وعزّ الشرق أوّله دمشق

الاثنين، 29 أكتوبر 2012

سورية وديمقراطية الذئاب اليانكية

عن الفارق، في الموقف من الانتفاضة السورية، بين المرشح الديمقراطي للرئاسة الأمريكية، الرئيس الحالي باراك أوباما، وخصمه المرشح الجمهوري ميت رومني؛ وجدتني أعود بصديقي السائل إلى أمريكا أواخر القرن الثامن عشر، وإلى سياسي وكاتب وعالِم وموسيقي يحلو لأبناء العمّ سام أن يطلقوا عليه صفة "الأمريكي الأوّل". ففي تعريفه لمعنى الديمقراطية، قال بنجامين فرنكلين (1706 ـ 1790): "إنها اجتماع ذئبَيْن على خروف، والهدف هو التصويت لاختيار طعام العشاء". وأياً كانت مضامين الاختلاف بين أوباما ورومني، سواء تلك المعلَنة أم المخفية، وعلى مستوى الأقوال أم الأفعال، فإنّ الخلاصة البسيطة هي افتراق في البلاغة واللفظ و"الزعبرة"، حسب التعريف الشعبي الأفضل للنفاق الديماغوجي؛ واتفاق مذهل في طبيعة الإجراءات على الأرض، سياسياً أو دبلوماسياً أو عسكرياً.

ولأني من المؤمنين ـ بل المحاربين القدماء، كما أجيز لنفسي القول ـ بأنّ السياسات الأمريكية في الشرق الأوسط، بصرف النظر عن هوية شاغل البيت الأبيض، تبدأ من رعاية مصالح إسرائيل، وإليها تنتهي؛ ثمّ لأنّ مصلحة إسرائيل تقتضي اليوم، كما كانت طيلة حكم حافظ الأسد ووريثه، إطالة عمر هذا النظام ما أمكن، وتخريب سورية أكثر فأكثر؛ فإنّ رومني في يقيني هو نسخة كربون، أو يكاد، عن منافسه أوباما. بيد أنّ إيماني العميق بأنّ انتفاضة الشعب السوري سائرة إلى نصر مؤزر، تاريخي واستثنائي وصانع لأكثر من أمثولة كفاحية، سياسية واجتماعية وأخلاقية وثقافية، وأنّ هذا النظام زائل لا محالة، سائر حثيثاً إلى مزابل تواريخ الشعوب؛ فإنني أكملت لصديقي السائل الشطر الثاني من تعريف فرنكلين: "وأمّا الحرّية فهي خروف جيّد التسلّح، يأبى ذلك التصويت"!

فإذا توقف المرء عند مستوى آخر من تعامل ساسة أمريكا مع ملفّ الانتفاضة السورية، وانتقل إلى بنات العمّ سام هذه المرّة، فإنّ النموذج الأبرز (بمعنى الصخب والعنف والضجيج والعجيج...) هو السيدة كرستين أودونيل، التي استحقت صفة النجم الصاعد في صفوف قيادات ما يُسمّى "حزب الشاي"، منذ انتصارها المفاجىء على مايكل كاسل، مرشح الجمهوريين في انتخابات مجلس الشيوخ عن ولاية ديلاوير، الذي سبق له أن انتُخب تسع دورات. ورغم أنها خسرت الجولة أمام الديمقراطي كريس كوونز، فإنّ نجم أودونيل واصل صعوده في صفوف جماعة الشاي هؤلاء، وكذلك في أوساط المحافظين واليمين المسيحي الكلاسيكي عموماً، وذلك بفضل معارضتها الشرسة للإجهاض، وللمثلية الجنسية، والاتصال الجنسي قبل الزواج، و... الاستمناء، أيضاً! وهذه السيدة لا تكفّ عن انتقاد أوباما لأنه لم يطح بالأسد بعد (فتسأله، مثلاً: هل تنتظر أن يبلغ عدد القتلى مئة كلّ يوم؟ متناسية، أو ربما جاهلة، أنّ الرقم تحقق ويتحقق منذ أشهر!)، أو لأنّ أقصى جهده في خدمة المعارضة السورية هو تشكيل مجموعة "أصدقاء سورية"، أو لأنّ الخزانة الأمريكية لم تعد "المتمردين" إلا بمعونات لا تتجاوز 45 مليون دولار...

كلام حقّ، يُراد به باطل؟ ليته توقف هنا، إذْ أنّ هذه الانتقادات ليست إلا واجهة "الزعبرة"، التي تتيح لسيّدة الشاي هذه أن تدسّ رسائل كره متعددة المستويات؛ ضدّ المسلمين أجمعين (لأنهم غير جديرين بالديمقراطية)، وضدّ انتفاضات "الربيع العربي" من مشرقها إلى مغربها (لأنها، على غرار الديمقراطية الألمانية في ثلاثينيات القرن الماضي، التي جلبت نازية أدولف هتلر، يمكن أن تجلب "النازية المسلمة"). فلماذا توجيه اللوم إلى أوباما، إذاً؟ أليس حرياً به المديح لأنه يوقف مدّ "النازية المسلمة" هذه، ويُبقي على أنظمة الاستبداد العربية، بوصفها حليفة الولايات المتحدة في نهاية المطاف، أو هي "الشيطان الذي نعرف" في أسوأ الشرور؟

لأنّ أمريكا يجب ان تقود الكون، بعجره وبجره، تردّ أودونيل؛ ولأنّ أمريكا، بعد الاتكال على الله والآباء المؤسسين و فرانسيس فوكوياما صاحب نظرية "نهاية التاريخ" الشهيرة، لا تستطيع التملص من تحديات هوية القوّة العظمى، في القرن الحادي والعشرين: الولايات المتحدة سوف تواجه التحدّيات، وستنجح، وستنتصر؛ ليس في مسائل السياسة وقيادة الكون واختتام التواريخ والظفر في صراع الحضارات، فحسب؛ بل كذلك في المصالحة بين الثقافة الأنغلو ـ بروتستانتية والثقافة الإسبانية ـ اللاتينية الكاثوليكية، وكذلك: في هداية البشرية إلى هذا الصلح الأقدس!

ليس غريباً، والحال هذه، أن ينتقل حال أودونيل من منظور يضعها في خانة المشعوِذات (اضطرّت للإقرار، بضغط من مشاهد فيديو انتشرت كالنار في الهشيم، أنها "تعاطت" السحر والشعوذة ذات يوم، ولكن من موقع "الهواية" وليس "الاحتراف")؛ إلى منظور آخر قادم يرتقي بها إلى مصافّ الرائيات اللواتي امتلكن باصرة في الرؤية الخارقة البعيدة، أين منها ما امتلكته زرقاء اليمامة في تراثنا العربي! ولكي لا تنقطع عن فلسفة فوكوياما في القراءة البيولوجية للتاريخ وللسياسة، كانت أودونيل قد سخرت من نظرية شارلز دارون حول النشوء والارتقاء، فسألت: إذا صحّت تلك النظرية، فلماذا توقفت القردة عن التحوّل؟

وبين أوباما ورومني وأودونيل، ثمة تلك الطامة الكبرى التي تقود بعض أطراف المعارضة السورية إلى اختيار دور القرد الذي لا يتحوّل، بدل الخروف الذي يقاوم، في محفل ذئاب تتعارك في ما بينها، ثمّ تنتهي إلى التصويت على طبق العشاء: الخروف، إياه!

الجمعة، 26 أكتوبر 2012

لبنان والنظام السوري: فائض النقصان خلف الاغتيالات

كان حرياً بواقعة اغتيال اللواء وسام الحسن، رئيس شعبة المعلومات في المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي اللبناني، من حيث إحكام العملية وسلاسة التنفيذ وما تردد عن وجود سيارات مفخخة أخرى في جميع المنافذ الإجبارية التي ستمرّ منها سيارة الحسن (التي كُشفت اصلاً، رغم تمويهها)، أن تعيد أذهان البعض إلى أطوار سالفة من هيمنة النظام السوري على مقدّرات لبنان. وتلك أحقاب "ذهبية" ربما، شهدت تمتّع النظام بسلطات واسعة النطاق، متعددة الأدوات، وفيرة المغانم، وعابرة للعلاقات الثنائية بين البلدين. وقبل أن يُورَّث بشار الأسد الحكم، بعد وفاة أبيه، في حزيران (يونيو) سنة 2000، ذاق لبنان، واللبنانيون، شتى صنوف التسلّط التي أدخلتها إدارات العميد محمد غانم (أوّل رئيس لاستخبارات النظام العسكرية في لبنان، "فرع الأمن والاستطلاع" في التسمية الشائعة)؛ وخَلَفه اللواء غازي كنعان، الغني عن التعريف بالطبع، والذي يصحّ فيه النحت اللغوي الفريد: إنتُحر؛ والعميد محسن سلمان (قائد الوحدات الخاصة، والآمر الناهي في تسعة أعشار شبكات التسلط والنفوذ والنهب خلال أواسط الثمانينيات)؛ فضلاً عن سلسلة العلاقات الوثيقة مع ساسة وضباط عسكريين وضباط أمن لبنانيين، يُعتبر ولاء ميشيل سماحة اليوم ألعوبة أطفال بالقياس إلى ولائهم آنذاك.  

بيد أنّ عودة الأذهان إلى مناخات أي من تلك الأطوار لا تعني، بالضرورة، أنّ نفوذ النظام السوري، المباشر والفعلي والمنفرد، قد عاد إليها بدوره، بصفة آلية؛ وإنْ كانت تعني أنّ "تلازم المسارات" بين النظام وحلفائه اللبنانيين، والإقليميين، قد بلغ ذروة قصوى ابتداء من عملية اغتيال الحسن (وهذا نقاش آخر، توقفتُ عند ملابساته قبل أيام، في ضوء منطق أمني وعملياتي وميداني يفرض القاعدة التالية: جميع العمليات التي تجري على الأرض اللبنانية، خدمة للنظام السوري، لا بدّ أن تخضع لترخيص، أو مساعدة، أو حتى توفير أدوات التنفيذ، من جانب "حزب الله" و/أو "الحرس الثوري" الإيراني). ذلك لأنّ نفوذ النظام، اليوم، هو في أضعف حلقاته منذ الدخول العسكري إلى لبنان، صيف 1976؛ وهذا كان النقلة الإقليمية السياسية والعسكرية الأهمّ في تاريخ "الحركة التصحيحية"، التسمية الرسمية للانقلاب الذي قاده حافظ الأسد ضدّ رفاقه في حزب البعث منذ أواخر 1969، وتوّجه في 16 تشرين الأوّل (أكتوبر) 1970، حين استكمل وأعلن استيلاءه على السلطة.

ولهذا فإنّ الانسحاب العسكري السوري من لبنان، في شباط (فبراير) 2005، كان قد استكمل تلك النقلة في الوجهة المعاكسة، إذا جاز القول؛ أي في مسار تجريد النظام السوري ـ ببطء تارة، وبتسارع دراماتيكي طوراً، ولكن على نحو مضطرّد إجمالاً ـ من المغانم والأوراق والقوى والحلفاء وهوامش المناورة الإقليمية. ومن الإنصاف القول إنّ انحطاط النفوذ السوري في لبنان كان قد بدأ، سياسياً، في عهد الأسد الأب، مع سحب هذا الملفّ من يد عبد الحليم خدّام، نائب الرئيس آنذاك، وتسليمه إلى بشار الأسد كجزء من ترتيبات إعداد الفتى لخلافة أبيه. (غنيّ عن القول إنّ الانحطاط لم يبدأ لأنّ خدّام كان أرحم باللبنانيين من الأسد الابن، بل على العكس تماماً: الأخير كان في طور التلقين وألعاب الهواة، وكان خدّام أشدّ شراسة وأكثر تشدداً).

غير أنّ الضربة القاصمة جاءت مع وفاة الأسد، حين صحا اللبنانيون على الحقيقة البسيطة التالية: الوجود السوري ("الشرعي" و"المؤقت" بالنسبة إلى الرئيس اللبناني السابق إميل لحود، والمؤقت ولكن اللاشرعي الذي آن أوان إنهائه بالنسبة إلى معظم اللبنانيين) ينبغي أن لا يظلّ على حاله السابقة بعد أن غاب الأسد، صانعه الأوّل، الأعلى دهاء ومكيافيللية ودموية من وريثه في الحكم. هذه الحقيقة/ البديهة كانت تقبل، أو تصنع تلقائياً، مكمِّلها الاستطرادي، البديهي، الآخر: إذا تآكل الوجود السوري في لبنان ـ سواء نُظر إلى ذلك الوجود في مستوياته العسكرية والسياسية والاقتصادية، أو في امتداداته الأخرى الاجتماعية (العمالة السورية، التوترات بين الشعبين، انقسامات اللبنانيين...)، أو الحقوقية (اتفاق الطائف، القرارات الدولية...) ـ وكفّ عن كونه صانعاً لأوراق القوّة في صفّ النظام؛ فمن المنطقي والحال هذه أن ينقلب إلى عبء على سلطة الوريث، في العلاقة مع الجوار الإقليمي، والعالم بأسره.

ومن الإنصاف التذكير، كذلك، أنّ أولى إشارات الصحو على هذه الحقيقة/ البديهة لم تأت من وليد جنبلاط أو "الكتائب" أو "القوّات اللبنانية"، أو أيّ من القوى اليسارية التي سوف تأتلف بعدئذ في إطار "اليسار الديمقراطي"؛ وطبيعي أنها أيضاً لم تأت من صفّ رفيق الحريري لأنه كان، آنذاك، أحد أخلص حلفاء النظام السوري. لقد جاءت، ليس دونما مفارقة في واقع الأمر، من مجلس المطارنة الموارنة الذي أصدر بياناً لافتاً تماماً في 20 أيلول (سبتمبر) من العام 2000، أي بعد أشهر معدودات على توريث الأسد الابن، أبدى فيه الحرص على "توثيق أحسن علاقات الأخوّة بين لبنان وسورية"؛ ولكنّ المغزى الأهمّ وراء البيان كان التشديد على أنّ الصلة اللبنانية ـ السورية قائمة على "علاقات الأخوّة" وحدها، ليس أكثر!

وإذْ ينصف المرء ذلك البيان اليوم، فليس لأنّ المشهد الراهن يقتضي استذكار تلك الواقعة، والمفارقة خلفها، فحسب؛ بل لأنّ ما انطوى عليه نصّ المطارنة الموارنة كان أقرب إلى استبصار الكثير من التطوّرات التي سيشهدها البلد حين تغادر قوّات النظام السوري. كذلك استدعى، من جانب آخر، جملة استقطابات سياسية واجتماعية ودينية ومذهبية سوف تصبح من جديد جزءاً لا يتجزأ من خطاب، وكوابيس، الحياة اليومية اللبنانية الراهنة. وهكذا، وكما نشهد اليوم مَن يترحّم على الوجود العسكري في صفوف اللبنانيين أنفسهم (وليس عاصم قانصوه وحده، للتذكير، بل الجهة الأخرى الأعلى قبضة وسلاحاً ونفوذاً أمنياً: "حزب الله")، توفّر مَنْ يناهض بيان بكركي في صفوف... مناهضي النظام السوري هذه الأيام! تلك كانت روحية البيان المضاد الذي صدر آنذاك عن "اللقاء الإسلامي"، المؤلف من المفتي الشيخ محمد رشيد قباني (ممثلاً لدار الإفتاء السنية)، والشيخ عبد الأمير قبلان (المفتي الجعفري الممتاز)، ومحمد السماك (ممثّل لجنة الحوار الإسلامي ـ المسيحي)، وبهجت غيث (شيخ الطائفة الدرزية).

بيان مجلس المطارنة الموارنة طالب بإعادة انتشار الجيش السوري تمهيداً لانسحابه نهائياً، عملاً بالقرار 520، واستناداً إلى نصوص اتفاق الطائف؛ وبيان "اللقاء الإسلامي" اعتبر أنّ الوجود السوري شرعي ومؤقت كما قال رئيس الجمهورية، وأي موقف منه تقرره السلطات الرسمية. موقفان، إذاً، على طرفَي نقيض وعلى طرفَي استقطاب ديني واضح: مسيحي/مسلم. إلى هذا، كان الفارق بين البيانين لا يقتصر على انقسام حادّ بين "لا" و"نعم" للوجود السوري، بل تجاوز اللونَين الأبيض والأسود إلى تدرّجات للرمادي، عديدة ومعقدة! بين هذه التدرّجات، العابرة للدينيّ والمذهبيّ والسياسي بمعنى السياسة الصرفة الكلاسيكية، ما جاء في بيان مجلس الوزراء اللبناني ردّاً على بيان المطارنة الموارنة: "العلاقات بين سورية ولبنان ليست أمراً مزاجياً يتغير بتغيير المواقف الخارجية والفئوية، بل هي علاقة ستراتيجية تحددها الدولة بمؤسساتها الدستورية، وأنّ هذه العلاقة هي من الثوابت التي تقوم على تأكيد مصلحة لبنان أولاً، والتي تؤكد أيضاً ثبات المواقف القومية مع الشقيقة سورية وأواصر المصالح المشتركة في ما بيننا".

بالطبع، المعادلات اختلفت جذرياً بعد اغتيال الحريري الأب، وانقلاب سواد السنّة على دمشق، وانحياز سواد الدروز إلى وليد جنبلاط بوصفه ممثّل الزعامة التاريخية على الأقلّ، حين انخرطت دمشق في تأثيمه وتجريمه. وباتت أشباح الحرب الأهلية أقلّ هيمنة على الوجدان الشعبي العامّ، بل صار من المشروع القول إنّ خريطة الولاءات المذهبية ذات التلوّن السياسي (بصدد الموقف من النظام السوري، أساساً) أقلّ تعقيداً من ذي قبل، وبالتالي أوضح في الطبيعة والتكوين والقدرة، وأيسر سيطرة في حال اندلاع صدامات مذهبية أهلية. لكنّ الحال تغيرت في الصفّ المسيحي أيضاً، والماروني منه بصفة خاصة، وكان انتساب ميشيل عون إلى نادي حلفاء النظام السوري يعيد خلط الأوراق على نحو ينتهي إلى ترسيخ ذلك الإجماع اللبناني على مبدأ كلاسيكي في المحاصصة: لا غالب ولا مغلوب!

ورغم تبدّل المواقع بين الأغلبية والمعارضة، وبين حكومة سعد الحريري وحكومة نجيب ميقاتي، زار الأخيران دمشق مثلما زارها وليد جنبلاط وحسن نصر الله؛ ولكن، في غمرة التقلبات كافة، ظلّ ميزان نفوذ النظام السوري يشير إلى فائض نقصان، وليس فائض قيمة؛ وإذا ما قيس بمعدّلات الأحقاب "الذهبية"، حتى أواخر التسعينيات، فإنّ النفوذ كان في حال من تآكل مضطرد. الانتفاضة السورية أكملت هذه السيرورة، بمعنى أنها شدّدت وتائر التآكل، من جهة أولى؛ وأوقعت حلفاء دمشق في حرج الاصطفاف خلف النظام رغم الأكلاف السياسية والأخلاقية الهائلة وراء اضطرار كهذا، من جهة ثانية. وفي الخلفية الأخرى، السياسية ـ الاجتماعية لواقع المحاصصة، أثبتت الانتخابات النيابية الأخيرة أنّ الميول الشعبية العامة على حالها تقريباً عند الطوائف المسلمة، فصوّتت كلّ طائفة لمرشحيها: السنّة بنسبة تجاوزت 88 بالمئة، والشيعة 90 بالمئة، والدروز 92 بالمئة. ولكنّ الميول كشفت، في الآن ذاته، عن انقسام في صفوف المجموعات المسيحية المتنازعة، بحيث آل إلى السنة والدروز أمر ترجيح فريقَيْ "الكتائب" و"القوات اللبنانية"، حلفاء 14 آذار؛ وتولى الشيعة دعم مرشحي الجنرال عون، المسيحيين.

ولقد انصرم زمن شهد تطبيق النظام السوري ستراتيجية تخويف المجتمع السوري من أخطار حرب أهلية على الطراز اللبناني، اعتمدت الإيحاء بأنّ مصير الطائفة العلوية ـ بابنائها كافة، عن بكرة أبيهم، بفقرائها ومناضليها الوطنيين الديمقراطيين، وبمعارضيها من نزلاء سجون النظام، في الماضي والحاضر ـ بات مرتبطاً تماماً ونهائياً بمصير النظام. اليوم لم يعد "الدرس اللبناني" مخيفاً في ذاته، لأنّ النظام استبدله بـ"درس سوري" محلي محض، يقول ببساطة: إمّا استمرار النظام، سواء قبل السوريون "الإصلاحات" الزائفة والتجميلية أو رفضوها، أو الخراب والتقسيم والحروب الأهلية وتدمير الهوية الوطنية. وعلى نحو ما، في ضوء استئناف عمليات الاغتيال في لبنان، بدا وكأنّ النظام السوري انتقل من تخويف السوريين من مصائر لبنان، إلى تخويف اللبنانيين من مصائر سورية!

هذا، بدوره، فائض نقصان لا فائض قيمة؛ وهو خيار انتحاري في الجوهر، ينقل العنف المجّاني من سورية إلى جوارها الإقليمي، ولا يضطر إلى اعتماده إلا نظام يوشك على الانهيار، ولم تتبقّ في جعبته سوى تلك الخيارات التي يرى فيها النظام وحلفاؤه منافذ نجاة أخيرة. ولكنها ما فتئت ترتدّ عليهم، إلى النحور.

الأحد، 21 أكتوبر 2012

وسام الحسن: ذراع ضاربة وقاسم مشترك

 ذات يوم روى روبرت باير ـ الصحافي، ورجل المخابرات المركزية المتقاعد، وصاحب كتاب "مواقعة الشيطان"، والبطل غير المباشر لشريط "سيريانا" الشهير ـ أنه سأل أحد رجال الأعمال السوريين المقرّبين من بشار الأسد، عن مستقبل لبنان، فردّ بالتالي: "لم يعد لبنان مشكلة سورية. لقد طردتمونا منه، فأسلمناه إلى إيران". وهذا افتراض صحيح إلى حدّ كبير، حتى إذا توفرت مؤشرات عديدة توحي بأنّ النظام السوري ما يزال اللاعب الأكبر في لبنان؛ وليس اغتيال العميد وسام الحسن، في عملية تنطوي على مزيج من علوّ التعقيد الفنّي وعمق الاختراق الأمني وطول الذراع الضاربة، إلا أحدث الأدلة على هذه الخلاصة.

بيد أنّ واقعة الاغتيال هذه إنما تجيز المصادقة على الافتراض الذي سمعه باير، حول وقوع لبنان في القبضة الإيرانية؛ كما تقطع خطوة إضافية نحو تمحيص طبائع تلك الحال، في جوانبها الأمنية والاستخباراتية المعقدة. وإذا صحّ القول بأنّ للنظام السوري أكثر من ميشيل سماحة واحد، رابض في بقعة معتمة ما، ينتظر ساعة الصفر؛ فإنّ الصحيح، على قدم المساواة، ذلك الافتراض الآخر الذي يقول إنّ ما قد تملكه إيران من نماذج سماحة، في بُقَع أشدّ عتمة وقتامة، لعلّه أدهى بما لا يُقاس.

غنيّ عن القول إنّ هذه السطور لا تستهدف تثبيت "مضبطة اتهام" ضدّ أيّ طرف، داخل لبنان أو خارجه؛ ولكنها أيضاً لا تغضّ الطرف عن العناصر الكثيرة، المنبثقة عن منطق بالغ البساطة، يشير إلى المستفيد المباشر من تنفيذ اغتيال الحسن؛ كما يشير إلى "أصحاب"، وليس "صاحب"، المصلحة في حزمة الرسائل التي تبعث بها العملية، والعناوين المختلفة التي أُريد لدويّ التفجير أن يبلغ أسماعها. وجملة هذه العناصر تنتهي، على وتيرة المنطق البسيط إياه، إلى أنها عملية يصعب أن تُنفّذ في أيّ شبر من الأراضي اللبنانية، دون علم استخبارات "حزب الله"، ومحطات استخبارات "الحرس الثوري"، لكي لا يذهب المرء أبعد في الظنّ والترجيح.

هل كان الحسن خصم النظام السوري؟ لا ريب في هذا، كما يقول تاريخ لبنان منذ سبع سنوات على الأقلّ، بعد اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري خاصة. هل كان "حزب الله" على خصومة مع العميد الحسن؟ نعم، بالطبع، لأسباب لا تقتصر على تحالف الحزب مع النظام السوري، بل لأخرى تخصّ ملفات الحزب ذاتها. هل تتلاقى المصلحتان، بما يبيح إزاحة رجل الأمن الأقوى في لبنان اليوم، والخصم الألدّ للمصلحتَين معاً؟ نعم، في المنطق البسيط إياه، الذي لا يستبعد صاحب المصلحة الإيراني أيضاً، بالتكافل مع ذراعه الضاربة على الساحة المحلية. فلماذا تكون هذه الذراع، لا تلك التابعة النظام السوري، هي الطرف الأرجح وراء العملية؟

ثمة سبب أوّل يخصّ المستوى الرثّ الذي يلوح أنّ عمليات استخبارات النظام السوري قد هبطت إليه، وكانت آخر تجلياته أن يعهد رأس النظام إلى اثنين من "أقطاب" الفشل الذريع في كسر الانتفاضة (اللواء علي مملوك، رئيس مكتب الأمن القومي، العاطل عن العمل حالياً؛ وبثينة شعبان، المستشارة الإعلامية)، بأمر التخطيط لعمليات اغتيال وتفجير حساسة في لبنان، فيعهدان بها، من جانبهما، إلى شخص... ميشيل سماحة! الأرجح أنّ عظام اللواء غازي كنعان اهتزت في قبره، سخطاً وشماتة، إزاء هذا الإدقاع في أساليب النظام؛ إذْ هيهات أن ترقى إلى، أو تتشابه مع، عمليات أخرى استهدفت كمال جنبلاط، بشير الجميل، رينيه معوض، صبحي الصالح، حسن خالد، سليم اللوزي، رياض طه، داني شمعون، سمير قصير، جورج حاوي، جبران تويني، وسام عيد...

وثمة سبب آخر يفيد بأنّ النظام السوري هو اليوم، ومنذ تأسيس الحزب سنة 1982، في أضعف أطوار نفوذه داخل آلة القرار العليا لـ"حزب الله"؛ وكما أنها انعكاس لعجز النظام عن هزيمة الانتفاضة، وانحطاط مؤسساته وأجهزته وقواه، فإنها حال تعكس هبوط قدرته على تسويق مقتضيات مصالحه كما كانت الحال سابقاً، في ناظر الأجنحة المتشددة داخل السلطة الإيرانية بصفة خاصة. هو اليوم نفوذ بعيد عن تلك المراحل الذهبية (التي يتحسّر عليها باير، بوصفه رجل استخبارات مخضرماً!) حين كان حافظ الأسد قادراً على دفع إيران، و"الحرس الثوري"، إلى إعادة دافيد لودج، الرئيس التنفيذي للجامعة الامريكية في بيروت، بعد اختطافه إلى طهران، سنة 1982؛ أو إنذار "حزب الله" بإطلاق سراح رهائن طائرة الـ TWA في مطار بيروت، سنة 1985؛ أو إطلاق سراح شارلز غلاس، مراسل الـ ABC، من أيدي خاطفيه التابعين للحزب، سنة 1987...

ولأنّ حصّة "حزب الله"، في شؤون لبنان الأمنية والعسكرية، صارت الأكبر، شاء خصومه ـ والحلفاء، كذلك! ـ أم أبوا؛ فإنّ عملية الأشرفية تُحتسب على ذمّة الحزب، قبل أن تُلصَق بسواه من "المشبوهين المعتادين"، استخبارات النظام السوري، أو أجهزة حلفائه الأقلّ شأناً. ويستوي، هنا، أن يخدم الاغتيال "جبهة المقاومة"، أم يريح "جبهة الممانعة"، أم يقلب الطاولة ويخلط الأوراق كيفما اتفق، أم يضع لبنان قاب قوسين أو أدنى من فوهة بركان... القاسم المشترك هو تهديد أمن اللبنانيين، واستهداف دياناتهم وطوائفهم ومذاهبهم... أجمعين!

الاثنين، 15 أكتوبر 2012

فرانز فانون و"الربيع العربي": العنف والتحرر

 2011، سنة انطلاقة الانتفاضات العربية، صادفت أيضاً الذكرى الخمسين لرحيل المفكر والطبيب النفسي والفيلسوف الاجتماعي والمناضل المارتينيكي ـ الجزائري فرانز فانون (1925ـ1961)؛ وكانت الذكرى ذاتها تسجّل انقضاء نصف قرن على كتابه الأشهر "معذّبو الأرض"، الذي صدر ومؤلفه يصارع سرطان الدمّ في مشفى أمريكي. (الترجمة العربية أنجزها الراحلان سامي الدروبي وجمال الأتاسي، ونُشرت سنة 1966). بيد أنّ الجانب الآخر، الجوهري، للمصادفة كان يتصل بسلسلة من أفكار فانون، لاح أنها تدخل في صلب النقاش، الفكري والسياسي والتنظيمي، لانتفاضات الشعوب العربية في تونس ومصر وليبيا واليمن والبحرين وسورية.

ومن المؤسف أنّ هذه الاستعادة لم تشغل حيزاً لائقاً، أو كافياً، في السجالات العربية؛ رغم أنّ مطاحن كلام هائلة دارت وضجّت وعجّت حول مسائل شتى تخصّ طبائع هذه الانتفاضات، وأبعادها السياسية والاجتماعية والثقافية والتاريخية. وهكذا كان الاستئناس بأفكار فانون قد اقتصر، أو كاد، على محافل غير عربية عموماً؛ وفي تلك الأوساط التي اعتادت فتح ملفات ما بعد الاستعمار، وتحليل مفاعيلها السابقة واللاحقة، في ضوء أعمال فانون (كتابه الهام الأول "بشرة سوداء، أقنعة بيضاء"، 1952؛ "السنة الخامسة من الثورة الجزائرية"، 1959؛ "في سبيل الثورة الأفريقية"، 1964؛ بالإضافة إلى "معذّبو الأرض")، بصفة خاصة.

لافت، إلى هذا، أنّ بعض تطورات الانتفاضة السورية ـ لا سيما ستراتيجية تسعير العنف التي انتهجها النظام، وسعى من ورائها إلى استثارة نزوعات العسكرة؛ ومثلها ستراتيجية ارتكاب المجازر، لدفع المدنيين نحو التسلّح، سواء بهدف الدفاع عن النفس، أو لتنظيم مقاومة شعبية في مواجهة آلة النظام العسكرية الوحشية... ـ قادت دفة النقاش إلى واحد من أبرز المفاهيم الإشكالية في كتلة أفكار فانون: العنف، والعنف المضادّ. صحيح أنّ فانون تحدّث عن عنف المستعمِر ضدّ المستعمَر، إلا أنّ ما ما اعتمده ويعتمده النظام السوري من أواليات العنف، العاري والمفتوح والهمجي والشامل، لا يذكّر بعنف ذلك الاستعمار الذي وصفه فانون، فحسب؛ بل يبزّه ويتفوّق عليه في الوحشية، خاصة إذْ ينطبق عليه معيار ظلم ذوي القربى... الأشدّ مضاضة.

وكما أنّ "محو الاستعمار" كان، في نظره، "يستهدف تغيير نظام العالم" و"قلب النُظُم قلباً تاماً"؛ فإنّ إحداث تغيير جوهري في حياة سورية، أو تونس أو مصر أو ليبيا، والانتقال بنُظُمها السياسية الاستبدادية والوراثية العائلية إلى أخرى ديمقراطية، لا يقلّ مغزى، في وجدان الشعب وحياة المجتمعات، عن دحر الاستعمار. فإذا لجأ المستعمِر، و/أو نظام الاستبداد المحلي، إلى ممارسة العنف المنهجي المنظّم (استلاب الثروات، تفتيت الهوية الوطنية، إجبار المواطنين على العيش في شروط اجتماعية واقتصادية ونفسية وصحية وتربوية وثقافية متدنية، وسنّ القوانين الجائرة، وممارسة النفي والإبعاد والاعتقال والتصفية الجسدية، وقصف المدن عشوائياً، وتنفيذ المجازر عن سابق قصد وتصميم، واستخدام الأسلحة المحرّمة...)؛ فبأي حقّ يُنتظر من الضحية أن "تكبح جماح النفس"، وأن تمتنع عن اللجوء إلى كلّ، وأيّ، وسيلة تكفل تفكيك ذلك النظام؟ أليس هذا ما رمى إليه فانون، حين تساءل: لماذا يكون من واجب الضحية أن تربّي قاهرها، وتعلّمه الأخلاق السلمية؟

والإنصاف يقتضي الإشارة إلى أنّ مسألة العنف لم تكن واضحة تماماً في مشروع فانون العام، وامتزجت عنده بمفهوم "استخدام القوة" أحياناً، و"الكفاح المسلح" أو "الانتفاضة الجماهيرية" أو "الانبعاث الشعبي" أحياناً أخرى؛ وفي معذّبو الأرض" ذهب إلى حدّ الحديث عن "عنف مسالم". كذلك فإنّ مقولته الشهيرة، حول الحاجة إلى "التطهر" عبر العنف الثوري، قصدت ما يشبه عملية تخليص الجسد من سموم الكحول أو سموم المخدرات، كخطوة أولى ضرورية قبل التخلّص من الإدمان. والحاجة إلى "التطهر" ارتدت عند فانون طابعاً جَمْعياً، أكثر ممّا هو فردي، وتقاطعت مع مفهوم معقّد آخر هو "صورة العالم"، كما تتباين وتتناقض بين المستعمِر/ القاهر، والمستعمَر/ المقهور.

وفي غمرة شدّ هنا أو جذب هناك، حول مفهوم العنف في تفكير فانون، فإنّ الأكاديمي الصومالي حسين عبد الله بلهان قطع "الخطوة الحرجة"، التي يتردد في الإقدام عليها عدد من كبار أنصار فانون في أوروبا وأمريكا، فوجّه إليه تحية إكبار لأنه امتلك الجرأة على تصوير العنف الاستعماري كما تراه، على الطرف الآخر، ثقافة خاضعة للاضطهاد المادي والنفسي. فالقهر، وفي جانب محدّد منه هو الاستبداد، لا يقوم بأقلّ من شَرْعنة العنف، وقَنْوَنته، وتنظيمه في مؤسسات بنيوية، فضلاً عن تجريد العنف الشخصي الذي يمارسه المستعمِر/المستبدّ من الطابع الفردي، وإسباغ الصفة القانونية عليه. وفوق هذا وذاك، ألا يدخل العنف في طبيعة الحركة اليومية للدولة المستبدّة، ابتداء من قوانينها ومؤسساتها، وانتهاء بمنظومتها الإيديولوجية والتربوية؟ ألا يمكن اختصار العنف إلى أية علاقة، أو سيرورة، أو شرط يسفر عن قيام فرد أو مجموعة بانتهاك الحقوق المتكاملة، المادية والثقافية والاجتماعية و/أو السيكولوجية لفرد أو مجموعة أخرى؟

إنّ إسقاط أنظمة الاستبداد، مثل التحرّر من الاستعمار، "يبثّ في الوجود إيقاعاً خاصاً"، حسب فانون، و"يحمل لغة خاصة، وإنسانية جديدة"؛ واستعادة هذا المفكر والمناضل الكبير تواصل تلمّس الكثير من تلك البشائر، والتبصّر في إشكالياتها ومشكلاتها. 

الجمعة، 12 أكتوبر 2012

"يسار" الانتفاضة السورية: تصفيق، فارتباك، فانحطاط!

بين الاتهامات التي تُساق ضدّ الانتفاضة السورية، وتتعلل بها دوائر يسارية وعلمانية متعددة المشارب، متباينة الأهواء أيضاً، داخل سورية وخارجها، ذاك الذي يقول التالي: كانت الانتفضة حركة شعبية وسلمية علمانية (والبعض يضيف: ثورية، وتقدمية)، ثم سقطت تدريجياً في أيدي الإسلاميين، ثمّ الإسلاميين المتشددين، ثمّ السلفيين، وصولاً إلى "الجهاديين" الآتين من أربع رياح الأرض. خلاصة الاتهام تنتهي، كما يُنتظر منها وينتظر منتظروها، إلى التحسّر على الخصال الطيبة التي اتسمت بها الانتفاضة في مطالعها، والتباكي على خصالها السيئة التي تنامت وطغت، تمهيداً لنفض اليد من تأييدها، أو الاكتفاء فقط بالتضامن مع سلمييها وعلمانييها وتقدمييها وثورييها...

العنصر الثاني المكمّل في دائرة هذا الاتهام هو الافتراض الذي يقول بوجود اقتران تامّ، وحتمي، بين "تأسلم" الانتفاضة وعنف إسلامييها؛ الأمر الذي يفترض مواجهة من نوع ما، أو مصادمات من كلّ نوع، بين أهل السلم وأهل الحرب، داخل صفوف المعارضة السورية. وهكذا، لا يُفترض بأنّ الانتفاضة سُرقت، أو صودرت، أو حُرّفت عن مساراتها السلمية والعلمانية والتقدمية والثورية، فحسب؛ بل يرتقي الافتراض إلى مستوى الجزم بأنها فقدت مشروعيتها الشعبية، وأنها استطراداً لم تعد جديرة بالتضامن والتأييد (الأمر الذي ينقل المياه إلى طاحونة النظام السوري، عملياً، فتصبح حال اللاتأييد للانتفاضة، بمثابة حال تأييد غير مباشر لفئات "الطرف" الموازي، أي النظام السوري.

والحال أنّ هذا "اليسار"، ولا مناص هنا من حصر المفردة داخل أهلّة، يسقط في الحمأة ذاتها التي اعتاد التمرّغ فيها يمين متعدد المشارب، والأهواء أيضاً، ليس سياسياً فحسب، بل هو أقرب إلى رجعية ثقافية ودينية. وتلك حمأة تغيب عنها ـ خاصة في مسائل العلاقة بين الإسلام والعنف، والروابط الوثيقة بين الإسلام والإرهاب ـ سلسلة الأبعاد السياسية والثقافية والتاريخية والاجتماعية لظواهر (لأنّ من السخف اعتبارها محض ظاهرة واحدة، متماثلة متطابقة) ذات تركيب معقد وشائك ومتباين؛ ليس من الحكمة أبداً ردّها إلى باعث عقائدي أو عقيدي واحد، أو حتى سلسلة أسباب ذات صلة بما يُسمى صراع الحضارات وحروب الثقافات. في عبارة أخرى أشدّ اختزالاً للمشهد: ثمة السياسة أوّلاً، وقبل العقائد؛ وثمة ميزان القوّة الكوني الراهن، في تجلياته العقائدية والدينية والثقافية، ثانياً؛ وثمة، ثالثاً، ذلك التاريخ الطويل من حروب الإخضاع والهيمنة والغزو، على الجانبين؛ وثمة، أخيراً، ذلك التواطؤ بين العناصر السابقة، من جهة، وأنظمة الاستبداد والفساد التي ثارت، وتثور، عليها الشعوب العربية هذه الأيام، من جهة ثانية.

وهكذا، حين يستسهل "اليسار" تجريد التيارات الإسلامية ـ المنخرطة في الانتفاضة السورية اليوم، بصرف النظر عن جنوح فئاتها إلى السلمية، أو يقينها بأنّ البندقية هي وحدها وسيلة إسقاط النظام ـ من المضامين السياسية والاجتماعية والثقافية التي كفلت صعودها؛ فإنّ النتيجة التالية هي التقاء "اليسار" ذاك مع المقاربة الأكثر يمينية في السوق، والتي ناهضها ويناهضها جميع اليساريين والتقدميين والثوريين: صمويل هنتنغتون! وإذا كان المسلمون لا يعرفون سبيلاً إلى ردّ التهمة القائلة إن الإسلام (بوصفه ديناً وعلاقة بين العابد والمعبود، وليس فلسفة سياسية) هو بالضرورة المطلقة حاضنة خصبة لتوليد صنوف وأفانين الإرهاب؛ فكيف إذا جاءهم مَنْ يقول: ليت البلية تنتهي هنا... المشكلة ليست في الحاضنة كدين يشجع على الأصولية والعنف، بل في الإسلام نفسه، في حدّ ذاته، وبوصفه ثقافة للدنيا قبل أن يكون ديناً للآخرة؟

ويكفي المرء أن يتذكر أنّ روسيا بوريس يلتسين، التي كانت مدججة بالسلاح النووي والمافيات الوحشية والفقر الرهيب، بدت في نظر هنتنغتون أقلّ خطورة بكثير من وضعية الإسلام المعاصر، لا كدين وديانة مرة ثانية، بل كثقافة مرشحة أكثر من سواها لتدشين صدام الحضارات، الصيغة القادمة لاندلاع الأزمات والحروب والتحالفات في العلاقات الدولية. وإذا لم يكن مدهشاً أن يعود التفكير اليميني والرجعي والمحافظ إلى أطروحات هنتنغتون كلّما ثارت خصومة بين الإسلام والغرب، أو بالأصحّ بين المؤسسات التي تحسن إدارة هذه المعارك وتتقن فنون تأجيجها، في الغرب كما في الشرق، وفي المسجد كما في الكنيسة، وفي الشارع كما على الفضائيات؛ فإنّ عودة "اليسار" إليها، حتى على نحو مستتر أو مقنّع، ليست مدهشة فقط، بل فاضحة ومخزية.

مخزٍ، على منوال مماثل، أن ينخرط "اليسار" إياه في كلّ هذا الشدّ والجذب، الإيديولوجي والعقائدي، حول انتفاضة شعبية تتعرّض كلّ يوم لأسوأ ما عرفه التاريخ البشري من أفانين العنف ضدّ الشعب، المدني والأعزل والشريد والطريد غالباً، بأقذر الأسلحة وأشدّها فتكاً (بما في ذلك تقنيات إفناء رهيبة، مثل براميل الـ "تي إن تي"، لا تقلّ فتكاً عن الكثير من صنوف الأسلحة الكيماوية). وفاضح، في السياقات ذاتها، أن ينبثق الكثير من تذبذب "اليسار" ـ بين إحجام عن تأييد الانتفاضة، ومآل عملي ينتهي إلى تأييد النظام ـ من سفسطة جوفاء حول إسلام بات ملجأ المؤمن المعذّب ودريئة الإرهابي في آن، خصوصاً بعد افتضاح برامج العقائد الأخرى اليمينية واليسارية والقوموية، أياًَ كانت درجة الصدق في علمانية فلسفاتها.

ألا يلتقي ذلك "اليسار" مع شرائح واسعة في صفوف اليمين الرجعي والمحافظ والمحافظ الجديد، تعلن دفاعها عن قِيَم الحقّ والحرّية والاختلاف، شريطة أن لا تأتي هذه بإسلامي من أي طراز ("جبهة الإنقاذ" في الجزائر، مثلاً؛ أو "حماس" في فلسطين...)؟ وبِمَ تختلف معتقلات النظام السوري عن معتقل غوانتانامو (ما خلا أنّ هذا الأخير لا تُمارس فيه الإعدامات الميدانية، وحرق السجناء أحياء، وتدمير الزنازين فوق رؤوس المعتقلين...)، حتى يدين اليسار غوانتانامو، ويتأتيء أو يدمدم او يغمغم حول أفاعيل أكثر وحشية يرتكبها النظام السوري؟

محزن، إلى هذا، أن يذكّر خطاب بعض أهل "اليسار"، المشتكين من صعود الإسلاميين داخل الانتفاضة السورية، بخطاب ألقاه الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الابن، بتاريخ 6 تشرين الأوّل (أكتوبر) 2005 في "المعهد الوطني للديمقراطية" (كان خطيراً للغاية، وتحديداً في جانب هذه الغلواء العقائدية ضدّ المسلم بوصفه هوية، ولم تجانب أسبوعية "نيوزويك" الأمريكية الصواب حين اعتبرته "قنبلة عقائدية"). وفي مستهلّ خطابه ذاك، قلّب بوش الرأي في التسميات والمصطلحات والتعريفات، قبل أن يستقرّ على الصيغة المفضّلة عنده: "البعض يطلق على هذا الشرّ تسمية الراديكالية الإسلامية، والبعض الآخر يعتبره جهادية إسلامية، ويوجد كذلك مَنْ يسمّيه إسلامو ـ فاشية. هذا الشكل من الراديكالية يستغلّ الإسلام لخدمة رؤيا سياسية عنيفة عمادها التأسيس، عن طريق الإرهاب والإنحراف والعصيان، لإمبراطورية شمولية تنكر كلّ حرّية سياسية ودينية. هؤلاء المتطرفون يشوّهون فكرة الجهاد فيحوّلونها إلى دعوة للإجرام الإرهابي ضدّ المسيحيين واليهود والهندوس، ولكن أيضاً ضدّ المسلمين من مذاهب أخرى، ممّن يعتبرونهم هراطقة".

وراهنوا أنّ هذه الفقرة السابقة لا تحتاج إلا إلى تعديلات بسيطة (كأن يُستبدل اليهود والهندوس بأيّ من الأقليات الدينية أو المذهبية السورية)، لكي يوقّع عليه هذا "اليساري" أو ذاك، في سورية والأردن وفلسطين، كما في فرنسا وبريطانيا وألمانيا... والحال ذاتها يمكن أن تنطبق على فقرة أخرى، من الخطاب ذاته: "إنّ الراديكالية الإسلامية، مثل الإيديولوجيا الشيوعية، تحتوي على تناقضات موروثة تحتّم فشل تلك الراديكالية. وفي كراهيتها للحرّية، عن طريق فقدان الثقة في الإبداع الإنساني ومعاقبة التغيير والتضييق على إسهامات نصف المجتمع، تنسف هذه الإيديولوجيا السمات ذاتها التي تجعل التقدّم الإنساني ممكناً، والمجتمعات الإنسانية ناجحة". بدّلوا "الإيديولوجيا الشيوعية" بأية تسمية أخرى ترضي مزاج "اليساري" إياه، وراهنوا هنا أيضاً أنه سيوقّع على الفقرة بلا تردد، وربما براحة ضمير قصوى!

يسير على المرء أن يأبى تصديق الرئيس الأمريكي (الجزّار الأوّل المسؤول عن كلّ ما حاق بأهل فلسطين والعراق ولبنان من عذابات على امتداد رئاستَيْن)، وقد انقلب نصيراً لفقراء المسلمين ضدّ أغنيائهم، وليس الأغنياء من طراز فاسدي الأنظمة العربية من حكّام وأتباع وعملاء، بل ذلك الغنيّ الذي يُدعى أسامة بن لادن! صعب، أكثر، أن يصدّق المرء دفاعه الشرس عن المسلمين من مذاهب أخرى (شيعة قانا وعيتا الشعب وعيترون والجنوب اللبناني بأسره، مثلاً!)، ضدّ "المسلمين الراديكاليين الفاشيين". فهل أقلّ يسراً، وصعوبة، أن نتخيّل هذا "اليساري" الذي يرفض انخراط الإسلاميين في الانتفاضة الشعبية ضدّ نظام دكتاتوري؛ أو ذاك "اليساري" الآخر الذي يريد من الشعب السوري أن يكون علمانياً تقدمياً ثورياً صافياً طاهراً من كلّ إسلامي، وأن تكون الانتفاضة على هذه الشاكلة حصرياً، وإلا سُحب عنها التأييد ورُفع التضامن؟

بيد أنّ السياسة في أبسط معانيها، وتأمّل المجتمع السوري في تركيبته التعددية، واستعراض وقائع 18 شهراً من عمر الانتفاضة، كلها عوامل كاشفة عن هذه الحقيقة الحاسمة: أنّ الإسلام السياسي، المعتدل أو المتطرف، لاعب بارز على الساحة السورية، ولكنه ليس اللاعب الوحيد البارز، ولا اللاعب الأبرز؛ وهو في قلب المعارضة، شاء المرء أم أبى، ومن الخير بالتالي اجتذابه، أكثر، إلى مشروع النضال من أجل سورية الديمقراطية؛ ولا هو البديل الوحيد عن سورية الاستبداد والنهب والمافيات وحكم العائلة، حتى إذا التقى هذا "اليسار" مع كلّ مشارب اليمين في الجزم بهيمنة الإسلاميين.

وليس بخافٍ على أحد أنّ تنسيقيات الإنتفاضة تضمّ العلمانيين والإسلاميين، الليبراليين والمحافظين، النشطاء المتمرسين والنشطاء المتدربين، أنصار رياض الترك وأتباع الشيخ العرعور... ولكن، أهذا عيب في التنسيقيات، واعتلال، أم مظهر عافية واغتناء؟ وكيف للتنسيقيات أن تمثّل الأطياف الأعرض من المجتمع السوري، في مستوى الخطّ السياسي أو الفكري أو الثقافي مثل الموقع الاجتماعي أو السنّ أو الانتماء الإثني أو الديني، إذا كانت لا تتصف بكلّ ذلك التنوّع، ولا تسعى إلى سواه أيضاً؟ ليس خافياً، من جانب آخر، أنّ البيانات والأدبيات التي أصدرتها تلك اللجان لم تخرج، حتى في أصغر التفاصيل، عن مفردات شعار الإجماع: سورية وطنية، ديمقراطية، مدنية، تعددية، عصرية.

ليس بخافٍ، أخيراً، أنّ "اليسار" الذي يغضّ البصر، والبصيرة، عن خلاصة سياسية ـ اجتماعية مثل هذه، هو ذاته اليسار الذي صفّق للانتفاضة بادىء ذي بدء، ثمّ ارتبك في تحليل مآلاتها اللاحقة، حتى جُوبه بتعقيدات المشهد، فحملق في "أخطاء" الانتفاضة، وغضّ البصر عن جرائم النظام؛ ثمّ ارتبك، وهرب إلى أمام، نحو "نقد بنّاء" هو محض غطاء لتنميطات إيديولوجية مسبقة الصنع، فكان محتوماً أن ينحطّ إلى... حاضنة النظام!

الاثنين، 8 أكتوبر 2012

مرج البحرين يلتقيان

نبيل رجب ـ الحقوقي البحريني، الناشط البارز، مدير "مركز البحرين لحقوق الإنسان"، والسجين حالياً ـ أعلن إضراباً عن الطعام لأنّ السلطات منعته من حضور مجلس عزاء والدته؛ وذلك رغم أنّ النيابة العامة كانت قد أصدرت قراراً يقضي بتمكينه من حضور مراسم الدفن. ورجب، كما هو معروف، يقضي حكماً بالسجن ثلاث سنوات، لأنه "مثل الكثيرين في البحرين، سجين رأي اعتُقل لمجرد أنه مارس سلمياً حقّه في حرية التعبير والتجمع"، كما قالت منظمة العفو الدولية؛ التي اعتبرت، أيضاً، أنّ الحكم على رجب كان "يوماً أسود للعدالة في البحرين".

قد يقول قائل، محقاً تماماً في الواقع، وخاصة إذا كان سورياً: هذا الاستبداد البحريني يُعدّ جنّة عدن بالقياس إلى مسالخ، بل جحيم، ما يوفّره الاستبداد السوري لمعارضيه. ورغم أنّ المفاضلة بين طغيان وطغيان لا تجوز أخلاقياً، ولعلها لا تصحّ سياساً كذلك، فإنّ المرء لا يفلح دائماً في دفع إغواء المقارنة، حتى إذا كان شرّ البلية ما يُقارَن، في هذه الحال، وأياً كانت طبائع الاستبداد. وبهذا فإنّ رجب يظلّ ضحية طغيان بحريني، وابن انتفاضة شعبية وديمقراطية بحرينية؛ تماماً مثل ضحى جركس وكفاح علي ديب وعلي رحمون وعبد العزيز الخير وخليل معتوق وماهر أبو ميالة... أحدث الأسماء في لائحة عشرات الآلاف من المعتقلات والمعتقلين ضحايا طغيان النظام السوري، بنات وأبناء الانتفاضة الشعبية السورية. 

وهكذا فإنّ إضراب رجب يمنح المرء فرصة جديدة للانتقال بالحديث من انتفاضة عربية، سورية في المقام الأوّل الراهن، إلى انتفاضة أخرى عربية، بحرينية؛ خاصة إذا كانت هذه الأخيرة تخضع لتعتيم مقصود، شبه تامّ، في وسائل الإعلام العربية والأجنبية. والمثال الساطع، والفاضح في آن، تنفرد به صحف عربية ذات تمويلات لا تبيح، البتة، خرق ذلك التعتيم: لا يُشقّ لها غبار في التباكي على الشعب السوري، بعد عقود من ممالأة طغاته ومدّهم بأسباب البقاء؛ ولكنّ البحث عن إبرة في كوم قشّ أسهل من العثور على كلمة تنصف انتفاضة أهلنا في البحرين، حتى من باب المواربة اللفظية التي يتقنها بعض كبار كتّاب، وشطّار، تلك الصحف.

واستذكار إضراب رجب، في أيام سورية دامية وقاتمة تشهد مجازر مفتوحة بحقّ البشر والشجر والحجر والأثر، أمر يتجاوز حسّ التضامن الطبيعي، أو واجباته السياسية والأخلاقية، إلى ذلك الطراز من التعاضد المتبادل، الطبيعي بدوره: مثلما يتكاتف الطغاة، سرّاً وعلانية؛ كذلك يتوجب أن يتكاتف طالبو الحرّية، علانية، كما يُفضّل، وأياً كانت جزئيات اتفاقهم أو اختلافهم حول التفاصيل. وإذْ أذهب اليوم إلى البحرين، كما فعلت في مناسبات سابقة، لا أراني أبتعد كثيراً عن سورية، بالنظر إلى أنّ خطاب آل خليفة هناك يتطابق مع خطاب آل الأسد هنا، حول "المؤامرة" و"العملاء" و"الفتنة"...

العنصر المشترك الأهمّ بين الانتفاضتَين، ولكن أيضاً في جميع سوابق الاحتجاجات الشعبية على امتداد تاريخ البحرين، هو أنّ اختلاف المواطنين في المذهب الديني لم يحلْ دون اتحادهم في ائتلاف وطني يطالب بالإصلاحات. الانتفاضة البحرينية اندلعت، إذاً، لتحقيق مطالب اجتماعية وسياسية ودستورية لا علاقة لها بما تزعمه السلطات، وجمهرة المحللين والحكومات في الغرب، من توتر بين الشيعة والسنّة. والغالبية الساحقة من مواطني البحرين، بصرف النظر عن انتماءاتهم المذهبية، هم ضحايا الفساد الواسع والتسلط المطلق وانقلاب البلد إلى مزرعة استثمارية لآل خليفة (هل ثمة ما يُذكّر، هنا، بمزارع آل الأسد وآل مخلوف وآل خدّام وآل شاليش وآل ظلاس... في سورية؟).

إلى هذا، تستضيف البحرين قاعدة الأسطول الخامس للبحرية الأمريكية، كما تشكّل منطقة عازلة بين السعودية وإيران، ممّا يفسّر القلق الأمريكي الشديد إزاء تطورات الانتفاضة الشعبية فيها. كما يفسّر التدخّل العسكري السعودي المباشر، الذي اتخذ صفة قوات "درع الجزيرة" التابعة لمجلس التعاون الخليجي (واعتبره وليد المعلّم، وزير خارجية النظام السوري، مشروعاً... آنذاك!). ويفسّر، أخيراً، موقف طهران التي لا تكفّ عن التذكير بأنّ البحرين أرض إيرانية؛ ليس في عهد "الثورة الإسلامية" الإيرانية فحسب، بل منذ أحقاب الإمبراطورية الصفوية، مروراً بسنة 1957 حين اتخذ البرلمان الشاهنشاهي قراراً باعتبار البحرين الولاية 14 في إيران.

وكما فعل النظام السوري، اعتمد زميله النظام البحريني نهجاً مزدوجاً يراوح بين استخدام القوّة والمماطلة في آن معاً، حتى جاء التدخل العسكري السعودي ليرجّح خيار القبضة الحديدية وحدها، فأعلن الأمير حالة الطوارىء، وجرى اعتقال عدد من قادة المعارضة، كما استُخدمت الوحدات العسكرية الذخيرة الحية، وسقط  عشرات الشهداء ومئات الجرحى. ولم يكن غريباً أنّ روح التضامن بين أنظمة الاستبداد وعوائل الفساد العربية، وحّدت أيضاً خياراتهم الأمنية ـ العسكرية في قمع الانتفاضات الشعبية، دون أن تلغي حقّ هذا المستبدّ أو ذاك في تنويع أساليب البطش، وشدّة التنكيل، وحضيض الهمجية.

وفي القرآن الكريم، مَرَج البحرَيْن يلتقيان، حتى إذا كان بينهما برزخ، وكان هذا عَذْبٌ فُرات، وذاك مِلْحٌ أُجاج؛ أو، في معنى ملموس أكثر: لا جغرافية، طبيعية أو متخيَّلة، ولا حواجز سياسية أو إثنية أو طائفية، تفصل بين انتفاضات العرب؛ أو... تعيق تضامن طغاتهم، سواء بسواء!  

الجمعة، 5 أكتوبر 2012

مظاهرات طهران: الريال الإيراني والانتفاضة السورية

ثمة، بالطبع، الكثير من المغزى وراء التراشق الأخير، بالهاون والمدفعية الثقيلة، بين جيش النظام السوري والجيش التركي (الحليف، والشريك في مقارعة الكرد، حتى انطلاق الانتفاضة السورية)؛ وكذلك الحملة الشعواء، المقذعة تماماً، والمهينة لفكرة "المقاوم المتشرد"، التي شنّها إعلام النظام السوري ضدّ خالد مشعل، رئيس المكتب السياسي لحركة "حماس" الفلسطينية (الحليف، المقيم في دمشق حتى أشهر قليلة خلت)؛ أو كشف النقاب عن مقتل علي حسين ناصيف (أبو عباس)، أحد كوادر "حزب الله" العسكرية، "خلال قيامه بواجبه الجهادي"، داخل الأراضي السورية حسب معظم الترجيحات. إلا أنّ المغزى الأهمّ ـ على صعيد حلفاء سابقين، أو دائمين، للنظام السوري ـ هو، أغلب الظنّ، المظاهرات التي شهدتها وتشهدها مدن إيرانية، طهران ومشهد خاصة، على خلفية هبوط سعر صرف الريال، وفقدانه قرابة نصف قيمته الشرائية.

هنالك وجه أوّل، سياسي، لانعكاسات هذه الأزمة التي تبدو مالية صرفة، ناجمة عن تأثير العقوبات الاقتصادية كما تقول تقارير تعتمد تأويلات كلاسيكية، ليست غير صائبة في كلّ حال. ولقد جاء البُعد السياسي من قلب الشارع الشعبي الإيراني ذاته، حين تعالت في المظاهرات شعارات تندد بانشغال السلطات الإيرانية عن هموم البلد الداخلية، وانهماكها بملفات لبنان وسورية (ولكن ليس فلسطين، وهذا أمر بالغ الدلالة). هنالك هتاف أوّل يقول: "لا سورية ولا لبنان/ روحي فداء إيران"؛ وآخر يذهب أبعد في المباشرة: "اتركوا سورية وشأنها/ واهتموا بأحوالنا"؛ وفي النموذجين يذهب محتوى الملامة إلى ميزان خاسر بين رعاية النظام السوري (وليس الشعب السوري البتة، غنيّ عن القول!)، على حساب، أو مقابل، إهمال الشعب الإيراني.

وهنالك وجه اقتصادي، لا يخصّ أية شبكة تبادلية، أو موازين تجارية أو استثمارية، بين اقتصادات إيران واقتصادات سورية؛ بل يتركز، على وجه التحديد، في ذلك "الاقتصاد السياسي" الخاص الذي تخلقه التغذية الإيرانية المباشرة لاقتصاد الاستبداد السوري. فإذا واصل الريال هبوطه الدراماتيكي، واستمرّ البازار الإيراني في الإضراب، والمشاركة في أشكال الاحتجاج الشعبية، على نحو مباشر أو ضمني (وذاك أدهى، كما تفيد المعلومات)؛ فإنّ السلطات الإيرانية لن تستطيع توفير التغطية السياسية، وتلك العقائدية، و"الجهادية"، لاستمرارها في توفير المساندة الاقتصادية للنظام السوري. صحيح أنّ تدفق الأموال، مثل الأسلحة والخبرات والخدمات اللوجستية، لن يتوقف في كلّ حال؛ إلا أنّ مقاديره ومعدّلاته، فضلاً عن مسوّغاته، سوف تخضع لمراجعات إجبارية، وانتقادات أشدّ من جانب الشارع الشعبي العريض.

وهنالك، ثالثاً، وجه أمني، لكنه أخلاقي وسلوكي أيضاً، يخصّ المقارنة بين أساليب شرطة مكافحة الشغب وعناصر الأجهزة الأمنية الإيرانية في مواجهة تلك الاحتجاجات، حيث وقعت مصادمات ونُفّذت حملات اعتقال واستُخد الغاز المسيل للدموع والصعق الكهربائي؛ والأساليب الوحشية التي اعتمدتها اجهزة النظام السوري في قمع المظاهرات، منذ الساعات الأولى للانتفاضة، والتي ازدادت وحشية، وأسقطت كلّ محظور قانوني أو رادع أخلاقي. الدروس "التربوية"، وثمة ما يجيز وصفها هكذا، لا تقتصر على أبناء الشعبين السوري والإيراني وحدهم؛ بل يصحّ القول أنها تشمل أيضاً تلك "الأغلبية الصامتة"، هنا وهناك، التي لا تؤيد همجية النظام السوري بالضرورة، ولكنها تساجل بأنه ليس الاستبداد الوحيد في المنطقة، من جهة أولى؛ وترى في ما تبقى من "الثورة الإسلامية" الإيرانية نموذجاً أكثر "طهرانية" من الأنظمة الأخرى، في العلاقة مع الشارع الشعبي، من جهة ثانية.

مفيد، بعد ملاحظة هذه الوجوه السياسية والاقتصادية والأخلاقية لحركة الاحتجاجات الراهنة، التشديد على حقيقة قديمة، تتقادم دون أن تنطوي نهائياً، تفيد بأنّ مخاض التحركات الشعبية الإيرانية (وبينها تلك التي تنشط أثناء معارك الانتخابات الرئاسية) إنما تدور بين الإصلاحيين في وجه المحافظين، وبين التنمية السياسية ضدّ الجمود المؤسساتي، وبين ديمقراطية تسعى إلى تولية الشعب وأخرى تتشبث بمبدأ "ولاية الفقيه". ذلك، في عبارة أخرى، يعني أنّ المعركة لا تدور حول مسائل الانفتاح على الغرب، وصواب أو خطل سياسة إغلاق جميع البوّابات في وجه "الشيطان الأكبر"، ومواصلة الكفاح ضدّ الإمبريالية العالمية أو "الإستكبار الدولي"، والإصرار على البرنامج النووي، ومحو إسرائيل من الخريطة، ومساندة "محور الممانعة" حتى حين تتداعى أنظمته وتنحطّ وتحتضر... إنها، في الجوهر، ما تزال تدور حول حاضر إيران ومستقبلها، وحول مسائل داخلية سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية.

والعودة إلى تجربة الانتخابات الرئاسية الأولى، وإلى مآلاتها كما تجسدت وأُعيد إنتاجها في الانتخابات الرئاسية الأخيرة تحديداً، تمدّ أصحاب هذا الرأي بالكثير من أسباب التثبّت والترجيح. ففي عام 1997 انتخب الإيرانيون رئيسهم الجديد محمد خاتمي، بأغلبية ساحقة (اعتُبرت "فاضحة" عند البعض، بالمقارنة مع النسبة التي حصل عليها خصمه علي أكبر ناطق نوري). واختار خاتمي تشكيلة وزارية كانت الأكثر تعددية وتنوّعاً (والأكثر "إعتدالاً"، وفق المصطلح الذي يستهوي المراقبين الغربيين)، منذ أن وطأ الإمام الخميني أرض مطار طهران عائداً من منافيه الطوال؛ فصوّت البرلمان الإيراني على منح الثقة لهذه الحكومة (ليس دون صعوبات ومقاومة ودسائس).

إزاء تلك التطورات كتب ريشارد مورفي، مساعد وزير الخارجية الأمريكي أيام السنوات الحافلة 1983 ـ 1989، مقالة مطوّلة في صحيفة "واشنطن بوست"، كشف فيها النقاب عن حقيقة أنّ الإدارة بوغتت بانتخاب خاتمي، وكانت تنتظر انتخاب خصمه "المتشدد" نوري، لأنّ فوز الأخير هو الذي يثبّت الأسطورة، ويندرج بسهولة في المخطط التحليلي القياسي المعتمَد في واشنطن منذ عقود. الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلنتون كان، في حينه، قد نطق بما سيستعيده اليوم الرئيس الحالي باراك أوباما: "لم أكن في أيّ يوم سعيداً بهذه الحالة من الاغتراب بين شعب الولايات المتحدة وشعب إيران، هذا الشعب العظيم". ولا ريب في أنّ أوباما أعطى قيمة مضافة إلى تعبير "الشعب العظيم"، متذكراً أنّ سياسات سلفه جورج بوش، في الغزو والغطرسة وتغطية الهمجية الإسرائيلية وشنّ الحروب الصليبية المعاصرة، جعلت من إيران قوّة إقليمية كبرى لم يعد من الممكن ضبط طموحاتها الإمبراطورية بوسيلة أخرى غير مساومتها، أو شنّ الحرب عليها!  

رئاسة أحمدي نجاد الأولى، صيف 2005، شهدت هزيمة منافسه المحافظ والرئيس الأسبق علي أكبر هاشمي رفسنجاني، بنسبة 62%، ومعدّل مشاركة بلغ 60%، ممّا دلّ على أنّ الإصلاحيين قاطعوا الانتخابات عملياً. وهكذا انتقل مركز القوّة من المجموعة الدينية ـ البيروقراطية المحافظة، التي مثّلها آيات الله التلقيديون، ممّن خلفوا الإمام الخميني في مختلف مراكز القرار؛ إلى المجموعة الدينية ـ العسكرية المتشددة، كما يمثلها تحالف الجيل الثاني من آيات الله (آية الله مصباح يزدي، بصفة خاصة)، والحرس الجمهوري، وأجهزة الاستخبارات. صعود تيّار أحمدي نجاد، والمحافظين الجدد الإيرانيين إجمالاً، لم يكن بشرى سارّة للشعب الإيراني، ولا لأيّ من شعوب المنطقة في الواقع، لكي لا يضيف المرء أنها كانت نذير وبال كفيل بردّ البلد عشر سنوات إلى الوراء، أي إلى ما قبل رئاسة خاتمي الأولى، حين لاح أنّ التيّارات الإصلاحية توشك على إحراز تقدّم.

وإذا صحّ أنّ صعود تيّار أحمدي نجاد كان ولادة سياسية وعقائدية في أن معاً، فإنّ الخلاصة اللاحقة ينبغي أن تشير إلى اندحار (وربما محاق!) التيارات الإصلاحية، في مختلف أجهزة ومؤسسات الثورة الإسلامية الإيرانية. وفي ظلّ السياقات الإقليمية والدولية الراهنة تحديداً، بصدد ملفّ المنشآت النووية الإيرانية، ومستقبل النفوذ الإيراني في العراق، وتعاظم أدوار الدبلوماسية التركية المقترن باختلاط التحالفات الإقليمية في المنطقة، ومآلات الانتفاضات العربية عموماً، وتلك التي تتواصل في سورية خاصة... لا تكفّ عن التراكم تلك الدلالات الكبرى لتلك الولادة، وآثارها، وعواقبها المتعددة ذات الانبساط الجغرافي العريض، الذي لم يعد يقتصر على إيران وحدها.

وبصرف النظر عن مظانّ المرء إزاء الديمقراطية الإيرانية الراهنة، وفي ظلّ استمرار العمل بنظام ولاية الفقيه على وجه الخصوص، فإنّ ما يستوجب ولادة تيّار أشدّ محافظة هو هذا بالذات: أنّ الديمقراطية الإيرانية الراهنة يمكن أن تضع شرائح عريضة من الشارع الإيراني في موقع المعارضة للقسط الأعظم من ثوابت المجموعة الحاكمة، على اختلاف أجنداتها، في مسائل السياسة الداخلية والحقوق والحريات والعقيدة، كما في مسائل السياسة الخارجية وموقع إيران الدولة وإيران الثورة الإسلامية. وليس مدهشاً أن يكون الاحتلال الأمريكي للعراق، وسياسات الولايات المتحدة وإسرائيل إجمالاً، بين أبرز العوامل التي ساعدت على ترسيخ جاذبية خطاب أحمدي نجاد، الشعبوي التحريضي، المحافظ أو المحافظ الجديد، في ناظر الشارع الإيراني العريض.

وفي مثل هذه الأيام، قبل سنتين، قام أحمدي نجاد بزيارة لبنان، فبدا وكأنه يريد لإيران أن تصبح عنصراً إضافياً في استقواء فريق لبناني على آخر؛ أو أن تسير على منوال النظام السوري في جعل لبنان ساحة مواجهة عسكرية وحيدة مع إسرائيل، حين تظلّ المدافع خرساء تماماً على جبهة الجولان. كذلك بدا مجافياً للمنطق، وجارحاً لملايين الإيرانيين الذين اختلفوا مع أحمدي نجاد ولم يصوّتوا له، ذلك الإفراط الشديد في تلميع الأخير، وتضخيم سجاياه القيادية، ورفع خصاله الشخصية إلى سوية عليا (السند العظيم للمقاومين والمجاهدين والمظلومين)، بدا أنّ الرجل نفسه قد بوغت بها. وأصبح الأمر أشدّ مضاضة، وأبعد مغزى، حين تولى التلميع "قائد المقاومة الإسلامية" نفسه، حسن نصر الله، الأمين العام لـ"حزب الله"، كما في قوله: "نشمّ بك يا سيادة الرئيس رائحة الإمام الخميني المقدس، ونتلمس فيك أنفاس قائدنا الخامنئي الحكيم، ونرى في وجهك وجوه كلّ الإيرانيين الشرفاء من أبناء شعبك العظيم".

غير أنّ الاحتقان الراهن الذي يجتاح صفوف الشعب الإيراني، العظيم بالفعل، يحمل من حيث الشكل صيغة التذمّر من خطط حكومة أحمدي نجاد، السياسية والاقتصادية والأمنية؛ ولكنه في الجوهر يدور حول صيغة الجمهورية الإيرانية الثالثة، بعد الأولى التي أطاحت بالشاه في شباط (فبراير) 1979، والثانية التي تبلورت ـ حسب تشخيص آية الله الخميني نفسه ـ بعد أشهر من احتلال السفارة الأمريكية في طهران: هل ستسير على نهج أمثال أحمدي نجاد، والعميد يد الله جواني (رئيس المكتب السياسي للحرس الثوري، الذي هدّد بسحق كلّ "ثورة مخملية"، حتى إذا كانت خضراء اللون!)، ورئيسه الجنرال محمد علي جعفري (الذي أكد وجود الحرس الثوري في سورية ولبنان)؟ أم تقتفي درب الإصلاحات، السياسية والاقتصادية والاجتماعية، كما اقترحها أمثال خاتمي، ومير حسين موسوي، ومهدي كروبي، على اختلاف برامجهم؟

الإجابة، كما أفادت هتافات الشارع الإيراني، لن تأتي من طهران، فقط؛ بل من دمشق وبيروت، أيضاً!

الاثنين، 1 أكتوبر 2012

إدوارد سعيد وأوباما: أستاذ وتلميذ؟

حلّت، يوم 25 أيلول (سبتمبر) الجاري، الذكرى التاسعة لرحيل المفكر والناقد الفسطيني الكبير إدوارد سعيد (1935 ـ 2003)؛ وثمة الكثير من الظواهر والوقائع التي تجعلنا نفتقده سنة بعد أخرى، في العلوم الإنسانية إجمالاً، وفي الفنون والحياة البحثية والأكاديمية، ثمّ في السياسة الدولية والعربية. ولكن... ليس دون أن يفتقده بعض خصومه، أيضاً، على خلفية مسائل شتى، بينها تطورات النظرية الأدبية، والتأثير المتواصل التي تمارسه أعمال سعيد على أجيال متعاقبة من النقّاد والمنظّرين؛ وبينها وقائع راهنة، تخصّ "الربيع العربي"، والدور الأمريكي في المنطقة، والصراع العربي ـ الإسرائيلي؛ وأخرى تعود، كما للمرء أن ينتظر، إلى متخيَّلات "الغرب" و"الشرق"، وتنميطات الإسلام والمسلمين، وهذه أو تلك من المسائل التي تذكّر بـ"الاستشراق"، 1978، كتاب سعيد الأشهر.

على سبيل المثال الأوّل، يتنبّه الثنائي إفرايم كرش وروري ميللر أنّ تأثير سعيد على الحياة الأكاديمية في الغرب يظلّ قوياً في غيابه، كما كان في حياته؛ وما تزال تتواصل المنتديات والمؤتمرات المنعقدة على شرفه، في الولايات المتحدة وآسيا وأوروبا (ولسبب ما سقطت من اللائحة أنشطة مماثلة شهدتها أفريقيا وأمريكا اللاتينية وأستراليا). وما يتسبب أكثر في ضيق صدر كرش وميللر أنّ عدداً من النجوم، مثل سلمان رشدي وفانيسا ردغريف وداني غلوفر، يشاركون في هذه اللقاءات؛ وينضمّ إليهم بين حين وآخر "يهود غير طيّبين"، كما يُفهم من نبرة الثنائي، لأنهم على عداء مع الصهيونية، مثل الناقدة جاكلين روز والمؤرّخ إيلان بابيه.

لهذا كلّه يتطوّع كرش وميللر في حملات تدمير، أو بالأحرى إعادة تدمير، شخصية الراحل الكبير، استناداً إلى الكشوفات العبقرية التالية: سعيد تمنى أنّ يتذكره الناس في قول الحقيقة أوّلاً، ولكنه انتهى إلى نقيض ذلك لأنه لم يكفّ عن "فبركة" الحقائق؛ ومارس النفاق حول طفولته في فلسطين ما قبل إنشاء الدولة العبرية، وانتحل صفة الفلسطيني المنفيّ (الفرضية التي كان قد أطلقها الباحث الإسرائيلي جستس رايد فاينر سنة 1999، وانتهت إلى فرقعة بائسة)؛ واعتاد على السرقة الأدبية والفكرية (أفضل أمثلة الثنائي فقرة يتيمة من بيان لمنظمة التحرير الفلسطينية صدر سنة 1964!)؛ ولم يكن متسامحاً مع الخصوم (أمثال بول جونسون، دانييل بايبس، كنعان مكية!)؛ وأخيراً: المماحكة بقصد تسلّق السلّم الأكاديمي والمهني (آراء سعيد في مواقف جان بول سارتر من الصراع العربي ـ الإسرائيلي، واحتلال العراق، والروائية الإنكليزية جين أوستن!).

في مثال ثانٍ، يتوقف هذه المرّة عند شريط "براءة المسلمين"، يرى لي سميث أنّ موقف الإدارة الأمريكية من الشريط مخجل لأنه يراعي مشاعر المسلمين، ويجامل الغلاة بينهم؛ ولكنه بهذا يهين المواطن الأمريكي، لأنه إنما ينتهك الحرّيات المنصوص عنها في الدستور الأمريكي. وليس موقف الإدارة الإجمالي ـ كما عبّرت عنه سوزان رايس، المندوبة الولايات المتحدة في مجلس الأمن الدولي، وبعض السفارات الأمريكية في الشرق الأوسط ـ إلا خلاصة تفكير حول المنطقة انتزعه الرئيس الأمريكي باراك أوباما، نفسه، من إحدى صفحات "الاستشراق". يكتب سميث: "بينما توجّه الرئيس بوش وديك شيني إلى أساتذة من أمثال برنارد لويس وفؤاد عجمي لمساعدتهما في تأويل المنطقة، يبدو في المقابل أنّ أوباما قد انتزع صفحة من كتاب إدوارد سعيد"، يكتب سمي.

ولأنّ صاحبنا لا يملك دليلاً على ما يقول، فإنه يلجأ إلى فرضيات ركيكة من الطراز التالي: لقد درس أوباما في جامعة كولومبيا خلال فترة 1981 ـ 1982، وبالتالي "لا بدّ أنه كان على علم بوجود البروفيسور الفلسطيني ـ الأمريكي الشهير، ولا نعرف ما إذا كان قد تتلمذ على يديه مباشرة، لأنّ مدوّناته عن تلك الفترة لم تُنشر بعد". أو هذه: ألم يتحدّثا، سنة 1999، في حفل تكريم البروفيسور الفلسطيني رشيد الخالدي، زميل سعيد وصديق أوباما؟ أو هذه، الثالثة: ألم يعلن أوباما، في خطبة جامعة القاهرة سنة 2009: "أعتبر أنه في عداد مسؤوليتي كرئيس للولايات المتحدة أن أحارب جميع التنميطات السلبية عن الإسلام، أينما ظهرت"؛ وبالتالي، ألا يندرج مفهوم "التنميطات" في صلب نظريات سعيد ضدّ الاستشراق؟

يبقى أنّ سميث، صاحب هذه المطارحات العبقرية، هو محرّر رئيسي في أسبوعية "ويكلي ستاندارد"، معقل المحافظين الجدد في الولايات المتحدة؛ ومؤلف كتاب "الحصان الأقوى: السلطة، السياسة، وصدام الحضارات العربية"، الذي يكاد أن يحجر على العرب في سلسلة فرضيات تنميطية عنصرية، ضمناً وعلى نحو مبطّن تارة، أو صراحة دون تردّد أو تجميل للعبارة. وهو يرى، مثلاً، أنّ مشكلة العرب ليست في الدكتاتوريات الحاكمة، بل في الدكتاتوريات المصغرة داخل كلّ أسرة عربية؛ وبالتالي لا فائدة من مساندة "الربيع العربي" لأنّ "الشتاء العربي" قادم بعده، لا محالة. ولأنّ الذهنية العربية بدوية قبائلية صرفة، فإنها لا تراهن إلا على الحصان الأقوى، وهو في عصرنا ليس سوى الولايات المتحدة؛ وبالتالي فالعرب لائذون بأمريكا في كلّ حال ومآل، فلِم العناء في دعم زيد من الحكام، أو مناهضة عمرو!

وما همّ، إذاً، أن يكون أوباما تلميذ سعيد؟ وكيف لواقعة، أو شعب، أو الإنسانية جمعاء، أن تهين الحصان الأمريكي... الأقوى؟