وعزّ الشرق أوّله دمشق

الاثنين، 28 مايو 2012

مجزرة الحولة وثقافة الجزار

ثمة عناصر، عديدة، يسهل على معارضي النظام السوري التوافق عليها عند قراءة حدث جلل، وفاصل ربما، مثل المجزرة التي ارتكبتها قوّات النظام ومفارزه الأمنية وقطعان الشبيحة في بلدة الحولة، وذهب ضحيتها أكثر من مئة شهيد، بينهم قرابة 50 من الأطفال، وغالبية من النساء، فضلاً عن وقوع جرحى بالمئات. وثمة، في المقابل، توافق لا يقلّ سهولة لدى أنصار النظام، يُختصر في تكرار الأسطوانة المشروخة، حول مسؤولية "العصابات المسلحة"، و"المندسين" و"القاعدة" و"الجيش السوري الحرّ"، عن هذه "العمليات الإرهابية"، وكذلك عن تفجيرات دمشق وحلب ودير الزور. وليس ثمة توافق، أغلب الظنّ، عند "الفئات الوسيطة"، إذا جاز التعبير، الحائرة بين معارضة النظام وتعليق الآمال على التفاوض معه حول "حلّ سياسي" لـ"الأزمة": هناك قائل يرى أنّ عسكرة الانتفاضة هي التي تدفع النظام إلى التغوّل؛ وهناك مَن هو أكثر عبقرية، وانتهازية بالطبع، يرى أنّ المجزرة ممارسة فردية (تماماً كأعمال الاغتصاب والخطف) لا تمثّل اتجاه النظام العام!

وفي تعداد بعض العناصر التي يحسن أن يتوافق عليها معارضو النظام، هنالك افتراض بسيط يقول إنّ وحوش مجزرة الحولة هم قطعان ضباع متعطشة للدماء، حاقدة في مستوى الغرائز الوحشية الصرفة، وكذلك في مستويات التعصّب الطائفي الأعمى، ونزوعات الانتقام العشوائي، أو الانتقائي أيضاً. افتراض، مكمّل وجدلي، قد يفيد بأنّ هذه القطعان لم ترتكب ذلك الفعل، الإجرامي الشائن والهمجي والمتجرّد من كلّ حسّ إنساني، إلا لأنها منهزمة لتوّها، مذعورة من حساب الشعب والتاريخ، مفلسة في حاضرها ويائسة من مستقبلها، لاهثة إلى حضيض حتمي صار قاعدة وجودها، أو انقلب إلى نظير للعدم ليس أكثر. وأنها، هذه القطعان، لا تحمل تلك المواصفات، ولا تنتظم في ذلك المنطق، إلا لأنها على شاكلة النظام الذي تنتمي إليه، وتناصره، وتنخرط في معاركه، وهي بعض أشدّ أدواته وحشية وعماء وإجراماً.

إلى هذه كلها، لا يغيب ذاك العنصر الذي لم يتوقف النظام عن اعتماده منذ انطلاقة الانتفاضة، لا بوصفه خياراً تكتيكياً طارئاً أو وليداً، بل لأنه كان ويظلّ استئنافاً ضرورياً لأحد الركائز الكبرى التي اعتمدتها "الحركة التصحيحية"، والتي دشّنها حافظ الأسد وتابع تنفيذها وريثه الأسد الابن: الاشتغال على التفريق، والتفرقة، بين طوائف المجتمع السوري، بطرائق تخلق ما يتيسّر من أجواء التوجس والبغضاء والفتنة، من جهة أولى؛ وزرع اليقين الثابت في نفوس أبناء الطائفة العلوية بأنّ عقائدهم وطرائق عيشهم وعاداتهم وتقاليدهم وامتيازاتهم الراهنة (التي مُنحت للبعض منهم على نحو تمييزي مقصود، ومنهجي منظّم)، ليست هي وحدها المهددة؛ بل أنّ وجودهم، في كلّيته، سوف ينقرض تماماً ونهائياً، ما لم تنتسب الطائفة، برمّتها أو في غالبيتها الساحقة، إلى صفّ النظام، وتقاتل في معارك البقاء التي يخوضها.

وكما فشلت محاولات النظام الكثيرة، في تأليب طائفة ضدّ أخرى، أو في اللعب على مخاوف الأقليات الدينية أو المذهبية أو الإثنية (الأمر الذي أطاش صواب الأجهزة كلما ارتد مخطط خبيث إلى نحور صانعيه، ودفعها إلى مزيج من التعنت والتخبّط في آن معاً)؛ كذلك يتوجب أن تنقلب مجزرة الحولة إلى نقيض ما أرادته الأجهزة من ارتكابها: إلى حاضنة وطنية جبارة، تستلهم أرواح الشهداء، الأطفال منهم بخاصة، على نحو يستولد وعياً رفيعاً بحقائق المخطط الخبيث، ويمنح الانتفاضة طاقة جديدة وتجديدية، ويرفد ثقافة المقاومة الشعبية بخطوط تآلف أعمق وأصلب. وأياً كانت مقادير التفكير الرغبوي في هذا الوجوب المطلوب، فإنه يظلّ غاية حقّ وحقيقة، من جهة أولى؛ وحصيلة أخرى إضافية، واقعية وفعلية، شهدت على ولادة مثائلها أحداث كثيرة سابقة، من جهة ثانية.

يبقى، بالطبع، ذلك الدرس التاريخي الذي لا يجوز نسيانه البتة، أو تناسيه: أنّ إدانة المجزرة، على ألسنة هيلاري كلنتون أو وليام هيغ أو لوران فابيوس أو غيدو فيسترفيله، لا تطمس حقائق مجازر أسوأ ارتكبتها بحقّ الشعوب قوى عظمى مثل أمريكا أو بريطانيا أو فرنسا أو ألمانيا. لا تحجب، كذلك، وقائع سكوت هذه القوى عن، أو تواطؤها مع، جرائم حرب شتى اقترفتها إسرائيل بحقّ الفلسطينيين، وتقترفها كلّ يوم، دون رادع أو إدانة أو استنكار حتى على المستوى اللفظي.

ومنذ القرن الثامن عشر كان الأسكتلندي آدم سميث، مؤسس علم الاقتصاد السياسي، هو الذي عزى تفوّق أوروبا إلى ابتكارها ثقافة العنف، وتحويل الحرب إلى علم، وإلى استثمار. وفي القرن ذاته كان جورج واشنطن، أوّل رئيس أمريكي، هو الذي قال: "إنّ التوسيع التدريجي لمستعمراتنا كفيل بطرد الهمجيّ والذئب على حدّ سواء، فكلاهما وحش برّي وإنْ اختلفا في الهيئة". وأمّا في أواسط القرن اللاحق، فقد كان المشرّع الهولندي هوغو غروتيوس، مؤسس القانون الدولي الحديث، هو الذي جزم دون أن يرفّ له جفن: "أكثر الحروب عدالة هي تلك التي تُشنّ ضدّ الوحوش. وثمة بشر يشبهون الوحوش".

أليس اتكاء الأسد الابن، وقبله الأسد الأب، على ثقافة "الجزّار المتمدّن" هذه، هو بعض السبب في اطمئنان النظام إلى تنفيذ عشرات المجازر، منذ المشارقة وحماة وسجن تدمر، إلى إزرع وكرم الزيتون والحولة؟

الخميس، 24 مايو 2012

آصف شوكت: احتمالات غياب لا يقصم ظهر النظام

ما يزال الغموض يكتنف العملية التي أعلنت عنها "كتائب الصحابة"، قبل أيام، وما تزال الأسئلة تكتنف مصداقية ما تضمنته من إبلاغ عن مقتل جميع (ثمّ لاحقاً: بعض) أفراد " خلية إدارة الأزمة"، وفق التسمية التي شاعت منذ أشهر، واستقرّت في أذهان الكثيرين بوصفها اسماً على مسمّى فعلي، وليس توصيفاً مجازياً مثلاً. ومنذ آذار (مارس الماضي)، بعد انشقاق عبد المجيد بركات، الذي تردد أنه كان أمين "الخلية"، تكدست معلومات شتى حول طبيعة عمل هذه المجموعة الأمنية، والمهامّ المناطة بها، وصلاحياتها، وتقاريرها اليومية التي قيل إنها تُرفع مباشرة إلى بشار الأسد...

كذلك شاع، أو بات من المسلّم به، أنّ "الخلية" تتألف من هذه الشخصيات: ماهر الأسد، الشقيق والقائد الفعلي للفرقة الرابعة، والرجل الثاني الأقوى في هرم النظام العسكري؛ آصف شوكت، صهر العائلة الأسدية، الذي تقلّب في مناصب عديدة منذ توريث بشار الأسد، أبرزها إدارة المخابرات العسكرية؛ اللواء جميل حسن، رئيس مخابرات القوى الجوية؛ اللواء علي مملوك، مدير المخابرات العامة؛ اللواء عبد الفتاح قدسية، مدير المخابرات العسكرية؛ اللواء محمد ديب زيتون، رئيس شعبة الأمن السياسي؛ العماد المتقاعد حسن توركماني، وزير الدفاع الأسبق، والنجم اللامع اثناء سنوات الوفاق السوري ـ التركي؛ العماد علي حبيب، وزير الدفاع السابق؛ العماد داود راجحة، وزير الدفاع الحالي، اللواء صلاح النعيمي، رئيس هيئة العمليات؛ اللواء محمد الشعار، وزير الداخلية؛ هشام بختيار، رئيس مكتب الأمن القومي في القيادة القطرية؛ ومحمد سعيد بخيتان، الأمين القطري المساعد لحزب البعث.

هي "عظام رقبة" النظام، كما قد يقول المنطق البسيط، ولا ينقصها إلا عضوية رئيس إدارة الأمن الجنائي، أو إدارة شرطة السير، أو الضابطة الجمركية، أو الشرطة العسكرية... حتى يكتمل المطبخ الأمني للنظام، فتسقط صفة "الخلية" عن هذه الاجتماعات، لتصبح في منزلة ما، عجيبة غريبة، بين "المحفل" العمومي و"المجمع" السرّي! وشخصياً، لست أخفي ارتيابي في أنّ هذه "الخلية"، في توصيفها هذا على الأقلّ، لا توجد فعلياً على أرض الواقع، أو لا تعمل ضمن هذه الأوالية المحكمة، التي توحي بأنّ النظام ليس متماسكاً ومنسجماً ومتكاملاً، على صعيد مراكزه الأمنية العليا، فحسب؛ بل توحي أيضاً، أنه نظام "عقلاني"، و"ائتلافي" و"مؤسساتي"، يعطي لكلّ مسؤول حقّه في الإدارة، ويوكل له صلاحياته.

والحال أنّ نظام "الحركة التصحيحية" لم يعمل وفق هذا المنطق في أي يوم، وما كان ممكناً له أن يعمل ـ أمنياً، في المقام الأوّل، ثمّ عسكرياً وسياسياً بعدئذ ـ استناداً إلى أية صيغة تجعل القائد الفرد الأوحد مجبراً على الرجوع، فما بالك بالخضوع، إلى اجتهادات هذا أو ذاك من "قيادات" النظام الأدنى مرتبة. تاريخ العشرات من رفاق حافظ الأسد، ثمّ وريثه بشار الأسد، ممّن سادوا ذات حقبة، وبدا أنهم أساطين وأعمدة وركائز في معمار النظام؛ قبل أن يتضح أنهم بادوا في غمضة عين، وانتهوا إلى سلال مهملات التاريخ، غير مأسوف عليهم، ولا أثر يكاد يبقيهم حتى على الألسن (حكمت الشهابي، ناجي جميل، علي دوبا، علي حيدر، رفعت الأسد، محمد الخولي... أيام الأسد الأب؛ وعبد الحليم خدام، غازي كنعان، بهجت سليمان، محمد منصورة... أيام الأسد الابن؛ محض أمثلة على هذه السيرورة المتصلة).

ذلك يجعلني أرتاب في أنّ "خلية إدارة الأزمة" هذه ليست سوى خرافة، غذّتها مخيّلة تلقائية، بسيطة بقدر ما هي مشروعة في الواقع، شاءت أن تجمع كلّ هذه الإدارات والدوائر والشُعَب والمؤسسات الأمنية في حلقة واحدة، وحيدة؛ يُعزى إليها التخطيط لسياسات النظام الأمنية العليا، والإشراف على تنفيذها، وتنظيم مختلف التدابير في سياق الحلّ الأمني الذي اعتمده النظام منذ بدء الانتفاضة. وبصرف النظر عن احتمالات نجاح عملية "كتائب الصحابة"، كما وُصفت تفاصيلها بعدئذ؛ وما إذا كان ظهور الشعار وتوركماني على قيد الحياة، دليلاً على فشل العملية؛ أو كانت المعلومات المتفرقة عن موت الآخرين، وغيابهم، دليلاً على نجاحها؛ فإنّ الحلقة الأمنية الفعلية التي تدير سياسات النظام ليست هذه، وليس هذا منطق عملها.

ومع التسليم بأنّ مقتل أي من أعضاء "خلية إدارة الازمة"، الافتراضية تلك، يمكن أن يشكّل ضربة للنظام، ويمكن لبعض الضربات أن تكون موجعة؛ إلا أنها لن تكون قاصمة لظهر النظام، من جهة أولى؛ كما أنها، من جهة ثانية، لن تشلّ عمل مؤسساته الأمنية، غير المرتبطة دائماً بقياداتها المباشرة. وقد لا يبالغ امرؤ يفترض أنّ غياب أعضاء "الخلية"، مجتمعين، لا يساوي غياب فرد واحد مثل ماهر الأسد؛ ولهذا فإنّ الأخير كان غائباً عن الاجتماع المذكور في القيادة القطرية، هذا بافتراض أنه شارك في أي من اجتماعاتها تلك، ذات يوم! موجعة، إلى هذا، أن تكون العملية قد نجحت في استهداف آصف شوكت، لأسباب أخرى لا تتصل بأنه ركن أساس في معمار النظام الأمني، وتعود في جوهرها إلى موقعه داخل البيت الأسدي، ومطامحه السياسية (بالتكافل والتضامن مع عقيلته، بشرى الأسد)، وشبكات الولاء التي نسجها في جيوب محددة داخل الطائفة العلوية (علاقاته بممثلي المجموعات المرشدية، بصفة خاصة).

لا يُنسى، في هذا الصدد، أنّ شوكت هبط، مثل طائر الوقواق، على العائلة الأسدية حين ارتبطت به بشرى ـ الابنة البكر، والوحيدة في العائلة ـ ورضيت أن تكون زوجته الثانية، سرّاً ودون موافقة العائلة، وعاشت معه بعيداً عن القصر الرئاسي، حتى حسم الأسد الأب الأمر فأعادها وضمّ شوكت إلى الأسرة. وشاع أنه ما يزال منبوذاً من العائلة، ولم يتردد ماهر الأسد في إطلاق النار عليه ذات مرّة، إثر شجار حول مكانة العمّ رفعت الأسد. وطيلة خمس سنوات رفض الأسد طلب شقيقته بشرى تسليم زوجها رئاسة جهاز الاستخبارات العسكرية، وكان أعلى منصب اقترحه عليه هو استخبارات القوى الجوية، الذي رفضه شوكت واعتبرته بشرى إهانة لها. وليست إعادته من المخابرات العسكرية، إلى نيابة رئيس الأركان، ثمّ إلى نيابة وزير الدفاع، إلا المؤشر على أنّ شوكت ظلّ دخيلاً على البيت الأسدى، صهراً فحسب وليس عضواً كامل الحقوق والمزايا.

وقبل الانتفاضة بسنوات، منذ اغتيال عماد مغنية في ربيع 2008، تحدثت تقارير جدّية عن توتر أقصى بين الأسدَين، بشار وماهر، والصهر شوكت، تردّد أنّ الأخير قرّر بسببها ترك العاصمة دمشق و"الحرد" في ضيعته البعيدة، "المدحلة"، طيلة أشهر، حتى نجحت المصالحة في رأب "الصدع". بيد أنّ اتفاق شوكت والأسد حول الضرورات العليا لأمن النظام (وكان ذاك هو جوهر المصالحة، لأنه انقلب إلى توافق جماعي حين تندرج فيه أدوار ماهر الأسد، الأقوى في صفوف الجيش الكلاسيكي والوحدات العسكرية ذات المهامّ الأمنية الخاصة؛ والخال محمد مخلوف وأولاده، بارونات اقتصاد العائلة، وبالتالي اقتصاد الاستبداد؛ وحفنة محدودة للغاية من العسكريين والمدنيين، الأقلّ رتبة ومرتبة فقط، ولكن ليسوا أبداً أقلّ ضرورة في تشغيل آلة السلطة)؛ لم ينقلب إلى انطباق تام، أو تطابق شامل، حول وسائل الحفاظ على ذلك الأمن.

ظلت المؤشرات تتكاثر على "افتراقات" في مسائل سياسية حاسمة، مثل تدهور علاقات النظام مع السعودية ومصر، وما إذا كان الحفاظ على المقدار الراهن من النفوذ السوري في لبنان يستحق كلّ ذلك التدهور من جهة، أو أنّ في وسع النظام الصمود طويلاً في المواجهة الحالية، بل المواجهات القادمة، العربية أو الإقليمية أو الدولية. هنا، بالطبع، دخلت الأشغال والأعمال على خطّ الخلاف السياسي، إذْ هل من مصلحة القيّمين على النهب والفساد والاستثمار أن تُغلق الأبواب السعودية، وبعدها بعض أبواب الخليج، في وجه رساميلهم وشراكاتهم وشركاتهم؟ ملفّ افتراق آخر دار حول حدود العلاقات مع إيران، أمنياً وسياسياً وعسكرياً واقتصادياً، وهل من الحكمة أن تنتهي تلك الحدود إلى تحالف، بلا حدود؟

وقد يسلّم المرء (بما يسهل التسليم به، في الواقع) بأنّ شوكت كانت لديه أجندة طبيعية شخصية، في إدامة النفوذ والسلطة والحلفاء وشبكات الولاء، مثله في ذلك مثل تسعة أعشار كبار رجالات "الحركة التصحيحية". التالي، من حيث المبدأ، هو أنّ هذه الأجندة تصطدم موضوعياً بالمشروع الإيراني في سورية: كلما تزايد الرهان الإيراني على بشار الأسد، بما ينطوي عليه ذلك من إحاطته أكثر فأكثر بأنصار إيران (ثمة تقارير ذهبت، آنذاك، إلى حدّ ترجيح نجاح طهران في تشكيل "نواة" عسكرية ـ أمنية سورية من هذا الطراز، كفيلة بأن تنفّذ انقلاباً عسكرياً في التوقيت الملائم)، تناقصت فرص آصف شوكت في تشكيل مركز قوّة/طوارىء، نظير على الأقلّ، إذا لم يطمح إلى موقع البديل، مالىء الفراغ إذا وقع.

صحيح أنه لم يكن في الوسع رصد هذه الخلافات علانية، بالنظر إلى أنّ شوكت لم يسبق له أن خاض في غمار السياسة علناً؛ إلا أنّ تطوّرات كثيرة لا يمكن أن تظلّ حبيسة جدران بيوت السلطة، وثمة دائماً معلومات بالغة الدقة تأخذ نادراً صفة التسرّب، ولكنها غالباً تسير مسرى التسريب عن سابق قصد وتصميم (صداقات اللواء مع نخبة من الدبلوماسيين وضباط الأمن في بعض الدول الغربية، فرنسا وإسبانيا خصوصاً، كانت كفيلة بتأمين معين لا ينضب من المعلومات). كنّا نعرف، وبتنا اليوم على معرفة أوسع، وامتلكنا معلومات أدقّ، حول العلاقة الوثيقة التي جمعت شوكت مع كلود غيان (سكرتير قصر الإليزيه في تلك الحقبة، وكاتم أسرار الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، وناصحه الأبرز)، على سبيل المثال؛ حول مسائل جيو ـ سياسية بالغة الحساسية، على رأسها أمن إسرائيل، وما يُسمّى "الحرب ضدّ الإرهاب"، و"القاعدة" بصفة خاصة.

بهذه المعاني، مترابطة ومتكاملة، يمكن القول إنّ عملية "كتائب الصحابة"، إذا كانت قد قضت على شوكت بالفعل، فقد أسدت للانتفاضة خدمة ثمينة، إذْ أبعدت عن دائرة النظام الأمنية أحد كبار وحوشها؛ ولكنها، في المقابل، لم تسدد للنظام ضربة قاصمة للظهر، إذا لم تكن ـ للمفارقة، ودون أن تقصد بالطبع ـ قد أراحت البيت الأسدي من طائر وقواق غير مرغوب به. أمّا في المحصلة الجدلية، التي تذهب أبعد من أثر الفرد في ظواهر التاريخ الكبرى، فإنّ حضور شوكت كان متساوياً مع غيابه في مآل عظيم، واحد على الأقلّ: هذا نظام إلى زوال، وشيك ومحتوم، مثل "عظام الرقبة" فيه... أجمعين!  

الاثنين، 21 مايو 2012

خيانات المعنى

رحل الروائي والكاتب المكسيكي الكبير كارلوس فوينتيس (1928ـ2012) قبل أن يفوز بجائزة نوبل للأدب، وكان لا يستحقها عن جدارة في ميدان الإبداع الأدبي والكتابة عموماً، فحسب؛ بل كذلك في علوّ القامة، الفكرية والأخلاقية، من حيث الوفاء لصفة "المثقف العضوي"، الكوني، العابر للحساسيات والهويات والجغرافيات، الملتزم دون تحزّب ضيّق، والمنحاز دون تعصّب أعمى. وكم كانت انتفاضات العرب، وتظلّ اليوم أيضاً، ربما أكثر من أيّ مرحلة في سيروراتها، إلى هذا الطراز من الفاعلية المنتمية، التي تنهض على القول مثل الفعل، وعلى التنظير أسوة بالممارسة.

وذات يوم، في سنة 2007، خلال مؤتمر دولي يحتفي باللغة الإسبانية، نظّمه الروائي الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز في كارتاخينا، اجترح فوينتيس واحدة من الطرائق الأكثر طرافة في نقد الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الابن. لقد ذهب إلى جانب خاصّ في شخصية الأخير، غير منتظَر في العادة، ولكنه بالغ السوء في نظر فوينتيس: استخدام اللغة الإسبانية، على سبيل النفاق السياسي ودغدغة مشاعر 45 مليون أمريكي ناطق بالإسبانية: قال الروائي المكسيكي: "حين يلقي بوش خطاباً بالإسبانية، فإنني لا أفهم كلمة واحدة ممّا يقول، تماماً كما تكون حالي حين يتحدّث بالإنكليزية"!

وليس الأمر أنّ بوش يتكلّم بإسبانية رديئة إلى حدّ أنّ فوينتيس يعجز عن فهمها، وهو ابن اللغة وأحد كبار المَهَرة في توظيف مجازاتها وأسرارها. القصد الضمني كان التذكير بتلك الفكرة العتيقة، عن لغة تضمر من المعنى غير ما تحمله المفردات، أو تفيد نقيض ذلك المعنى في أمثلة عديدة. وفي برهة مفصلية من رواية فوينتيس القصيرة "الشاطئان"، التي تعيد إنتاج تاريخ المكسيك في قالب حكائي، ثمة مثال صاعق على تلك الفكرة؛ حين يتولّى جيرونيمو أغويلار مهمّة الترجمة بين القائد الإسباني هرنان كورتيز (الغازي والمنتصر)، والإمبراطور المكسيكي كواتيموك (ابن الأمّة المنكسرة). اللعبة هنا، وهي بديعة وبارعة، يديرها فوينتيس على تلك الحوافّ الخافية بين الواقع والخيال، وبين السجلّ التاريخي والنصّ السردي.

ففي حوليات الغزو الفعلية كما شهدها ودوّنها المؤرّخ الإسباني برنال دياز ديل كاستيلو، ينتحب الإمبراطور المكسيكي جرّاء شعوره بالعار لأنه فشل في الحيلولة دون هزيمة شعبه أمام كورتيز، فيقدّم خنجره الشخصيّ طالباً أن يذبحه القائد الإسباني. ويسجّل دياز أنّ كورتيز بادر إلى مواساة كواتيموك، وخاطبه برقّة، وقال إنه معجب به كثيراً، وإنّ قيادته لشعبه مسألة مشرّفة حتى إذا كانت قد انتهت إلى الهزيمة، وإنه سيعفو عنه، بل وسيبقيه إمبراطوراً على المكسيك. هذا في السجلّ التاريخي، وأمّا في رواية فوينتيس للمشهد ذاته، فإنّ المترجم أغويلار يتعمّد تحريف أقوال كورتيز لكي تدلّ على المعنى المعاكس تماماً: "أنت أسيري، وسأذيقك العذاب الأمرّ. سوف أحرق قدميك وأقدام أنصارك الأسرى حتى تعترف بمخابىء كنوز عمّك مونتيزوما. ولسوف أُقْعِدك إلى الأبد، ولكني سأصطحبك كسيحاً باكياً في جميع غزواتي، لكي تكون رمزاً لسطوتي وعبرة لمن يتحدّى سلطاني".

ورغم أنّ أغويلار مارس الكذب المتعمّد في ترجمة أقوال كورتيز، فإنه في الآن ذاته كان قد صدَقَ حول ما سيجري بعدئذ على الأرض. وبالفعل: لقد عُذّب كواتيموك، وأُحرقت قدماه بالزيت المغلي لكي يعترف بمكان كنوز مونتيزوما، وأُجبر على مرافقة كورتيز في غزو الهوندوراس، ثمّ شُنق بتهمة التحريض على العصيان. وهكذا، يقول فوينتيس على لسان المترجم: "لقد ترجمتُ على هواي. أضفتُ واخترعتُ من عندي وسخرتُ من كورتيز. ترجمتُ، وخُنتُ، واخترعتُ. ولكن ما دام ذلك كلّه حدث، وأصبحت كلماتي حقيقة فعلية، أَلم أكن على حقّ في ترجمة القائد [كورتيز] بمفعول معاكس، لكي أقول الحقيقة لشعوب الأزتيك، مستخدماً أكاذيبي"؟

"المترجمون خَوَنة"، حسب المَثل الإيطالي الشائع، ولكن استناداً إلى طبيعة الترجمة ذاتها أيضاً. ويحدث مراراً أن يعفّ كبار المترجمين عن هذه "الخيانة"، ليس لأنهم يكرهون فكرة الخيانة بحدّ ذاتها، بل لأنهم في واقع الأمر لا يفلحون في بلوغ المستوى الرفيع المطلوب الذي يجازف المرء بعده، فيخون وهو مطمئنّ! غير أنّ مثال أغويلار يعرض نمطاً فريداً للغاية من هذه الخيانة، لأنّه إذا كان قد خان اللغة والمفردات والمعنى عن سابق عمد وتصميم، فإنّه في الواقع انحاز إلى الحقيقة الوحيدة اللائقة بمنطق انتصار القائد العسكري الغازي، ومآل انهزام الإمبراطور ابن البلد.

بمعنى آخر، كان أغويلار سيرتكب الخيانة العظمى، حقاً، لو أنه ترجم أقوال كورتيز كما نطق بها حرفياً، لا لشيء إلاّ لكي تثبت الوقائع اللاحقة أنّ تلك الأقوال كانت كاذبة تماماً، وأنّ اللغة كانت مصيدة، وأنّ المعنى ليس ذاك الذي يقع في باطن المفردات وحدها. وانتفاضات العرب شهدت، وما تزال تشهد، الكثير الوفير من هذه "الخيانات المضادة"، إذا جاز النحت هكذا: تجد بوقاً انتهازياً، هنا، يدافع عن نظام حاكم عن طريق جعل الحقائق البسيطة تسير على رأسها؛ وتجد، في المقابل، معارضاً انتهازياً ينفخ في بوق خاصّ به، لكنه لا يفلح في وضع الحقائق ذاتها على قدميها؛ وأمّا العزاء، وجوهر الأمل، فهو كامن في ما يترجمه الحراك الشعبي على الأرض، في قلب التظاهرة، وروحية المقاومة، وصناعة المعنى الحقّ...  

الأحد، 13 مايو 2012

اليهود المحافظون: لماذا يناصرون الأسد؟

ليست جديدة تلك المواقف التي تصدر عن كتّاب ومعلّقين وساسة يهود، وتعلن ـ على نحو صريح تارة، ومبطّن خافٍ طوراً ـ مناصرة نظام بشار الأسد، ومعاداة الانتفاضة الشعبية، خشية على دولة إسرائيل إذا سقط النظام الذي كفل صمت السلاح في هضاب وبطاح الجولان طيلة 40 سنة، وقدّم خدمات ثمينة لأمن إسرائيل في لبنان وفلسطين والأردن، ولأمن راعيتها الكبرى الولايات المتحدة، لا سيما في تحالف "حفر الباطن". بيد أنّ المرء يعثر، في مناسبات نادرة، على آراء فارقة تماماً في مقدار صراحتها، وأحياناً مذهلة في مدى تفضيل البُعد الستراتيجي على أي حسابات تكتيكية؛ وصاعقة، بالقياس إلى ما تهزّه من "ثوابت" تبدو مكينة وراسخة ولا تقبل الجدل أو التشكيك، أو حتى تقليب الرأي والرأي الآخر.

أحدث نماذج هذا الطراز من المكاشفة، حول ضرورة مناصرة يهود العالم لنظام الأسد، سلسلة الأقوال التي أدلى بها مؤخراً ألكسندر آدلر، المؤرّخ والصحافي الفرنسي اليهودي، في مناسبة صدور كتابه "شعب هو العالم: مصائر إسرائيل"، وذلك خلال حوار مع "المركز الملّي العلماني اليهودي" في باريس، متلفز ومتوفر على موقع المركز، لمن شاء الرجوع إليه كاملاً. وآدلر، لمَنْ لا يعرفه جيداً، بدأ شبابه يسارياً ماويّ الهوى، ثمّ انضمّ إلى الحزب الشيوعي الفرنسي، قبل أن ينتقل كليّاً إلى صفّ اليمين أواخر السبعينيات، ويلتحق بعدئذ بمدرسة المحافظين الجدد في أمريكا، ثمّ ينتهي مستشاراً لرئيس "المجلس التمثيلي للمؤسسات اليهودية في فرنسا"، الـCRIF، حيث واصل انحيازه المطلق لدولة إسرائيل.

مهنياً، على المستوى الصحفي، عمل آدلر في مطبوعات فرنسية كثيرة، وترأس تحرير "لو كورييه إنترناسيونال" خلال سنوات 1992 ـ 2002، حين استقال إثر خلاف مع إدارة المجلة حول عمود إشكالي كتبه دفاعاً عن يهود ألمانيا. هو اليوم كاتب أعمدة في صحيفة الـ"فيغارو"، ومساهم دائم في مطبوعات ومواقع أخرى يمينية غالباً، محافظة، وشديدة الانحياز لإسرائيل. خلاصة رأيه في النظام السوري، كما عبّر عنها خلال حوار مع الإذاعة الثقافية في فرنسا، هي التالية: إذا لم يكن النظام ديمقراطياً، فإنه ليس دكتاتورية إرهابية أيضاً! بيد أنّ هذا القول كان معتدلاً تماماً، بالقياس إلى ما سيقوله آدلر في حديثه مع  "المركز الملّي العلماني اليهودي"، والذي سنتوقف عند محورَين فقط من محاوره المتشعبة.

في المحور الأوّل، بصدد العلاقات الإسرائيلية ـ الإيرانية والبرنامج النووي الإيراني، يقول آدلر: "لا أعتقد أنّ الإيرانيين أرادوا في أي يوم امتلاك القنبلة النووية لتهديدنا، نحن اليهود؛ وأنّ الهدف في الحقيقة كان بلوغ التفوّق على العالم العربي، والعالم العربي السنّي، في موازاة تجربة الباكستان النووية التي تمّ تمويلها بالكامل من المملكة العربية السعودية ودول الخليج". ثمّ يربط هذا التقدير بواقع انتفاضات العرب، ومصر تحديداً، فيقول: "إذا سألتني عن جوهر موقفي، أرى أنّ الشعب الإيراني هو الأقرب إلى الشعب اليهودي، وإذا كان ثمة بلد محصّن ضدّ العداء للسامية، فهو إيران (...) واليوم أعتقد أنّ العدو الرئيسي هو تجمّع المتشددين المسلمين السنّة، العرب، القائم على خليط من الناصرية وعقيدة الإخوان المسلمين، والذين ـ انطلاقاً من مصر، التي كانت على الدوام البلد الجدّي الوحيد في المنطقة ـ يوشك على ترتيب محاصرة إسرائيل، والتحضير للهجوم عليها بين يوم وآخر".

عن المحور الثاني، الذي يخصّ النظام السوري، يتابع آدلر: "بالطبع، فإنّ حلفاءنا في وجه هؤلاء، السنّة والإخوان المسلمين، هم الشيعة أسوة بكلّ الأقليات الدينية في الشرق الأوسط؛ وحلفاؤنا هم الإيرانيون بالطبع. ومن غير أن أذهب بعيداً فأصفه بالحليف، اقول إنّ بشار الأسد ينبعي أن يصمد اليوم في سورية، على الأقلّ لأنه أحد مكوّنات حلّ تفاوضي. لستُ مع انتصار على غرار ما جرى للقذافي، وسورية ليست ليبيا، وسنشهد على الفور مذبحة معممة ضدّ العلويين والمسيحيين في الواقع، ترتكبها هذه الأغلبية السنّية المركّبة من الإخوان المسلمين، والمموّلة من قطر والسعودية".

هذه تقديرات قابلة للأخذ والردّ، غنيّ عن القول، خاصة وأنها تنسف ثابتاً كبيراً اسمه "الممانعة الإيرانية"، وتمثيلها الأهمّ في العالم العربي، أي "حزب الله"؛ كما تُلقي بظلال شكّ قصوى على حقيقة مواقف القيادات الإيرانية، الروحية والسياسية والأمنية، بصدد معاداة إسرائيل، أو معاداة السامية عموماً (والمرء يتذكر، دون إبطاء، الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد، الذي أعلن العزم على محو إسرائيل من الخريطة، واستقبل كبار "مراجعي" تاريخ المحرقة اليهودية). وقد يكون هدف آدلر هو دسّ السمّ في الدسم، والاشتغال ـ بطرائق أكثر خبثاً ودهاء، وأبعد أثراً بالتالي ـ على إذكاء نيران الفتنة بين الشيعة والسنّة، في إطارات شعبية وعقائدية أوسع نطاقاً.

ومع ذلك، فإنّ "فضيلة" أقوال آدلر تكمن في أنها تضعنا أمام مسوّغات ملموسة، ذات منطق يبدو متماسكاً للوهلة الأولى على الأقلّ، وحيثيات ترجيحية تتوخى الواقعية السياسية، وتهتدي بالذرائعية الصرفة، تفسّر غايات اليهود المحافظين في مناصرة نظام الأسد. وهذه خلاصات تبرّر، من جانب آخر، مقولة جوهرية بدورها: فتّشوا عن إسرائيل، إذاً، كلما ضاق ذرع البعض بتأخر الحسم في سورية، وتساءل عن أسباب إطالة عمر النظام!