وعزّ الشرق أوّله دمشق

الأحد، 29 أبريل 2012

نزار قباني و"حشيش" الديمقراطية

في مطلع شباط (فبراير) الماضي استذكرتُ الشاعر السوري الكبير  نزار قباني (1923 ـ 1998)، حين افتتح بشار الجعفري، مندوب النظام السوري في الأمم المتحدة، كلمته أمام مجلس الأمن الدولي ببيت من قباني، على سبيل الإيحاء بأنّ شعر الراحل ينتصر لدمشق (رمز النظام، في رأي مندوب النظام)، ضدّ غدر العرب وجحود العروبة. وكما هو معروف، للجعفري نفسه، كانت القصيدة موضوع الاقتباس، "من مفكرة عاشق دمشقي"، مناهضة لأنظمة الطغيان والفساد العربية عموماً، ولحكم حزب البعث بصفة خاصة: "يا شام، أين هما عينا معاويةٍ/ وأين من زحموا بالمنكب الشهبا/ فلا خيول بني حمدان راقصةٌ/ زهواً، ولا المتنبي مالئٌ حلبا/ وقبر خالد في حمصٍ نلامسه/ فيرجف القبر من زوّاره غضبا"...

اليوم، في ذكرى رحيل قباني (30 نيسان/ أبريل)، أعود إلى قصيدة "خبز وحشيش وقمر"، وإلى واقعة اقترنت بها، ذات طابع سياسي وحكومي وبرلماني يعكس مناخات سورية في خمسينيات القرن الماضي. كذلك فإنه يحمل الكثير من الدلالات حول الماضي والحاضر، وربما استشراف المستقبل أيضاً، حيث يأمل السوريون أن تنقلهم هذه الانتفاضة العبقرية إلى حياة ديمقراطية سبق أن اختبروا بعض فضائلها، لا سيما على مستويات التسامح (الديني والسياسي والأخلاقي)، وحرّية الرأي، وفصل السلطات، وخصوصية التعبير الأدبي. والقصيدة، وهي هنا المثال على ذلك التسامح، كانت منعطفاً حاسماً في مسار قباني الشعري، والفكري ربما، لأنه بعدها اكتسب صفة الشاعر/ الناقد الاجتماعي، الراديكالي، الذي يقوّض في العمق، ويهدم ابتداء من الركائز.

لم يكن مستغرباً، إذاً، ان تثير القصيدة سخط المحافظين والمتدينين في المقام الأوّل (تماماً كما انتهت إليه حال جدّ الشاعر، الرائد المسرحي الكبير أبو خليل القباني)؛ إذْ لم يكن مألوفاً، البتة، أن تشهد مطالع خمسينيات القرن الماضي شاعراً سورياً، دمشقياً ومسلماً، يكتب التالي: "ما الذي عند السماء/ لكسالى ضعفاء/ يستحيلون إلى موتى إذا عاش القمر/ ويهزّون قبور الأولياء/ علّها ترزقهم رزّاً وأطفالاً، قبور الأولياء/ ويمدّون السجاجيد الأنيقات الطُرَر/ يتسلون بأفيون نسمّيه قدر/ وقضاء/ في بلادي.. في بلاد البسطاء". كانت القصيدة بمثابة منشور سياسي ـ اجتماعي، علني وشعري، جسور المعاني وفاتن اللغة، يدعو إلى الانعتاق من أغلال الإرث والدولة والقبيلة؛ فكيف إذا كان القائل موظفاً رفيعاً في السلك الدبلوماسي السوري، وأحد كبار العاملين في السفارة السورية في لندن؟

وهكذا، ولأنّ الحياة النيابية السورية كانت تتيح مساءلة الحكومة بحرّية، توجّه النائب مصطفى الزرقا (باسمه شخصياً، وبالنيابة عن كتلة نوّاب "الإخوان المسلمين" التي ينتمي إليها)، لمقابلة وزير الخارجية آنذاك، خالد العظم، فكان طبيعياً أن يأبى الأخير، وهو الليبرالي المخضرم، معاقبة قباني أو طرده من الوظيفة بسبب قصيدة، أياً كان محتواها. مارس الزرقا، بعدئذ، حقّه التالي: عقد جلسة نيابية لاستجواب الحكومة، ترأسها ناظم القدسي رئيس مجلس النوّاب، وحضرها صبري العسلي، رئيس مجلس الوزراء وزير الداخلية؛ وعبد الباقي نظام الدين، وزير الأشغال العامة؛ وفاخر كيالي، وزير الاقتصاد الوطني؛ وليون زمريا، وزير المالية؛ ومأمون الكزبري، وزير العدل. وألقى الزرقا، وكان أديباً ونحوياً وأستاذاً في كلية الشريعة بجامعة دمشق، خطبة عصماء ضدّ "رجل يمثلنا ويعرض صورة عنا في قصيدة داعرة فاجرة انحلالية"، و"تُظهر الشعب العربي في أقبح صورة"، و"تعرضها على أنظار الأجانب في صورة يقشعرّ لها بدن كل عربي يتحسس بالمروءة والكرامة".

وعلى ما يروي شمس الدين العجلاني، انتهت الجلسة دون اتخاذ توصية بإحالة قباني إلى لجنة التأديب، فتوجه الزرقا مجدداً إلى وزير الخارجية، الذي كان قد طلب من الأمين العام للوزارة موافاته بتقرير مفصّل عن ملفّ قباني الوظيفي (وليس الشعري، أو السياسي، أو الأمني!). جواب العظم سار هكذا: "يا حضرات النوّاب الأعزاء، أحبّ أن أصارحكم بأنّ وزارة الخارجية السورية فيها نزاران: نزار قباني الموظف، ونزار قباني الشاعر. أمّا نزار قباني الموظف، فملفّه أمامي، وهو ملفّ جيد ويثبت أنه من خيرة موظفي هذه الوزارة. أمّا نزار قباني الشاعر، فقد خلقه الله شاعراً، وأنا كوزير للخارجية لا سلطة لي عليه، ولا على شعره. فإذا كنتم تقولون إنه هجاكم بقصيدة، فيمكنكم أن تهجوه بقصيدة مضادة، وكفى الله المؤمنين شرّ القتال"!

والحال أنّ اتفاق المرء أو اختلافه مع موقف الزرقا، وتعاطفه مع قصيدة قباني أو رفضه لها، لا يطمس سلسلة الحقائق الجوهرية الأولى وراء هذه الحكاية: أنّ مجلة "الآداب" اللبنانية، التي نشرت القصيدة (وشاء رئيس تحريرها، الراحل الكبير سهيل إدريس، أن يجعلها افتتاحية المجلة!) لم تُمنع من دخول سورية، ولم تُصادَر بعد وقوع الإشكال؛ والنزاع بين الزرقا وقباني لم يُناقش في شعبة مخابرات، أو حسم الأمر فيه ضابط أمن أو ضابط رقيب؛ وأنّ النوّاب مارسوا حقهم في الاعتراض، والوزير المعنيّ مارس حقه في ردّ الاعتراض... وكفى الله المؤمنين شرّ القتال، في نهاية المطاف، تماماً كما عبّر العظم!

كان "الحشيش" ذاك ديمقراطياً، إذاً، فلم ينتهِ بالشاعر إلى الزنزانة، ولا إلى قانون الحسبة؛ وسطّر صفحة مضيئة، أخرى، في سجلّ سوري عريق... هيهات أن يرضي السوريون عن استئنافه بديلاً!

الجمعة، 27 أبريل 2012

واشنطن والنظام السوري: حقوق إنسان أم انتفاضة شعب؟

أعود ـ دون كلل أو ملل، لأنّ الحال تقتضي، في يقيني، هذه العودة ـ إلى السجال بأنّ حزمة الأسباب التي تكفلت بإطالة عمر النظام السوري يتصدّرها سبب مركزي، وجوهري، ينتج متتالية أسباب ذات ترابط عالٍ، بحكم تطابقها أو تقاطعها. ذلك السبب هو انّ الولايات المتحدة لم تحسم أمرها، بعد، بصدد قطع ما تبقى من شرايين تغذية (لها، غالباً، صفة المصل المؤقت)، تمدّ النظام بآجال بقاء، وأحياناً تشجّع لجوءه إلى تنفيذ هجومات مضادة، بين حين وآخر. في رأس المتتالية الناجمة يأتي الموقف الإسرائيلي، الحريص على تأجيل سقوط البيت الأسدي حتى ربع الساعة الأخير، الذي لا مناص بعده من التسليم بالمصير المحتوم؛ وكذلك الموقف الروسي، الذي لا مصلحة له في الحسم، بالطبع، ما دامت واشنطن ذاتها لا تحسم؛ ومثله الموقف الأوروبي، سواء على صعيد الاتحاد مجتمعاً، أو الدول فرادى؛ فضلاً عن مواقف الدول العربية الحليفة، التي تتقلّب سياساتها على النار الأمريكية الهادئة إياها، مع فارق التسخين اللفظي الذي يخاطب القول أكثر ممّا يقارب الفعل.

لا جديد يُضاف، اليوم، إلى سلسلة الاعتبارات التي تحكم هذه المعادلة الأمريكية، ومتتالياتها الإسرائيلية والروسية والأوروبية والعربية، والتي سبق لي أن توقفت عند ثوابتها، ومتغيراتها، في مناسبات ماضية. ثمة، في المقابل، نفض للغبار عن بلاغة عتيقة، أو تجديد لصياغاتها لا يغيّر كثيراً في المحتوى الأصلي العتيق بدوره، وبعض المقررات (التي تبدو أرباع، وليس حتى أنصاف، تدابير)، على غرار ما أعلنه الرئيس الأمريكي باراك أوباما في خطابه الأخير، أثناء زيارته لمتحف الـ"هولوكوست" في واشنطن، حول فرض عقوبات على الجهات التي تزود سورية وإيران بالوسائل التكنولوجية المساعدة على تسهيل انتهاكات حقوق الإنسان في البلدين.

"ليست السيادة الوطنية رخصة للحكام كي يذبحوا شعوبهم"، قال أوباما وهو يقصد الإشارة إلى "أي مجنون ينتهك حقوق الإنسان، ويرتكب الفظائع، والإبادة، وأعمال القتل الجماعي"؛ واعداً الشعب السوري بـ"مواصلة الضغط" على الأسد، بهدف "عزل نظامه أكثر"، وفرض مزيد من العقوبات، والتعاون مع "أصدقاء سورية". ولأنّ إيلي فيزل، حامل نوبل للسلام والقيّم على شؤون الـ"هولوكوست"، كان قد غمز من قناة أوباما وسياساته، ردّ الرئيس الأمريكي بالقول: "بينما نحاول أن نعمل كل ما نستطيع، لا نقدر أن نسيطر على كل الأحداث. ونحن نحاول في سورية، علينا أن نتذكر أنه رغم كل الدبابات، وكل القناصين، وكل التعذيب، لا يزال السوريون يتحدّون في الشوارع. ولا يزالون مصرّين على إسماع مطالبهم للعالم. إنهم لم يستسلموا، ولهذا فإننا نحن أيضاً لن نستسلم".

ولكي يذهب أبعد، أو يطلق عبارة أشدّ لهجة بالأحرى، أضاف أوباما أنّ العقوبات الجديدة خطوة أخرى "نحو اليوم الذي نحن متأكدون من أنه آتٍ، وهو يوم نهاية نظام الأسد الذي يذبح الشعب السوري". ليس بفضل هذه العقوبات (التي لا تتذكّر اللواء علي مملوك، رأس جهاز المخابرات العامة، إلا اليوم... بعد أكثر من 14 شهراً على أعمال الذبح التي يتحدّث عنها أوباما!)؛ بل بفضل إصرار الشعب السوري على المضيّ بالانتفاضة حتى المتر الأخير الختامي من هذا المسار الشاقّ، الدامي، الذي كان محالاً فصار دانياً وشيكاً. وليس لأنّ النظام السوري لم يتوقف، ولم يرتدع، واستمرّ في تنفيذ المجازر حتى في المدن التي كان المراقبون الأمميون يتفقدونها (مدينة حماة، مثلاً، ومجزرة حيّ "مشاع الطيار": 54 شهيداً، بينهم 13 طفلاً، و16 امرأة)؛ بل، بالضبط، لأنّ أفانين وحشية النظام لم تنفع، كلّها، في كسر إرادة الانتفاضة.

في المقابل، الأمريكي بدوره ولكن غير الحكومي، أو شبه الحكومي، نقرأ عن مؤتمر لـ 60 شخصية من المعارضين السوريين، يستهدف البحث في "المواطنة والدولة المدنية الديمقراطية"، ينعقد على شواطىء البحر الميت في الأردن، وبدعوة من "مركز القدس للدراسات السياسية"، ولكن بدعم من "المعهد الديمقراطي الأمريكي". وهذا معهد يسعى، وفق إعلان مبادئه، إلى "تحسين الديمقراطية الأمريكية من خلال المشاركة المتزايدة، والفهم الأعمق للمسائل التي تؤثر في الحياة العامة، ومن أجل مواطنة أكبر في الشؤون العامة". ما العلاقة، المباشرة على الأقلّ، بين أغراض هذا المعهد ـ الأمريكية الداخلية الصرفة، كما يلوح ـ ومسائل مثل: "أي نظام سياسي لسورية المستقبل؟"، "الدين والدولة"... حقوق الأفراد والجماعات...أسئلة الهوية والمواطنة والاندماج"، و"سبل التغيير في سورية... الفرص والتحديات"، و"ملامح مرحلة الانتقال إلى الديمقراطية"... التي ناقشها المؤتمرون على الشاطئ الشرقي للبحر الميت؟

الحال أنّ التناقض أو التطابق بين موقف "المعهد الديمقراطي الأمريكي" وخطاب أوباما في متحف الـ"هولوكوست، أو الوقوع في منزلة بين منزلتيهما، هو السمة الغالبة، والأعرق بمعنى التكرار، لمعظم المقاربات الأمريكية لمسائل حقوق الإنسان ما وراء المحيط. الدليل الأفضل هو قراءة التقارير السنوية حول حقوق الإنسان في العالم، كما يدبجها مايكل بوزنر، مساعد وزيرة الخارجية الأمريكية لشؤون الديمقراطية وحقوق الإنسان والعمل، والتي تغطّي أكثر من 190 دولة، حصيلة عمل ألف شخص ونيف، قرأوا ودققوا وكتبوا آلاف الوثائق... وفي كلّ مرّة، كان الحياء ـ أغلب الظنّ، وعلى سبيل حسن النيّة ـ هو الذي يدفع بوزنر إلى أن يغضّ الطرف عن تفصيل آخر يقول إنه قادم إلى المنصب من رئاسة المنظمة الحقوقية الأمريكية المعروفة Human Rights First، التي كان لها شرف المشاركة في إماطة اللثام عن سلسلة انتهاكات حتى داخل الولايات المتحدة ذاتها.

بيد أنّ العمل في وزارة خارجية دولة عظمى تمارس احتلالًيْن عسكريين، في أفغانستان والعراق؛ وتخوض ما تسمّيه "حملة ضدّ الإرهاب" يمكن، وقد تمّ بالفعل، في سياقاتها انتهاك أيّ وكلّ حقّ؛ أمر مختلف عن العمل في منظمة غير حكومية. ولهذا فإنّ بوزنر، المساعد للوزيرة هيلاري كلنتون، شخصية أخرى لا تشبه، إلا في الاسم والملامح الفيزيائية، الشخص الذي سبق له أن فضح الممارسات البربرية في سجنَيْ غوانتانامو وأبو غريب، ومثلها "السجون الطائرة"، ومعسكرات الاعتقال السرّية هنا وهناك في العالم. وليس في الأمر أية غرابة بالطبع، فالمرء يفترض على الفور أنّ بوزنر وافق، عند قبول المنصب، على تعاقد يقتضي منه الدفاع عن سياسة الإدارة، لا انتقادها أو تفضيح أفعالها.

ذلك هو السبب في أنه يسارع إلى امتداح وزيرته، وقبلها رئيسه باراك أوباما، على الركائز "الجديدة" التي اعتمداها في مسائل حقوق الإنسان: "الانخراط المبدئي"، الذي يقوم على فهم العالم؛ وإخضاع جميع الحكومات، بما في ذلك الحكومة الأمريكية، إلى "معيار كوني واحد"، و"الالتزام بالوفاء للحقيقة"، و"أكثر من أيّ أمر آخر نقوم به في الحكومة". لا يكترث بوزنر، ولا الصحافيون حضور مؤتمراته، حول ما إذا  كانت هذه الركائز جديدة، حقاً، بادىء ذي بدء؛ وهل جديدها، أياً كانت طبيعته، جرى تطبيقه فعلاً في الفقرات التي تخصّ انتهاكات إسرائيل لحقوق الإنسا، أو حقيقة انتهاكات السلطات السعودية أو البحرينية، إذا وضع المرء جانباً تلك الوقائع التي تخصّ الولايات المتحدة أيضاً؟

 خذوا، مثلاً، إجاباته الكلاسيكية حول الأوضاع في قطاع غزّة، وعمّا إذا كان توفير مياه الشرب الصحية والمأوى والدواء والمساعدات الإنسانية الأخرى، يدخل في عداد حقوق الإنسان التي يتوجب حمايتها: لقد عولجت قضية غزة في تقارير السنوات الماضية، من جهة أولى؛ وهذه، من جهة ثانية، قضايا "عمرانية" و"بلدية" تخصّ حماية المدنيين بصفة عامة، و"من المعقد معالجة المسائل الإنسانية في مكان تسيطر عليه "حماس" بشكل واسع. ذلك يجعل الجهد أكثر صعوبة"! في المقابل، يظلّ بوزنر طليق اللسان وهو يتابع هجاء انتهاكات حقوق الإنسان في الصين وإيران وكوبا، واتساع نزعات العداء للسامية في أوروبا والشرق الأوسط، والتضييق على المرأة في أفغانستان والصومال والسودان (ولكن ليس باللهجة ذاتها عند الحديث عن حقوق المرأة في السعودية!)، واتساع رقعة الدول التي تعتمد عقوبة الإعدام (وكأنّ أمريكا ذاتها ليست دولة إعدامات بامتياز: في ولاية تكساس، وحدها، بلغ عدد الإعدامات 451 حالة منذ سنة 1976).

وكيف للمرء أن لا يتفرّس في الحاضر على مرآة الماضي القريب، فيستعيد تلك البلاغة الظافرة التي طفحت في خطبة باولا دوبريانسكي، زميلة بوزنر في منصب مساعدة وزيرة الخارجية الأمريكية للشؤون العالمية، أيام كوندوليزا رايس وإدارة جورج بوش الابن، حين تحدّثت عن ولادة جديدة لحقوق الإنسان بأثر من "ثورة زهرية" في جورجيا، و"ثورة برتقالية" في أوكرانيا، و"ثورة أرجوانية" في العراق، و"ثورة الأرزة" في لبنان؟ ورغم أنّ أحداً، أغلب الظنّ، لم يدرك تماماً سبب اختيار اللون الأرجواني للعراق، إلا إذا كانت دوبريانسكي قد قصدت الإشارة إلى عنف قانٍِ هو نقيض الثورات السلمية، فإنّ مآلات الزهري والبرتقالي والأرزي صارت معروفة، مثيرة للشفقة على أهلها والشماتة في المراهنين عليها، في انتظار ما سيسفر عنه اللون الأرجواني من نهايات، أو بدايات بالأحرى.

وفي مناسبة مثل هذه التي شهدت تصريحات بوزنر، أي نشر التقرير السنوي لوزارة الخارجية الأمريكية حول أوضاع حقوق الإنسان في العالم، كان مدهشاً أن دوبريانسكي خلطت الحابل بالنابل، فانتقدت مستويات احترام حقوق الإنسان في روسيا وبيلاروسيا وكوبا والصين وكوريا الشمالية وبورما ولاوس وفييتنام وزيمبابوي وإيران والسودان ومصر والأردن وسورية والسعودية... وكأنها أنظمة متماثلة متشابهة. وكان مضحكاً، في المقابل، أن يلوّح مايكل كوزاك، سلف بوزنر في مكتب الديمقراطية وحقوق الإنسان والعمل، بفرض عقوبات اقتصادية على بعض الدول، بينها السعودية والصين!  ولأنّ الولايات المتحدة لم تكن في أيّ يوم أفضل مَنْ يعطي البشرية الدروس والعظات والتقارير المفصلة حول احترام حقوق الإنسان، فإنّ موظفي الإدارة يصمّون الآذان تماماً عن أسئلة أخرى تتناول ما هو أدهى من تصدير تكنولوجيا انتهاك حقوق الإنسان: مناهضة الدكتاتوريات لفظاً، والسكوت عن فظائعها سرّاً... وعلانية أحياناً، حين تقتضي الحال!

ورغم أنّ النظام السوري هو، اليوم، رائد ما تبقى من أنظمة استبداد عربية، والأشدّ عنفاً بحقّ المجتمع، والأبشع انتهاكاً لحقوق الإنسان؛ فإنّ أهداف الانتفاضة السورية الراهنة أبعد بكثير، وأعمق وأهمّ، من مجرّد تحسين سجلّ النظام في مسائل حقوق الإنسان. البيت الابيض، أسوة بالمتتاليات المتواشجة مع خياراته الراهنة، لا يدرك هذه الحقيقة الكبرى أقلّ ممّا يفعل السوريون؛ لكنّ الفارق يكمن ههنا، أوّلاً: هذه انتفاضة قرّر السوريون أنها لن تتوقف قبل إسقاط النظام، وما تبقى من الشوط أقصر بكثير من أن يطيل مسافته أي مصل، أمريكي أو إسرائيلي أو إيراني أو روسي...

الاثنين، 23 أبريل 2012

"مهماز" زكريا تامر

 في أواخر كانون الثاني (يناير) الماضي، دخل القاصّ السوري الكبير زكريا تامر تجربة جديدة في الكتابة، وأكاد أقول أيضاً: في الموقف السياسي، والسلوك التحريضي؛ إذْ أنشأ على موقع الـ"فيسبوك" صفحة باسم "المهماز"، أخذ يدوّن فيها تعليقات شبه يومية تنحاز، بقوّة أخلاقية عالية، ليس إلى الانتفاضة السورية فحسب، بل ضدّ النظام السوري، رأساً وعسكراً وأجهزة وشبيحة. والتعليقات يتراوح طولها بين الجملة القصيرة ذات الفكرة الخاطفة، حيث "ما قلّ ودلّ" وفق تصنيف تامر؛ والعبارة المتوسطة، التي تطوّر خيطاً سردياً خفيفاً، حول أحدوثة ذات مغزى؛ والنصّ المطوّل نسبياً، الذي يذكّر بطراز القصص القصيرة التي حملتها مجموعات تامر الأخيرة.

هنالك، مثلاً، تعليق يقول: "ابتسم الرئيس، وقال للمرآة التي كان يحدق إليها بإعجاب: أرى رؤوساً أينعت وحان قطافها، ولكن يده اليمنى لمست رأسه بأصابع مرتعشة". تعليق آخر يسير هكذا: "ألقى الرئيس الملطخ بدماء شعبه خطبة طويلة وعد في ختامها أنه سيحرر الأرض من الاحتلال الإسرائيلي، فشهقت الأرض المحتلة رعباً وقنوطاً، وآمنت أنها باقية في الأسر حتى يوم القيامة". في الأمثلة على التعليقات ذات الحجم المتوسط، يروي تامر أنّ ولداً رفض الذهاب إلى مدرسته لأنها لا تعلّم غير الجهل، فحاول الأب اختبار زعم ولده، فسأله عن اسم أهم بطل في التاريخ العربي، فأجاب الولد فوراً: عمرو دياب؛ وعندها أدرك الأب أنّ ابنه على حقّ، وقرّر "البحث العاجل عن مدرسة أخرى تعرّف تلاميذها إلى الأبطال العرب الحقيقيين، كبشار الأسد وجورج وسوف وعلي الديك"! وفي النماذج الأطول نقرأ مدوّنات مثل "الشبيحة الأوائل: الجنرال الدمشقي"، "ما تبقى من عنترة بن شداد"، "ورطة الصحافي الحكومي"، وسواها... عناوينها تدلّ عليها!

والحال أنّ صفة "التعليق" تُلحِق الغبن بهذه النصوص، التي تنهض على مزج شديد البراعة بين إيجاز الدلالة ودلالة الإيجاز، وبين مرارة المأساة الواقعية وأقصى التقاط لاذع لمجازات العذاب، وبين تسجيل المشهد وتحويله إلى شهادة في سجلّ، وبين اللغة التي تنزف والقاموس الذي يصف... كلّ هذا في غمرة انتماء شجاع إلى الحقّ، وإدانة للباطل لا لُبس فيها، واستقرار على تسمية المسمّيات، من الشخوص إلى المؤسسات؛ على نحو يجيز القول إنّ هذه التدوينات هي سابقة تامر الأوضح، حتى اليوم، في مناهضة نظام "الحركة التصحيحية". ولكي لا تكون معادلتها أحادية، فإنّ حامل "المهماز" لا يوفّر المعارضة السورية، إذْ يقترح "تشكيل لجنة من الأطباء الموثوقين المختصين بالأمراض العقلية، مهمتها فحص كل من ادعى أنه معارض من دون استثناء أحد"، لإحالة كلّ "مصاب بالجنون الخطر" إلى بيته مشكوراً، ومنعه من "الثرثرة في الفضائيات".

ولقد لفت انتباهي دفاع تامر عن الشاعر السوري الكبير الراحل محمد الماغوط، ضدّ الذين يحاولون تشويه "أصدق وأنبل متمرد عرفته الحياة الأدبية في سورية والبلاد العربية"، بذريعة أنه "لو كان اليوم حياً، لكان ضدّ الثورة". كذلك يغضب تامر من أحد ابواق النظام، شريف شحادة، الذي اعتبر أنّ "سورية بشار الأسد" هي "سورية محمد الماغوط ونزار قباني". ويعلّق تامر: "حزنت أشدّ الحزن لأني رأيت الشاعرين يموتان ثانية قتلاً، ويُمثّل بجسديهما وقصائدهما أبشع تمثيل"؛ مذكّراً بأنه "عندما كانت السوق الأدبية يهمين على معظم ساحاتها المتاجرون بالشعارات، المؤمنون بأن الخبز أولاً، أو الوحدة العربية أولاً، كان الماغوط يصرّ على أنّ الحرية أولاً".

وأخال، شخصياً، أنّ الوفاء لصديق راحل، وإنصاف انشغاله المبكّر بمسألة الحرّية، وانهماكه المحوري بأنساق انسحاق الكائن الصغير أمام جبروت الطغيان، ليست وحدها أسباب دفاع تامر عن الماغوط؛ إذْ ثمة سبب آخر، ذاتي وموضوعي في آن، يخصّ التاريخ الأدبي السوري الحديث، وتطوّر النثر السوري المعاصر على وجه التحديد. ففي أواسط الخمسينيات، وضمن سياقات ثقافية وسوسيولوجية كانت تنظر بارتياب إلى التجريب في الأدب عموماً، وتميل أكثر إلى الواقعية الطبيعية في السرد خاصة، لم يكن مألوفاً أن يطلق تامر اسم "الأغنية الزرقاء الخشنة" على قصة قصيرة، وأن تبدأ فقرتها الأولى هكذا: "نهر المخلوقات البشرية تسكع طويلاً في الشوارع العريضة المغمورة بشمس نضرة، حيث المباني الحجرية تزهو بسكانها المصنوعين من قطن أبيض ناعم ضُغط ضغطاً جيداً في قالب جيد".

آنذاك كان الماغوط هو الذي يتولى عمليات مصالحة الشعر والنثر، في لغة عربية بكر، حارّة بدورها، مثقلة ومعذَبة وآسرة: "يا قلبي الجريح الخائن/ أنا مزمار الشتاء البارد/ ووردة العار الكبيرة/ تحت ورق السنديان الحزين/ وقفت أدخن في الظلام/ وفي أظافري تبكي نواقيس الغبار". ولقد تبيّن، سريعاً، أنّ النثر العربي هو الرابح الأكبر جرّاء غوص هذَيْن المعلّمَيْن في الأغوار السحيقة من وسيط تعبيري نبيل، ثرّ وكريم، فامتلكنا ما عجزت معظم النماذج الأولى من قصيدة النثر العربية عن تزويدنا به: اتصال الوظيفتين الشعرية والخطابية في اللغة، واجتراح تلك الكيمياء الشعرية الصافية التي تبقى في قلب التوتر التراجيدي لأسئلة الوجود، ومفردات العيش.

لكأنّ مدوّن "المهماز" يستعيد قول صاحبه الراحل: "أقسم بليالي الشتاء الطويلة/ سأنتزع علم بلادي عن ساريته/ وأخيط له أكماماً وأزراراً/ وأرتديه كالقميص"...

الجمعة، 20 أبريل 2012

فرنسا والنظام السوري: سجلّ مراقصة الطغاة

كُتبت هذه السطور قبل انعقاد الاجتماع الثالث لمجموعة "أصدقاء سورية" في باريس، بعد تونس واسطنبول، بمشاركة 14 دولة؛ وبهذا فإنّ الدبلوماسية الفرنسية تقطع خطوة إضافية على درب مقاربتها للملفّ السوري، أو انخراطها فيه على نحو مباشر لا يقلّ عن انخراط الولايات المتحدة أو تركيا، ولعلّه يتميّز عنهما في عناصر كثيرة أيضاً. وتلك مقاربة تقلّبت مراراً منذ انطلاق الانتفاضة السورية، حين كان السفير الفرنس إريك شوفالييه (مستنداً إلى خطّ قصر الإليزيه في الواقع، وإلى قراءة سكرتيره العامّ آنذاك، وزير الداخلية الحالي، كلود غيان) ميالاً إلى ترجيح رواية النظام حول "العصابات المسلحة" و"التدخل الخارجي"؛ واستقرّت عند رؤية وزير الخارجية الحالي آلان جوبيه، الذي لم يتردد في مطالبة رأس النظام بالتنحي، كما استقبل ممثلي المعارضة مراراً، وشارك في معظم الاجتماعات الدولية والأممية المكرّسة للوضع في سورية.

وفي الجانب الإنساني، قدّمت السفارة الفرنسية في دمشق خدمات ملموسة للمعارضين السوريين الملاحقين من الأجهزة الأمنية، ومنحت الكثيرين منهم ـ ومعظمهم لم يكن يحمل جوازات سفر، بالطبع ـ تأشيرات خروج، وتصاريح سفر مؤقتة. ولم يعد غريباً، والحال هذه، أن يستقرّ في فرنسا عدد كبير من هؤلاء، من المشتغلين بالعمل السياسي والحزبي، أو نشطاء التنسيقيات الشباب، أو الكتّاب والفنانين الذين انحازوا مبكراً إلى صفّ الانتفاضة. كذلك اخذت العاصمة باريس، والمدن الكبرى في فرنسا، تتميز بتظاهرات تضامن ذات سوية عالية، كانت أحدثها احتفالية "الموجة البيضاء" في مناسبة عيد الجلاء السوري، 17 نيسان (أبريل)، التي شارك فيها فنانون وكتّاب وساسة ومشاهير، طالبوا بالحرّية للسوريين، وبإيقاف المجازر.

الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي استبق اجتماع "أصدقاء سورية 3" بتصريح، "شديد اللهجة" وفق ما تصنّف الرطانة الدبلوماسية عادة، أعلن فيه أنّ بشار الأسد "يكذب"، و"يريد محو حمص من الخريطة"، على غرار رغبة الدكتاتور الليبي معمّر القذافي في "تدمير بنغازي"؛ ولهذا أرادت فرنسا دعوة "كلّ مَنْ لا يطيقون رؤية دكتاتور يقتل شعبه". وإذا جاز القول بأنّ هذا التصريح لا يبدو مفاجئاً تماماً، بالمقارنة مع تصريحات أخرى تصعيدية أطلقها ساركوزي في مناسبات سابقة، خاصة حين انطلقت حملته الرسمية للانتخابات الرئاسة؛ فإنّ ما لا يجوز هو ذلك الجزم بأنّ جميع المشاركين في الاجتماع يطيقون سقوط النظام السوري، بسبب أنهم لا يطيقون ما يرتكبه الأسد من مجازر. نسبية الأمر هنا لا تخفى إلا على السذّج، والأجندات ـ على كثرتها، وتطابقها هنا، أو تناقضها هناك ـ لا تنهض على التعاطف مع الشعب القتيل، بقدر ما تقتفي أثر المصالح الحية، خشية أن تُقتل!

خير للمرء أن يبدأ من المضيف نفسه، ساركوزي، الذي كان "البطل" أو "الرائد" على نطاق الاتحاد الأوروبي في تدشين سياسة حوار مع النظام السوري صيف سنة 2008، من خلال مشروع "الاتحاد المتوسطي"، الذي وُلد ميتاً في الأصل، ولم يكترث أحد حتى بدفنه! آنذاك برّر ساركوزي دعوة الأسد (وكان عندئذ، مثلما كان في البدء ويظلّ حتى ساعة سقوطه، دكتاتوراً ابن دكتاتور)، بالقول إنّ سورية بلد متوسطي، وليس ثمة سبب واحد يبرّر عدم دعوتها إلى القمة المتوسطية، غير المكرّسة (في حدود علمه كما قال، وفي علم الجميع كما نقول) لمناقشة احترام أو انتهاك حقوق الإنسان على ضفاف المتوسط. ذاك كان منطقاً صورياً سليماً تماماً، وكان استبعاد سورية من هذه القمة هو الذي سيشكّل القرار الشاذّ غير الطبيعي. ومن جانب ثانٍ، مَنْ الذي كان سيعيب على ساركوزي دعوة الأسد إلى منصّة الإحتفال بالثورة الفرنسية، يوم العيد الوطني لفرنسا، ما دام الحابل اختلط يومها بالنابل على تلك المنصة: ديمقراطيات غربية، ودكتاتوريات شرقية أو أفريقية، جنباً إلى جنب مع إسرائيل... "واحة الديمقراطية" في الشرق الأوسط؟

ولهذا، وبصرف النظر عن قيمته الأخلاقية العالية، فإنّ النداء الذي وجهته إلى ساركوزي، يومئذ، ثماني منظمات حقوق إنسان دولية (بينها العفو الدولية، وميدل إيست واتش، والإتحاد الدولي لروابط حقوق الإنسان، والشبكة الأورو ـ متوسطية، والمنظمة العالمية لمناهضة التعذيب...) ظلّ حبراً على ورق في ما يخصّ مطلب الفقرة الأولى: "تناشدكم منظمات حقوق الإنسان الموقعة على هذه الرسالة إيلاء اهتمام لوضع حقوق الإنسان في ذلك البلد في إطار محادثاتكم" مع الأسد.  وزير الخارجية الفرنسي برنار كوشنر (حامل كيس الرزّ بوصفه أيقونة الغوث الدولي، وصاحب نظرية التدخّل الإنساني في الشؤون السيادية للدول، و"غير المبتهج شخصياً" بزيارة الأسد إلى باريس) تكفّل بهذا الأمر، كما قيل، ودسّ في جيب وليد المعلّم، وزير خارجية النظام، لائحة بأسماء حفنة من المعتقلين السياسيين السوريين الذين ستبتهج فرنسا بإطلاق سراحهم!

لكنّ ساركوزي لم يكن أوّل رئيس فرنسي يراقص طغاة الشرق الأوسط، سواء في العقود الأخيرة من عمر الجمهورية الخامسة في فرنسا؛ أم في عقودها الوسطى (كانت أوّل زيارة لحافظ لأسد قد تمّت في عهد فاليري جيسكار ـ ديستان، سنة 1976، بعد أشهر قليلة على دخول القوّات السورية إلى لبنان)؛ هذا إذا اعتبر المرء الأنشطة الدبلوماسية في تلك الأحقاب بمثابة تمرينات مبكّرة واستطلاعية على ما ستسمّيه التنظيرات الديغولية "السياسة العربية لفرنسا". بل، في وجهة أخرى لنقاش الأمر، لعلّ المرء لا يبالغ إذا اعتبر أنّ خيار ساركوزي في الانفتاح على النظام السوري كان أقرب إلى السلوك الطبيعي، المنتظَر، غير المستغرب البتة، من هذا الرجل بالذات. وثمة ما يغري بالقول إنّ ساركوزي لم يكن يواصل طبعة جديدة معدّلة، على هذا النحو أو ذاك، من ذلك الإرث السياسي والدبلوماسي، بل هو في الواقع سعى إلى طيّ تلك الصفحة نهائياً، واستبدالها بأخرى جديدة ذات شخصية مختلفة وستراتيجيات جيو ـ سياسية متعددة السمات، لكنها في العموم أقرب إلى الرؤية الأمريكية والأطلسية لشؤون الشرق الأوسط وشجونه.

والحال أنّ سياسة فرنسا العربية بدأت في صيغة أسطورة، وتواصلت هكذا في الأذهان والأبحاث والفرضيات... ليس أكثر! وباستثناء عبارة الجنرال شارل دوغول الشهيرة، عن الدولة العبرية بوصفها "شعب النخبة، الواثق من نفسه، والمهيمن"، وقراره حظر بيع الأسلحة إلى الأطراف المتحاربة، فإنّ سجّل العلاقات العربية ـ الفرنسية ليس حافلاً بالكثير من الوقائع التي تشيّد سياسة متكاملة مترابطة، من نوع يستحقّ صفة "السياسة العربية" التي ظلّ البعض يتشدّق بها طويلاً. هنالك سلسلة مبادرات بالطبع، لعلّ أشهرها كان حديث فرنسوا ميتيران، الرئيس الفرنسي الأسبق والأوّل الممثّل لليسار الفرنسي في الجمهورية الخامسة، منذ ربيع 1982، من سدّة الكنيست الإسرائيلي، أمام مناحيم بيغن وإسحق شامير وسواهم من صقور الليكود، عن ضرورة الدولة الفلسطينية؛ وكذلك استقباله ياسر عرفات في باريس، وكانت تلك أوّل زيارة رسمية يقوم بها القائد الفلسطيني الراحل إلى قوّة عظمى غربية.

غير أنّ هذه، فضلاً عن مشاركة فرنسا في إخلاء فصائل المقاومة الفلسطينية بعد الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982، كانت مبادرات مسجّلة باسم ميتيران شخصياً، ولم يكن من حقّ اليمين الفرنسي تجييرها لصالح أسطورة السياسة العربية لفرنسا، كما شاع أنّ الجنرال دوغول رسمها. هي، في الآن ذاته ودونما مفارقة، لم تكن جزءاً من تراث السياسة العربية للحزب الاشتراكي الفرنسي، بدلالة السجال الذي أثارته تصريحات ليونيل جوسبان في ربيع 2000، وكان آنذاك رئيس الوزراء، حين استخدم مفردة "الإرهاب" في وصف عمليات "حزب الله" ضدّ جيش الاحتلال الإسرائيلي في جنوب لبنان. (في المقابل، لم يتجاسر أيّ من لائميه، في صفّ اليمين الديغولي خاصة، على اعتبار تلك العمليات مقاومة مشروعة!).

وأمّا الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك (صاحب الموقف الشهير من "روائح" المهاجرين التي تدفع الفرنسي إلى الجنون!) فإنه ـ منذ تولّيه الرئاسة الأولى سنة 1995 وبعد خطبته الشهيرة في جامعة القاهرة، وزيارته الأشهر إلى القدس الشرقية حين تشاجر مع مرافقيه من عناصر الأمن الإسرائيليين ـ لم يفعل الكثير لتوطيد السياسة الديغولية تجاه العالم العربي، بل لعلّه جمّد النهج باسره، وأسبغ عليه مقداراً من الشخصنة لا يليق بالسياسة الخارجية لقوّة عظمى. المفارقة أنّ شيراك (الذي أعلن مقاطعة احتفالات فرنسا بالعيد الوطني لأنّ الأسد سوف يكون على المنصّة، بدعوة من ساركوزي) هو نفسه شيراك الأمس القريب: الذي دعا بشار الأسد (ولم يكن الأخير يشغل آنذاك أيّ منصب رسمي، ما عدا رئاسة "الجمعية المعلوماتية السورية"!) إلى قصر الإليزيه، بترتيب مباشر من رئيس الوزراء اللبناني القتيل رفيق الحريري، وهنا الشطر الثاني من المفارقة.

بيد أن ساركوزي شاء أن ينفرد ـ ضمن إطار هوسه، شبه المرضي، بالانفراد عن جميع رؤساء فرنسا ـ بادعاء القدرة على حمل معظم، وربما جميع، بطيخ الشرق الأوسط بيد واحدة، سواء أكانت تلك اليد فرنسية خالصة من حيث المظهر الخارجي والأغراض القريبة المعلَنة، أم كانت تنوب عن اليد الأمريكية من حيث الدواخل والأهداف البعيدة الخافية. تعهد، تارة، بإعادة تأهيل النظامين الليبي والسوري في ناظر ما يُسمّى "المجتمع الحرّ"، لمرامٍ شتى تتراوح بين عقد قمّة الإتحاد المتوسطي بأيّ ثمن، وتشجيع الاعتدال، والنأي عن التطرّف، وتوقيع العقود؛ فتنتهي الحال إلى تمنّع العقيد معمر القذافي إزاء العقود والمشروع المتوسطيّ على حدّ سواء، وإلى حيرة بشار الأسد بين أحمدي نجاد وإيهود اولمرت. وطرح، طوراً، فرنسا ضامناً، مسرحياً تماماً (بدلالة زيارته الاستعراضية إلى بيروت بعد انتخاب ميشيل سليمان، صحبة قادة الأحزاب السياسية الفرنسية + الروائي اللبناني الفرانكوفوني أمين معلوف!) للسلام الأهلي اللبناني وللمحكمة الدولية؛ فانتهت زيارته إلى ما يشبه إسدال الستار على فصل ناقص، أو معلّقة نهايته عند اندلاع الجولة التالية، بعد جولة اجتياح بيروت في 7 أيار (مايو) 2008.

واليوم، إذْ تقطع الدبلوماسية الفرنسية خطوة إضافية نحو مزيد من الانخراط في الملفّ السوري، فإنّ الخيارات سوف تدخل إلى الثلاجة مؤقتاً، وريثما يحسم الفرنسيون أمرهم حول تجديد ولاية ساركوزي الرئاسية، أم إحالته إلى التقاعد وانتخاب الاشتراكي فرنسوا هولاند رئيساً لسنوات خمس تالية. صحيح، من حيث المنطق البسيط، أنّ سياسة الحزب الاشتراكي تجاه النظام السوري أكثر تشدداً، وكانت خلال السنوات الماضية أكثر انفتاحاً على المعارضة والمجتمع المدني السوري؛ إلا أنّ تجارب الديمقراطيات الغربية تعلّمنا درساً بسيطاً، وبليغاً تماماً في آن: ما يُقال خلال الوجود في صفّ المعارضة، لا يتطابق بالضرورة مع الأفعال بعد الانتقال إلى الحكم.

وفي كلّ حال، لن يمتد عمر النظام السوري إلى أجل أطول يمكن أن يغري ساكن قصر الإليزيه، كائناً مَنْ كان، بإعادة النظر في مصير معلَن، صار ملك الشعب السوري، ورهن أسابيع.  

الاثنين، 16 أبريل 2012

عسال الورد.. والشوك!

"عسال الورد" واحدة من بلدات سورية الأجمل، بل هي في عداد نفائس الطبيعة الأبهى، إذْ تربض على ارتفاع 1850 متراً فوق سطح البحر، على مبعدة 55 كم شمال دمشق، في حضن سلسلة الجبال السورية الغربية، ولهذا فإنها "أخت الزبداني الصغرى" حسب تسمية شائعة. والبلدة تنفرد بسلسة إطلالات استثنائية، وتؤاخي بين الجرود والسهول والهضاب، والثلج والنبع والمسيل، والكرز والتفاح والبازلاء؛ ليس دون تراث في الفولكلور عريق، غنائي إيقاعي وراقص، "يجبر الحجر على الدبكة"، كما يتفاخر بعض أهلها. وخلال أشهر الانتفاضة سجّلت "عسال الورد" مواقف مشرّفة وملحمية، كما سدّدت ضريبة شهداء باهظة، كانت واقعتها الأحدث ارتكاب عسكر النظام وشبيحته مجزرة وحشية في منطقة "ضهور المعبور"، واكتشاف عشرات الجثامين في إحدى مزارع البلدة، أغلبها تحمل آثار الإعدام بطلق ناري في الرأس.

بيد أنّ بيد أن التاريخ يسجّل لـ"عسال الورد" أنها شهدت، في عام 1930، لقاء من نوع خاصّ سوف تكون له آثار بعيدة المدى في حوليات السياسة السورية الحديثة، جمع بين ناصر حدّة، المهاجر مع أسرته من بلدة يبرود المجاورة؛ والفتى خالد بكداش، الكردي الدمشقي الذي يعمل مع والده ملاحظاً لورشات إصلاح الطرق. كان ذلك اللقاء أوّل عهد بكداش بفكرة حزب شيوعي كما سيتذكر (في كتاب "خالد بكداش يتحدّث"، إعداد وحوار عماد نداف)، ولكنّ أولى حلقات الغموض تبدأ من ههنا، عند عودة بكداش إلى دمشق عقب اللقاء مع حدّة. التاريخ يسجّل أن فؤاد الشمالي (المصري، من أصل لبناني) ويوسف يزبك (اللبناني) ويوسف بيرغر (ممثل الحزب الشيوعي الفلسطيني) وضعوا اللبنة الأولى لقيام "حزب الشعب اللبناني"، والذي سيتوحد مع "حركة "سبارتاكوس" الأرمنية لتأسيس "الحزب الشيوعي السوري ـ اللبناني" في عام 1925، وتشكيل أوّل لجنة مركزية مؤقتة من يوسف يزبك وفؤاد الشمالي وآرتين مادويان وهيكازيون بويجيان والياس أبو نادر.

رواية بكداش تسكت عن هذه الواقعة لصالح أخرى: "في عام 1931 أسّسنا الحزب في دمشق"، يقول ببساطة، مختصراً صيغة الجمع في ذاته وحده. في عام 1933 سوف يحصل على عضوية تامة في الكومنترن، أو "الأممية الثالثة" في صيغتها الستالينية، وعلى الإسم الحركي "الرفيق رمزي". وسيسافر إلى موسكو سرّاً عن طريق باريس، ويمكث هناك حتى عام 1936، حيث سيسقط ـ مرّة وإلى الأبد ـ في الطاحونة الستالينية، أي الماركسية الوحيدة التي ستتيح له تطبيق مبدأ "الانضباط الحديدي" عند عودته إلى سورية وعقد "اجتماع الكادر" الذي سينتخبه أميناً عاماً بصفة رسمية ونهائية و... أبدية! "آخر الستالينيين"، "آخرممثلي الأممية الثالثة"، "أقدم أمين عام لأيّ حزب شيوعي عرفه التاريخ"...

سياقات صعود بكداش سوف تندرج في هيولى سرّية، شبه صوفية وشبه مقدّسة، لرجل كانت الأهزوجة شبه الرسمية للحزب تصفه هكذا: "خالد يهدي خطانا، في طريق الخالدين"! ولقد جرت مياه كثيرة في أنهار سورية والحزب الشيوعي السوري منذ التأسيس، فانقسم الحزب مراراً لينتهي إلى اثنين حليفين للنظام، وحركة تزعم الحرص على وحدة الشيوعيين ولكنها لا توحّد إلا تمرّغ زعيمها في أحضان السلطة، وحزب كان الأهمّ: مجموعة "المكتب السياسي ـ جماعة رياض الترك"، التي واصلت تطوير خطّ معارض جذري، وتعرّضت لحملات اعتقال متكررة، وبدّلت اسمها إلى "حزب الشعب الديمقراطي السوري". ولم يكن عجيباً، رغم المفارقة الكبرى الصارخة، أن يقضي الترك قرابة 18 سنة، بين 1980 و1998، في زنزانة مغلقة ، بينها عشر سنوات لم ير فيها ضياء الشمس؛ وأن يظلّ خالد بكداش، خلال الفترة ذاتها وحتى وفاته سنة 1995، حليف نظام الاستبداد والفساد.

والحال أنّ البكداشية لم تكن الشوكة الوحيدة التي خلّفها الورد، خلافاً لطبائعه، في "عسال الورد"؛ لأنّ فلسفة الخالد الذي يهدي الخطى انتقلت بالوراثة، بعد وفاته، إلى أرملته، وصال فرحة بكداش، فانتُخبت أميناً عاماً للحزب، في مؤتمر 1995؛ ثمّ رئيساً للحزب، على أن يرث ابنها عمار بكداش الأمانة العامة منها، في مؤتمر 2010. كانت العائلة في هذا لا تهتدي بدروب الخالدين، بقدر ما تدشّن مبدأ التوريث حتى قبل حافظ الأسد، مع نجليه باسل وبشار. ولم يكن غريباً، إذاً، أن يطلق بكداش الابن على الانتفاضة السورية سلسلة نعوت قدحية لا تجاريها إلا نعوت الأسد الابن؛ وأن يعتبر، في أحدث إشراقاته الفلسفية، أنّ تحديد مدّة الحكم الرئاسية ليس مبدأ ديمقراطياً، لإنه... يحدّ من حقّ الشعب في الاختيار!

"أنا ماركسي، وماركس يقول: الممارسة هي مقياس الحقيقة، وما عدا ذلك من شكوك ونوايا فهو كلام هواة ليس إلا"، يعلن بكداش الابن، على سبيل تثمين "إصلاحات" النظام، في وجه المشككين بها. أمّا في "عسال الورد"، فإنّ الورد الجوري يمكن أن يتقصّف كلّ يوم بأقدام همج النظام، ولكن جذوره لا تتوقف عن الضرب عميقاً في باطن تربة طيبة أبيّة. تلك، بالطبع، ممارسة لا يفقه قوانينها أمثال بكداش الابن، ولا سيّده الأسد الابن، وليس لأيّ منهما إلا أن يواصل الهبوط إلى حضيض، شائن ومخزٍ عند الأوّل، أو وحشي دامٍ عند الثاني؛ كلاهما لا يليق بأرض الورد!

الخميس، 12 أبريل 2012

أمريكا والمعارضة السورية: حساب العجوز وحميّة المراهق

كان طبيعياً أن تسفر الانتفاضة السورية عن تشوّهات شتى في صفوف المعارضة، أو زاعميها على نحو أدقّ، تخصّ السياسة والتفكير والتنظير، ولا تغيب كذلك عن السلوك والممارسة، وتشمل موضوعات حساسة ذات بُعد ستراتيجي، وأخرى أقلّ أهمية وأقرب إلى تغذية التكتيكات الصغيرة. مآل رديف، في هذا المضمار، أن تتوالد ـ كالفطر الشيطاني المجنون، المنفلت من قوانين النموّ الطبيعية ـ أنساق من المراهقة الصرفة، تنحطّ فيها المحاكمة العقلية إلى درك ردّ الفعل السطحي، المتسرّع والطائش والمتبلد؛ وتهبط اللغة إلى مستوى الردح والسباب والتعريض، وتخوين الآخر (المختلف في الرأي فقط، وليس المنخرط في صفّ معادٍ، أو حليف للنظام مثلاً)، فضلاً عن اتهامه بالتخاذل إزاء واجب إغاثة الأهل، ونصرة الانتفاضة.

هذه مناخات تخيّم على ملفات سجال كثيرة، لعلّ أبرزها مسائل تسليح المعارضة (وليس "الجيش السوري الحرّ" وحده)، وعسكرة الشارع الشعبي؛ واستدراج المال السياسي ("حتى من الشيطان الرجيم"، كما قد يقول قائل)؛ وتجميل التدخل العسكري الخارجي (كيفما أتى، وأياً كانت الجهة أو الجهات التي تتولى قيادته)؛ والتطبيع مع الخطاب الطائفي البغيض الذي يدين طوائف بأكملها (ولا يستثني، أيضاً، المعارضين للنظام من أبنائها، المنضوين مباشرة في مختلف أنماط الحراك الشعبي)... وثمة، ضمن السياقات ذاتها، ذلك الشعار/ السعار الذي يخوّن كلّ مشكك في "صدقية" و"مصداقية" الموقف الأمريكي من الانتفاضة، سواء ذاك الذي تعلنه الإدارة الحاكمة، أو يعتنقه ساسة أفراد ليسوا في الحكم، أو يعبّر عنه معلّق سياسي هنا، أو باحث مختصّ هناك.

فإذا نظر امرؤ بارتياب إلى زيارة السناتور الجمهوري جون ماكين، صحبة زميله السناتور المستقل جو ليبرمان، إلى مخيّم النازحين السوريين في تركيا؛ وأقام نظرته على ركيزة ديكارتية بسيطة تطالب بتحكيم العقل وقطع الشكّ باليقين، استناداً إلى حزمة مواقف ماكين وليبرمان من القضايا العربية، وكذلك تاريخ علاقات الرجلين بنظام "الحركة التصحيحية"، من الأسد الأب إلى الأسد الابن؛ فإنّ المرء، عند بعض مراهقي المعارضة السورية، يخذل الشعب والانتفاضة، وينفّر الأصدقاء، ولعلّه ينكر الجميل أيضاً. "أليسا أفضل من سواهما، الساكتين الصامتين؟"، سوف يسألك أكثر المراهقين تهذيباً؛ مقابل غرّ طائش، لن يتورّع عن اتهامك بالخيانة... ليس أقلّ!

ما ارتكبه المرء ذاته من "إثم" التفكير النقدي في مواقف أمثال ماكين وليبرمان، وممارسة الحقّ في وضع آرائهما الراهنة ضمن سياقات أعرض، عقلية ومنطقية ومقارنة؛ سوف ينقلب إلى "جريمة" حين يتحوّل النقاش إلى ملفّ تسليح المعارضة السورية، الذي يحضّ عليه السناتوران بحماس مشبوب وحميّة مذهلة: "المجتمع الدولي يتخلى عن الشعب السوري، والوسيلة الوحيدة للارتداد عن هذا هو مساعدة المعارضة على تغيير ميزان القوة العسكرية على الارض"، يقول ماكين؛ زميله ليبرمان يردف: "يتعين علينا أن نقدم أسلحة لمقاتلي الحرية، لمساعدتهم في الدفاع عن أنفسهم وعن عوائلهم في الحد الأدنى".

فإنْ كان هذا باطلاً، وهو كذلك بالفعل، لأنّ ميزان القوى بين الانتفاضة والنظام ليس عسكرياً، حتى إشعار آخر على الأقلّ، فإنّ تصريحات ماكين وليبرمان ليست في صالح الشعب السوري، بل هي محض نفاق لن يخدم إلا النظام في نهاية المطاف. أمّا إذا كانت الأقوال تشتغل على مبدأ كلام الحقّ الذي يُراد منه الباطل، فإنّ قيام بعض المعارضين بإعادة إنتاجها، ثمّ تسويقها، كمنافذ دعم ونوافذ أمل، لا يخدم النظام وحده فحسب، بل يسوّق الباطل أيضاً. والحراك الشعبي العبقري، الذي يتعاظم ويرتقي منذ سنة ونيف، أسقط جدران الخوف واحداً تلو الآخر، وأرسى ثقافة مقاومة رفيعة من طراز جديد، وبالتالي فإنه لم يعد البتة بحاجة إلى إحقاق الأباطيل، وإشاعة الآمال الكاذبة.

وعلى النقيض من اعتقاد البعض في صفوف المعارضة ـ خاصة أولئك الذين أدمنوا اللقاءات بنساء ورجالات البيت الأبيض والخارجية الأمريكية والكونغرس ومراكز البحث والاستخبار المختلفة، وصاروا حماة مفهوم "الدور الأمريكي"، وأخصائيي الترويج له، وتجميله، وتنزيهه عن كلّ غرض يمسّ الانتفاضة ـ ما يزال الموقف الرسمي الأمريكي غير قاطع بصدد طيّ صفحة "الحركة التصحيحية"، وغير مستقرّ على سياسة واضحة تنتهي إلى إسقاط النظام. وكما سبق لي أن ساجلتُ في مناسبات سابقة، تدرك الولايات المتحدة أنّ سقوط النظام السوري لم يعد أمراً قابلاً للأخذ والردّ، إذْ حسمته الإرادة الشعبية نهائياً، وصار مسألة وقت، بصرف النظر عن التعقيدات التي تتراكم، والتضحيات التي تزداد جسامة. تلك كانت حال واشنطن مع مستبدّي تونس ومصر وليبيا واليمن، وهذه ستكون حالهم مع الاستبداد السوري: كانت انظمة بغيضة، في ناظر سادة البيت الأبيض، لكنها ظلّت الخادمة الأوفى للمصالح الأمريكية، والضامنة الأفضل لأمن إسرائيل، والتابعيات الأطوع!                 

مسألة أخرى مختلفة تماماً، في المقابل، أن تتبنى الولايات المتحدة شعار "إسقاط" النظام، لأنّ هذا الخيار سوف ُيلزمها بالمشاركة في سلسلة العمليات، السياسية والاقتصادية والعسكرية والدبلوماسية والاستخباراتية، الكفيلة بالتوصل إلى هدف الإسقاط. ولا تغيب عن تلك العمليات إجراءات بالغة الخطورة، مثل إقامة المناطق الآمنة، والممرّات الإنسانية، وتأمين خطوط الإمداد في حال إقرار مشاريع تدخل عسكرية، وزرع الوحدات المكلفة بالعمليات الخاصة الحساسة، والارتباط مع الوحدات العسكرية أو المدنية الحليفة المحلية، في طول البلاد وعرضها وليس على خطوط جبهات منتقاة... فليدلّنا السادة الواقعون في غرام "الحلّ الأمريكي" على أي إجراء من هذا القبيل، أو حتى أي علائم على نيّة تنفيذه، لكي نقرّ لهم بوجاهة حماسهم، وخطل تثبيط همّة العمّ سام!

والحال أنّ واحدة من طرائق تلمّس الموقف الأمريكي الراهن تجاه الانتفاضة السورية، وربما انتفاضات العرب جمعاء في الواقع، هي الوقوف على آراء وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر، صاحب الظلّ الطويل والثقيل الذي لم ينحسر بعد عن الكثير من ركائز السياسة الخارجية الأمريكية، رغم انقضاء عقود على تقاعد الرجل. صحيح أنّ كبار مسؤولي إدارة باراك أوباما توقفوا عن تلقّي النصح المباشر (والمأجور، بالمناسبة!) من "عجوز السياسة الواقعية"، إلا أنّ الأسباب تخصّ الحرج المهني غالباً، وليس لأنّ ما ينصح به كيسنجر بات بضاعة قديمة او مستنفدة. إقرأوا، دون كبير عناء، ترجمة شبه حرفية لأفكاره في معظم ما تردّده وزيرة الخارجية هيلاري كلنتون، أو كبار مساعديها، حول الأمن الإقليمي الجيو ـ سياسي في الشرق الأوسط بصفة خاصة.

وفي أحدث مساهماته العلنية، وأوضحها حتى الساعة، مقالته بعنوان "تعريف دور للولايات المتحدة في الربيع العربي"، التي نُشرت في صحيفة "نيويورك تايمز" مطلع هذا الشهر، يثير كيسنجر الأسئلة التالية: "هل ستحلّ إعادة البناء الديمقراطي محلّ المصلحة القومية كمنارة هادية لسياسة الشرق الأوسط؟ هل إعادة البناء الديمقراطي هي ما يمثّله الربيع العربي بالفعل؟ وما هي المعايير؟". إجاباته تبدأ بالغمز من قناة القائلين بأن الواجب الأخلاقي يقتضي من الولايات المتحدة الاصطفاف مع الحركات الثورية في الشرق الأوسط، من باب "التعويض" عن سياسات أمريكا خلال الحرب الباردة، والتي فضّلت التعاون مع حكومات لاديمقراطية، خدمة لأغراض أمنية. لكنه، بعد الغمز، با يتأخر في استعادة أقانيم "السياسة الواقعية" الأثيرة عنده، وامتداح "الأخلاقيات" القديمة دون سواها، حيث المصلحة القومية تعلو على كلّ مبدأ.

وهكذا، يقول كيسنجر: "إذا فشل النسق الناشىء اليوم [عن الربيع العربي] في إقامة علاقة ملائمة مع الأغراض المعلَنة، فإنه يهدّد بانعدام الاستقرار منذ البدء، ويمكن أن يُغرق القِيَم التي سعى إليها". ذلك لأنّ الربيع العربي "يُقدّم كثورة أقليمية يقودها الشباب بالنيابة عن المبادىء الليبرالية الديمقراطية"، في حين أنّ الأمور في ليبيا ومصر انتهت إلى النقيض (في نظره: ليبيا بلا دولة، ومصر تتحكم بها أغلبية إسلامية ناخبة). وأمّا في سورية، فإنّ الأمر "يعكس النزاع القديم، العائد إلى آلاف السنين، بين الشيعة والسنّة، ومحاولة الأغلبية السنّية استرداد الهيمنة من الأقلية الشيعية"؛ وهذا هو السبب، يضيف كيسنجر، في أنّ "الكثير من مجموعات الأقليات، كالدروز والكرد والمسيحيين، ليسوا مرتاحين للتغيير في سورية"!

والخلاصة هي أنّ "الاهتمامات الإنسانية لا تلغي الحاجة لربط المصلحة القومية بمفهوم محدد للنظام العالمي. وبالنسبة إلى الولايات المتحدة، سوف يتضح العجز عن إرساء عقيدة عامة للتدخل الإنساني في ثورات الشرق الأوسط، إلا إذا رُبطت بمفهوم لأمن الولايات المتحدة القومي. التدخل يقتضي الأخذ بعين الاعتبار مغزى البلد الستراتيجي وتجانسه الاجتماعي (بما في ذلك إمكانية تقويض تكوينه الطائفي المعقد)، وتقييم ما يمكن بناؤه حقاً محلّ النظام القديم". لا مفرّ، بالتالي، من العودة إلى جذور السياسة الأمريكية في المنطقة: ضمان تدفق النفط، ضمان سلام إسرائيل مع جيرانها، ضبط التسلح النووي، ضبط الإسلام السياسي، الخ... وبين الضمان والضبط، ثمة الحفاظ على "أنظمة حليفة" حتى إذا كانت بغيضة، مستبدة، فاسدة، لاديمقراطية!

عجوز الذرائعية، و"شيخ الواقعية السياسية" كما يسمّونه أحياناً، لا يخون سلسلة النواظم التي خطّها في كتابه الضخم "دبلوماسية"، 1994:  
1 ـ العالم الراهن يقتضي، أكثر من أي وقت مضى، امتلاك المعنى الأشدّ وضوحاً وبروداً ونفياً للعواطف، بصدد مضمون وجدوى مفهوم المصلحة الوطنية (والكونية، لأنّ المصلحة الوطنية الأمريكية هي مصلحة البشرية جمعاء، شاءت تلك البشرية أم أبت).
2 ـ ينبغي وضع أكبر قدر ممكن من علامات الاستفهام والريبة، أبد الدهر و دونما تردّد أو تلكؤ، على أي ترتيبات متصلة بالأمن الجماعي، سيما تلك التي ترتكز جوهرياً على "الإجماع الصوفي الغامض" حول أخلاقية انتفاء القوّة (وبالتالي اللجوء إليها) في مختلف ميادين العلاقات الدولية.
3 ـ لا مناص من ترجيح (ثمّ صياغة وتطوير) التحالفات الصريحة القائمة على المصلحة المشتركة، وغضّ النظر عن التحالفات المقابلة، أي تلك التي تحوّل مقولات "السلام" و"الحرّية" إلى شعارات وشعائر زلقة ومطاطة وجوفاء. أعراف "القرية الإنسانية الكونية" ليست قابلة للصرف في سوق مزدحمة شرسة لا ترحم. أعيدوها إلى أفلاطون والأفلاطونيين، يطلب كيسنجر، وفي الإعادة إفادة وتجنيب لشرّ القتال!
4ـ تأسيساً على ذلك، لا بدّ من إقرار واعتماد الحقيقة القاسية التالية: التنازع، وليس السلام، هو الأقنوم الطبيعي الذي ينظّم العلاقات بين الشعوب والقوى والأفراد.
5 ـ "لا يوجد أصدقاء دائمون ولا أعداء دائمون، بل توجد مصالح دائمة فقط". كان اللورد بالمرستون (وزير خارجية بريطانيا في ثلاثينيات القرن الماضي)، على حقّ حين اجترح هذه العبارة الذهبية. إنه على حقّ اليوم أيضاً، في نظر كيسينجر، أكثر من أي وقت مضى.

وللمغفلين والمراهقين، إسوة بصرعى الغرام بـ"الحلّ الأمريكي"، أن يتغافلوا عن جرائم الولايات المتحدة بحقّ الشعوب، والشعب السوري خاصة؛ هيهات، في المقابل، أن يحجبوا ظلّ كيسنجر الثقيل، الممتدّ من البيت الأبيض إلى مخيّم النازحين السوريين في تركيا، عبر تل أبيب وطهران وأنقرة، فالرياض والقاهرة وبيروت، وصولاً إلى ... دمشق!

الاثنين، 9 أبريل 2012

قيامة سورية

نصّ حكيم ذاك الذي صدر عن مجلس أساقفة الكنائس المسيحية في سورية، معلناً أنّ "احتفالات أعياد الفصح ستقتصر على الصلوات والطقوس الدينية في الكنائس فقط، وذلك نظراً للظروف الاستثنائية التي تمر بها سورية، وإكراماً لأرواح الشهداء والضحايا الأبرار الذين قضوا في الأحداث الأليمة، وتعبيراً عن وحدة أبناء الشعب السوري الأبي، وترسيخاً للحمة الوطنية". صحيح أنه يقف، أو يكاد، على مسافة متساوية بين النظام والحراك الشعبي، في حديثه عن "الظروف الاستثنائية" وليس عن انتفاضة شعبية مثلاً، أو إحجامه عن أية إشارة إلى عنف السلطة؛ إلا أنّ هذا الموقع الوسيط هو أقصى ما يمكن أن يبلغه المجلس، قياساً على سجلّ علاقته بالسياسة والسلطة والمعارضة إجمالاً، من جهة؛ واتكاءً على طبيعة الاحتقانات الراهنة في صفوف المواطنين السوريين المسيحيين، من جهة ثانية.

لافتة، في المقابل، رسالة البطريرك الماروني بشاره بطرس الراعي، الذي تمنى "السلام للعالم ولأوطاننا، بخاصة للبلدان التي تثور، في عالمنا العربي، تطالب وتسعى من أجل العيش بكرامة وبحبوحة، والتمتع بحرياتها الشخصية والعامة، وبحقوقها الأساسية، وبأنظمة ديموقراطية تحترم كرامة كلّ إنسانِ شعب، وتعزز التنوع في الوحدة، وتشرك الجميع في مسؤولية الحياة العامة، وتنفي الأحادية والفئوية وفرض الإرادة والتحكم بمصير المواطنين، وتمكّن كل مواطن، من أي دين أو ثقافة أو عرق أو انتماء كان، وكل مجموعة، مهما كان نوعها، أن يكون وتكون قيمة مضافة في نسيج المجتمع والوطن". واضح أنّ هذا النصّ خطوة متقدمة على مواقف الراعي السابقة، خاصة تجاه الانتفاضة السورية والخشية على المسيحيين من مستقبلها، حتى إذا كان البطريرك لا يخصّص، وبالتالي قد ينطوي التعميم عنده على تعتيم مبطّن، يتفادى الإشارة إلى النظام السوري.

ناشطو الانتفاضة، خاصة أصحاب التخصص في إنتاج أشرطة الفيديو، استخدموا صوت فيروز في الترنيمة الشهيرة (التي يقول مطلعها: "أنا الأمّ الحزينة/ وما مَنْ يعزّيها"...)، لكنهم استجمعوا عدداً من اللقطات الفوتوغرافية التي تصوّر عذابات السوريين، من جنازات الشهداء، إلى اتحاد الهلال والصليب مع عَلَم الاستقلال السوري، واللافتة الشهيرة التي تسأل: "هل الشهيد حاتم حنا مسيحي سلفي؟"، وأعمال الـ"كولاج" التي تُدني مئذنة المسجد من ناقوس الكنيسة. كذلك توفّرت عناصر كثيرة تغري باستعادة قصيدة نزار قباني الشهيرة عن قيامة بيروت، التماساً لقيامة مدن سورية شهيدة مثل حمص وحماة وإدلب: ""قومي من تحت الردم/ كزهرة لوز في نيسان/ قومي من حزنك قومي/ إنّ الثورة تولد من رحم الأحزان/ قومي إكراماً للغابات/ قومي إكراماً للأنهار/ قومي إكراماً للإنسان...".

لكنّ عيد القيامة يعيد إلى الأذهان تلك المحطات الفاصلة في انحطاط ردود فعل النظام على اشتداد الانتفاضة، حين لجأت الأجهزة (قبل وقت قصير من اعتماد الفرقة الرابعة كأداة قمع أولى ومركزية) إلى خيارات همجية قصوى، مثل استخدام القنّاصة لاغتيال المتظاهرين، واغتيال بعض رجال الشرطة لتثبيت نظرية "العصابات" والمندسّين"، وإطلاق وحوش "الشبّيحة" في شوارع المدن الرئيسية. كذلك اتجه النظام إلى استرضاء الشرائح الشعبية المتدينة (والشارع السنّي تحديداً)، عن طريق إجراءات منافقة مثل إعادة المنقبات إلى سلك التعليم، بعد أن أُبعدوا عنه قبل أشهر؛ وإغلاق كازينو القمار، بعد أشهر قليلة على منحه الترخيص بالعمل؛ وتقديم مشروع فضائية سورية دينية، هدية خالصة إلى الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي، طليعة أبواق النظام في صفوف مشايخ النفاق.

وإذْ كانت مفارز النظام الأمنية تواصل انتشارها في المدن والبلدات والقرى، في ما يشبه مشهدية احتلال عسكري مباشر؛ كانت مفارز أخرى تستكمل أعمال الاعتقال التعسفي والعشوائي، ومداهمة البيوت، ومصادرة الهواتف النقالة والكومبيوترات، فضلاً عن تشكيل "لجان شعبية" تدّعي حماية المساجد. في الآن ذاته أعلنت السلطة أنّ الأسد منح الجنسية للمواطنين الأكراد، وكأنّ جماهير الكرد لم تدرك، منذ يوم الانتفاضة الأوّل، أنّ أيّ مطلب حقّ تناله اليوم من السلطة هو نتاج نضالات طويلة خاضتها، منفردة أو متحالفة مع قوى المعارضة الوطنية والديمقراطية، طيلة عقود. "الكرد طلاّب حرّية، لا جنسية"، هكذا قالت هتافاتهم في مظاهرات ذلك الأسبوع، معلنة أنّ النظام لا يتنازل اليوم إلا تحت ضغط الانتفاضة الشعبية، التي تخصّ حقوق مكوّنات الشعب السوري، الاجتماعية والإثنية والدينية والطائفية، جميعها.

تلك "القيامة"، السنة الماضية، انطوت أيضاً على انطلاق مسيرة نسائية احتلت الطريق الرئيسي الذي يربط المدن الساحلية، للمطالبة بالإفراج عن الأزواج والآباء والأشقاء والأبناء، ولرفع الحصار عن مدينة بانياس وقرية البيضة، وتأمين المواد الغذائية والدقيق للأفران، حيث أخذت كميات الخبز تشير إلى نقص خطير. كانت تلك المسيرة تؤكد، على نحو ساطع وللمرّة الأولى، انخراط المرأة السورية في الانتفاضة؛ فلا تدوّن معطى جديداً، سياسياً وإنسانياً، فحسب؛ بل تثبّت، أيضاً، تطوّراً سوسيولوجياً بارزاً، سوف تكون له أبعاد تربوية وأخلاقية عالية المغزى.

صحيح أنّ أعداد الشهداء تضاعفت، بالمئات في الواقع، منذئذ؛ وأفانين القمع انحطّت، وتدنّت، وانفلتت من كلّ عقال؛ ومخططات النظام الأشدّ خبثاً تعاظمت، فزادت في عذابات السوريين، ومزجت آمالهم بالآلام... إلا أنّ سورية قامت، وسارت على درب الجلجلة، وهيهات أن تعود القهقرى!  

الخميس، 5 أبريل 2012

البعث في الخامسة والستين: من "سيد القدر" إلى "المنحبكجي"

"الدستور الجديد"، الذي قيل إنّ السوريين وافقوا عليه أواخر شباط (فبراير) الماضي، بنسبة تصويت شبه ساحقة، بلغت 89،04 بالمئة، حسب إعلان أجهزة النظام، كأنه لم يمسّ المادة 8 من الدستور القديم، التي تقول إنّ "حزب البعث العربي الاشتراكي حزب قائد للمجتمع والدولة"، و"يعمل على وضع الخطط والسياسات العامة". السوريون، إذْ تابعوا ـ قسراً، كالعادة ـ أجواء الاحتفالات بالذكرى الخامسة والستين لتأسيس حزب البعث، عبر الإذاعة والتلفزة والصحافة الحكومية، لم يشعروا بأيّ فارق يشير إلى اندثار تلك المادة؛ أو أنّ ذلك الاستفتاء كان له أي مفعول مباشر على مؤسسات الدولة، في ما يخصّ هذه المادّة الأشهر على الأقلّ.

وكانت صحيفة "البعث"، الناطقة باسم الحزب، قد استبقت التصويت بتمهيد طريف يقول إنّ إلغاء المادة 8، وإدراج مادّة تتحدّث عن التعددية الحزبية، ليس "خسارة" لحزب البعث، بل هو "استعداد للتضحية المثمرة، على غرار تضحيته بحلّ تنظيمه في سورية لانجاز الوحدة بين سورية ومصر عام 1958". ولهذا فإنّ أي مادّة مختلفة "ستغني إرثه وتجربته، لأنها لا تتناقض أبداً مع أهدافه ومشروعه الوطني والقومي"؛ خاصة وأنّ حسابات الحزب "لا تنطلق من الربح أو الخسارة، بقدر ما تنطلق من أنّ التغيرات بعامتها في مشروع الدستور الجديد تتوافق وتواكب التطورات السياسية والاجتماعية المحلية والمحيطة".

طريف هذا الضحك، المفضوح، على اللحى؛ والأطرف منه ما تقوله اليوم القيادتان القطرية والقومية للحزب، في ذكرى تأسيسه: "يحتفل حزبنا العظيم وجماهير شعبنا الأبي هذه الأيام بالذكرى الخامسة والستين لتأسيس الحزب"، والقيادة "تعرب عن ثقتها بقدرة حزبنا العظيم وجماهير شعبنا على تجاوز منعطف المؤامرة مؤكدة التمسك بفكر الحزب وأهدافه"، و"البعث تأسس للتعبير عن وفاء كبير وإخلاص عميق لكل ما من شأنه أن يجمع الأمة ويرتقي بها ويبعث فيها روح التجديد والانطلاق الى بناء مستقبل عربي موحد ومشرق"، لأنّ الحزب "انبثق من بين الجماهير المضطهدة وناضل معها وسيبقى وفياً لها ويواصل نضاله من أجل تحقيق أهدافها". البعث، عند القيادة القطرية، هو الجماهير، ولا جماهير إلا للبعث؛ منها انبثق، ولتحقيق أهدافها انطلق، وهكذا سوف يبقى...

القيادة الأخرى، القومية، التي تقود عمل الحزب في طول بلاد العرب وعرضها، قالت من جانبها إنّ  "ما تتعرض له سورية اليوم يستهدف البعث كحركة قومية عربية تناضل من أجل مجتمع عربي حر وموحد تسوده العدالة والمساواة وترفد نضال الشعوب الأخرى من أجل التحرر وضدّ الهيمنة والسيطرة، ومن أجل عالم يسوده الأمن والاستقرار والتقدم والازدهار"؛ والحزب "أثبت بفكره القومي وعزيمة مناضليه عبر ساحات الوطن العربي الكبير قدرته عبر التاريخ المعاصر منذ بدايات نشؤئه وتأسيسه على البقاء والتجدد المستمرين، وعلى قيادة حركة الجماهير العربية ونضالها، تجسيداً لرسالة الأمة العربية الخالدة، من مرحلة البدايات في مطلع الأربعينيات حتى الآن، الأمر الذي مكّنه من معالجة الواقع معالجة ثورية تغييرية هادفة، ومواجهة التحديات والصعوبات والمعوقات الموضوعية والذاتية"...

ذرّ للرماد في العيون، بعد محاولة الضحك على اللحى، وكأنّ سورية لا تشهد، منذ سنة ونيف، انتفاضة شعبية عارمة ضدّ نظام الاستبداد والفساد والحكم الوراثي، الذي كان حزب البعث واجهته السياسية والعقائدية؛ أو كأنّ الآلاف من أعضاء الحزب لم ينقلبوا إلى شبيحة أو مرتزقة أو ميليشيات مسلحة تمارس الحصار والاعتقال والاختطاف والتعذيب والاغتصاب والاغتيال، في شوارع وساحات وقرى وبلدات ومدن سورية. أو، في الخلفية الأخرى للمعادلة، كأنّ حزب البعث ما يزال يحمل صفة الحزب حقاً، ولم تمسخه أجهزة النظام إلى كتلة انتهازية هلامية مستكينة وعميلة ومأجورة، فصارت فِرَقه الحزبية، وشُعَبه وفروعه، محض استطالات تابعة لإدارات الاستخبارات.

والحال أنّ آخر أخبار هذا الحزب، بصفته حزباً سياسياً من أيّ نوع، تعود إلى أواسط العام 2010، حين جرى تأجيل مؤتمره القطري لـ"أشهر قليلة"، بهدف إنجاز "مزيد من الحوارات والخيارات أمام الجميع"، و"ضرورة إجراء حوارات سياسية على جميع المستويات من أجل بناء سورية المستقبل"؛ حسب ما أعلن، آنذاك، هيثم سطايحي، عضو القيادة القطرية للحزب ورئيس مكتب الثقافة والإعداد والإعلام والعلاقات الخارجية. سعيد بخيتان، الأمين القطري المساعد للحزب، دفع انعقاد المؤتمر إلى "أجل غير مسمى"، وذلك لإتاحة الفرصة أمام "إعداد الدراسات والتحضيرات للوصول إلى نتائج إيجابية تلبي طموحات المواطنين وتعزز عملية التنمية".

تلك، بدورها، كانت لغة مضللة تنتمي إلى الخطاب الخشبي الأجوف ذاته، وكان من العبث التنقيب عن سلسلة الأسباب التي دفعت إلى تأجيل انعقاد المؤتمر، لأنها ببساطة لم تكن تخصّ قيادات حزب البعث أو قواعده، بل كانت ذات صلة بأجندة الرئاسة على الصعيد السياسي الإقليمي بصفة خاصة، وأولويات أشغال مختلف الأجهزة على الصعيد الداخلي، وتراجع قِيَم الحزب في آلة السلطة إلى حضيض غير مسبوق، وسواها من حزمة الأسباب واحتمالاتها. وكان واضحاً، في المقابل، أنّ انعقاد ذلك المؤتمر سوف يسهم، وإنْ على نحو غير متعمَّد البتة، في فضح "منجزات" المؤتمر الذي سبقه، وكيف ظلت القرارات والتوصيات والتعهدات حبراً على ورق، أو تكاد.

ذلك لأنّ آخر المؤتمرات القطرية، وهو العاشر الذي انعقد أواسط سنة 2005، أُريد له أن يكون "القفزة الكبيرة في هذا البلد"، حسب تعبير بشار الأسد نفسه، في خطابه أمام مجلس الشعب يوم 5 آذار (مارس) تلك السنة؛ فاتضح، سريعاً، أنه لم يكن قفزة بأيّ معنى، حتى إلى وراء! وكان المؤتمر قد شدّد، في الشؤون الداخلية وحدها، على "تنظيم علاقة الحزب بالسلطة"، ودوره في "رسم السياسات والتوجهات العامة للدولة والمجتمع"، و"تحديد احتياجات التنمية". وفي مسائل "تطوير النظام السياسي وتوسيع دائرة العملية السياسية"، أوصى المندوبون بـ"مراجعة أحكام دستور الجمهورية العربية السورية بما يتناسب مع التوجهات والتوصيات الصادرة عن المؤتمر"؛ وأكدوا "أهمية دعم أجهزة السلطة القضائية واستقلاليتها"، و"تكليف الحكومة بوضع آليات ناجعة لمكافحة الفساد، والحدّ من ظاهرة الهدر في المال العام".

وفي جانب آخر، اعتُبر بيضة القبان في وعود الأسد الإصلاحية، أكد المؤتمر على "أهمية إصدار قانون أحزاب يضمن المشاركة الوطنية في الحياة السياسية وذلك على قاعدة تعزيز الوحدة الوطنية"؛ و"مراجعة قانون الانتخاب لمجلس الشعب والإدارة المحلية"؛ و"تعزيز مبدأ سيادة القانون، وتطبيقه على الجميع"، و"اعتبار المواطنة هي الأساس في علاقة المواطن بالمجتمع والدولة". توصيات أخرى طالبت بمراجعة قانون الطوارىء، وحصر أحكامه بالجرائم التي تمسّ أمن الدولة، وإلغاء المرسومين التشريعيين رقم 6 لعام 1965 المتعلق بمناهضة أهداف الثورة، ورقم 4 لعام 1965 المتعلق بعرقلة تنفيذ التشريعات الاشتراكية، وإلغاء القانون رقم 53 لعام 1979 المتعلق بأمن الحزب؛ وإعادة النظر في قانون المطبوعات، بما يتيح إصدار قانون جديد للإعلام بأنواعه كله. ليس هذا فحسب، بل ذهب المؤتمر إلى حدّ التأكيد على ضرورة حل مشكلة إحصاء عام 1962 في محافظة الحسكة (الذي حرم قرابة 70 ألف مواطن كردي من الجنسية، أو صنّفهم في خانة الـ"مكتوم")؛ وتطوير المنطقة الشرقية، وتنميتها.

وليس المرء بحاجة إلى سرد الأدلة على أنّ التوصيات لم تذهب أدراج الرياح فحسب، بل انحطّ اداء السلطة في هذه الملفات، وفي كثير سواها، إلى درك أسفل لم يكن يقبل المقارنة حتى بأسوأ أواليات القمع والفساد والنهب والتخريب طيلة عقود "الحركة التصحيحية" الثلاثة. وثمة، بذلك، دلائل تشير إلى تعزز يقين الأسد الابن بما كان الأسد الأب قد انتهجه تجاه حزب البعث، بعد أشهر قليلة أعقبت استلامه السلطة في تشرين الأول (أكتوبر) 1970. وكان، حينذاك، قد دشّن سلسلة سياسات "تصحيحية" (ومنها انبثقت تسمية انقلابه العسكري)، استهدفت تدعيم أركان حكمه ليس على نحو وقائي مرحلي كما خُيّل للبعض آنذاك، بل على نحو منهجي طويل عانى السوريون من آثاره سنة بعد سنة، وعقداً بعد عقد. بعض تلك التصحيحات شمل إعادة بناء الأجهزة الأمنية، وتبديل بنية الجيش السوري القيادية، وتأسيس وحدات عسكرية مستقلة أشبه بجيوش داخل الجيوش (سرايا الدفاع، الوحدات الخاصة، الحرس الجمهوري، سرايا الصراع...)؛ وبعضها الآخر شمل الحياة السياسية والاجتماعية والنقابية والتربوية، واصطناع منظمات تتكفل بخنق المبادرات التلقائية للمجتمع المدني؛ وبعضها الثالث دار حول موقع حزب البعث في السلطة، الأمنية أوّلاً ثمّ السياسية، وفي الدولة والمجتمع.

وفي الموسوعة البريطانية، مادّة "حزب البعث"، نقرأ ما يلي: "حزب سياسي عربي يدعو إلى قيام أمّة عربية اشتراكية واحدة. للحزب فروع في العديد من بلدان الشرق الأوسط، وهو حاكم في سورية والعراق. تأسس الحزب سنة 1943 في دمشق علي يد ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار، وأقرّ دستوره سنة 1947، واندمج مع الحزب العربي الاشتراكي لتشكيل حزب البعث العربي الاشتراكي". الطبعات اللاحقة من الموسوعة سوف تضطرّ إلى إدخال تعديلات جذرية على هذا التعريف، بمعدّل شهري تقريباً، إذْ لم يعد الحزب حاكماً في العراق، ومفردة "اشتراكية" فقدت كلّ مدلولاتها في عقيدة الحزب الراهنة، و"الجيش العقائدي" للحزب في سورية انضوى تحت القيادة الأمريكية في "عاصفة الصحراء"، واختراع "الديمقراطية الشعبية" صار جمهورية وراثية، والقطاع العام صار مزرعة عند أمثال رامي مخلوف، و"الرفيق البعثي" صار شبيحاً، أو مخبراً، أو "منحبكجياً" في أخفّ الوظائف!

زكي الأرسوزي (1908 ـ 1968)، أحد الآباء الروحيين المؤسسين للحزب، كان يقول: "العربي سيّد القدر". وأكرم الحوراني (1911 ـ 1996)، زعيم الحزب "العربي الاشتراكي" والرجل الذي يقف وراء حكاية اشتراكية البعث، طالب فلاحي منطقة حماه بأن يحضروا الرفش والزنبيل لدفن الإقطاعي دون إبطاء. وميشيل عفلق (1910 ـ 1989)، أبرز الأسماء في لائحة المؤسسين، عاد من دراسته في جامعة السوربون بمزيج عجيب من فيخته ونيتشه: من الأوّل ميتافيزيقا الأمّة الألمانية، ومن الثاني فلسفة القوّة التي سيسقطها على شخصية البعثي السوبرمان! بدأ هذا الحزب، إذاً، في سياق من سفاح عجيب بين الفلسفات والطبقات والشعارات، وهو اليوم يلفظ أنفاسه بطيئاً وسط سياقات مناسبة من سفاح عجيب آخر يزاوج فلسفة السوق والاستبداد، والجمهورية الوراثية بالوطن ـ المزرعة!

ومن مجازر حماه 1982 في سورية، إلى مجزرة حلبجة في العراق، وصولاً إلى الهمجية المطلقة في محاولات كسر الانتفاضة الشعبية الراهنة؛ ومن احتلال لبنان وضرب المخيمات الفلسطينية والتفرّج على الاجتياح الإسرائيلي لبيروت، إلى احتلال الكويت، وصناعة واحدة من أغبى كوارث العرب في التاريخ الحديث؛ ثمة منطق صارم يربط البدايات بالمآلات، نحو النهايات. الصفحة تُطوى في العراق دون أن تنطوي تماماً، وفي سورية تكفلت الجمهورية الوراثية بالإجهاز على آخر الأكاذيب حول "سيّد القدر"، دون سواه: بلغ الخامسة والستين، وخط الشيب رأسه، هرم، وشاخ... ولكنه ما يزال يهتف كالببغاء: منحبّك!

الثلاثاء، 3 أبريل 2012

أعراس الدمّ ومسارح التهريج

تأمّلوا هذا التفصيل الأوّل في الخبر الذي وزّعته 'سانا'، وكالة أنباء النظام السوري، تحت عنوان: 'مسرحيو اللاذقية يحيون احتفالية اليوم العالمي للمسرح': وقع الاختيار على عرض العمل المسرحي 'العرس الوحشي'، بالنظر إلى 'ملاءمته للمرحلة التي تمر بها سورية حالياً، في ظل الهجمة الشرسة'. اللافت أنّ المسرحية لا تجري في سورية، بل في... العراق! والعمل يتناول 'المأساة العراقية، مصوّراً الانتهاكات السافرة والوحشية التي تعرض لها العراق وشعبه'! التفصيل الثاني هو تصريح هاشم غزال، مخرج العرض ومدير المسرح الجامعي: 'إنّ المتآمرين يريدون للشعب السوري أن يصل في دمار بنيته إلى ما وصل اليه شقيقه العراقي، ولذلك توجهنا بالعمل إلى المتلقي السوري لمنحه الثقة بأنّ الشعب السوري لن يسمح للمرحلة العراقية السوداوية بالمرور في نسيجه الاجتماعي والتاريخي والثقافي'!

أمّا اختيار اللاذقية بالذات، دون سواها من المدن السورية، فإنه يشير إلى تفصيل ثالث في هذا المستوى الضحل من التخابث على هواجس السوريين، وترهيبهم من المصير العراقي (أي: 'العرس الوحشي'، نفسه!) الذي ينتظرهم إذا واصلوا أعمال الانتفاضة ضدّ نظام الاستبداد والفساد. من جانبها، كانت 'الشاعرة' مناة الخيّر، مديرة المسرح القومي باللاذقية، قد ألقت كلمة المسرح العالمي، فقالت إنّ 'العالم بأحلامه وحكاياته وجنون الحياة فيه يدور في فلك محراب المسرح، لأنه الشجرة الأمّ لكلّ فنون العالم'؛ وكأنّ 'فنون' النظام في التنكيل بالسوريين، وفي ارتكاب أبشع المجازر، كلّ ساعة، وكلّ يوم، ليست مسرح الحياة اليومية في سورية الراهنة. وأخيراً، لا تكتمل العوالم الحلمية هذه إلا بالكلمة الحالمة التي كتبها نضال سيجري، وأكد فيها أن 'المسرح في سورية سيعبر إلى ضفة شاطىء ذهبي أسطوري، يحاكي ملحمة الإنسان في أوجاعه وبسماته'!

من انحطاط مبتذل، إلى انحطاط أشدّ ابتذالاً، الآن إذْ يستذكر المرء موقفاً متميزاً لنفر من المثقفين السوريين، احتفوا بالمناسبة إياها، ولكن على نحو خاصّ، مشرّف وشجاع ومبتكَر في آن معاً: لقد ساروا، يحملون الشموع إلى بيت المسرحي والموسيقي السوري الرائد، الشيخ أحمد أبي خليل القباني (1836 ـ 1904؟)، الواقع في منطقة المزّة ـ كيوان، أعلى ذروة جبلية تطلّ على العاصمة السورية دمشق. وكانت وزارة السياحة، بالتعاون مع وزارة الثقافة و'جمعية أصدقاء دمشق'، قد عهدت إلى الجهة التي سترمم البيت باستثماره سياحياً، وهو المشروع الذي تعثّر أو توقف أو طواه النسيان. وبهذا المعنى، ولأنّ سلسلة معجزات كانت هي وحدها التي حفظت بقاء البيت ـ وإنْ في هيئة أقرب إلى الأطلال الدارسة ـ بعيداً عن جشع تجّار العقارات واحتمالات الهدم أو الاستيلاء العشوائي، فإنّ مسيرة الشموع تلك اتخذت صفة احتجاجية بيّنة، صامتة بالطبع، ولكنها ناطقة على النحو الوحيد الذي كان متاحاً في سورية آنذاك.

ومن الفاضح أنّ الجهات الحكومية المختصة تلكأت طيلة عقود في تكريم بيت الرائد الكبير، ليس من حيث الترميم فحسب، بل في ضرورة تحويله إلى متحف يضمّ إرث القباني ومفردات الحقبة التي عاش فيها وصنع الكثير من ذاكرتها الثقافية، مسرحاً وغناء وتلحيناً، وإحياء تراث، وتربية جمالية. ومن الفاضح أكثر أنّ تلك الجهات تتلكأ أكثر في استكمال أعمال الترميم، بل تراوح في المكان، رامية الملفّ فوق واحد من رفوف الإهمال الكثيرة، عرضة لأتربة البيروقراطية وغبار النسيان. كأن بعض حكمة النظام في هذا تنبثق، أوّلاً، من حقيقة أنّ الرائد الكبير يحتل في الوجدان السوري مقام المتمرّد على الطغيان، الثائر من أجل حرّية التعبير وانعتاق الفنون، والمبدع الذي لا يتملّق السلطة بل يكشف سوءاتها وموبقاتها بحقّ الشعب.

ذلك لأنّ مسرحيات القباني، وخاصة 'أبو الحسن المغفل'، أخذت تزعج السلطة السياسية العثمانية، وتقضّ مضجع بعض المشائخ أيضاً، فأرسل هؤلاء الشيخ سعيد الغبرا مندوباً عنهم إلى الأستانة، وفي صلاة الجمعة هتف الغبرا بالسلطان عبد الحميد الثاني: 'أدركنا يا أمير المؤمنين، فإنّ الفسق والفجور قد تفشيا في الشام، فهُتكت الأعراض وماتت الفضيلة ووئد الشرف واختلطت النساء بالرجال'. ولم يكن عجيباً أن يأمر السلطان واليه في دمشق، حمدي باشا، باغلاق مسرح القباني، ومنعه من التمثيل، والتغاضى عن عمليات التنكيل التي نظمها بعض المشايخ ضدّه. وهكذا أحرق الغلاة المسرح، وحاصروا منزل القباني، فغادر إلى مصر سنة 1884، وبقي منفياً فيها حتى سنة 1900؛ فعمل في الإسكندرية أوّلاً، ثمّ في القاهرة، وجال في المنصورة والمنيا والفيوم وطنطا وبني سويف، حتى أنّ البعض يحصي له 150 حفلة مسرحية.

والاحتفاء بيوم المسرح العالمي عن طريق تكريم القباني، من فريق يمثّل المجتمع المدني، حتى بمسيرة شموع بسيطة إلى بيته؛ مقابل إحياء المناسبة ذاتها على يد فريق النظام، بوسيلة الترهيب والتخويف والتلويح بالكوابيس؛ هي، في واحد من وجوهها الدالّة، فارق بين أعراس الدم على مسرح الحياة، وقرع طبول التهريج على مسارح السلطة. ولهذا لم يكن بلا معنى أن مسيرة شموع جديدة لم تقصد بيت القباني هذه السنة، لأنّ المطلوب لم يعد ترميم البيت وحده، بل إعادة بناء سورية الجديدة بأسرها، بعد تقويض النظام.