّدت ترك شهود عيان يسردون أهوالها ـ لكي تنقلب إلى مادة تحريض موثقة، تُلهب النفوس وتدفع الناس إلى حمل السلاح وطلب الثأر.

المستوى الثاني، العجيب والمحزن، من هذا الطراز في "الأرباح"، هو ذاك الذي يكسبه النظام من طرف غير منتظَر، أو بالأحرى لا يُنتظَر منه ـ في المنطق البسيط، على الأقلّ ـ إلا أن يُلحق بالنظام الخسائر، لا أن يُكسبه المغانم. هذا الطرف هو بعض شرائح "المعارضة" السورية، التي سرعان ما انقضت على حكاية تسلّح أفراد من المواطنين، فاعتبرت أنهم حرفوا الانتفاضة عن مسارها، بل خانوا مبدأ السلمية والنضال بالصدور العارية المفتوحة وحدها. هؤلاء انتظروا من المواطن السوري أن يبقى في حال ملائكية طهرانية مطلقة، مكتوف اليدين، نقيّ المشاعر، طيب القلب... وهو، مثلاً، يدخل إلى بيته فيبصر ابنته مغتصبة، وطفله قتيلاً مشوّه الجثة، وزوجته مصلوبة على نافذة، وجدران بيته كُتبت عليها عبارة "إما الأسد أو لا أحد"!

طراز ثانٍ من "الأرباح" يدور حول احتمالات الحرب الطائفية، وخاصة بين غالبية السنّة في صفّ، وغالبية الأقليات المذهبية والدينية في صفّ آخر؛ بحيث يبدو النظام حامي الأقليات وضامن حقوقها وحافظ وجودها من الانقراض، وتبدو الانتفاضة في موقع الطرف النقيض الذي لن يستأثر بسورية ويلتهمها لقمة سائغة فحسب، بل سيمارس فيها صنوف "التطهير" المذهبي والعرقي. ليس هنا المقام المناسب للخوض في تفاصيل هذه المسألة، الشائكة المعقدة التي لا يجوز اختزالها إلى صياغات تبسيطية شعبوية، ولكن لا مناص هنا أيضاً من العودة إلى ذلك المواطن السوري الذي يُراد منه أن يكون أقرب إلى الملاك في مشاعره، بصدد مسؤولية بعض أبناء الطائفة العلوية عن فظائع النظام. فإذا زلّ لسانه هنا، أو عبّر عن حسّ طائفي بالفعل ـ مرفوض ومدان لا ريب، ولكنه ليس بكثير على بشر من لحم ودمّ ـ فإنّ الطامة الكبرى تكون قد وقعت، وصارت الحرب الأهلية على الأبواب، قاب قوسين أو أدنى!

هنا أيضاً، أن يصدر هذا السلوك الغوغائي، الديماغوجي التضليلي بامتياز في الواقع، عن دوائر النظام وأجهزته وأشياعه، ليس داخل سورية فحسب، بل خارجها أيضاً؛ أمر لا يدعو إلى كبير استغراب، إذْ أنّ عدم صدوره هو الغريب العجيب. ولكن أن يصدر عن بعض أطراف "المعارضة"، بصرف النظر عن خلفيات القائل الطائفية أو الدينية، اتكاء على وقائع فردية معزولة، تلقائية أو غريزية تخصّ العلاقة بين الفعل وردّ الفعل، أمر يصبّ المياه في طواحين النظام، بل يُكسبه مغنماً من حيث لا يحتسب مهندسو إشعال الحرائق الطائفية!

وليس جديداً التشديد على أنّ النظام طوّر طرائق عديدة في تنفيذ هذا الخيار الخبيث، وتعمّد وضعه ضمن سياسة أعرض ذات أغراض داخلية وخارجية، تمتزج فيها عناصر إخافة المواطنين من كوابيس حرب أهلية بين الطوائف والمدن والبلدات والقرى، وإخافة المواطنين من بعضهم البعض، وإخافة الخارج الإقليمي والدولي من مغبّة ما ينتظر سورية من أخطار التقسيم والتفتت. ولقد حدث أن تنطح لترهيبنا، نحن السوريين، أشقاء عرب "ممانعون" و"مقاومون" ذرفوا دموع التماسيح على استقر سورية ووحدتها الوطنية، حتى كاد البعض منهم أن يطالبنا بتأجيل الانتفاضة بضع سنوات... حتى تنقضي الأخطار المحدقة ببلدنا وشعبنا! وبالطبع، لم نعدم "أخصائياً" عبقرياً مثل الباحث الأمريكي جوشوا لانديس، المطبّل للنظام على نحو تعجز عنه أبواق السلطة ذاتها، يحذّر من أنّ سورية لم تكن موحّدة في أيّ يوم، وأنّ انقسامها إلى طوائف وإثنيات ناجم عن تشرذم حدودها بين الدول!

طراز ثالث من "الأرباح" هو ذاك الذي يتساءل عن السبب في تماسك مؤسسات النظام حتى الساعة، وعدم وقوع انشقاقات دراماتيكية على مستوى عالٍ في مختلف أجهزة السلطة، المدنية أو الحزبية أو العسكرية أو السياسية. الجاهل بطبيعة النظام السوري يُعذَر جزئياً، حين تفوته حقيقة أنّ أي انشقاق لمسؤول كبير سوف يستتبع قيام الأجهزة بنشر غسيله القذر على الملأ، لأنّ الغالبية الساحقة من هؤلاء هم لصوص فاسدون، أجراء صغار أو كبار عند شبكة المافيا التي تنهب سورية منذ أربعة عقود ونيف. أمّا ابن البلد، السوري، سليل هذا الفريق أو ذاك في "المعارضة"، فكيف للمرء أن يعذره إذا اعتبر أنّ غياب الانشقاقات الكبرى هو الدليل على تماسك النظام؟ ومنذا الذي يمكن أن ينشقّ، في نهاية المطاف، إذا كان أمره مستوراً وهو منضوٍ صامت تحت "خيمة" النظام، في حين أنّ أولى نتائج انشقاقه سوف تكون افتضاح موبقاته جمعاء؟

طراز رابع يكسبه النظام من تلك الحماية الخاصة التي تمتّع بها على الدوام، ويتمتع بها اليوم أيضاً، المعلَنة بالنسبة إلى دول مثل إيران وروسيا والصين، والمبطنة بالنسبة إلى دول مثل إسرائيل والولايات المتحدة ومعظم دول الإتحاد الأوروبي. صحيح أنّ البعض من الحماة هؤلاء لا يتورّع عن رفع وتائر الضغط اللفظي على النظام، وتشديد العقوبات الاقتصادية على رجاله؛ إلا أنّ الثابت حتى الساعة هو اليقين بأنّ نظام بشار الأسد، بوصفه نسخة عن نظام أبيه حافظ الأسد، هو أهون الشرور التي يمكن أن يسفر عنها مستقبل سورية، بل هو الشرّ الأفضل كما برهنت تجربة 42 سنة. المصيبة ليست هنا، لأنّ السذّج أو الأتباع هم وحدهم الذين ينتظرون خير سورية من الجهات ذاتها التي ساندت نظام الاستبداد والفساد؛ بل في أنّ بعض أطراف "المعارضة" يأخذ على أطراف أخرى أنها تنوي الدخول إلى دمشق، على ظهر دبابة أمريكية (الأمر الذي يوحي، ضمناً، أنه لا مشكلة في الدخول على ظهر دبابة إيرانية، مثلاً!).

هذه، وسواها، "أرباح" لا تغادر نطاق الأضاليل، اقتات عليها النظام طيلة الأشهر الماضية، وسيفعل بعض الوقت أيضاً؛ إلى حين، قصير الأجل غنيّ عن القول، فالضلالة تذهب بريح المضلِّل، ما دامت لا تجد ضالتها في مضلَّل. ليست سورية في وضع عالق، وثمة حصيلة يومية لشعب غالب إزاء نظام مغلوب، والميزان للأبقى، الغالب. الكثير فات، ولم يتبقّ إلا القليل.

الأحد، 11 مارس 2012

سعيكم غير مشكور.. مجدداً!

إذا كان النظام السوري، خصم الانتفاضة وعدوّها الأوّل، يتكالب على أبنائها بالحديد والنار والأسلحة الفتاكة كافة، فإنّ بعض "أصدقاء" الانتفاضة، هنا وهناك في العالم، يتكالبون عليها بدورهم، تحت لافتات شتى فضفاضة، تزعم تأييدها، وتحثّ علىدعمها مادياً وسياسياً وعسكرياً؛ لكنها، في الحصيلة الفعلية، تنتهي إلى النقيض، فلا تخدم الحراك الشعبي، بقدر ما تصبّ في مصلحة النظام. هذه صداقة تدسّ السمّ في الدسم، كما يقول التعبير الشهير، عن سابق قصد وتصميم، وعن نفاق وتكلف؛ فلا هي تصدق مع الشعب وانتفاضته، أياً كانت مستويات الصدق المنتظَرة أو المرجوّة؛ ولا هي تحول دون استغلال النظام لها بما يجعل القاتل ضحية.

مؤخراً، تلقى الرئيس الأمريكي باراك أوباما رسالة مفتوحة، كانت وراء تدبيجها والتوقيع عليها اثنتان من المؤسسات الأبرز للمحافظين الجدد في أمريكا: "مبادرة السياسة الخارجية"، التي تزعم الدفاع عن قيادة أمريكية أولى، مسلّحة وأقرب إلى دور الشرطي الكوني، للعالم المعاصر؛ و"مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات"، التي تأسست بعد هجمات 11/9/2001، بهدف "الدفاع عن الأمم الحرّة في وجه أعدائها". والرسالة حملت تواقيع 56 من "خبراء السياسة الخارجية ومسؤولين سابقين في حكومة الولايات المتحدة"، كما عرّفوا عن أنفسهم؛ بينهم كارل روف، المستشار السابق في إدارة جورج بوش الابن، ومهندس حملاته الانتخابية؛ جيمس ووزلي، المدير الأسبق لوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية؛ بول بريمر، الحاكم الأمريكي للعراق بعد غزو 2003؛ وروبرت مكفارلين، مستشار الأمن القومي في عهد رونالد ريغان.

بين أصحاب التواقيع، أيضاً، ثلة من عتاة المحافظين الجدد، أمثال جون بودوريتز، محرر "كومنتري"، الشهرية الأعلى ولاء لليمين الصهيوني؛ دانييلا بليتكا، نائبة رئيس دراسات السياسة الخارجية والدفاع في المؤسسة اليمينية الأعرق American Enterprise Institute؛ وليام كريستول، نجل إرفنغ كريستول، الأب الروحي لفلسفة المحافظين الجدد، ومؤسس مجلة الـ "ويكلي ستاندارد" بتمويل سخيّ من المياردير اليهودي الشهير روبرت مردوخ؛ وإليزابيث شيني، ابنة ديك شيني، نائب الرئيس الأمريكي الأسبق، وإحدى أبرز صقور الحزب الجمهوري. وليس لهذه اللائحة أن تكتمل (أو تتكامل، بالأحرى) إلا إذا كان في عدادها أناس من أصول عربية وسورية: خيري أباظة، عمار عبد الحميد، حسين عبد الحسين، فؤاد عجمي، توني بدران، خولة يوسف، ورضوان زيادة (بالترتيب الأبجدي اللاتيني).

الرسالة تحثّ على القيام بخطوات أشدّ فعالية لمنع النظام السوري من الاستمرار في ارتكاب الفظائع بحقّ المدنيين السوريين، كما تطالب بفرض "مناطق آمنة"، وأخرى "محظورة الدخول" على جيش النظام حول حمص وإدلب وسواها من المناطق المهددة، وتدعو إلى التواصل مع "الجيش السوري الحرّ" بالتنسيق مع "الحلفاء" في المنطقة، وتزويده بنطاق تامّ من المساعدة، بما في ذلك وسائل الدفاع عن النفس. في الإجراءات الأخرى، تحثّ الرسالة على تنسيق أمريكي أفضل مع "مجموعات المعارضة السياسية"، وتزويدها بتكنولوجيات الاتصال المأمونة، بما "يساعد في تحسين قدرتها على التحضير لسورية ما بعد الأسد"؛ وتناشد الكونغرس الأمريكي فرض عقوبات عسكرية شديدة على "الحكومة السورية"، خاصة في قطاعات الطاقة والمصارف والتوريد.

فما الذي تريده الانتفاضة، أكثر؟ لم يتبقّ سوى قيام الموقّعين بامتطاء دبابة أمريكية (حسب الاستعارة العتيقة المكرورة، التي يلوكها البعض من قبيل الإدمان الصرف، أو العوز اللفظي)، واقتحام دمشق العاصمة من أوسع بوّاباتها، والمرابطة أمام قصر الروضة، أو الصعود حتى قصر قاسيون، واقتياد بشار الأسد إلى محكمة الجنايات الدولية، بعد رفع علم الاستقلال السوري بالطبع! وكيف للمرء، بعد قراءة رسالة مثل هذه، أن يلوم ذلك الطراز الآخر من الحقّ الذي يُراد به الباطل وحده، الذي يدّعي الحرص على "مصلحة" الشعب السوري، ويستعيذ بالله من عواقب الحرب الأهلية، وتقسيم البلاد، وسقوط سورية لقمة سائغة في قبضة القوى الطامعة (وهذه تشمل الإمبريالية والاستعمار الجديد والصهيونية العالمية، دون أن تُسقط اتفاقيات سايكس ـ بيكو من الحساب)؟ هذه، بدورها، تقدّم للنظام خدمة مماثلة، إذْ ليس أسهل على أجهزته من توظيف دموع التماسيح، المنهمرة تباكياً على حكم "مقاوِم" و"ممانع" يواجه تحالفاً باغياً!

بيد أنّ الشعب السوري أدرك، عن كثب وحصافة، طبائع الصراع مع النظام، وخارطة القوى، الصديقة والعدوّة والوسيطة، المشاركة في صناعة معادلاته، ومشاقّ هذا المشهد المعقد؛ وتبصّر فيها ساعة بساعة، وعايشها في كلّ نسق من أنساق الحراك، منذ طلائع الشهداء في درعا، وحتى الرقم الذي يقترب اليوم من العشرة آلاف شهيد. جوابه الأهمّ، حتى الساعة، هو تشديد الصفة السلمية والوطنية للانتفاضة، إذْ لم يسبق أن مرّ أسبوع لم تبلغ فيه التظاهرات معدّلاً أعلى من الذي سبقه. صحيح أنّ حصيلة التضحيات فادحة، إلا أنها لا تكفّ عن مراكمة الانتصارات اليومية، الصغير منها والكبير، في وجه نظام لم يردعه رادع، بقدر ما تلقى تطمينات صريحة، وأخرى مبطنة.

وتلك الأحابيل، التي تغوي بتجرّع السمّ في الدسم، لم تنطلِ على الشعب السوري طيلة سنة تقريباً؛ وما الشعار الشعبي الشائع "يا الله، ما إلنا غيرك يا الله!" سوى صياغة أخرى تقول لـ"أصدقاء" سورية الكَذَبة، على طرفَيْ المعادلة: سعيكم غير مشكور، و... حلّوا عنّا! 

الخميس، 8 مارس 2012

الذكرى الثامنة لانتفاضة 2004: المسألة الكردية وسلوك النعام

بين 15 آذار (مارس)، تاريخ الانطلاقة الأولى للانتفاضة السورية في دمشق العاصمة؛ و18 آذار، تاريخ انطلاقتها الكبرى ومحطتها النوعية الفاصلة، في درعا وسائر حوران؛ ثمة نهار 12 آذار، الذي يصادف الذكرى الثامنة لانتفاضة أسبق، شهدتها مدينة القامشلي، قبل أن تنتقل إلى مدن وبلدات وقرى في محافظة الحسكة، في الشمال الشرقي، ومناطق أخرى من سورية تتميز بأغلبية سكانية كردية. وقبل أن تسقط أولى تماثيل حافظ الأسد، هنا وهناك في أرجاء البلاد خلال أسابيع الانتفاضة، العام المنصرم، كان ثمة صورة نوعية فاصلة بدورها، تعود إلى ذلك النهار من سنة 2004، لعلّها الأولى في طرازها العلني الجسور طيلة 34 سنة من نظام "الحركة التصحيحية"، وتُظهر شاباً كردياً يطمس صورة للأسد الأب، مطبوعة على نصب حجري.

وقد  يجوز القول إنّ الصدفة وحدها شاءت أن تشهد مدينة القامشلي مواجهات أهلية عنيفة أشعلتها مباراة في كرة القدم بين نادٍ محلي معظم جمهوره من الأكراد المبتهجين لسقوط طاغية العراق، آنذاك؛ وناد ضيف قادم من دير الزور، معظم جمهوره ساخط لسقوط بغداد تحت الاحتلال الأمريكي، وربما سقوط صدّام حسين شخصياً لدى البعض. لكنّ الصدفة لم تكن، البتة، وراء قرار سلطات النظام الأمنية باللجوء على الفور إلى الهراوة الغليظة، والرصاص الحيّ في الواقع، فتصرّفت على نحو فاشيّ همجي، وكأنها تجتاح مدينة حماة مجدداً، ممثّلة هذه المرّة في القامشلي والحسكة وعامودا وديريك والدرباسية وعين العرب وعفرين؛ أو كأنها كانت تتقصد إعادة إنتاج دروس مجزرة حماة، بغية تلقينها للمواطنين الأكراد.

ولم يكن بالأمر الهيّن أن تُراق دماء الأبرياء دون أن تهيج المشاعر وتُستفزّ، ويستدعي الفعل ردّ فعل مماثل، أو أعنف؛ إذْ، أياً كانت الروايات حول مختلف السيناريوهات التي قادت إلى إطلاق شرارة الفتنة واشتعال اللهيب، فإنّ الحقيقة الإحصائية أشارت إلى أنّ الغالبية الساحقة من القتلى كانوا من المواطنين الكرد. كذلك قالت الحقائق اللاحقة أنّ المحافظة عموماً، ومدينة القامشلي بصفة خاصة، شهد تمريناً مبكراً على ما ستقترفه الفرقة الرابعة، بعد ثماني سنوات، في درعا ودوما والمعظمية وحرستا، وفي حماة وحمص ودير الزور وبانياس. كذلك سوف تشهد مرابطة ماهر الأسد، القائد الفعلي للفرقة، في الموقع ذاته الذي يذكّر بمرابطة أمثال رفعت الأسد وعلي حيدر وشفيق فياض، في تدمر وحماة وحلب، مطلع الثمانينيات!

كان جلياً أنّ قرار استخدام العنف على نطاق واسع انبثق، في جانب جوهري آخر، من أنّ النظام أخذ يبدي مقداراً إضافياً مفرطاً من العصبية تجاه أكراد سورية بعد احتلال العراق، وكأنّ رؤوس السلطة صاروا على قناعة راسخة بأنّ تلك المنطقة، وجماهير الكرد تحديداً، يمكن أن تنقلب إلى "حصان طروادة" قد تلجأ إليه إدارة الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن إذا شاءت قطع خطوة ملموسة وعملية لزعزعة النظام الحاكم في دمشق. وقبل أسابيع معدودات على اندلاع انتفاضة القامشلي، كان بشار الأسد قد أبلغ صحافيي "نيويورك تايمز" أنّ "الأظناء الـ41"، الذين أحيلوا إلى القضاء على خلفية حضور، أو بالأحرى نيّة حضور، ندوة حول قانون الطوارىء عُقدت في حلب، هم "أكراد يهدّدون الوحدة الوطنية"!

من جانب آخر، كانت محافظة الحسكة تنتمي إلى ما يُعرف في سورية باسم "المحافظات الشرقية"، التي ظلت على الدوام ضحية الإهمال وسوء الاهتمام والتجاهل من جانب السلطة المركزية، لسبب أوّل (غير معلَن، بالطبع) هو أنّ سكانها كانوا مدعاة ريبة: إمّا لأنهم من الأقليات، الكردية والسريانية والآشورية والأرمنية؛ أو لأنّ روابطهم مع الجار العراقي، وهي تاريخية وثقافية واجتماعية وعائلية، جعلتهم أقل تعاطفاً مع الحكومات البعثية، منذ سنة 1963 عموماً، وخلال عقود "الحركة التصحيحية" على وجه أخصّ. المفارقة أنّ تلك المحافظات تُعدّ "أهراء سورية"، إذْ تتمركز فيها ثروات البلاد ومواردها الأساسية: في الحسكة النفط و زراعة محاصيل ستراتيجية كاالحبوب والقطن، وفي دير الزور النفط وشريط نهر الفرات الحيوي، وفي الرقّة الكهرباء وسدّ الفرات.

وإذا كان التمييز البيّن قد وقع على مواطني تلك المحافظات، بالمقارنة مع محافظات الداخل والعاصمة؛ فإنّ التمييز الذي عانى، ويعاني، منه المواطنون الأكراد ظلّ أشدّ، وأبعد أثراً، وبلغ مستوى التجريد من الجنسية، والحرمان تالياً من حقوق التعليم وتسجيل الولادات الجديدة والسفر، إذا وضعنا جانباً التحريم شبه التامّ المفروض على الحقوق الثقافية والسياسية الأساسية. وعلى سبيل المثال، والمقارنة، هنالك في مدينة القامشلي مدارس خاصة تدرّس اللغة السريانية، وأخرى خاصة تدرّس اللغة الأرمنية، ولكنّ المواطن الكردي ليس ممنوعاً من هذا الحقّ الطبيعي فحسب، بل إنّ احتفال الأكراد بأبرز أعيادهم، النيروز، يحتاج إلى إذن خاص من السلطات الأمنية، ويحدث غالباً أن لا يُمنح ذلك الإذن، فيُحتفى بالعيد في البراري والجبال، على نحو شبه سرّي.

ولعلّ المشهد لا يكتمل إلا إذا وُضع، أوّلاً، في سياق ثلاث محطات فاصلة في تاريخ التمييز الرسمي الذي حاق بالمواطنين الأكراد في سورية، وفي مناطق "الجزيرة" تحديداً. المحطة الأولى تعود إلى سنة 1962، حين تقصدت السلطة إجراء إحصاء استثنائي مفتعل في محافظة الحسكة وحدها، أسفر عن تجريد نحو 200 ألف مواطن كردي من الجنسية، وتسجيلهم في القيود بصفة "أجنبي"؛ كما أسفر عن تجريد 80 ألفاً آخرين، ولكن دون تسجيلهم في القيود هذه المرّة، بحيث دخلت إلى سجلات الأحوال الشخصية تلك الصفة العجيبة: "المكتوم". وغنيّ عن القول إنّ ضحايا هذا الإجراء يعدّون بمئات الآلاف، وذروة مأساتهم اليومية تتمثّل في استحالة تسجيل الأطفال، والحرمان من التعليم في حالات عديدة لا يتمكن فيها أهل الطفل من الحصول على بطاقة التعريف المطلوبة. ولم يكن غريباً أن تكون "رشوة" الأسد الأبكر للمواطنين الكرد، بعد انخراطهم الواسع في الانتفاضة، هي مرسوم "منح" الجنسية إلى البعض منهم.

وفي سنة 1963، كان الملازم محمد طلب هلال، الذي سيرتقي بعدئذ سلّم المناصب العليا سريعاً، قد رفع إلى قيادة حزب البعث دراسته الشهيرة، ذات التوجه الشوفيني المكشوف، والعنصري الصريح أيضاً؛ التي اقترحت جملة إجراءات، حول كيفية "تذويب" الأكراد في "البوتقة" العربية! تأسيساً على بنود تلك الدراسة، جري تعريب أسماء عشرات القرى والبلدات الكردية، ومُنع الأكراد من تسجيل أطفالهم إذا اختاروا لهم أسماء كردية، كما مُنعوا من الطباعة باللغة الكردية، فضلاً عن مجموعة أخرى متنوعة من الإجراءات التمييزية الفاضحة. وأخيراً، في مطلع السبعينيات فرضت السلطات إقامة حزام عربي بطول 375 كم وعمق يترواح بين 10 - 15 كلم، على طول الحدود السورية التركية؛ جرى بموجبه ترحيل 120 ألف مواطن كردي من 332 قرية، وإحلال سكان "عرب" محلّهم، جرى جلبهم من القرى التي سيغمرها سدّ الفرات في محافظة الرقة، وبُنيت لهم قرى نموذجية، تحت رعاية مباشرة من القيادة القطرية لحزب البعث، ممثلة في شخص عبد الله الأحمد.

ولا يكتمل البعد الجدلي للمشهد إلا إذا توقف المرء عند مشكلات الحركة السياسية الكردية ذاتها، بأحزابها التي يعود أقدمها إلى سنة 1957، والتي تتجاوز اليوم الـ 15 حزباً ومجموعة، وتتناهبها الانشقاقات والخلافات والولاءات، لأسباب لا تبدو مفهومة دائماً. وليس سرّاً أنّ مكمن التناقض الكبير في سلوك بعض القيادات الكردية أنها كانت، من جهة أولى، تقبل التنسيق مع النظام السوري ضدّ النظام العراقي، خلال أحقاب العداء بين البعثيين في دمشق وبغداد؛ وكانت، من جهة ثانية، تشجّع طرح شعارات انفصالية غير واقعية وغير جادّة، ولا تقرّها كتلة الأحزاب والحركات الكردية، ولا يقبل بها الشارع الشعبي الكردي العريض. كذلك سكتت بعض القيادات عن، وأحياناً شجعت على، إشاعة خطاب كردي شوفيني مضادّ، إذا صحّ التعبير، ضدّ العرب؛ لا يصبّ الزيت على النار فحسب، بل يهدد أيضاً واقع انتماء الجماهير الكردية إلى الوطن في المقام الأوّل، ويمسّ وشائج ارتباطها بالمجتمع السوري العريض.

وهذه الحال تفسّر، أغلب الظنّ، تأخر القيادات الكردية التقليدية عن الانخراط في الحراك الشعبي منذ مظاهره الأبكر، واتخاذ البعض مواقف متحفظة من الانتفاضة؛ مقابل مسارعة الشرائح الشابة من أبناء الكرد إلى أخذ زمام المبادرة، وقيادة التظاهرات الحاشدة في القامشلي وعامودا والدرباسية وسواها. كما تفسّر الحال ذاتها ما تعانيه الاحزاب الكردية اليوم من تشرذم، يتجاوز الاختلاف الصحي إلى التنازع الضارّ، بعد تشكيل "المجلس الوطني الكردي" أواخر تشرين الأول (أكتوبر) الماضي: فلا هو حقق وحدة الصفّ الكردي، رغم أنه ضمّ غالبية واسعة من الأحزاب والتنسيقيات الشبابية الكردية؛ ولا هو عوّض عن انسحاب الكرد من هيئات المعارضة الثلاث، المجلس "الوطني" و"إعلان دمشق" و"هيئة التنسيق".

والحال أنّ أمور ترتيب البيت السياسي الكردي يجب أن تُترك للأحزاب والقوى الكردية ذاتها، وليس لأحد أن يمارس عليها وصاية من أي نوع، أياً كانت الدوافع المعلنة أو الكامنة. ومن حيث المبدأ، خير للانتفاضة السورية أن تنخرط فيها مكوّنات الشارع الكردي متحدة، أو متآلفة أو متحالفة أو متوافقة، استناداً إلى الصِيَغ الأنسب في ناظر الكرد وممثليهم؛ من أن تنخرط فيها مجزأة، متنازعة، متناحرة، قابلة على الدوام لخلق حال من الإحباط لدى الجماهير الكردية، ثمّ شارع الانتفاضة الشعبي عموماً، وهي الحال التي أخذ ينتقدها بصراحة العديد من النشطاء الكرد.

وبديهي، في هذا المقام، أنّ الأحزاب والقوى السياسية الكردية في سورية جزء لا يتجزأ من حركة الأحزاب والقوى السورية المطالبة بتغيير جوهري ديمقراطي في حياة البلاد، والمنخرطة في الانتفاضة على نحو أو أخر، بصرف النظر عن اجتهاداتها. وبديهي أيضاً أن بلوغ مرتبة أرقى في النضال من أجل إسقاط نظام الاستبداد والفساد سوف يشمل تثبيت المزيد من حقوق المواطن السوري، عربياً كان أم كردياً، وبصرف النظر عن خلفيته الإثنية أو الدينية أو المذهبية. وليست القوى الكردية غافلة عن هذه البديهيات، بل هي تعرفها وتؤمن بها، وعلى أساسها تتواجد وتنشط في قلب الحراك الديمقراطي السوري.

وليس لأي مشارك في الانتفاضة، فرداً كان أم حزباً أو مجلساً أو هيئة... الحقّ في أن يؤجل، فما بالك بأن يفرز أو يفصل، بين حقوق السوريين على اختلاف انتماءاتهم؛ لا سيما حقوق الأكراد المدنية والسياسية والثقافية، غنيّ عن القول. والتقارب في الذكرى، بين تواريخ 12 و15 و18 آذار، من القامشلي إلى دمشق إلى درعا، أشبه بمصادفة خير من ميعاد، تؤكد أنّ إنكار وجود مسألة كردية في سورية هو ضرب من دفن الرأس في الرمال؛ حيث لا يحتمل الزمن السوري الثمين الراهن، الموشك على حسم ساعة النصر، أيّ مقدار طفيف من ترجيح سلوك النعام!

الأحد، 4 مارس 2012

صحافة التبر وصحائف التراب

مارس بعض الصحافيين العرب رياضة فاضلة، حميدة تماماً، رغم أنها ليست البتة رائجة في السلوك العربي، هي النقد الذاتي، في صدد غياب الصحافة العربية عن التغطية الميدانية لوقائع الانتفاضة السورية. الزميل حازم الأمين، على سبيل المثال، اعتبر أنّ الغياب "فداحة"، وسؤاله "يلامس الإهانة أحياناً"، بالنظر إلى أنّ الصحافي العربي لم تتوفر له فرصة التغطية، في جانب يحتمل مقداراً من العذر، أو أنه استجاب إرادياً لقرار النظام السوري بمنع التغطية. في المقابل، يتابع الأمين: "لم يفعل غيرنا ذلك. فقد توجه إلى المدن السورية، وإلى أكثر النقاط سخونة عشرات من الصحافيين الغربيين الذين لا تمسّ سورية قضاياهم على نحو ما تمسّ قضايانا. وفي الوقت الذي كنا نقول إنهم يملكون حصانات تحميهم هناك لا نملكها، قضى منهم أربعة صحافيين وجرح آخرون".

والحال أنّ أمثال ماري كولفن، ريمي أوشليك، أنتوني شديد، إديت بوفييه، وليام دانييلس، بول كونروي، خافيير إسبينوسا، شون ماكالستر، راميتا نافائي، دوروثي بارفاز، صوفيا عمارة، وآخرين أقرب إلى الجنود المجهولين، بين مصوّر ومنتج وتقني؛ وضعوا سلامتهم الشخصية على المحكّ، فعلياً، لكي ينقلوا شذرات من الحقائق على الأرض. "الحصانة"، اعتماداً على الجنسية، لم تكن عامل ترجيح لصالح المغامِر كما اتضح، إذْ قُتل البعض بقذائف الفرقة الرابعة (كولفن وأوشليك)، وقضى البعض بسبب ملابسات التسلل (شديد، الذي جازف بركوب الخيل لعبور الحدود التركية ـ السورية، رغم أنه كان مصاباً بطراز من الربو ذي حساسية قاتلة ضدّ الخيل)، واعتُقل البعض الآخر في زنازين أجهزة النظام الأشدّ وحشية (بارفاز وماكالستر)، ونجح آخرون في مغادرة البلد بعون من كوادر الانتفاضة...

ومع تقدير المرء لرغبة عشرات الصحافيين العرب في تغطية الانتفاضة على نحو يليق بالتضحيات الجسام التي بذلها ويبذلها الشعب السوري، وبالتاريخ اليومي الملحمي المجيد الذي تصنعه مئات القرى والبلدات والمدن؛ فإنّ الغياب العربي له أسباب أخرى، ذاتية وموضوعية، تُبقي الرغبة في إسارها الرغبوي الصرف، وتضع من العوائق ما يكفي لكي تتعثر الخطوة عند المتر الأخير قبيل عبور الحدود خلسة، لكي لا يقول المرء بأسى: حتى قبل أن تُخطى الخطوة! صحيح، كذلك، أنّ الصحافي العربي قد يلقى من أجهزة النظام السوري تنكيلاً أقسى من ذاك الذي يُخصص للصحافي الأجنبي، وليس من المرجح أن ترسل له بلاده طائرة طبية خاصة تنقله معززاً مكرّماً، أو أن ينتظر رئيس الدولة مواطنه الصحافي نصف ساعة على مهبط المطار لكي يحظى منه بمصافحة يتيمة، إذا شاء الأخير منحها أصلاً!

الصحيح، من جانب آخر، هو أنّ الغالبية الساحقة من الصحافيين العرب لم يتعودوا على هذه السوية الخاصة من حسّ المغامرة، حيث يمتزج الأداء العالي بالمجازفة القصوى، والضمير الحيّ بالعقل المتيقظ، والانحياز الأخلاقي بالموضوعية المهنية. وحين تتوفر استثناءات، وهي لامعة حقاً وجديرة بالإعجاب، فإنها في الأغلب لا تكسر القاعدة العامة؛ كما يحدث أنّ يكون ميدان التغطية محفوفاً بمخاطر أخرى سياسية وعقائدية، غير تلك الأمنية: كأنْ يجد أحدهم أن تغطية جرائم معمّر القذافي في ليبيا، لا تتناقض مع مناهضة تدخّل الحلف الأطلسي هناك؛ ولكنه يتحرّج من تغطية جرائم بشار وماهر الأسد في بابا عمرو، لأنه من أنصار "حزب الله".

ذلك لا يعني غياب "ثقافة حربجية"، وعذراً لهذا النحت الخشن، قديمة ومتأصلة لدى العديد من الصحافيين العرب، مُورست وتُمارس عن يقين وانخراط تارة، وعن تملّق وزلفى تارة أخرى، وإنْ ظلت في معظم الأطوار واهية الصلة بميزان الذهب الذي يفرز الفوارق بين الحقيقة والضلال، وبين صحائف التبر وصحائف التراب. ولعلّ الكثيرين يتذكرون "ثقافة" لطيف نصيف جاسم، وزير الإعلام العراقي الأسبق، الذي كان يسوق الصحافيين العرب، والكتّاب من ضيوف مهرجان "المربد" أيضاً، إلى  خطوط القتال العراقية ـ الإيرانية، وهم في الثياب العسكرية؛ وكيف، للمفارقة، أنّ البعض منهم كان يتسابق على التقاط صور "تذكارية" أمام دبابة أو مدفع، يشفع بها ما سيدبج من "تغطيات".

وأمّا الطرافة السوداء، فهي أنّ الكثيرين من أبطال تلك الصور انقلبوا رأساً على عقب بعد حرب الخليج الثانية، أي بعد انقلاب العراق من بئر نفط إلى بئر فاقة وجوع وحصار، فتباروا في شتم البلد والشعب والحضارة قبل ـ وأحياناً دون الإحساس بالحاجة إلى ـ شتم النظام نفسه. التتمة الأنكى، إذْ لا بدّ من هذه أيضاً، أنّ بعض البعض عاد إلى حاضنة النظام تائباً، حين اخترعت الأمم المتحدة حكاية "العقوبات الذكية"، وصار في الوسع  التكسب مجدداً، عبر "بونات" النفط التي افتُضحت قوائمها بعدئذ. وصدِّقوا أنّ جمهرة من هؤلاء هم اليوم أنصار النظام السوري، على سبيل "الممانعة" كما يعلنون، ولكن لأنّ لهم في السرّ صرّة من "المال الطاهر" الشهير، دون سواه!

وهكذا، أي مشاعر يمكن أن تتناهب الصحافي العربي الذي يقرأ، اليوم، شهادات بوفييه وكونروي وإسبينوسا وماكالستر، أو الدقائق الأخيرة من حياة شديد كما رواها زميله المصوّر تايلور هيكس؟ سؤال أهمّ: ما الذي سيتغيّر في باطن ضميره غداً، عندما تتكرر بابا عمرو في أيّ، وكلّ، بقعة سورية؟

الخميس، 1 مارس 2012

الانتفاضة السورية: مكتوفة في اليمّ.. ممنوعة من البلل!

أصدقاء الشعب السوري ـ ونقصد الخلّص منهم، وليس المخادعين المنافقين الكذبة ـ صاروا اليوم يستشعرون من المخاطر على مآلات الانتفاضة، إذْ توشك على إتمام سنة من عمرها، أكثر ممّا كانت عليه مخاوفهم في الأشهر الأولى. وثمة، في تسعة أعشار ما يسوقونه من لائحة أخطاء أو عثرات أو حتى انحرافات، بعض صواب المنطق السليم؛ الذي، في المقابل، لا يظلّ سليماً تماماً إلا إذا خضع لتمحيص جدلي لكلّ تفصيل في بنود اللائحة، بحيث يتحقق الحدّ الأدنى من ميزان الإنصاف: ما للانتفاضة، وما عليها، سواء بسواء. وليست مفارقة، لأنها أصلاً روح التوازن الجدلي وفضيلته الكبرى، أنّ بعض ما يُساق على سبيل ملامة الانتفاضة، يمكن في مستوى آخر من النقاش أن ينقلب إلى مديح لها؛ والعكس قابل، أيضاً، للتحقق والصلاحية.

الانطباع الأبرز، والأكثر شيوعاً في الواقع، حتى إذا كان التصريح عن محتواه الفعلي مدعاة حرج أو تهرّب أو نفي، هو ذاك الذي يريد من الانتفاضة أن تكون مثالاً رفيعاً أعلى يندر أن عرفه التاريخ، أو لعلّه الأمثولة النضالية والأخلاقية والسياسية والاجتماعية والثقافية... التي لم تعرفها أمّة من الأمم، ويتوجّب على الشعب السوري أن يجترحها اليوم، وأن يدخل بها التاريخ من أوسع أبوابه (من أشدّها دموية وهمجية وعنفاً وجريمة، أيضاً!). لا أحد، بالطبع، سيقرّ بأنّ هذا هو مطلبه من الانتفاضة السورية، إذْ من الجليّ أنّ الأمر سيبدو أشبه بطلب المستحيل، وهنا وجه الحرج؛ أو حتى طلب مستحيلٍ مفصّل تفصيلاً، على قياس الأماني والآمال، وليس استناداً إلى الواقع الفعلي على الأرض، وهنا وجه التهرّب من التصريح، أو نفيه من الأساس.

بيد أنّ الانتفاضة فعل شعبي معقد، أكثر بكثير مما يظنّ الأصدقاء، وأشدّ انطواء على سيرورات شتى مركبة، لا ينفع معها تطبيق أيّ مبدأ مانوي، لا يرى سوى الأبيض أو الأسود، السلمية أو العسكرة، الاستقلال عن القوى الخارجية أو الارتهان لها، والتمسك بسراط الوحدة الوطنية أو الانحراف نحو تخندقات طائفية أو دينية أو إثنية أو مناطقية. ولأنها فعل شعبي معقد، فهي بالتالي فعل اجتماعي بامتياز، تتجاوز تعقيداته كلّ، وأية، "خطاطة" مثالية تمّت تنقيتها من الأوشاب جميعها؛ كما يجوز القول إنها فعل يمكن أن ينقض، في كثير أو قليل، أية "وصفة" مسبقة الصنع، مسبقة التصوّر، مسبقة التخيّل، خالية تماماً من العثرات والأخطاء والانحرافات. هذه انتفاضة بنت الطوبى وليست بنت الواقع في أية حال، وطوباويتها ليست عصية على الانكشاف خلال برهة وجيزة، واختبارات بسيطة؛ فكيف إذا اختُبرت طيلة سنة كاملة، وكيف إذا استُخدمت في الاختبار كلّ صنوف الأسلحة، من الدبابة إلى الحوامة فالقاذفة والزورق الحربي، مروراً براجمة الصواريخ والمدفعية الثقيلة والقنابل الانشطارية والمسمارية والغازات المحرّمة دولياً؟

كذلك فإنّ الانتفاضة، بوصفها فعلاً شعبياً اجتماعياً، على وجه الدقة، ليست ثمرة توافق مطلق في المصالح والغايات والأساليب والعقائد، حتى إذا كانت شعاراتها الأبرز (إسقاط النظام، بعد الاقتناع نهائياً بأنّ المركّب الأمني ـ العسكري ـ الاستثماري الحاكم ليس راغباً في الإصلاح الحقيقي، وليس قادراً عليه أصلاً؛ والتطلع إلى سورية حرّة ديمقراطية تعددية مدنية، لكلّ أبنائها، على اختلاف انتماءاتهم العقائدية أو الدينية أو الإثنية)، تحظى بإجماع شبه مطلق. ولهذا فإنّ التظاهرة الواحدة يمكن أن تضمّ اليساري واليميني والإسلامي والمسيحي والليبرالي؛ المسيّس المنتمي مثل المستقلّ الوافد حديثاً إلى السياسة؛ المعتدل أو المتشدد أو الوسطي، المؤمن بسلمية الانتفاضة، مثل ذاك المطالب بحرب العصابات؛ والمقتنع بأنّ الولايات المتحدة تتآمر علينا، مثل ذاك الذي يعتبرها خشبة نجاة...

هذا هو مجتمع الانتفاضة الفعلي، ولا تنفع أية كيمياء طوباوية في تنقيته إلى صبغة واحدة (بافتراض أنّ التاريخ نجح، ذات يوم، في ابتكار تلك الكيمياء!)؛ كما لا يجوز فرزه إلى سلسلة "ألوان"، طاغية غامقة هنا، أو كامدة فاتحة هناك؛ على نحو يختزل الزخم الشعبي المعقد ـ والمركّب جداً، كما يتوجب التشديد دائماً ـ إلى "فئات" و"شوارع" و"أطراف"... يخضع، كلّ منها، للقاعدة المانوية ذاتها، التي تضع الأبيض على نقيض الأسود، والمؤمن بسلمية الانتفاضة في وجه حامل الكلاشنيكوف. وسواء كان هذا على خطأ، أو ذاك على صواب، أو العكس، أو كانت معادلة الاتفاق أو الاختلاف في منزلة بين منزلتين، فإنّ القواعد المانوية هي أسوأ معايير وزن الوطنية عند زيد أو عمرو، وأقلّها اكتراثاً بروح الجدل، خاصة إذا نُظر إلى الانتفاضة على نحو مجرّد تماماً، بمعزل عن الزمن وتحولاته، ودون وضع سياسات النظام الدفاعية في قلب المعادلة، وفي كفّة الميزان.

مَنْ، بين أصدقاء الانتفاضة المتخوفين اليوم من تطوراتها، ينكر أن لجوء البعض إلى حمل السلاح، ودفع أثمان باهظة لشرائه (الطلقة تكلف 180 ليرة سورية، فما بالك بالبندقية أو المسدس)، إنما يتمّ على سبيل الدفاع عن النفس، وعن العرض والأطفال والنساء والشيوخ، وليس لقتال مجرمي الفرقة الرابعة والحرس الجمهوري؟ ومَن الذي يتجاسر فيمنح نفسه رفاه وعظ البشر بأن لا يدافعوا عن أنفسهم، ضدّ بغاة همج وحوش كاسرة، بوسائل أخرى غير الصدور العارية، والهتافات الوطنية، والشعارات السلمية؟ ومنذا الذي يتناسى أنّ هذا الخيار لم يولد مع الانتفاضة، ساعة انطلاقتها، بل كان نتيجة منطقية لتغوّل النظام، وانتقاله (المنهجي، المنظّم، والمخطط له) من معدلّ عشرة شهداء في اليوم، إلى عشرين، فثلاثين، فأربعين... وصولاً إلى تخطي رقم الـ100 والـ200 والـ300؟

وفي الأصل، ألم يكن دفع الانتفاضة السلمية إلى هذا الشكل أو ذاك من التسلح، هو أحد الخيارات الدفاعية للنظام، على المستوى الستراتيجي وليس التكتيكي؛ لكي يثبت نظريته حول "العصابات المسلحة"، ولكي يُرعب الغرب من مستقبل التغيير الديمقراطي؟ والعنف المضادّ، حتى بالمعنى الذي تناوله مناضل منظّر مثل فرانز فانون بصدد حرب التحرير في الجزائر، هل هو خيار أحادي الجانب، تلجأ إليه حركات المقاومة الشعبية مباشرة، وليس على سبيل إقامة توازن ـ عسكري أيضاً، مثل ذاك السياسي ـ مع الطغمة الدكتاتورية؟ صحيح أنّ المرء كان يتمنى لو لم يذهب النظام إلى تلك المرحلة الوحشية من استخدام العنف، وبالتالي لم يُجبر البعض على حمل السلاح دفاعاً عن النفس؛ ولكن كيف يمكن لأي ضمير أن يُلقي بالمواطن السوري الأعزل في اليمّ، مكتوفاً، وأن يطلب منه أن لا يبتلّ بالماء؟ وهل البلل هنا، في محصلته المنطقية الصرفة، حيث لا يملك المكتوف حولاً ولا طولاً، بمثابة انحراف عن أخلاق... السباحة؟

إلى جانب مسائل العسكرة والتسلح، يثير الكثيرون من أصدقاء الانتفاضة مشكلة تشرذم المعارضة السورية، بما يوحي أنها لو توحدت فإنّ النظام سيضعف أكثر، أو تخور قواه؛ وأنّ الانتفاضة، في المقابل، سوف يشتدّ عودها، وترتقي، وتتقدّم أكثر في برامجها السياسية والنضالية. صحيح، في القياس المنطقي المبسط، أنّ الوحدة خير من الانقسام، ولكن هل كانت المعارضة/ المعارضات السورية هي مُطْلِقة الانتفاضة في المقام الأوّل، لكي تنقلب إلى رافعة لها اليوم؟ وهل قيادة الانتفاضة الفعلية هي المجلس الوطني السوري، بمحاسنه ومساوئه، سواء على مستوى هيئاته، أم على مستوى الأفراد فيه، وخاصة "نجوم" الفضائيات وفرسان معارك الديكة واختيال الطواويس؟ الجواب هو النفي، بالطبع، وغالبية المعارضين هرولوا خلف الانتفاضة عند انطلاقتها، فمنهم من لحق بها وانضمّ إلى ركبها، صادقاً أو كاذباً؛ ومنهم من تعثر، أو تقطعت به السبل، فتخلّف، ولكنه ركب الموجة مع ذلك، لأنه رفض أن يقرّ بعجزه.

ثمّ، في جانب آخر جدلي بدوره، لماذا يتوجب أن تتوحد المعارضة/ المعارضات بالمعنى التنظيمي والمؤسساتي، فتتطابق أساليب عملها، وتتماثل خياراتها التكتيكية، وتتوحد مواقفها... إذا كانت لتوّها متفقة ـ إنْ صدقت، بالطبع ـ حول ضرورة التغيير الديمقراطي، سواء عن طريق إسقاط النظام، أو سقوطه من تلقاء ذاته؟ وما الفارق، في نهاية المطاف الفعلي، بين مجموعة معارضة مقرّبة من تركيا، أو الولايات المتحدة، أو فرنسا، أو بريطانيا؛ وأخرى مقرّبة من إيران، أو روسيا، أو الصين؟ ومتى كان لهذا التقرّب، على الجانبين، أثر فعلي مباشر في ضبط إيقاع الحراك الشعبي عند ذراه الكبرى، كما حين تظاهر ستة ملايين سوري في نهار واحد، ذات يوم غير بعيد؟ هنا، أيضاً، يُراد للانتفاضة السورية أن تكون صافية نقية طاهرة، تقول ـ بصوت واحد موحد متحد، كأنه ببغاء ـ لا لأمريكا! لا لروسيا! لا لإيران! لا لمجلس الأمن الدولي! لا للجامعة العربية!

المجتمع ليس هكذا، غني عن القول، والسياسة أبعد ما تكون عن هذه الطهارة الزائفة، والتعددية الواسعة التي تميّز الحراك الشعبي تنتج بدورها تعددية واسعة في الأهداف والرؤى والأساليب، حيث يمكن للمصالح أن تتقاطع، وللعقائد أن تتنازع. هذه هي سنّة الحياة، وليس أهل الانتفاضة أقلّ ذكاء من أهل النظام في استيعاب طبائع الاتفاق والاختلاف، وحسن استغلالها، واستثمارها؛ وكذلك، وهو الأهمّ ربما، اختبارها على الأرض فعلياً، في غمرة التضحيات الجسام والشهداء الذين يتقاطرون بالعشرات، كلّ يوم. السلاح معضلة، والتجييش الطائفي والتخويف من الحرب الأهلية معضلة أخرى، وهزال الهيئات التي تزعم القيادة معضلة ثالثة، وتعليق الآمال على أعداء النظام اليوم/ أصدقائه حتى الأمس القريب معضلة رابعة، وموقع سورية الجيو ـ سياسي الخاصّ والحساس معضلة خامسة... ولكن، مَنْ كان ينتظر لانتفاضة في هذا البلد بالذات، ضدّ هذا النظام تحديداً، وسط هذه التعقيدات كلها، أن تسير كما السكين في قالب زبدة؟

تبقى تذكرة بسيطة بأنّ الذين اعتصموا أمام السفارة الليبية في دمشق، قبل سنة ونيف، ثمّ تظاهروا من قلب المسجد الأموي، قبل أن تعمّد درعا الانتفاضة بدماء أولى الشهداء، ويواصلون الانتصار على آلة النظام في كلّ دقيقة، وليس ساعة بساعة... هؤلاء انتفضوا قبل تشكيل المجلس الوطني، وقبل سفسطة لاءات هيئة التنسيق، واختلاط حابل المعارضات الخارجية بنابل استطالاتها لدى المعارضات الداخلية، وتعاظم النقيق والنعيب والنعيق حول "توسطات" السياسة و"إصلاح" النظام دون تقويض أركانه، والفوارق بين "التفاوض" و"الحوار"، و"طائفية" الجيش الحرّ، وصيانة "سيادة" الدولة...

هو زبد يذهب جفاء كلّ يوم، لانّ دماء الشهداء أثقل وزناً، وأبلغ رسالة، وأبعد أثراً؛ وجدير بأصدقاء الانتفاضة السورية أنّ يتبصروا ما الذي يتبقى لينفع السوريين في الأرض... وفي الجوار، طولاً وعرضاً، أيضاً!