وعزّ الشرق أوّله دمشق

الاثنين، 28 يناير 2013

يداوي الناس وهو عليل!

 أن يكون امرؤ من دعاة التدخل العسكري الخارجي، والأمريكي بصفة أولى، هو سلوك أقرب إلى إدمان يصعب الشفاء منه؛ حتى إذا أبصر المدمن انقلاب أهداف ذلك التدخل، التي تُعلَن غالباً تحت نعوت "النبيلة" و"الإنسانية" و"الإنقاذية"، إلى نقائض مدمّرة وعواقب وخيمة. وهكذا نقرأ اليوم أنّ الكاتب العراقي ـ الأمريكي كنعان مكية (أو سمير الخليل سابقاً، الاسم الذي وقّع به كتابه "جمهورية الخوف")، أحد أشهر الذين ألحفوا في طلب التدخّل العسكري الأمريكي لإسقاط صدّام حسين، يطالب بتدخل مماثل في سورية. لافت، إلى هذا، أنّ غايته من هذا الإلحاف الجديد لا تبدأ من تباكيه على الشعب السوري، كما كانت حاله مع العراقيين، بل من حزنه لأنّ نفوذ واشنطن الدولي، وسطوة أمريكا العسكرية خاصة، سوف تتأذى جرّاء عدم التدخل!

وبعد الجزم بأن ما يجري في سورية هو "حرب أهلية"، فلا يستخدم بالتالي أية مفردة تشير إلى انتفاضة شعب ضدّ نظام استبداد وفساد؛ يسارع مكية إلى استنهاض اختصاصه الأشهر، العراق، فيجري مقارنة بين البعثَين، السوري والعراقي، ويستخلص بأنّ الواحد منهما صورة المرآة عن الآخر. وخلال استبيان عن الدور الأمريكي في سورية، نشرته مجلة New Republic، يكتب: "حُقّ أن تُعاقَب واشنطن بسبب تجربتها الفظة في العراق خلال العقد الماضي. ولكن الكارثة السابقة، حيث أُبيد عراقيون أبرياء كثر وكانت الولايات المتحدة تقف متفرجة، يتوجب أن تصبح حافزاً لواشنطن. سورية اليوم توشك على التحوّل إلى عراق 1991. لا أحد يستطيع الزعم بأنه لم يعرف".

كلام حقّ لا يُراد منه إلا الباطل، وتحديداً لأنه يصدر عن مكية، دون سواه! في مطلع 1991، بعد إعلان وقف إطلاق النار في حرب الخليج الثانية، كتب صاحبنا، في "نيويورك تايمز" الأمريكية، وبتوقيع سمير الخليل وليس كنعان مكية: 1) الفكرة القائلة بأنّ نموذجاً منهكاً من صدّام حسين يمكن أن يحافظ على العراق موحداً، هي فكرة أقرب إلى أضغاث الأحلام؛ 2) لا شيء سيعكس مسار تفتت العراق إلا التدخل الخارجي، ويتوجب على الحلفاء الاعتراف أولاً بالثائرين على صدّام والتعاون معهم، ثمّ يتحلى الجنرال شوارزكوف بالرؤية التي امتلكها الجنرال ماك آرثر [أواخر الحرب العالمية الثانية، حين احتلّ اليابان]، فيزحف عل بغداد؛ 3) الحفاظ على النصر أكثر أهمية من النصر ذاته. ماذا كان سيحدث لو أنّ الولايات المتحدة انسحبت من أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية دونما التزام بالديمقراطية وإعادة البناء الاقتصادي؟ 4) بمشيئة الحلفاء، يبدو محتملاً تماماً أن تقوم في العراق ديمقراطية علمانية تضمن الحقوق القومية للأكراد، وتحمي جيران العراق من مخاوف عدوان جديد في المستقبل؛ 5) الشعب العراقي بحاجة إلى عون الجيوش ذاتها التي دمّرت قدراته، والشعب العراقي سوف يستقبل الجنرال شوارزكوف وجيشه بأذرع مفتوحة.

وفي مطلع كانون الثاني (يناير) 2003، قبل أسابيع قليلة سبقت الغزو الأمريكي للعراق، حين استقبله الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الابن في المكتب البيضاوي، بحضور مستشارته للأمن القومي آنذاك، كوندوليزا رايس، قال مكية إنّ الشعب العراقي سوف يستقبل القوّات الأمريكية بالحلوى والزهور، وعلى الرئيس أن يتأكد من هذا تماماً. وحين أخذت القاذفات الأمريكية تدكّ بغداد، كتب في New Republic، ذاتها، يمتدح القصف: "هذه القنابل لها وقع الموسيقى في أذني. إنها أشبه بأجراس تُقرع للتحرير في بلد تحوّل إلى معسكر اعتقال هائل".

في صيف 2007، نقلت عنه "نيويورك تايمز ماغازين" مشاعر الندم التي تلاحقه وتسكنه (هكذا، بالحرف)؛ وبادر كاتب التحقيق، دكستر فلكينز، إلى وصم مكية وأمثاله من الذين كانوا متحمسين للغزو بـ"السذاجة" و"الطيش". ربيع 2010، في حوار مع معد فياض، سوف يقول: "العراق انتقل من جمهورية الخوف إلى جمهورية السرقة والفساد"! هل يقول شيئاً، ذا قيمة ومصداقية، عن الانبار والفلوجة و"الربيع العراقي" (قياساً على تعبير أخر استخدمه راهناً: "الربيع السوري")؛ أو عن حكومة نوري المالكي، و"العراق الجديد"، الذي: "بالتأكيد لا أسميه جمهورية الديمقراطية، فهذا آخر تعبير في الدنيا قد ينطبق عليه، وأبعد ما يكون عنه، لكنني أسميه جمهورية التشرذم والسرقة"؛ أو عن زيارات المتكررة إلى إسرائيل، بدعوى "إسماع الصوت إلى دولة عظمى في المنطقة"، وعدم "إدارة الظهر لها"، و"عدم الخشية من التحدث إليها"؟

أن يصل مكية متأخراً، خير من أن لا يصل أبداً؟ ليس تماماً، في الواقع، لأنّ هذا الإقرار بالوضع الكارثي في العراق لا يتعدى الاعتراف البسيط بتحصيل حاصل صار ملايين الأمريكيين، وبعضهم كانوا من غلاة المتحمسين لغزو العراق، يرونه على نحو أشدّ وضوحاً ممّا فعل مكية، وأشدّ نقداً، وأعلى صوتاً، وأرقى سلوكاً. ولا يكفي أن يقف وأمثاله موقف الرثاء والأسى، وذرف دموع التماسيح على "عراق تحكمه المافيا"، بعد أن بشّروا العراقيين بأنّ التدخل العسكري يحمل التحرير والديمقراطية على ظهر دبابة، وبعد أن طمأنوا الغزاة. وعليهم، قبل ممارسة النقد الذاتي، أن يتوجهوا بالاعتذار إلى أبناء شعبهم جرّاء ما اتضح أنه كان بالفعل طيشاً وليس مجرّد سذاجة.

وليكفّوا، بعدئذ، عن ممارسة الإدمان ذاته، واقتراح الترياق القاتل إياه، لعلاج عذابات الشعوب!

الاثنين، 21 يناير 2013

"جيش الدفاع الوطني": عودة الشيخ إلى صباه!

 في عام 2003، وضمن "سلّة الإصلاحات" التي وُعد بها الشعب السوري بعد توريث بشار الأسد، ألغى النظام مادة "التربية العسكرية"، أو دروس "الفتوّة" في التعبير الأكثر شيوعاً، والتي كانت مفروضة على طلاب المدارس في المرحلة الثانوية. كذلك، بموجب القرار إياه، تمّ إلغاء اللباس الموحد ذي اللون العسكري التاريخي (الكاكي، أو "الخاكي" كما نقول في سورية)، واستُبدل ببزّة زرقاء ورمادية للذكور، وزرقاء وزهرية للإناث. وإذا كان نظام "الحركة التصحيحية" ليس المسؤول في الأساس عن إدخال مادّة "التربية العسكرية" إلى المدارس الثانوية، إذْ أنّ الخطوة تعود إلى عهود بعثية أبكر؛ فإنّ حافظ الأسد كان مسؤولاً عن خطوات أسوأ بكثير، وأشدّ أذى.

فمن منطلق اليقين بفوائد عسكرة المجتمع منهجياً، على الطراز الكوري الشمالي (نموذج كيم إيل سونغ تحديداً، والذي كان الأسد الأب مولعاً بشخصيته ونظامه وطرائق إدارته للمجتمع والدولة والحزب في آن)؛ استحدث النظام "اتحاد شبيبة الثورة" في المدارس الإعدادية والثانوية، وأخضع الطلاب لمعسكرات تدريب، إلى جانب ما يتلقونه من "معارف" المنهاج العسكري ذاته؛ ثم جعل نشاط "الاتحاد الوطني لطلبة سورية" يقتصر على الجامعات، وألزم الطلاب الجامعيين بمعسكرات تدريب عسكرية. واحدة من المهازل الكبرى لهذه السياسة وقعت في مطلع الثمانينيات، حين تولّى رفعت الأسد، ومفارز "سرايا الدفاع" التي كان قائدها، تدريب عشرات من "الشبيبيات" على القفز المظلي، مقابل إعفائهن من معدّل الدرجات العالي المطلوب للانتساب إلى كليات الطبّ وطبّ الأسنان والصيدلة.  

غير أنّ طرازاً ثالثاً من العسكرة القسرية، كان الأخطر والأخبث أيضاً، تمثّل في استحداث منظمة جديدة باسم "طلائع البعث"، عُهد إليها بالإشراف على التربية السياسية للأطفال في المدارس الابتدائية. ولأنّ الانتساب إلى المنظمة كان إجبارياً بالطبع، وجزءاً من منهاج التعليم، الذي يتضمن معسكرات طلائعية أيضاً؛ فقد شبّت أجيال كاملة على العبارة الكليشيه: "بالروح! بالدم! نفديك يا حافظ!"؛ وكان الأطفال يكبرون وهم يستدخلون مبدأ عبادة الفرد في اللاوعي الجنينيّ، بوصفه سلوكاً وطنياً طبيعياً تماماً، وكانوا ـ عن طريق القسر المباشر، أو التطبّع الغريزي ـ يتشرّبون صورة "الأب القائد"، الحاكم في المدرسة والبيت والحيّ والبلدة والمدينة والوطن...

ولأنّ 49% من سكان سورية كانوا فتياناً أقلّ من 15 سنة، فإنّ منظمة "طلائع البعث" لعبت دوراً حاسماً في تنشئة الأجيال الجديدة على قائد واحد، وحزب واحد، ومنظمة واحدة، وسياسة واحدة؛ وزرعت في نفوس الصغار حسّ الطاعة العسكرية، والولاء الأعمي للقائد؛ وجهدت لكي تكون هذه التربية بمثابة لقاح مبكّر يحول بينهم وبين التقاط مرض السياسة، حين ينتقلون من مرحلة إلى أخرى في الدراسة والعمر والوعي. وبهذا المعنى يمكن فهم الخلاصة التي تقول إنّ شرائح عديدة من شباب المجتمع السوري واجهت صدمة في الوعي حين رحل الأسد، لأنها في الواقع لم تعرف أي "رئيس" سواه طيلة 30 سنة، ولم تمتلك فرصة النشوء على أيّة "سياسة" أخرى سوى تلك التي تربّي على افتداء الأسد بالروح والدمّ.

ورغم أنّ النظام، بعد انطلاق الانتفاضة، كان قد أفلت على الشعب آلاف الشبيحة، من المجرمين خرّيجي سجون الحقّ العام، والسفاحين المحترفين، والمأجورين كاسري التظاهرات؛ وأنشأ مجموعات مختلطة التكوين، مدنية وعسكرية وبعثية، أدّت العديد من المهامّ التي توكل عادة إلى الميليشيات المنظّمة ("كتائب البعث" في حلب، و"اللجان الشعبية" في حمص وبعض مناطق الساحل السوري، مثلاً)؛ فإنّ الحنين إلى مادّة "التربية العسكرية" ظلّ يراود أهل النظام، وأخذت زمام المطالبة بها جهات لا يُنتظَر منها هذا الأمر عادة: مجلس محافظة دمشق، على سبيل المثال، الذي اقترح في أيار (مايو) الماضي إعادة نظام "الفتوّة"؛ أو صحيفة "تشرين"، التي تغنّت باللباس الخاكي و"السيدارة" العسكرية، وتحسرت على "مدرّب الفتوّة" الذي كان ضامن الانضباط والوعي القومي!

وأمّا المشروع الأحدث في مضمار تجنيد جمهور الموالاة، فهو ما نقله مراسل قناة "روسيا اليوم"، الذي يُوحى له ولا ينطق عن هوى، من أنّ النظام يزمع تشكيل "جيش الدفاع الوطني"، الذي سوف يتألف من 10 آلاف مقاتل، من المدنيين الذين سبق لهم أداء الخدمة العسكرية؛ يتقاضون رواتب شهرية، ويرتدون زياً موحداً، ويتولون مهامّ "حماية الأحياء من هجمات مسلحي المعارضة". في عبارة أخرى، توجّب أن تمرّ سنتان، تقريباً، لكي يعثر النظام على تسمية تجميلية للمسمّى الفعلي، القبيح، الذي ستنتظم فيه كتائب هذا الجيش العرمرم: قطعان الشبيحة.

وإذا كان الشارع السوري لم يشهد، بعد، "مآثر" هذا الجيش؛ وما إذا كان سيسير على منوال "جيش المهدي" العراقي و"فيلق القدس" الإيراني، أم سيستعيد تراث "الحرس القومي" البعثي خلال ستينيات القرن الماضي، أم سيخرج بخليط من "خصال" هذه التشكيلات، بعد أن يستهدي أيضاً بأبغض ما وفّرته تراثات نازية وفاشية وستالينية من أفانين القمع؛ فإنّ الجلي، حتى دون انتظار إشعار آخر، هو التالي: الفرقة الرابعة والحرس الجمهوري ومعظم وحدات جيش الموالاة النظامي، لا تترهل وتتفكك وتندحر وتشيخ، كلّ يوم، فحسب؛ بل هيهات أن يفلح جحفل مرتزقة جدد، في إعادتها إلى صبا الأيام الخوالي!

الجمعة، 18 يناير 2013

فئات "الذين لم تتلطخ أيديهم بدماء السوريين": من هم؟ أين هم؟

منذ أن تعالى الحديث عن مرحلة ما بعد سقوط النظام السوري، وسلسلة الترتيبات العاجلة التي يتوجب أن تسبقها وتعقبها؛ واستجابة لضغوطات شتى، غربية بصفة خاصة، مورست على مؤسسات المعارضة السورية الرئيسية، مثل "المجلس الوطني السوري" و"الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية"؛ راجت، بالتزامن، مقولة التعاون مع قوى النظام التي "لم تتلطخ يدها بدماء السوريين". وعلى نحو سريع، متسارع وارتجالي أحياناً، بلغت هذه المقولة شأو الافتراض الضمني بأنّ النظام نظامان: واحد سفك الدماء، ولا حوار معه البتة، ولا رجعة عن إسقاطه برموزه كافة؛ وآخر لم يسفك الدماء، وثمة فرصة لأفراده كي ينخرطوا في بناء سورية المستقبل.

وهكذا، في البند 6 من خطة نقل السلطة في سورية وبدء المرحلة الانتقالية، التي أعلنها قبل أيام جورج صبرا، رئيس المجلس الوطني، نقرأ ما يلي: "تشرف الحكومة المؤقتة على اتفاق بين قادة الجيش الحر وهيئة الأركان المشتركة وضباط الجيش السوري ممّن لم تتلطخ أيديهم بدماء السوريين، لتنظيم عمليات وقف إطلاق النار وسحب الجيش إلى ثكناته، واستيعاب الثوار في الجيش والقوى الأمنية، وضبط الأمن وحفظ السلم الأهلي". وأمّا الشيخ أحمد معاذ الخطيب، رئيس "الائتلاف الوطني"، فقد حثّ على الروحية ذاتها، في خطب رسمية وأحاديث صحفية مختلفة: "كلّ من لم تتلطخ يداه بالدماء فهو شريك في الوطن، ليس فضلاً منّا وإنما حقّ له، وهؤلاء الناس كثيرون"؛ وكذلك: "لو كان كلّ الثوار إرهابيون فليستلم [السلطة في سورية] من لم تتلطخ يده بالدماء، ولا مشكلة لدينا بذلك"؛ وأيضاً: "كلّ من لم تتلطخ يداه بدماء السوريين هو جزء من أي حلّ سياسي ممكن".

غير أنّ المقولة، التي تبدو للوهلة الأولى بسيطة ومنطقية، تسعى لإحقاق الحقّ، وتنهض على مبدأ أنّ وازرة لا تزر وزر أخرى؛ تخفي في طياتها مقداراً كبيراً من التعقيد والتشابك، لا يُفقدها قسطاً كبيراً من براءتها الظاهرية، فحسب؛ بل ينذر بانقلابها إلى نقيض ما تصبو إليه من تسامح، واستعداد لقبول الآخر، ونزوع إلى المصالحة. هذا إذا افترض المرء، بادىء ذي بدء، أنّ الجهة/ الجهات التي سوف تتولى فرز ملطخ اليدين من سواه، تمتلك من أسباب الشرعية والتمكن والإحاطة والعدل والإنصاف والموضوعية، فضلاً عن المعلومات والوثائق والبراهين، ما يسبغ الكفاية الحقوقية على خلاصاتها وأحكامها. ثمّ إذا افترض المرء ذاته، بعدئذ، توفّر درجة كافية من الإجماع حول إجراءات كهذه، لدى الأوساط الشعبية ذاتها التي يعود إليها، أولاً، حقّ المقاضاة في وقوع تلطيخ اليد، أو الجزم في عدم وقوعه.

فإذا لم تكن المقولة صيغة لفظية ومجازية صرفة (وهي تأخذ هذا المنحى في أمثلة كثيرة، عملياً!)، فإنّ تصنيف الذين لم تتلطخ أيديهم بدماء السوريين يظلّ عملية أصعب، بكثير في الواقع، من تصنيف الملطخة أيديهم، غنيّ عن القول. هم، في المقام الأول، ليسوا أولئك الذين انشقوا صراحة عن النظام، بصرف النظر عن توقيتات انشقاقاتهم ودوافعها الظاهرة والخافية، والمواقع التي شغلها كلّ منهم في آلة السلطة. ذلك لأنّ الفرضية العقلية البسيطة تقول إنهم قد انخرطوا في صفّ الانتفاضة، وهذه تجبّ ما قبلها، الآن على الأقلّ، في انتظار ساعة حساب يتوجب أن تأزف ذات يوم، في سورية المستقبل، حيث دولة الحقّ والقانون. كذلك فإنّ الفرضية السياسية تستوجب زجّهم في محاولة استمالة تلك الشرائح من "جمهور" النظام، التي حافظت على درجة من الولاء لمؤسسات السلطة، حزب البعث أو النقابات أو اتحادات الطلبة والشبيبة أو ما يُسمى "المنظمات الجماهيرية" عموماً؛ لكنها لم تذهب بالولاء إلى حدود الانخراط، على نحو عسكري وأمني مباشر، في حرب النظام ضدّ الشعب.

ولكن، في جانب ثانٍ من أركان التصنيف، أين نعدّ أمثال رامي مخلوف، تمساح المال والأعمال والفساد، وصيرفي النظام الأبرز: في صفّ الذين لم تتلطخ أيديهم بالدماء، باعتباره ليس ضابطاً في جيش النظام أو في أجهزته الأمنية، وليس قائداً ميدانياً لميليشيا عسكرية أو قطيع شبيحة؟ أم في الصفّ الآثم، بوصفه أحد كبار مموّلي الإنفاق اليومي على آلة الاستبداد، وأحد كبار دافعي رواتب الشبيحة، فضلاً عن الخدمات اللوجستية الكثيرة التي تقدّمها شركاته لأجهزة النظام المختلفة؟ وإذا جاز القول إنّ حالة مخلوف أوضح من سواها، لجهة تصنيفه في خانة الملطخة أيديهم بدماء السوريين، فما حكم بثينة شعبان مثلاً، المستشارة الإعلامية للقصر الجمهوري رسمياً، وطابخة معظم قدور الحصى حول مسرحيات "الحوار الوطني" و"المعارضة الداخلية الشريفة"؟ أو عمار ساعاتي، رئيس ما يُسمّى "الاتحاد الوطني لطلبة سورية"، وقائد معظم عمليات التشبيح الدامية ضدّ طلاب الجامعات السورية؟ أو الشيخ محمد سعيد رمضان البوطى، الذي أفتى بأنّ ضحايا النظام ليسوا شهداء، وحرّم التظاهر السلمي في الشوارع، واعتبر صورة الأسد الموضوعة على الأرض بمثابة بساط يمكن السجود فوقه لله؟

والأكثر تعقيداً، في جانب ثالث من أركان التصنيف، هي حالة المسؤولين السابقين الذين شغلوا مواقع عليا في جهاز الدولة، ولم يكونوا مجرّد موظفين يؤدون مهامّ بيروقراطية صرفة، بل شاركوا في إدارة شبكات الفساد، وانخرطوا فيها بأنفسهم: هل ذاك الذي امتصّ دماء السوريين، وأثرى على حساب قوتهم وكدّهم، ونهب ثروات بلادهم... يختلف كثيراً عن ذاك الذي تلطخت يده بدمائهم؟ وذاك الذي لم يكن فاسداً تماماً، لأسباب شتى، لكنه سكت عن الفساد، أو تواطأ عليه، أو سهّل عملياته بحكم موقعه، ما الرأي فيه؟ وقد يقول قائل، محقاً في مستوى أوّل: ألا يتوجب على دولة الحقّ والقانون الوليدة أن تحسم أمر هؤلاء، في دور القضاء وقاعات المحاكم؟ صحيح، بالطبع، ولكن للأمر مستواه الآخر الأسبق، الذي أخذت تلهج به مؤسسات المعارضة: إذا كان هؤلاء شركاء لنا في الوطن، و"ليس فضلاً منّا" كما يقول الشيخ الخطيب، فهل يكونون أيضاً شركاءنا في المرحلة الانتقالية، قبل أن يقول القضاء كلمته في ماضيهم، من حيث أفعالهم التي خرقت قوانين كانت سارية المفعول في عهودهم، هم أنفسهم؟

لعلّ بعض الأمثلة تقرّبنا أكثر من ميدان النمط الملموس، وليس المجرّد وحده. ففي خريف 2004 عقد محمد الحسين، وزير مالية النظام آنذاك، مؤتمراً صحفياً ‏واسع النطاق، غير مسبوق أو بالأحرى غير معهود في تاريخ وزارة كهذه، مع مراسلي الصحف ‏المحلية والعربية والعالمية. واكتسب اللقاء أهميته من اعتبارات ثلاثة: أنّ الوزير عضو في ‏القيادة القطرية، ورئيس المكتب الاقتصادي القطري، ومن الجيل "الشاب" الذي واكب ترقية ‏بشار الأسد في الميدان الحزبي، ومن مواليد محافظة دير الزور الشرقية النائية غير المعروفة ‏بتعاطفها مع النظام؛ وأنّ اللقاء، ضمن الاعتبار الثاني، عُقد في مقرّ دار البعث، بما يوحي ‏توجيه رسالة مفادها أنّ الوزير ـ الرفيق يتمتّع بدعم قيادة الحزب أيضاً؛ وأخيراً، أنّ الهدف ‏الرئيسي من اللقاء كان شرح مبادىء "التعاون" و"الشفافية" و"الصدق" التي تعتمدها ‏الوزارة مع الوفد الأمريكي القادم للتفتيش على المصرف التجاري السوري، بحثاً عن تبييض ‏أموال أو ودائع عراقية، أو سواها من التفاصيل التي يستدعي "قانون محاسبة سورية" ‏التدقيق فيها.‏

ولقد كان الوزير مفوّهاً ذرب اللسان متباهياً في كلّ ما طُرح عليه من أسئلة، عدا ذلك ‏السؤال الوحيد الذي تجاهله تماماً، وكأنّ أحداً لم يطرحه البتة: ما حكاية انقلاب شركتَيْ ‏الهاتف الخليوي "سيرياتيل" و"سبيستيل"، لصاحبهما الأبرز رامي مخلوف، من ‏شركتَي ‏BOT‏ (أي بناء ـ تشغيل ـ انتقال ملكية)، إلى شركتين مساهمتين تطرحان الأسهم للبيع ‏على الجمهور، قبل أو دونما إحداث سوق أسهم؟ المحتوى الآخر للسؤال ذاته كان يفيد التالي: هل ‏تنازلت الدولة عن حقّها في امتلاك الشركتَين بعد انتهاء مدّة العقد؟ وكيف، نكتشف، ويكتشف ‏الجمهور السوري، الآن فقط أنّ المدّة هذه ليست ثماني سنوات كما نعرف ويعرف الجميع، بل هي ‏‏15 سنة بالتمام والكمال... هذا إذا وافق مخلوف على ردّ ما للدولة إلى الدولة!‏

بالطبع، "طنّش" الوزير ـ الرفيق عن هذا السؤال لأنّ أملاك ومشاريع وأنشطة مخلوف ‏كانت وتظلّ فوق القانون، ويحدث أحياناً أن تكون صانعة للقوانين أو معدّلة لها أو ضاربة بها ‏عرض الحائط (كما حين أصدرت محكمة البداية المدنية في دمشق حكمها بتحويل ملكية 750 ألف ‏سهم من مجموعة نجيب ساويريس إلي مجموعة مخلوف؛ أو حين خضع بشير المنجد، وزير المواصلات، الاتصال ‏والتقانة بعدئذ، وطوى قراراً بمنع شركتَي الخليوي من تحويل أموالهما إلى الخارج ‏دون إذن من الوزارة؛ أو حين بدا أنّ كلّ قوانين الأرض لا تحفظ حقّ آل سنقر في وكالة مرسيدس، ‏التي سال لعاب مخلوف عليها...). ولقد "طنّش" الحسين لأنّ ‏مخلوف يمثّل التجسيد العملي الأعلى للبنية الريعية التي تضخّ أموال الفساد إلى حسابات ‏الفاسدين، من أعلى الهرم وحتى أسفل سافله!‏

وبعد المالية والمواصلات، هنا مثال ثالث جسّده وزير الصناعة الأسبق غسان ‏طيّارة: رجل شغل موقع نقيب المهندسين طيلة 20 سنة، ليس لأنّ مهندسي سورية يهيمون به ‏إعجاباً، وليس لأنه انتُخب (حتى بمعنى انتخابات حزب البعث الأقرب إلى المهازل)، بل لأنه عُيّن ‏تعييناً بقرار من القيادة القطرية للحزب الحاكم، بعد حلّ نقيب ومجلس نقابة المهندسين في ‏عام 1980، إثر التحرّك الشعبي والمهني الواسع ضدّ النظام. المثال الرابع غسان الرفاعي، وزير الاقتصاد الأسبق، المستشار السابق في البنك الدولي، "المستقلّ" حزبياً، ولسان حال توجهات السلطة نحو ‏الاقتصاد الليبرالي. وفي التغيير الأول لوزارة محمد ناجي عطري، جرى الاحتفاظ بالرجل ضمن صيغة إرسال ‏المزيد من الإشارات حول الليبرالية القادمة، ولأنّ النظام كان بحاجة إلى هذا "الخبير" في خوض ‏مفاوضات شاقّة حول الشراكة الأوروبية. وفي دورة التغيير، عطري ـ 2، فُصلت التجارة ‏عن الاقتصاد، وارتدّت هذه الوزارة الأساسية إلى حيث بدأت وتواصلت طيلة عقود: إلى حزب ‏البعث الحاكم، الذي عاد من جديد للإطباق على المالية والصناعة والاقتصاد!‏

أليس البتّ في أمثال الحسين والمنجد وطيارة والرفاعي أشدّ تعقيداً، من حيث الإشراك في بناء الوطن، من الرأي في كبار ضباط الجيش الذين لم ينشقوا، ولكن النظام جمّد صلاحياتهم أو أحالهم إلى مواقع غير قيادية لارتيابه في إمكان انشقاقهم عنه؟ أليس أشدّ صعوبة، كذلك، من نموذج قاضٍ اضطُرّ، تحت ضغط رؤسائه وإلحاح لقمة العيش والخوف من التنكيل، إلى إصدار أحكام جائرة بحقّ المواطنين؟ وقبل انقياد مؤسسات المعارضة إلى خطاب غنائي حول التسامح والشراكة المستقبلية في الوطن، ألا يتوجب احترام الذاكرة الشعبية بصدد شخوص النظام، لا رموزه وحدهم؟ ألا يصحّ فرز زارع الحنطة عن زارع الزوان، كما جاء في مثال يسوع الناصري... سيّد التسامح؟

الاثنين، 14 يناير 2013

سورية والفاتيكان: انخداع وخداع

في القسم العربي لموقعها الرسمي على الإنترنت، وزّعت وكالة أنباء الفاتيكان (فيديس) خبراً مسهباً، يبدأ هكذا: "حلب (وكالة فيدس) –  هناك حوالي ألف مسيحي من الكاثوليك والروم الأرثوذكس محاصرون في قرية اليعقوبية المسيحية الصغيرة الواقعة في شمال حلب. إنهم منهكون، ويفتقرون إلى الغذاء والكهرباء والاحتياجات الأساسية، ويجدون أنفسهم وسط قتال عنيف بين القوى الموالية والقوى المعارضة. لا يستطيعون مغادرة القرية و'يعيشون في أوضاع رهيبة ويواجهون خطر الزوال'. هذا هو الإنذار الذي أطلقه عبر فيدس الأخ الفرنسيسكاني الأب فرنسوا قصيفي، راعي كنيسة القديس فرنسيس في الحمرا (بيروت) الذي يعتني ويهتم بحوالي 500 لاجىء سوري".

لافت، في البدء، أنّ الوكالة تعلن نقل الوقائع من حلب، ثمّ لا يحتاج المرء إلا إلى حفنة كلمات بعدها كي يكتشف أنّ الناقل يقيم في بيروت، وهو مطلِق الإنذار الرهيب، المنضوي أيضاً في موقع الخصم والحكم. جديرة بالانتباه، ثانياً، تلك اللغة التهويلية، والتهييجية استطراداً، التي تذهب إلى حدود قصوى مثل "الإنذار"، و"خطر الزوال" (Extinction باللغتَين الإنكليزية والفرنسية!)، و"الحصار"، و"المأساة الرهيبة" و"المسار الخطير"... في فقرات الخبر الأخرى. مدهش، ثالثاً، أنّ الوكالة تبدو وكأنها تضع مسيحيي سورية في مصافّ افتراقية عن بقية السوريين، إذْ يتوجب ألا يفتقروا إلى الغذاء والكهرباء والاحتياجات الأساسية، أسوة بحال مواطنيهم عموماً؛ وهم أشبه بفريق محايد، مستقلّ، منفصل، لا هو "قوى موالية" ولا "قوى معارضة"!

والحال أنّ هذا ليس أوّل تهويل تنخرط فيه وكالة أنباء الفاتيكان، حول أوضاع مسيحيي سورية، وثمة سوابق كثيرة سارت على المنوال ذاته، واتضح أنها ليست عارية عن الصحة، فحسب؛ بل ثمة منهجية قصدية تتوخى التضخيم، وتتلقف التقارير المغالية، أو الكاذبة عن سابق قصد، وتتبناها كحقائق مسلّم بصدقيتها. ففي حزيران (يونيو) 2012، نقلت الوكالة ذاتها تقريراً عن اضطهاد المسيحيين في مدينة حمص، نسبته إلى أسقف فرنسي يدعى فيليب تورنيول دو كلو، ادّعى النطق باسم كنيسة الروم الملكيين الكاثوليك؛ تحدث فيه عن كنائس دمرها المعارضون المسلحون، وعن مقتل كاهن، وفرار عدد كبير من المسيحيين تحت تهديد "الإسلاميين".

خطأ الوكالة الأوّل كان إضفاء مرتبة الأسقف على دو كلو، في حين أنه "أرشمندريت"، وهي مرتبة دينية أدنى. وأمّا الخطأ الثاني، الذي عُدّ فضيحة مهنية وأخلاقية، فقد كان تأكيد مجلة "مسيحيو المتوسط" الفرنسية، ومدوّنة "إل موندو دي أنيبال" المتخصصة بالعالم العربي، أنّ دوكلو شاهد زور لأنه لم يزر سورية قط؛ وهو، فوق هذا وذاك، مقرّب من أوساط اليمين المتطرف؛ وتساءلت المدوّنة: كيف وقعت في الخطأ وكالة مثل "فيدس"، يتوجب أن تمثّل مجمع التبشير الإنجيلي للشعوب؟

وبين الانخداع، الذي وقعت فيه الوكالة؛ والخداع، الذي مارسته عامدة، كما يتوجب القول؛ ثمة تلك الأمثولة القديمة، المتكررة والمكرورة، عن الكيل بمكيالين. فالكنيسة الكاثوليكية اعتذرت، في مناسبات شتى، عن مواقف الصمت، أو التواطؤ، أو المباركة الضمنية، التي اتخذتها بعض المؤسسات الكاثوليكية إزاء الجرائم النازية. ولكنها ما تزال تلتزم الصمت المطبق إزاء عمليات الإبادة الجماعية التي مارسها الفاتحون الإسبان ضدّ الأقوام الأصلية الأمريكية ("الهنود الحمر"، في تسمية كريستوفر كولومبوس)، وسط لامبالاة الكنيسة، ولكن، أيضاً... وسط مباركتها للمذابح في أمثلة عديدة!

والتاريخ يسجّل أنّ المبشّر ورجل الدين كان العمود الرابع في تنفيذ الفتح، بعد الملاّح، والكاتب المؤرّخ، والفاتح العسكري. وفي كتابه الشهير "دموع الهندي"، يشرح الأب الدومينيكاني بارتولوميو لاس كاساس الفظائع الرهيبة التي سكت عنها الآباء والمبشّرون، بل شجّعوها تحت دعوى التنصير الإجباري لهذه "الأقوام الهمجية". وفي موازاة دفاع الأب لاس كاساس عن المساواة بين البشر، توفّر الفقيه الإسباني خوان دي سيبولفيدا، الذي دافع عن التمييز الصريح بين البشر، وتساءل بقحة: "كيف يمكن لأحد أن يعتبر غزوهم، وإبادتهم في حالة الضرورة، أمراً غير مبرر وهم على ما هم عليه من همجية وبربرية ووثنية وكفر ودعارة"؟

في مثال ثانٍ، كانت الكنيسة الكاثوليكية الفرنسية، التي تفاخر الأرشمندريت دو كلو بالانتماء إليها، قد تلكأت 57 سنة قبل أن تعترف بصمتها على ترحيل 75 ألف فرنسي يهودي إلى المعسكرات النازية (لم يبق منهم على قيد الحياة سوى ثلاثة آلاف)؛ فتقرّ بأن ذاك لم يكن سلوكاً مسيحياً لائقاً، وهو بالتالي يستوجب الاعتذار العلني، وبأفصح العبارات. ولكن ماذا عن صمت الكنيسة، إياها، إزاء مليون ضحية جزائرية، أثناء حرب التحرير؟ وإذا كانت تعقيدات أرشيفية سياسية وتاريخية تكتنف هذا الملفّ بالذات، فماذا عن المجزرة الرهيبة الشهيرة التي وقعت عام 1961، وذهب ضحيتها 200 من المتظاهرين الجزائريين؛ قضوا غرقاً حين دفعتهم مفارز الشرطة الفرنسية إلى مياه نهر السين، في قلب باريس، أيام الجنرال دوغول دون سواه؟

وذات يوم سخر الفيلسوف الفرنسي جوليان بيندا من موظفي الكنيسة الكاثوليكية خلال القرون الوسطى، الذين أقاموا مبدأ "إدفعْ من الدوقيات الذهبية، بقدر ما ترغب في احتكاره من أشبار الفردوس". ويبدو، اليوم، وكأنّ أحفاد هؤلاء يختطّون معادلة جديدة: اختلقْ من الأكاذيب عن مسيحيي سورية، بقدر ما ترغب في نيله من رضا... وكالة أنباء الفاتيكان!

الجمعة، 11 يناير 2013

فزاعة "الصَوْمَلة": دروس التاريخ الأبسط.. والأعمق

قبل أن يتحفنا الأخضر الإبراهيمي، المبعوث الأممي ـ العربي حول سورية، بنبوءته عن انزلاق البلد نحو "الصوملة"؛ كاد دانييل بايبس، المعلق الأمريكي الصهيوني، أن يقسم بأغلظ الأيمان أنه يرى سورية، أسوة باليمن، تسير نحو المصير الجهنمي ذاته. وقبل هذا وذاك، كان خوزيه راموس ـ أورتا، رئيس تيمور الشرقية السابق والحائز على جائزة نوبل للسلام، قد حذّر ـ دون أن يتنبأ تماماً، والحقّ يُقال! ـ من صوملة وشيكة في سورية. وإذا كان الأوّل يواصل أشغاله ضمن آجال ضائعة، أو مستقطَعة؛ والثاني يرتعد خوفاً على أمن إسرائيل، في الجولان المحتلّ بصفة خاصة، من مآلات انتصار الانتفاضة السورية؛ فإنّ الثالث خرج باقتراح عجيب، صاعق إذْ يأتي من حامل أرفع جائزة دولية للسلام: لا حلّ إلا عن طريق العسكر، على غرار ما فعلوا مع حسني مبارك في مصر، وسوهارتو في أندونيسيا، ويفعلون اليوم في مينامار!

وكان المرء يخال أنّ تعبير "السَوْرَنة"، بعد "اللَبْنَنة" و"العَرْقَنة"، كافٍ بذاته لإحداث القشعريرة في أوصال الرأي العام الدولي، حين يكون ذاك هو الغرض من اشتقاقات كهذه؛ لولا أنّ البعض لا يلقي بالاشتقاق على عواهنه، كيفما اتفق، فحسب؛ بل لا يدمن إلا استخدام اشتقاق اهترأ واستُهلك وأكل الدهر عليه وشرب، حصرياً وتحديداً. فما شهده لبنان من أهوال أهلية، ثمّ العراق من بعده، واليوم سورية... يكفي، بل يزيد ويطفح، لكي يصحو الضمير العالمي من سباته العميق، فيبصر بأمّ العين ما جرى ويجري، وما تكرر ويتكرر. وأمّا إذا كانت الغاية هي ترهيب أهل البلد أنفسهم، فإنّ المكتوي بالنار ليس بحاجة إلى شارح يطنب في تبيان طبائع اللظى، وليس بعد أن يكون الاكتواء قد بلغ مؤشرات قصوى في القتل والدمار والوحشية. هذا بصرف النظر عن مقدار الإهانة للصومال والصوماليين، من حيث تحويل فصول دامية من تاريخهم الحديث إلى أمثولة دائمة، تتعامى تماماً عن الواقع المعاصر.

الأرجح أنّ هذا الميل إلى تعميم "الصوملة" إنما يضرب بجذوره في معادلة خرقاء قديمة، لا تكفّ عن تجديد مقولاتها، رغم أنها انطوت على نتائج مدمّرة بعيدة الأثر، تختصرها تلك "الفلسفة" الأمنية والسياسية التي تسمّيها الولايات المتحدة بـ"الحملة ضدّ الإرهاب". وتلك معادلة تدير الميزان التالي: أغلقوا هنا ثغراً (أي: حاضنة!) للتشدد الإسلامي، الذي يهييء المناخات، ويصنع ويصنّع موضوعياً، ظواهر التطرّف والإرهاب؛ وافتحوا، هناك، ثغراً جديداً لتشدّد مماثل، أو أدهى، بهوية مختلفة وأجندات ملتهبة. ولكي نبقى في مثال الصومال، كانت الصياغة العملية للمعادلة قد اتخذت الوجهة التالية: أغلقوا ثغور ("الإرهاب"، افتراضاً) في أفغانستان، حيث الطالبان؛ وافتحوا ثغور "إرهاب" أخرى في الصومال، حيث "المحاكم الشرعية"!

وفي ذروة انشغال الغرب، وبعض الجوار الإقليمي، بتنصيب فزّاعة "الصوملة"، وتصعيد عواقبها وأخطارها وشرورها، كانت ميليشيات "المحاكم الشرعية" تحكم السيطرة على مدينة جوهر (دون قتال، عملياً)، ثمّ مدينة مهداي، وقبلهما العاصمة مقديشو ذاتها، فتطرد منها أمراء الحرب للمرّة الأولى منذ العام 1990. الترجمة الموازية لتلك الانتصارات كانت هزيمة القوّات التابعة لأمراء الحرب هؤلاء، الذين ضمّهم "التحالف من أجل السلم ومكافحة الإرهاب"، المدعوم ـ مباشرة، وكما ينبغي أن يوحي الاسم! ـ من واشنطن. في الآن ذاته كان البرلمان الصومالي، وبعد انهيار المفاوضات مع الإسلاميين، يصوّت على مبدأ استقدام قوّات أجنبية لحفظ الأمن في البلاد.

والحال أنّ هذا الاعتبار الأساسي بالذات، أي حفظ الأمن وتسيير شؤون المواطنين في الجانب القضائي والأمن والحياة اليومية تحديداً، كان البذرة الأولى التي أنبتت "المحاكم الشرعية" في الصومال، بعد انهيار الحكومة العسكرية سنة 1991، وشيوع الفوضى وأعمال الشغب والنهب المنظم والعنف المسلح والجريمة والخطف. وكان هذا الغياب للدولة، بمعنى الغياب التامّ لأية جهة قضائية قانونية في المقام الأوّل، هو الذي جعل الشيخ الأزهري محمد معلم حسن يؤسس أوّل محكمة شرعية محلية في أحد أحياء مقديشو الفقيرة. وغنيّ عن القول إنّ هدفه لم يكن يتجاوز الفصل في شكاوى الناس والتحكيم بينهم، اعتماداً ـ بالطبع، وفي ظلّ غياب أيّ قانون ـ على أحكام الشريعة الإسلامية. كذلك كان طبيعياً أن تنقلب هذه المحاكم إلى ما يشبه وزارة الظلّ، ثمّ فيما بعد وزارة الأمر الواقع، لشؤون العدل والداخلية.

وهكذا فإنّ "المحاكم الشرعية" لم تبدأ كدعوة إسلامية تبشيرية، أصولية أو وسطية أو معتدلة؛ ولم تتكيء على منطلقات دينية أو مذهبية أو سياسية ـ حزبية، أياً كانت تقاطعاتها مع مختلف أنساق الإرهاب المنظّم؛ ولم يكن لها برنامج عمل تنظيمي أو جماهيري، ولا سياسة تحالفات محلية أو إقليمية. لقد بدأت من الحاجة، الماسة الصرفة، لتصريف أمور العباد في ظلّ سيادة الفوضى وغياب الدولة وحاجة المواطنين إلى جهة مرجعية متماسكة نسبياً، ذات غطاء شرعي وقوام إداري وسلطة تنفيذية، ليس أكثر. وليس أقلّ أيضاً، في الواقع، لأنّ هذا الموقع الوظيفي الحيوي أتاح لرجال "المحاكم الشرعية" أن يلعبوا الدور الوظيفيّ الآخر التالي، الذي لا يمكن إلا أن يكون طبيعياً وتلقائياً وتحصيل حاصل: الهيمنة السياسية.

نتيجتان، بين عوامل أخرى، زيّنتا لغالبية ملموسة من الصوماليين الانضواء تحت راية هذه المحاكم: الأولى هي بغض الشارع للطبقة السياسية ـ العسكرية التي زادت في خراب البلد وتخريبه، فضلاً عن فقدان الثقة بأمراء الحرب إجمالاً، وتحميلهم المسؤولية الأساسية عمّا حاق بالصومال من كوارث. النتيجة الثانية هي بغض الشارع ذاته لكلّ ما يقترن بالسياسة الأمريكية، وكلّ مَن يشتغل لصالح واشنطن أو يعمل بإمرتها ويحظى بدعمها، لأسباب محلية تخصّ التاريخ الدامي بين الصومال والولايات المتحدة، ولأسباب أخرى ذات صلة بسياسة واشنطن تجاه القضايا العربية والعالم الإسلامي عموماً.  

وزاد الطين بلّة أنّ واشنطن، في أعقاب هزّة 9/11 وانطلاق ما أسماه الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش بـ"الحملة الصليبية" على الإرهاب، صنّفت "المحاكم الشرعية" في عداد القوى الداعمة للإرهاب، استناداً إلى ما افترضه البيت الأبيض من علاقة وثيقة بين المحاكم و"الاتحاد الإسلامي"، المنظمة التي تدرجها وزارة الخارجية الأمريكية في اللائحة الرسمية للمنظمات الإرهابية، ثمّ بمنظمة "القاعدة" في نهاية المطاف. ذلك أسفر عن نتيجة معاكسة، بالطبع، لأنّ شعبية المحاكم زادت واتسعت واكتسبت بعداً كفاحياً ضدّ "الصليبية الأمريكية الجديدة"، كما عبّرت دعاوة المحاكم (ولم يكن بغير أسباب وجيهة أنّ معركة مقديشو، الفاصلة، استحقت عند الصوماليين تسمية "معركة الأمريكيين")، من جهة أولى؛ ومنحت قياداتها الحقّ في توطيد شوكتها العسكرية، بذريعة الدفاع عن النفس وحماية المواطنين وتطبيق القانون والحدّ من الجريمة والفوضى، من جهة ثانية.

في غضون هذا كلّه كانت واشنطن تواصل تنسيقها مع الرئيس الإثيوبي ميليس زيناوي، الذي ظلّ يدير لعبة خبيثة مزدوجة في الصومال: إنه، في البلاغة الرسمية، يتباكى على وحدة أرض الصومال، ويشفق عليه من تسلل "القاعدة"، أو ظهور مصعب زرقاوي جديد على يد الكوموري فاضل عبد الله محمد (الذي اتهمته واشنطن بالمشاركة في نسف السفارتين في كينيا وتنزانيا)؛ وأمّا في الفعل المستتر فإنّ زيناوي ناب عن واشنطن في الدعم العسكري والمالي لأمراء الحرب، الذين أبقوا الصومال في حال دائمة من الاقتتال والتحارب وانعدام الاستقرار، أي الوضع المثالي الذي يُبقي زيناوي مسيطراً في القرن الأفريقي.

ولماذا، في اجتماع عناصر هذا المشهد السياسي والعسكري والعقائدي والاجتماعي المعقّد ذي الدينامية المتفجرة، راود البعض الظنّ بأنّ حركة "المحاكم الشرعية" لن تنقلب إلى طالبان جديدة في الصومال؟ ألم تبدأ طالبان أفغانستان من هنا، مع فارق أنها حظيت بغمزة رضا وتراضٍ من واشنطن في مراحل الانطلاق المبكرة؟ ألم يكن الهوس الأمريكي بمنع الصومال من الوقوع في يد إسلاميي "المحاكم الشرعية"، وكأنه ترخيص لهذه المحاكم بالذهاب أبعد من فضّ المنازعات القضائية بين الأهالي، أي إلى حكم البلاد بأسرها وفرض الشريعة الإسلامية بقوّة السلاح هذه المرّة (وهو، للمفارقة، سلاح أمريكي ـ إثيوبي في الغالب، غنمه مقاتلو المحاكم في معاركهم ضدّ أمراء الحرب وعملاء أمريكا وزيناوي)؟

ولا يظنن أحد أنّ الصومال، من حيث التاريخ والعقيدة والوقائع، أفقر من أفغانستان في معطيات تشكيل حاضنة التطرّف الإسلامي الذي ينتهي بعضه إلى أنساق الإرهاب ذاتها التي قوّضت برجَي نيويورك في 9/11. الأمريكيون، خصوصاً، لم يكونوا بحاجة إلى مَنْ يذكّرهم بأنّ تلك الصومال التي كانت توشك على الولادة قد تصبح أفغانستان ثانية؛ ولهم، في تاريخهم هناك، دروس وعِبَر! ففي أواخر العام 1992، حين رست أولى قطع الأسطول الحربي الأمريكي على شواطىء الصومال، تردد أنّ السفير الأمريكي في كينيا استقبل وحدات بلاده بهذه العبارة الصقيعية القاتلة: "إذا كنتم قد أحببتم بيروت، فلسوف تعبدون مقديشو". أي، في ترجمة أوضح ربما: إذا كانت بيروت (خصوصاً بعد العمليات الإنتحارية، وانسحاب المارينز المهين) هي النار، فإنّ مقديشو هي سقر!

والولايات المتحدة اكتشفت أفريقيا في أواخر الخمسينيات من القرن الماضي، ومنذئذ ظلّ مخططو السياسة الخارجية الأمريكية يمارسون في القارّة دور الثور الضخم البليد، الغارق في النوم حتى تلوح في الأفق نجمة حمراء سوفييتية، وعندها فقط يهيج ويرغي ويزبد، فيحيك المؤامرات ويشتري العملاء ويسلّح الطغاة حتى النواجذ. خلال الثمانينيات صرف الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريغان مئات الملايين من الدولارات لإغواء واجتذاب أسوأ دكتاتوريي القارّة، في ليبيريا وكينيا والصومال وزائير وسواها. وخلال تلك الحقبة بالذات قبض محمد سياد بري، دكتاتور الصومال الأشهر، أكثر من 700 مليون دولار على شكل مساعدات مالية وعسكرية من إدارتَيْ ريغان وجورج بوش الأب، استخدمها في بناء شبكات الولاء العشائرية، وقمع الشعب الصومالي، وتفتيت الوحدة الوطنية الداخلية.

وهكذا، في وسع المشفقين على سورية من "الصوملة" أن يقرأوا دروس التاريخ الأبسط، التي يحدث أنها الأعمق أيضاً؛ إذْ سيصبح أيسر عليهم، ربما، تشخيص العوامل السياسية والاجتماعية المحلية، وتلك الإقليمية والدولية، التي تكفلت بصعود "جبهة النصرة" في سورية؛ ولماذا بقيت الجبهة، وستبقى غالباً، أقلية داخل صفوف المقاومة المسلحة ضدّ النظام؛ ولماذا، ثالثاً، تحظى بشعبية واسعة، لأسباب شتى متداخلة. ولعلّ المقارنة، شرط أن تكون حصيفة متبصرة، سوف تقودهم إلى نزع كلّ ما هو مفزع، مصطَنع بطبيعة صناعته، عن الفزاعة الزائفة ذاتها: "الصوملة"!

الاثنين، 7 يناير 2013

ما حكاية الأسد مع الربيع.. والصابون؟

 "فقاعات صابون"، هكذا اختار بشار الأسد، في خطابه الذي بُثّ يوم أمس، وصف فصل الربيع؛ قبل أن يسحب الرياضة التصويرية إلى منطقة أوضح، غير مألوفة والحقّ يُقال: "كلّ ما سمعتموه من مصطلحات ذات منشأ ربيعي فهي فقاعات صابون، كما هو الربيع عبارة عن فقاعة صابون سوف تختفي". ولا يُجادَل الأسد، مثل الكثيرين، في الطعن بخلفيات مصطلح "الربيع العربي"، سواء من حيث استيراد الدلالات من ثورات الغرب، أو إسقاط تعبير غير دقيق حتى بمعنى توقيتات الفصول، أو استثارة ظلال استشراقية سئة الصيت. اللافت أنّ الأسد اعتاد على تفضيل هذا المجاز الفقاعي، إذا صحّ التعبير، كما في حواره مع قناة "روسيا اليوم"، قبل أشهر: "الأكاذيب بشأني فقاعات صابون قصيرة العمر".

ثمة، إلى هذا، عداء اصطلاحي قديم بين الربيع والأسد، يعود في جذوره إلى سنة 2011، حين شاع تعبير "ربيع دمشق"، قبل عشر سنوات من أوّل انطلاقة للانتفاضات العربية، ولقي من إعلام النظام أقذع الشتائم بحقّ هذا البائس التعس: فصل الربيع! ففي زيارته إلى فرنسا، سنة 2001، سارت سخرية الأسد على هذا النحو: "كلمة ربيع لا تعنينا كمصطلح. فالربيع هو فصل مؤقت، والربيع فصل يعجب البعض والبعض الآخر يحبّ الشتاء". الصيغة التالية للسخرية اتخذت هذه الوجهة: "الثمار تأتي في الصيف. ولكن لا يوجد ثمار من دون ربيع تتفتح فيه الأزهار. ولا يوجد ربيع دون أمطار تهطل في الشتاء"! من غير المرجح، منطقياً على الأقلّ، أنّ الأسد لم يدرك أنّ سائله لم يكن يقصد الاستماع إلى تحليل فصولي، بل كان يريد السؤال عمّا آل إليه "ربيع دمشق" السياسي تحديداً.

وفي أواخر العام 2003 أدلى الأسد بحديث مطوّل لصحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية، قد يكون الأكثر كشفاً عن الذهنية العامّة التي تقود أقواله وأفعاله وسلوكه إجمالاً؛ فضلاً عن توفير قرائن حول الفلسفة السكونية التي تخيّم على تفكيره بصدد أبرز معضلات الوطن الداخلية: الاستبداد، والفساد، والحريات، والسياسة. خصوصية أخرى في ذلك الحديث، كانت فريدة ومدهشة: النصّ الإنكليزي، كما نشرته "نيويورك تايمز" في موقعها على الإنترنيت، بلغ قرابة 11.200 كلمة؛ وأمّا النصّ الذي لم يُترجم إلى العربية، وبالتالي حُذف نهائياً ولم يُنشر في وسائل إعلام النظام الرسمية، فقد بلغ قرابة 4.400 كلمة، في إحصائي الشخصي.

وطيّ تصريحات استغرقت قرابة 2000 كلمة، ألمح الأسد إلى "ربيع دمشق" وتجربة المنتديات، وامتدح المعارضة السورية (في الداخل والخارج، نعم!): "دعني أعرض لك رأي المعارضة السورية الموجودة أينما كان، سواء داخل سورية أو خارجها. إنهم لا يؤيدون النظام، ولا الدستور، ولا الحكومة، ولكنهم ضدّ تصدير الديمقراطية بالقوّة أو بأية وسيلة أخرى. هذا هو رأيهم؛ إنه واضح تماماً وتستطيع أن تراه على التلفزة، أو في الصحف. تستطيع أن تسألهم". الربيع آنذاك ظلّ رجيماً قميناً بالذمّ والقدح، حتى حين مال الأسد إلى تنزيه المعارضين عن الارتباط بأي أجندات "ذات منشأ ربيعي"، ولم تكن انتفاضات "الربيع العربي" تحمل لرأس النظام كلّ هذا الكرب والتنغيص.

الأساس، بالطبع، لا يخصّ تفضيل فصل على آخر، اتكاءً على ثمار الصيف وأزهار الربيع وامطار الشتاء، كما تهكم الأسد؛ بل الأمر أنّ الابن ظلّ يعيد إنتاج خطاب أبيه في مسألة الديمقراطية، مع تغيير وحيد هو اللغة المتحذلقة التي يستخدمها كاتب خُطبه، والتي بدت مختلفة عن اللغة الجافة الاستعلائية التي استخدمها كاتب خُطب الأسد الأب. وذات يوم، حين انطلقت عمليات البيريسترويكا في الاتحاد السوفييتي، أعلن الأخير أنّ سورية سبقت ميخائيل غورباتشوف إلى هذا النوع من العلانية والإصلاح والمحاسبة، وضرب مثلاً على ذلك في... الجبهة الوطنية التقدمية، دون سواها! الابن، حين ورث الأب، أعلن أنه إنما يسير (وسار بالفعل، طيلة 13 سنة بعدها) على نهج والده، فأغدق المديح على صيغة الجبهة بوصفها المثال على "نموذج ديمقراطي تمّ تطويره من خلال تجربتنا الخاصة"، وتناسى أنها جثّة تخلقت هامدة منذ البدء، وتعفّنت طويلاً، وزكمت رائحتها الأنوف، وأحزابها ليست سوى حلقات تصفيق وتهليل ومباركة ومبايعة.

كذلك قال الوريث، مستعيداً خطاب المورِّث: "الديمقراطية واجب علينا تجاه الآخرين قبل أن تكون حقاً لنا"؛ أيّ أنّ ممارسة الديمقراطية ليست حقّ المواطن أوّلاً، بل هي التالية بعد واجبه تجاه "الآخرين"، الذين لا يمكن أن يكونوا سوى النظام ذاته. ذلك هو جوهر الفذلكة في التهرّب من المسألة الجوهرية التي تقول إنّ انفصال الحقوق عن الواجبات، أو تفصيل الحقوق على مقاس الواجبات، هو المدخل الكلاسيكي الذي مكّن أنظمة القمع والاستبداد من تدجين المواطن وتغييب حقوقه.

بيد أنّ الانتفاضة السورية، التي انطلقت بالفعل عند بشائر فصل الربيع، منتصف آذار (مارس) 2011، وضعت النظام وجهاً لوجه أمام مصائر أبعد عاقبة من التفلسف الساخر حول الربيع. وليست فقاعات الصابون الأخيرة، التي أطلقها الأسد في دار الأوبرا، سوى أحدث فصول "أوبرا الصابون" التي يجترها النظام، منذ أن هلّت تلك البشائر. وإذْ ينسدل ستار الخاتمة، أسرع فأسرع، فإنّ الفقاعات تتطاير جفاء!

الجمعة، 4 يناير 2013

إسرائيل والنظام السوري: البكاء على أطلال أحقاب ذهبية

خلال أقلّ من أسبوع ـ بين يوم الأحد، موعد الاجتماع الأسبوعي لحكومته؛ ويوم الخميس، حين رعى حفل تخريج دفعة جديدة من الضباط الطيارين ـ حرص رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، على إطلاق سلسلة تصريحات حول النظام السوري، والتحضيرات الإسرائيلية لأطوار ما بعد سقوط بشار الأسد، التبعات المتصلة بهذا التطوّر الدراماتيكي. وخلال هذَين الموعدَين، عقد نتنياهو اجتماعاً سرّياً مع العاهل الأردني، الملك عبد الله بن الحسين (كانت هذه الصحيفة سباقة إلى كشف النقاب عنه)، تناول الوضع السوري عموماً، وأخطار احتمال لجوء النظام السوري إلى استخدام أسلحة الدمار الشامل، الكيميائية والبيولوجية؛ أو، في حال عدم استخدامها، عواقب وقوع هذه الأسلحة في أيدي الكتائب الإسلامية والجهادية المتشددة التي تقاتل النظام، خاصة على الحدود السورية ـ الأردنية، وحدود الاحتلال الإسرائيلي في الجولان.

قراءة تصريحات نتنياهو، من حيث اللغة والتوقيت والسياق، تفضي إلى خلاصة أولى بسيطة، ومنطقية تماماً: أنّ الرياح أخذت تأتي بما لا ـ أو بالأحرى: لم تكن ـ تشتهي سفن إسرائيل بخصوص النظام السوري؛ ولا مناص، استطراداً، من توجيه الدفة إلى جهات أخرى، وخيارات لم تكن مشتهاة قبلئذ. المنطق الآخر، قبل هذه التطورات، كان يحثّ إسرائيل على المساعدة في المدّ بعمر النظام، اتكاءً على ثلاثة مسوّغات، بين أخرى أقلّ إلحاحاً:

ـ أنّ نظام الحركة التصحيحية"، حافظ الأسد ووريثه من بعده، حافظ على حدود الاحتلال الإسرائيلي للجولان، لا كما فعل أيّ نظام سوري سابق، منذ تأسيس الكيان الصهيوني؛ ولم يكن الوضع المسمى "حالة اللاسلم واللاحرب" إلا حال سلام الأمر الواقع، فعلياً، وعلى الأرض.

ـ أنّ أيّ نظام قادم على أنقاض "الحركة التصحيحية"، بصرف النظر عن توازناته وملامحه والقوى الغالبة فيه، لن يكون أفضل حالاً لإسرائيل؛ بل الأرجح أنه سوف يكون أسوأ لأمنها، القريب والبعيد، تكتيكاً وستراتيجية، بالنظر إلى الروابط التاريخية والجغرافية والشعورية العميقة التي شدّت، وستظلّ تشدّ، الشعب السوري إلى القضية الفلسطينية.

ـ وما دام جيش النظام الموالي استخدم ضدّ المعارضة، ويستخدم كلّ يوم، صنوف الأسلحة جميعها، من الدبابة والمدفعية الثقيلة إلى السلاح الصاروخي والجوّي، بما في ذلك البراميل المتفجرة، والقنابل العنقودية، والألغام البحرية...؛ وما دامت المعارضة ليست مكتوفة الأيدي، فهي تدمّر الدبابة وتُسقط الطائرة وتقتل، مثلما يُقتل منها...؛ فإنّ إسرائيل رابحة من هذا الاهتلاك المتبادل، على المدى البعيد، بالنظر إلى حقيقة كبرى تقول إنّ أفواج الجيش السوري النظامي، في النظام الراهن كما في سورية المستقبل، ومختلف فصائل المعارضة، تظلّ في العمق قوّة معادية لإسرائيل، ومكمن خطر مباشر دائم.

ظلت هذه الأقانيم الثلاثة راسخة ومعتمَدة، لعب نتنياهو دور الحَكَم الأخير في ترسيخ توازناتها، وتخفيف وطأة خلافات الرأي بشأنها، بين جنرالات الجيش وجنرالات الأجهزة الاستخبارية؛ حتى طرأت على الوضع الميداني السوري تطورات نوعية "دراماتيكية"، في وصف نتنياهو نفسه، اقتضت الانحناء أمام الرياح العاصفة، وتغيير الدفة. في الطليعة كانت وقائع وصول أنشطة "الجيش السوري الحرّ" إلى بلدات ـ ولكن أيضاً، وهو الأهمّ: إلى هضاب ـ الجولان المحتل؛ خاصة وأنّ خطوط الفصل بين القوّات تشكّل طبوغرافية اختلاط معقدة بين قوّات الاحتلال الإسرائيلية والجيش السوري ومراقبي الأمم المتحدة، ممّا يمنح مقاتلي المعارضة السورية أفضلية إرباك عالية للجميع، وللجيش الإسرائيلي خاصة. وهكذا، ضمن هذا الطارىء على الأرض، شهدنا قبل أسابيع لجوء إسرائيل إلى إجراء أقصى، ذي طابع مسرحي لا ريب: إخلاء جبل الشيخ من السيّاح، بذريعة نجاح "مسلحين سوريين معارضين للنظام" في الوصول إلى مناطق قريبة من ذرى حرمون، و"على الحدود مع إسرائيل".     

ولقد سار تصريح نتنياهو الأول، في افتتاح اجتماع الوزارة الإسرائيلية، على نحو يمزج حسّ الواقعية إزاء دنوّ أجل النظام السوري، بنبرة التخوّف أو التخويف، وما يقترن بهما من الوعيد والإنذار، إزاء ما ينتظر ترسانة الأسلحة الكيميائية السورية من مآلات واحتمالات؛ خلال، أو بعد، معارك الأسد الأخيرة. وإلى جانب التأكيد بأن حكومته "تتابع عن كثب الأحداث الراهنة في سورية"، (وكأنّ العكس يمكن أن يكون وارداً!)؛ قال نتنياهو: "إسرائيل تتابع التطورات الدراماتيكية في سورية، وتتعاون مع الولايات المتحدة، والمجتمع الدولي، وتتخذ الخطوات الضرورية في الاستعداد لتغيّرات جذرية تطرأ على النظام، والعواقب التي ستنطوي عليها بخصوص شبكات الأسلحة الحساسة". تصريحه الثاني، في تخريج الطيّارين، ذكّر بـ"ذراع إسرائيل"، وأنها "ممدودة في سلام للراغبين في السلام، وأما الذين يهددوننا، على مقربة أو على مبعدة، فعليهم أن يعرفوا أنّ ذراعنا الطويلة سوف تضرب بقوّة".

ذلك لأنّ مشهد الأرض، في سورية، كان يشير إلى وقائع عديدة ذات دلالات غير عادية: استخدام صواريخ "سكود" في قصف مواقع المعارضة (وهو أمر اعتبره أندرس فوغ راسموسن، الأمين العام لحلف شمال الأطلسي، بمثابة "فعل يائس لنظام يقترب من نهايته"؛ ليس على غرار جنرالات الجيش الإسرائيلي، الذين نظروا إلى التطوّر بواقعية عسكرية باردة، تذهب أبعد بكثير من البلاغة اللفظية)؛ ونقل مخزون الأسلحة الكيميائية إلى مواقع جديدة، في جبال الساحل السوري خاصة؛ واتضاح استعدادات روسية ملموسة، لإخلاء قرابة 30 ألف روسي من سورية؛ واستمرار حصار، ثمّ سقوط، مواقع عسكرية حساسة موالية للنظام، بينها مطارات عاملة؛ وانحسار سيطرة النظام إلى ما يقلّ عن 25 بالمئة من أراضي سورية، أوسعها نطاقاً مناطق الساحل السوري، وبعض أحياء مدينة حلب، ومعظم الأحياء في العاصمة دمشق. 

وإذْ ينصرف نتنياهو إلى تقليب الرأي في "استعدادات" إسرائيل لمواجهة سورية ما بعد نظام "الحركة التصحيحية"، فإنّ سلسلة الحقائق التي اكتنفت تاريخ العلاقة مع الأسد الأب، ثمّ الأسد الابن، سوف تحتلّ الصدارة في تفكير رئيس الوزراء الإسرائيلي، أغلب الظنّ: على هيئة رثاء لأطلال حقبة ذهبية عاشتها تلك العلاقة، تارة؛ أو على هيئة انحناء قسري أمام العواصف الآتية، طوراً. سوف يستذكر نتنياهو سلسلة المواقف التي اتخذها النظام منذ أواسط السبعينيات، في ملفات عربية كبرى ذات طابع إقليمي قومي إجمالاً (حرب الخليج الأولى، والثانية)؛ والتدخّل التدميري في الحرب الأهلية اللبنانية (احتلال البلد عسكرياً، وإخضاعه سياسياً وعسكرياً وأمنياً، وتخريب الحركة الوطنية اللبنانية، والتخاذل أمام الاجتياح الإسرائيلي سنة 1982)؛ ومحاربة منظمة التحرير الفلسطينية على نحو خاص (حرب المخيمات، وشقّ المنظمة، ومطاردتها إلى سواحل طرابلس)... وكلها سياسات كانت تصبّ الماء في الطاحونة الأمريكية ـ الإسرائيلية.

ولعلّ مستشاراً أريباً، بارعاً في استحضار التاريخ أيضاً، سوف يذكّر نتنياهو بأربع من الثوابت التي حكمت تفكير الأسد الأب، في ما يخصّ تباطؤ النظام في عقد سلام مع إسرائيل، ومسارعة الأخيرة إلى تشجيع ذلك الخيار ومدّه بمزيد من أسباب البطء؛ وظلّت، كذلك، تحكم تفكير وريثه طيلة 12 سنة من التوريث. وتلك ثوابت ـ حسابات لم تكن بيضاء أو سوداء، بل بقيت رمادية متقلّبة سريعة التلوّن، ولكنها بأجمعها تدفع إلى خيار "السلام"، وإن كانت حظيت بخدمة فائقة من ملابسات إقليمية وحماقات دولية (صعود إيران كقوّة إقليمية، جرّاء الاحتلال الأمريكي للعراق).

الاعتبار الأوّل مردّه أنّ الأسد الأب لم يكن على عجلة من أمره، وحاله لم تكن حال منظمة التحرير أو المملكة الأردنية، سواء لجهة الماكرو أو الميكرو ـ اقتصاد، أو لجهة الاقتصاد السياسي البسيط والحاسم. وحين كانت معدلات محصول القطن والفوسفات تزيد بنسبة 20 إلى 25% في عام 1992، كان الأسد الأب يجتمع بوفد من أبناء الجولان ليقول: لا تفريط في حبة رمل واحدة من تراب بلادنا، والاستسلام ليس في قاموسنا. فوق ذلك، كانت مغانم الاشتراك في "عاصفة الصحراء" تلوح في الأفق، قبل أن يشيح الحلفاء الخليجيون بوجوههم وجيوبهم.

الاعتبار الثاني أنّ الاقتصاد كان يعيش أزمة عضوية ليست حديثة العهد، والأسد الأب أقام معادلته على أساس خطوة سلام واحدة، مقابل خطوة انفتاح وليبرالية اقتصادية واحدة. لا شيء يسبق، لا شيء يتخلّف. ذلك جعل رئيس غرفة التجارة بدر الدين الشلاح يهلل للسلام، ورئيس غرفة الصناعة يحيي هندي يشكك في السلام: الأول من منبر "وول ستريت جورنال"، امتداحاً للعبقرية التجارية المرتقبة بين السوريين وجيرانهم الإسرائيليين؛ والثاني من منبر إذاعة دمشق، رثاء للصناعيين المحليين والمانيفاكتورات الوطنية التي سيبتلعها المال الخارجي المضمخ برائحة يهودية. وفي الحالتين كان التهليل والتشكيك يعكسان أعراض التأزم، مثلما كانت تعكسه غمغمة كوادر حزب البعث الحاكم، التي تربّت على مبدأ "فلسطين قبل الجولان"!

الاعتبار الثالث كان يخصّ مفارقة أن يكون السلام مطلوباً بشروط قائمة على حسابات خارجية باردة (اعتبرها البعض "مشرفة"، أو "وقفة عزّ" لا تشبه خضوع الفلسطينيين والأردنيين)؛ في وقت شهد صدور ذلك التصريح/ القنبلة من فم الأسد الأب شخصياً، خلال لقاء مع عضو الكونغرس الأمريكي توم لانتوس: "إنّ مفهومي للسلام واضح، وحين أتحدث عن السلام الكامل فإنني أقصد السلام الطبيعي من النوع القائم اليوم بين 187 دولة في العالم"! الظروف الداخلية، من جانبها، وضعت حكاية السلام على جدول أعمال الحياة اليومية للنظام، التي كانت تقبل الحلول البطيئة والمتباطئة؛ قبل أن تمحوها مسألة ترتيبات توريث الأسد الابن، وهذه  لم تكن تقبل إلا الحسابات الساخنة والحلول العاجلة.

الاعتبار الرابع يخصّ ذلك الوضع الجدلي الذي كان يفضي بالنظام إلى واحد من راعيين، أو إلى كليهما معاً: واشنطن، أوالرياض. وغني عن القول أن الراعيين امتلكا من أسباب الاتفاق بينهما (وأي اتفاق!) ما جعل خيارات الأسد الأب، الماهر في المناورة، تمرّ من خرم إبرة. وفي السياسة يحدث كثيراً أن تضطر الميكيافيللية الماهرة إلى قدر كبير من التواضع، لكي تمرّ من ذلك الخرم الذي ينصبه التاريخ في البرهة القاتلة. وحين نطق الأسد الأب بـ"كلمة السحر"، على حدّ تعبير المعلق الإسرائيلي زئيف شيف، في لقائيه مع الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون (في جنيف، ودمشق)؛ صار موقف البطء والتباطؤ يُطبخ على نار التوريث، وأمكن لإيهود باراك، رئيس الوزراء الإسرائيلي، أن يفضّل انتظار الوريث الآتي، على معاندة الحاكم الموشك على الرحيل.

معالم هذا التاريخ، وهي تتحوّل اليوم إلى خرائب، جديرة بأقصى الاستعدادات من الجانب الإسرائيلي، وبأقصى القلق والريبة من مستقبل سوري آت، لا محالة، سوف يجلب اندثار نظام تلاعبت معه تل أبيب طويلاً، كما فعلت مع نظام حسني مبارك، ومعظم أنظمة الاستبداد والفساد العربية، وآن الأوان لطيّ صفحته. ليس دون بكاء على الأطلال، والحقّ يُقال!