وعزّ الشرق أوّله دمشق

الجمعة، 29 مارس 2013

تركيا والاعتذار الإسرائيلي: لا عزاء للأسد.. مشعل الحرائق!

 الحرائق، التي توعد بشار الأسد جواره العربي والإقليمي باشتعالها في حال المساس بنظامه، تواصل الانقلاب إلى وبال على ذلك النظام ذاته، من جانب أوّل؛ كما أنها، في جانبها المنطقي الثاني، تُلحق الأذى بمصالح حلفائه الإقليميين، الذين يتوجب أن يكسبوا من تلك الحرائق، وفق حسابات الأسد. المثال قبل الأحدث كان مشروع المصالحة بين السلطات التركية وحزب العمال الكردستاني، والذي يقول المنطق البسيط إنه سوف يسحب الكثير من أدوات اللعب بالورقة الكردية؛ والتي توهّم النظام، صحبة إيران، أنها سوف تربك موقف أنقرة من الانتفاضة السورية، وتضرّ بموقع تركيا السياسي والدبلوماسي والعسكري الإقليمي.

أمّا المثال الأحدث، فهو اعتذار إسرائيل من تركيا، حول حول الغارة الإسرائيلية على "أسطول الحرّية"، في مياه المتوسط الدولية قبالة شاطىء غزّة، أواخر أيار (مايو) سنة 2010، والتسبب في مقتل تسعة مواطنين أتراك. وإلى جانب أنّ إسرائيل عوّدت البشرية على أنها هي التي تتلقى الاعتذارات، وليس العكس؛ وأنّ صيغة الاعتذار دُرست طيلة أسابيع، كلمة كلمة، ولم تكن بادرة ربع الساعة الأخير قبيل إقلاع الرئيس الأمريكي باراك أوباما من مطار بن غوريون؛ فإنّ شروط التسوية خلف الاعتذار، والتي تخصّ تعويض الضحايا الأتراك ورفع الحصار عن دخول الأشخاص والبضائع إلى غزّة، كانت نصراً مبيناً للدبلوماسية التركية، ولرئيس الوزراء رجب طيب أردوغان شخصياً.

ذلك ما أجمع عليه المعلّقون الأتراك، خصوم "حزب العدالة والتنمية" قبل أنصاره في الواقع؛ وما أقرّ به المعلّقون الإسرائيليون، ليس دون جرعة من المرارة هنا، أو خيبة الأمل هناك، حول سابقة كبرى في تاريخ دولة تعوّدت على الدلال، والعنجهية، والغطرسة. وكان جلياً أنّ أردوغان لم يقدّم سوى تنازل واحد وحيد، علني على الأقلّ، هو تخفيف نبرة أقواله حول الصهيونية بوصفها جريمة بحقّ الإنسانية، عن طريق التصريح بأنه إنما ينتقد السياسات الإسرائيلية في غزّة والأراضي الفلسطينية المحتلة. لكنه لم يأل جهداً في تحويل مناسبة الاعتذار الإسرائيلي إلى تشديد واضح على خيارات أنقرة الفلسطينية، إذْ حرص على اطلاع القادة الفلسطينيين، اسماعيل هنية وخالد مشعل عن "حماس"، ومحمود عباس عن السلطة الوطنية، حول مجريات الاعتذار؛ كما أعلن عزمه على زيارة غزّة والضفة في أجل وشيك، منتصف شهر نيسان (أبريل) القادم.

وليس خافياً على أحد أنّ الملفّ السوري، في بُعده الراهن تحديداً، حيث يتقهقر النظام عسكرياً، وينعزل أو يُعزل سياسياً ودبلوماسياً، ويجرّ حلفاءه الروس والإيرانيين إلى مآزق متعاقبة؛ هو الحافز الأوّل الذي جعل هذا التطوّر الدراماتيكي في العلاقات التركية ـ الإسرائيلية ممكن الحدوث، بعد قرابة ثلاث سنوات من الانسداد. وهذا أمر لم يتردد أردوغان ونتنياهو في التسليم به علانية، ربما لإضفاء المزيد من الوضوح على صفقة مصالح مشتركة لا تحتاج عناصرها الجلية إلى أي إيضاح إضافي. وهكذا، اختار أردوغان مناسبة روتينية عابرة، هي تدشين خطّ قطارات جديد قرب قونية، لكي يقول إنّ تجديد العلاقات مع إسرائيل سوف يسرّع سقوط الأسد، كما سيعزز عملية السلام بين إسرائيل والفلسطينيين. أمّا نتنياهو فقد ذهب إلى صفحته الشخصية على الـ"فيسبوك"، لكي يقرّ بأنّ "من المهمّ لتركيا وإسرائيل، اللتين تشتركان في الحدود مع سورية، أن تكونا قادرتين على التواصل، وذلك لمواجهة تحديات إقليمية أخرى، أيضاً".

المرء، هنا، يعود بالذاكرة إلى مفارقة شهدها ختام العام 2009، حين تمنّى الأسد، في تصريح إلى صحيفة "حرييت" التركية، أن تتحسن العلاقات بين تركيا وإسرائيل، لأنه "إذا رغبت تركيا في مساعدتنا في موضوع إسرائيل، فينبغي أن تكون لها علاقات جيدة مع هذه الدولة"؛ وإلا: "كيف يمكنها، في حال العكس، أن تلعب دوراً في عملية السلام "في الشرق الأوسط؟". آنذاك، وهذا هو الوجه الآخر للمفارقة، لم تكن تلك العلاقات تسير من عادية، إلى حسنة وأحسن؛ بل من متوترة، إلى سيئة وأسوأ. وثمة، في الموجبات والعلل ذات الأبعاد الجيو ـ سياسية الأعمق، ما كان يتجاوز بكثير رغبة الأسد في استئناف الوساطة التركية بين نظامه وإسرائيل، أو حتى الموقف التركي (المشرّف، بالقياس إلى تاريخ العلاقات بين أنقرة وتل أبيب) إزاء الجرائم الإسرائيلية في قطاع غزّة.

والحال أنّ من الحكمة وضع العلاقات التركية ـ الإسرائيلية في هذا السياق الجدلي من الشدّ والجذب، ودفع الظنّ بأنّ الحكومة التركية الراهنة، بقيادة حزب "العدالة والتنمية" الإسلامي، هي السبّاقة إلى التوتير أو التعكير. والمرء يتذكّر أنّ رئيس وزراء إسرائيل الأسبق، أرييل شارون، اختار تركيا لتكون أوّل محطة شرق ـ أوسطية يزورها، صيف 2001، بعد انتخابه رئيساً للوزراء. ورغم أنّ الزيارة تمّت لبضع ساعات، فإنّ شارون سمع في أنقرة ما لا يرضيه من مضيفه رئيس الوزراء التركي حينذاك، بولند أجاويد. ولقد أوضح الأخير أنّ سياسة شارون ليست سوى "وصفة لإراقة الدماء"، وطالب بنشر مراقبين دوليين، وأدان تدمير الاقتصاد الفلسطيني والبنية التحتية، واعتبر أنّ الحصار الذي تفرضه الدولة العبرية على الفلسطينيين سوف يشجّع على ردود الأفعال العنيفة وحدها.

من جانبه اختار شارون التلميح إلى ما تملكه الدولة العبرية من أوراق ضغط على أنقرة، و... أوراق خدمات أيضاً: "إنّ لدى تركيا بعض المشاكل التي يمكننا أن نساعد في حلّها إذا طُلب منّا ذلك. ولكن في المقابل فإنّ على تركيا أن تساعدنا لاستعادة الأمن في المنطقة، لأنني أؤمن بالعلاقات المبنية على تبادل المصالح". كذلك اختار شارون الابتزاز العاطفي والديموغرافي، حين ذكّر مضيفه التركي بأنّ مقتل 145 إسرائيلياً خلال أشهر انتفاضة الأقصى يعادل، في النسبة إلى عدد السكان، مقتل 1500 مواطن تركي! وفي جولة التوتر تلك، رغم ذلك كلّه، كانت مباحثات وزير دفاع الدولة العبرية آنذاك، دافيد بن أليعازر، أفضل حظاً مع الجنرالات الأتراك!

استمرار حال الشدّ والجذب مردّه، أيضاً، أنّ المجال الحيوي الجيو ـ سياسي الذي تسعى تركيا إلى التحرّك في نطاقه هو المجال الآسيوي الاسلامي والعربي، وذلك رغم مساعيها للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، أو ربما بسبب جمود تلك المساعي تحديداً. ذلك لأنّ تركيا تظلّ العضو الوحيد الخاضع لفترات "تمرين" و"اختبار" مطوّلة، وابتزازية بعض الشيء، قبل الانضمام إلى النادي الأوروبي، وتلك هي الرسالة المضمرة في تلميحات الساسة الإسرائيليين إلى إمكان مساعدة تركيا في حلّ مشاكلها. وليس من الحكمة السياسية أن تفسد تركيا صلاتها السياسية والتاريخية والثقافية بهذا المجال الحيوي، لمجرّد كسب ودّ إسرائيل؛ وفي المقابل، لا تملك إسرائيل هامش حركة ملموساً داخل المجال إياه، إذْ ما تزال جسماً غريباً مرفوضاً.

هنالك، أيضاً، جملة الاعتبارات التاريخية والثقافية (الدينية بصفة خاصة)، التي تجعل المضيّ أبعد في التحالف التركي ـ الإسرائيلي خياراً "غير شعبي" إذا صحّ القول، بمعنى أنه قد يلقى رفضاً واسعاً من جانب الشارع التركي العريض، بدرجة قد لا تختلف كثيراً عن رفض الشارع الإسرائيلي له. جدير بالاستذكار، هنا، أنّ رئيس الوزراء التركي الأسبق مسعود يلماز (الذي استخدم تعبير "الشراكة الستراتيجية" في وصف العلاقات التركية ـ الإسرائيلية)، كان هو الحريص، أثناء زيارة إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة، خريف 1998، على إعلان نيّة الحكومة التركية تسليم السلطة الوطنية الفلسطينية مجموعة صكوك عثمانية تثبت امتلاك الفلسطينيين لمساحات هامّة من الأراضي الخاضعة للاحتلال الإسرائيلي، والتي يزعم المستوطنون أنها أملاك قانونية لهم.

وعلى سيرة "الأملاك القانونية"، في صيف 2004، عُقدت قمّة ثنائية بين رئيس وزراء النظام السوري آنذاك، محمد ناجي العطري، ونظيره التركي أردوغان، شهدت توقيع أولى الاتفاقيات التجارية النوعية بين البلدين؛ كما شهدت "اتفاقاً من نوع ما"، سرّياً، حول لواء الإسكندرون السوري، الذي تحتله تركيا منذ سنة 1938. وذاك تفصيل لفت انتباه المعلّق الأمريكي دانييل بايبس، الذي يظلّ صهيونياً متشدداً وليكودياً حتى النخاع، ليس حسرة على أرض سورية سليبة بالطبع؛ بل تنبيهاً إلى أنّ النظام السوري لا ينظر بقداسة إلى حدوده مع تركيا، ويمكن استطراداً أن تكون هذه حاله مع حدوده الجنوبية، في الجولان المحتل. والأرجح أن بايبس كان، أيضاً، يربط بين زيارة العطري تلك، وزيارة أخرى إلى أنقرة سبقتها بساعات قليلة، قام بها إيهود أولمرت، نائب رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك!

وفي السياق ذاته، ثمة تلك الفتوى الشهيرة التي ابتدعها فاروق الشرع في شباط (فبراير) 2001، حين كان وزيراً لخارجية النظام، وسُئل عن التناقض بين دفء العلاقات التركية ـ السورية، والصمت عن ملفّ لواء الإسكندرون المحتلّ؛ فاعتبر أنّ تسوية هذه المسألة تحتاج "إلى سنوات عديدة ربما". وقال الشرع: "القضايا التي تبدو حساسة اليوم، يمكن أن تُحلّ بسهولة في المستقبل، حين تبلغ العلاقات الثنائية مستوى لا ينطوي على صعوبات. من الخطأ إيلاء الأولوية لمثل هذه القضايا، لأنّ هذا قد يؤذي التعاون في حقول أخرى. وهي قضايا سوف تُحلّ في النهاية، ولكن يتوجب أن لا ندفع باتجاهها أكثر مما ينبغي".

ولقد أتى حين من الدهر على النظام السوري، صارت عنده هذه الـ"أكثر مما ينبغي" ليست في مقام العكس، أيّ أقلّ بكثير ممّا ينبغي، فقط؛ بل نقائض ما كان يُراد منها في الأصل، حين كانت سياسات النظام تتوهم إنابة أنقرة في التوسط مع إسرائيل، وإنابة إسرائيل في التقرّب من أمريكا، وإنابة "حزب الله" في انتحال صفات "الممانعة" و"المقاومة" و"الصمود"، وإنابة الجهاديين السوريين في الدخول على خطوط الاحتلال الأمريكي للعراق، وإنابة إيران في ابتزاز دول الخليج العربي، وإنابة لبنان أو "حماس" أو الفلسطينيين أينما وكلما فاحت رائحة صفقة ما...

وفي غمرة هذه الإنابات، وسواها، لم تشتعل الحرائق في جوار، قريب أو بعيد، قدر اشتعالها في بيت النظام ذاته، وفي قلب معادلاته، السياسية والأمنية تحديداً؛ تلك التي لاح ـ طيلة أربعة عقود ونيف من عمر "الحركة التصحيحية"، وعبر استخدام شتى الأحابيل والأضاليل والأباطيل، واقتراف الخيانات الوطنية العظمى، وارتكاب جرائم الحرب والمذابح بحقّ السوريين... ـ أنها كفيلة بحفظ بقاء النظام، وتسديد نفقات الاستبداد والفساد. فكيف لزارع الريح الصرصر، المتوعّد بإشعال الحرائق في بيوت الجوار؛ أن لا يحصد من العواصف الهوجاء إلا تلك التي تبدأ من تقويض بيته، أسوة ببيوت حلفائه!

الاثنين، 25 مارس 2013

أي خبر يقين عند بثينة؟

 للمرء أن يدع جانباً ما تقوله بثينة شعبان عن افتخار حافظ الأسد بها، كـ"أستاذة جامعية وكاتبة"؛ وكيف كان يضعها في مصافّ كوليت خوري، "رغم فارق السنّ بيننا"، كما تقول في مقدّمة كتابها الجديد "مفكرة دمشق: عرض من الداخل لدبلوماسية حافظ الأسد حول السلام، 1990 ـ 2000"، الذي صدر مؤخراً بالإنكليزية. ثمة، في المقدّمة ذاتها، ما هو أكثر طرافة، وأدعى للاقتباس هنا: الأسد، الأب دائماً، زار شعبان في المنام، بعد عام على وفاته، في حزيران (يونيو) سنة 2000؛ وسألها: "بثينة، لِمَ لم تكتبي، بعدُ، عن فترة عملك معي؟"، التي تمتدّ على عقد من الزمان، كما تُعْلمنا شعبان، بين 1991 وحتى ساعة الوفاة.

"أجبتُ قائلة: لأنني لم أعرف من أين أبدأ، وأي نوع من الكتب ينبغي أن أكتب. هل يتوجب أن أكتب عن طفولتك، عن شبابك، عن عائلتك، عن مسارك المهني؟"؛ تقول شعبان، ثمّ تتابع ما أوصاه بها الأسد في الحلم: "كلا، كلا. ليس مطلوباً منك أن تكتبي عن هذا كلّه. أربعة فصول سوف تكفي. شرح لي أنّ تلك الفصول ينبغي أن تركّز على سورية والغرب، وعلاقته بالغرب، ودوره في عملية السلام، وأخيراً: حافظ الأسد وبيل كلنتون. فهمت أنه يريدني أن أكتب الحقيقة عنه، وأن أبدّد نقاط سوء الفهم الهائلة التي سادت في الغرب حول سمعته ودوره في عملية السلام، وكذلك سوء الفهم حول دور بيل كلنتون، الذي كان الأسد قد منحه ثقة تامة"...

لكنّ شعبان، وبدل الفصول الأربعة، كتبت 11 فصلاً، غير المقدّمة والخاتمة، وملاحق مراسلات الأسد ـ كلنتون، فانتهى الكتاب إلى 245 صفحة ونيف. ثمة، كما للمرء أن يتوقع، تفاصيل مسهبة عن مؤتمر مدريد، و"شهر العسل" بين النظام وكلنتون، و"وديعة رابين"، ومحادثات رونالد لودير (الذي أجرى حوارات مع الأسد، بتكليف من بنيامين نتنياهو سنة 1998، وتواصلت بعد انتخاب إيهود باراك)، ومحادثات شبردزتاون؛ فضلاً، بالطبع، عن تضخيم شخصية الأسد إلى درجة مقارنته بوزير الدفاع السوري يوسف العظمة، الذي استُشهد في معركة ميسلون، صيف 1920، ضدّ الجنرال هنري غورو وجيوش فرنسا الغازية. أمّا ذاك الذي لن يعثر عليه القارىء، العادي المحايد الباحث عن "حقيقة" بشّرت شعبان بأنها ستسردها طيّ فصول مكرورة إنشائية وصفية، ما، فإنها هذه بالضبط: الحقيقة!

ذلك لأنّ تلك الحقبة شهدت جديداً، غير مسبوق والحقّ يُقال، هو حكم القيمة الشخصي ـ الأخلاقي الذي أطلقه الأسد على باراك ("رجل قوي وصادق")، وحكم القيمة الشخصي ـ السياسي الذي ردّ به الأخير على الأوّل ("استطاع أن يبني سورية قوية ومستقلة وواثقة بنفسها"). الجديد الثاني، المتفرّع عن الأوّل، هو أنّ الأسد وباراك قلبا المنطق الدلالي البسيط لهذا النوع من أحكام القيمة: إذا افترض المرء أنّ "حالة العداء" كانت ناظم علاقات القوّة بين البلدين، فإنّ وجود رجل "قويّ وصادق"، خصمه دولة "قويّة ومستقلة وواثقة بنفسها"، ينبغي أن يقلق الدولتَين المتحاربتَين، كلّ منهما على حدة؛ أليس كذلك، وفق المنطق البسيط؟

تلك، أيضاً، حقبة شهدت تصريح الأسد الشهير، في لقاء مع عضو الكونغرس الأمريكي توم لانتوس: "إنّ مفهومي عن السلام واضح، وحين أتحدث عن السلام الكامل فإنني أقصد السلام الطبيعي من النوع القائم اليوم بين 187 دولة في العالم". وبالفعل، منذ عام 1973 وافق الأسد على قرار مجلس الأمن الدولي رقم 338، فاعترف عملياً وحقوقياً بأنّ إسرائيل جزء لا يتجزأ من تكوين المنطقة السياسي والجغرافي؛ ومنذ عام 1974، إثر توقيع "اتفاقية سعسع"، لم تُطلق في هضبة الجولان طلقة واحدة تشي بانهيار السلام المبرم؛ وبعد ثماني سنوات، وافق النظام على مبادرة الملك فهد التي اعترفت عملياً بحقّ إسرائيل في الوجود؛ وفي عام 1991 ذهب النظام إلى مؤتمر مدريد، ثمّ أرسل حكمت الشهابي، وبعده فاروق الشرع، إلى مباحثات مباشرة مع الإسرائيليين، برعاية أمريكية...

ما لا تقوله شعبان، حول "فشل" قمّة جنيف بين الأسد وكلنتون، هو أنّ تحوّلاً عميقاً طرأ على تقديرات باراك لأوضاع النظام السوري، مفاده أنّ عزم الأسد على عقد اتفاقية سلام مع إسرائيل لم يعد مجرّد "خيار ستراتيجي"، كما يقول الأسد نفسه؛ بل صار حاجة ستراتيجية تخصّ الوضع السوري الداخلي، ومستقبل النظام، وتسريع إجراءات التوريث في ضوء اشتداد المرض على الأسد الأب. لقد أدرك باراك أنّ العدّ العكسي للعمليتين، ترتيب التوريث وترتيب السلام، لم يعد يتناسب مع العدّ العكسي الثالث: ما تبقى للأسد من زمن على قيد الحياة. وما دام التوريث له الأسبقية، وتنظيف بيت النظام الداخلي، تمهيداً لوراثة سلسة ما أمكن، لا تعلو عليه أولوية؛ فما حكمة تقديم تنازلات، أو أيّ تنازل في الواقع، مهما كان ضئيلاً؟

وهكذا، لم يكن تراث يوسف العظمة هو الذي حال دون توقيع الأسد على اتفاقية سلام، كما تزعم شعبان، بل هو الحرص على منجاة الوريث، وحفظ نظام الاستبداد والفساد، وإدامة شبكات الولاء. لا عجب، إذاً، أنّ طراز الخبر اليقين هذا، لم يجد طريقه إلى منام بثينة!

الجمعة، 22 مارس 2013

نداء أوجلان: صائب وتاريخي.. حتى تقول الجبال كلمتها!

 هي "دعوة تاريخية" حقاً، تلك التي أطلقها عبد الله أوجلان، الزعيم التاريخي لـ"حزب العمال الكردستاني"، من سجنه في جزيرة إمرالي، أمس؛ وتُليت أمام عشرات الآلاف من الأكراد والأتراك الذين غصّ بهم منتزه نوروز، في مدينة دياربكر، ذات القيمة التاريخية والديمغرافية الكبرى لأكراد تركيا. هي كذلك، وكما شاء لها صاحبها، دعوة إلى الأكراد في كلّ مكان، وإلى شعوب الشرق الأوسط، والعالم بأسره في المحصلة، لاعتبار أوّل بسيط بقدر ما هو جوهري: أنّ شرق أوسط جديداً يولد، ويتنامى، كلّ يوم منذ تباشير انتفاضات العرب؛ والمسألة الكردية تشكّل أحد أركان معادلات هذه الولادة، ليس في تركيا وحدها، بل في سورية والعراق وإيران، والمحيط الإقليمي عموماً.

"فلتسكت المدافع، ولتنطق الأفكار"، قال أوجلان في رسالته أمس، مدركاً أنّ بلاغة السلام هذه ـ التي سبق للـPKK  أن اعتمدها أربع مرّات، على الأقلّ، في سوابق الحوار مع السلطات التركية ـ اكتسبت اليوم الكثير من عناصر القوّة المادية الكفيلة بتحويلها من حيّز القول والأمنية، إلى ميدان الفعل والتنفيذ. وليس خافياً أن حسابات سورية الآتية، حيث يتوجب أن ينعتق الأكراد السوريون، وتُرفع عنهم المظالم كافة، وتُعطى لهم سلسلة الحقوق السياسية والثقافية التي حُرموا منها طيلة أحقاب طويلة؛ كانت في قلب حسابات تركيا، أسوة بالـ PKK، حين تمخضت مفاوضات جزيرة إمرالي عن خريطة طريق تتلمس حلّ المسألة الكردية في تركيا. ولولا هذه الاعتبار الحاسم، فإنّ التوصل إلى تدابير تاريخية (بينها إلقاء السلاح، وانسحاب قرابة 2000 مقاتل للـPKK  من تركيا إلى جبال قنديل في شمال العراق، وإحقاق حقوق الأكراد على نحو ملموس ونوعي وغير مسبوق...) كان سيرورة عسيرة في حدّ ذاتها، فكيف بتنفيذها على مدى زمني قصير، لا يتجاوز نهاية العام الحالي؟

وللمرء أن يستعيد برهة أخرى في حياة "حزب العمال الكردستاني"، وزعيمه أوجلان شخصياً؛ حين رضخ نظام حافظ الأسد للضغوط التركية، وأبعد أوجلان خارج سورية، سنة 1998، بعد إقامة في كنف النظام امتدت على 18 سنة. كان الـ"آبو"، لقب أوجلان الأثير لدى أنصاره، قد غادر إلى موسكو، قبيل الذهاب بمحض إرادته إلى العاصمة الإيطالية روما؛ وهناك أطلق تصريحه الشهير التالي: "الـ PKK حزب وُلد في تركيا، وتحوّل إلى منظمة في سورية، وهو في طريقه لمغادرة موسكو... من أجل تأسيس دولة"! ولقد بدا، يومذاك، أنّ هذا الكردي الفريد ـ الزعيم الحالم، الثائر، اللينيني، الغيفاري، و"يسوع الأكراد" كما أسمته صحيفة "لوموند" الفرنسية ذات مرّة ـ تناسى أنّ الحكمة الكردية الأعرق هي تلك التي تقول إنّ الجبال وحدها صديقة الكردي؛ وأنّ تلك الجبال تنفكّ بين الحين والآخر عن هذه الصداقة، فتنقلب إلى مقابر جماعية للأكراد، القتلى على أيدي أعدائهم، أو جيرانهم، أو أبناء بلدهم، أو أبناء عمومتهم... سواء بسواء.

تناسى أوجلان فقط، كما خُيّل إليّ، ولم ينسَ؛ لأنه في الواقع ممنوع من النسيان، بالتعريف، شاء أم أبى، مثله مثل أيّ كردي ينتمي إلى أقلّية هي الأكبر على وجه البسيطة؛ كانت، وما تزال، محرومة من وطن قومي، في العالم القديم والحديث، في أزمنة انقسام العالم إلى إمبراطوريات مثل أزمنة اختزال العالم إلى قرية واحدة صغيرة، وفي عقود الحرب الباردة مثل عقد السلام البارد، أيّام المعسكر الإمبريالي والمعسكر الإشتراكي مثل المعسكر الواحد المُعَوْلَم. وحين تمكنت الاستخبارات التركية من الإيقاع به، في نيروبي، فإنها لم تنجح في المسعى لولا مساعدة مباشرة من الاستخبارات الإسرائيلية، واستخبارات غربية وشرقية وأفريقية أخرى؛ وكأنّ الرجل عدوّ شعوب المعمورة، وطريد البشرية جمعاء!

ولقد اشتغلوا، على نحو منهجي خبيث، لتأثيم صورته في المخيال الشعبي العريض، على نطاق "العالم المتمدن"، فقُدّم في هيئة "قاتل أطفال"، و"إرهابي" سفك دماء 30 ألف تركي، أو "تسبّب" في مقتل هذا العدد، لأنّ السلطات التركية كانت تحتسب في عداد ضحايا أوجلان ليس أفراد الجيش التركي الذين قُتلوا في عمليات الحرب ضد مقاتلي الحزب، فحسب؛ بل، كذلك، عناصر الـ PKK أنفسهم، والمدنيين الأكراد الذين قُتلوا على يد الجيش التركي أثناء تلك العمليات! المنهج الخبيث ذاته اقتضى نقل البطل الكردي من حيّز الأمثولة الكفاحية الثورية، إلى حيّز الأسطورة الحكائية الحزينة؛ هذه التي يحفل بها الوجدان الكردي منذ أقدم العصور، أو لعلّه لا يقيم ذاكرته الجَمْعية على أرشيفات أخرى سواها.

وحين اعتُقل أوجلان، كان "العالم المتمدن" ذاته ينخرط في عمليات نفض اليد من "القضية الكردية"، وأخذت تندثر تدريجياً تلك المراثي التراجيدية التي دبّجها الغرب في صالح الأكراد العراقيين عام 1991، ضد صدّام حسين بوصفه تجسيد الشرّ الأعظم. سفر "الخروج" الكردي، كما أسماه بعض المعلّقين الغربيين آنذاك، صار سفر "الشتات" الكردي، "دياسبورا" هنا وهناك في عواصم الغرب. وفي جدل تفاعل الروابط السياسية والثقافية والسيكولوجية بين "الخروج" و"الشتات"، لم تتغيّر كثيراً احتقانات علاقة الكردي بالغرب الذي خانه، مراراً وتكراراً؛ ولا بـ"عالم متمدّن" تاجر بآلام الأكراد لتصفية حسابات أخرى إقليمية. وفي الحالتين، كان الجرح الكردي يُنكأ، ويتسع أكثر، وينزف أشدّ؛ ولكنه لا يُعالج!

ولقد بدا ثابتاً أيضاً، وعلى الصعيد التركي في الأقلّ، أنّ ملفات قضية الأكراد في تركيا لن تُغلق بإغلاق ملفّ رجل كردي واحد يدعى أوجلان، سواء مكث على صورة "تشي غيفارا كردستان"، أو تنامت صورته الأخرى كـ"يسوع الأكراد". كان ثمة عشرات الآلاف من الأكراد الذين قضوا جرّاء التعنّت التركي، وآلاف القرى التي أُحرقت في إطار سياسة محو الهويّة الكردية، وعشرات البرلمانيين الأكراد ـ الأتراك الذين انتُخبوا ديمقراطياً واعتُقلوا عرفياً لمجرّد أنهم خاضوا في شؤون المواطنين الذين انتخبوهم، والألعاب الأمريكية ـ التي لم تكن تتوقف، إلا لكي تبدأ من جديد ـ في الملفات الكردية شمال العراق... كلّ ذلك، وسواه، كان كفيلاً بإبقاء قضية الأكراد الأتراك مفتوحة على فراغ سياسي وتنظيمي ومطلبي وكفاحي، سوف يسارع إلى ملئه أكثر من أوجلان واحد، طال الزمن أم قصر.

وحين تقاطر آلاف الأكراد إلى روما للإعراب عن التضامن مع أوجلان، طريد كلّ أرض آنذاك، كانوا في الآن ذاته أشبه بكورس إغريقي غير عادي؛ احتشد لكي يعترض على القَدَر، ولم يكن يقوم بمهمّة أخرى سوى تلك المناطة بأيّ كورس إغريقي: الانحناء أمام جبروت القدر. فوق هذا، كانت مفردات ذلك الجبروت تتجاوز صفقات الآلهة مع البشر، إلى صفقات الحكومات والأجهزة بين بعضها البعض أولاً؛ وبينها، تالياً، وضدّ ما تبقّى من أحلام الكردي الذي تقرّى شخصية "المخلّص" في شخصية القائد السياسي، المنفيّ والمحاصَر والمساق صاغراً إلى أقدار صاغرة. وكيف للكرديّ أن يتحاشى ذلك الانسياق الرهيب نحو المأساة، إذا كان كرد آخرون، أبناء عمومة ونسب وقربى، هم الذين تصدروا لائحة السماسرة المشتغلين عند الكبار، عاقدي الصفقات!

وفي الأساس، يتوجب التذكير بأنّ تاريخ "حزب العمال الكردستاني" هو، من وجهة أخرى، خلاصة الحصاد الممتاز لانعطافة حاسمة في التفكير التركي التقليدي إزاء المسألة الكردية، نجمت أساساً عن المخيّلة المكيافيللية التي تحلّى بها الرئيس التركي الأسبق تركوت أوزال؛ خلال مفصل مثالي من ديناميات تلك الحقبة، حين اغتنم مناخات ما بعد "عاصفة الصحراء"، والملاذ الآمن"، وانتقال أبصار العالم إلى المثلث الكردي على الحدود العراقية ـ التركية. لقد عبر أوزال نهر الروبيكون، واتخذ ثلاثة قرارات اجرائية غير عادية: إبطال قانون "اللغة الأم"، الذي كان يحظر اللغة الكردية حظراً يبلغ حد الإلغاء التام، والاجتماع مع ممثلي الأكراد العراقيين، وإصدار عفو جزئي شمل العديد من الشخصيات الكردية البارزة.

ولأن أجواء تلك الحقبة كانت توحي بإمكانية تحويل العراق إلى نسخة بالكربون عن الرجل العثماني المريض في أوائل القرن، بل كانت تنذر بالكثير من الآمال العريضة (التي انهارت واحدة تلو الأخرى، بسرعة قياسية)؛ فإن أوجلان لم يختلف كثيراً عن مسعود البرزاني أو جلال الطالباني، أو حتى عن المطرب الشعبي الذائع الصيت رحمي سالتوك، في التهليل لمبادرة أوزال، والاستبشار بما ستحمله للكرد من مغانم سياسية وثقافية وإنسانية. لقد بدت إذعاناً من الحكومة التركية لمتطلبات النظام الدولي الجديد، ولاح في تلك الفترة أن أوجلان يثق بشيء آخر سوى الجبال والكلاشنيكوف والماركسية ـ اللينينية، بدليل تصريحه الدالّ: "الحقّ أنني لم أكن أتوقع أن يبدي أوزال هذا القدر من الشجاعة. لقد أخجلنا جميعاً، واتخذ الخطوة الهامة التي تبطل 67 عاماً من حالة العبث الإيديولوجي".

غير أن الإيديولوجيا في مستوى الحلم، وليس الإيديولوجيا في مستوى العبث، كانت محرّك البرنامج السياسي الشهير "درب الثورة الكردية"، الذي وقّعه أوجلان وتضمن سلسلة مقولات راديكالية، بينها واحدة رأت أنّ كردستان المبعثرة والغائبة هي نتاج سياسات آثمة نفذتها أربع دول (إيران والعراق وتركيا وسورية)؛ وأنّ إحياء كردستان يمرّ عبر درب وحيد هو الثورة الكردية الشاملة في هذه الدول. أما الـ"آبو" نفسه، ولكن في مطلع الثمانينيات، فإنه القائل بخوض حرب التحرير على ثلاث مراحل: الدفاع الستراتيجي، وتوازن القوى، والهجوم الستراتيجي. وتلك اللعثمة التقنية في توصيف أغراض كانت بسيطة واضحة، إنما نبعت من حقائق الأرض وحسابات القوى المضيفة والقوى المطارِدة والحزب المطارَد، على حدّ سواء.

ويبقى أنّ لجوء أوجلان إلى روما، سنة 1998، كان إشارة أولى إلى ميل الحزب للتعاطي السياسي مع الحكومة التركية، على خلفية صيغة ما من حكم ذاتي يمنح أكراد تركيا بعض الحقوق السياسية والثقافية والإدارية؛ مقابل التخلّي النهائي عن "حرب التحرير"، وعن الانفصال وتشكيل دولة مستقلة. فهل احتاج التاريخ إلى 15 سنة لكي يبدو نداء أوجلان التاريخي وكأنه، اليوم، يستعيد تلك البرهة السياسية الضائعة؟ ربما، مع فارق أنّ متغيّرت المنطقة لا تحصّن الفرصة الراهنة وتضاعف احتمالات نجاحها، فحسب؛ بل لعلها لا تترك أمام الفرقاء أي خيار آخر سوى اغتنام الرياح التي تهبّ على المنطقة. "نضالنا لم يكن ضدّ أيّ عرق أو دين أو جماعة. نضالنا كان ضدّ كلّ أنواع الضغط والقهر. ونحن اليوم نستفيق على شرق أوسط جديد، وتركيا جديدة، ومستقبل جديد"؛ قال أوجلان في ندائه التاريخي، مؤذناً بإسكات المدافع، وإطلاق الأفكار الكفيلة بإحقاق الحقوق.

.. كما للمرء أن يأمل، وكما يتوجب أن تشهد الجبال... أخلص أصدقاء الكردي!

الجمعة، 15 مارس 2013

سنة ثالثة انتفاضة: "الجيب الساحلي" وسيناريو المحرقة

لافت، بمعنى الطرافة على الأقلّ، أنّ "الممانعين" أنصار النظام السوري، وهم بالتعريف الاستطرادي "أعداء" أمريكا، سكتوا تماماً عن تصريحات وزير الخارجية الأمريكية، جون كيري، الذي طالب المعارضة السورية بالجلوس إلى طاولة واحدة مع بشار الأسد، للتباحث حول تطبيق خطة جنيف، التي سبق أن صاغها المبعوث الدولي السابق كوفي أنان، ووافقت عليها موسكو. فمن جانب أوّل، هذا يهشم آخر ما تبقى من دعائم، بدأت واهية أصلاً وهكذا استمرت، حول وجود مؤامرة صهيو ـ أمريكية ضدّ نظام الأسد، بوصفه أحد قلاع "الممانعة" و"المقاومة" و"الصمود" و"التصدّي". إذْ، في الحساب المنطقي البسيط، كيف يعقل أن يتآمروا عليه طيلة سنتين، ثمّ نراهم اليوم يمارسون الضغوط على "أزلامهم" و"عملائهم"، أي أطراف المعارضة السورية المؤمنة بالمعجزات الأمريكية، للتحاور مع الأسد؟

ولكن، قد يقول "ممانع" أريب من جانب آخر، أليس هذا هو الدليل القاطع على أنّ الأسد يحقق انتصارات ساحقة، أجبرت المؤامرة إياها، الصهيو ـ أمريكية، على الانكفاء والتراجع، وربما الاستسلام؟ تلك أضغاث أحلام "ممانعجية"، في الواقع، لأنّ جيش النظام الموالي هو الذي ينكفيء عسكرياً على الأرض، كلّ يوم، في تسعة أعشار مناطق المواجهة؛ فلا يمارس من الفعل العسكري سوى القصف بصواريخ "سكود"، وهذه سبّة أخرى شائنة تلحق بنظام متهالك متداعٍ، أو القصق بطائرات الـ"ميغ"، حيث تُلقى على المواطنين العزّل قذائف محرّمة دولياً، وبراميل متفجرة، وتلك وصمة عار أخرى لم يسبق أن لحقت بأي نظام همجي على امتداد التاريخ الإنساني.

"الممانع" الأريب، ذاته، يتعمد إغماض العين عن مجريات الأمور في جبهة الجولان المحتلة: النظام يسحب قوّاته الموالية من الجبهة مع الاحتلال، ليعيد انتشارها في مناطق الصراع الأثيرة لديه (ريف دمشق الشمالي، ريف حمص المحاذي لمحافظة طرطوس، حيث تجري تحصينات وتُقام دُشم وخنادق ومتاريس... لم يشهد لها الجولان نظيراً منذ حرب 1973، التي خسرها حافظ الأسد طواعية، وتسليماً). وفي المقابل، يواصل العدو الصهيوني إقامة المزيد من أمتار السور الأمني الفاصل، ويغضّ النظر عن أنشطة جيش النظام الموالي (في تحركات وحدات المدفعية الثقيلة تحديداً، والتي تقيّدها اتفاقية فصل القوّات، سعسع، 1973)، و... يواصل التنقيب عن النفط، في بطاح الجولان المحتلّ!

وما لا يراه "الممانع" ذاته، إذْ لا يجوز له أن يبصره إلا في سياق "ممانعجي" حصري، هو مقدار انخراط عناصر الحرس الثوري الإيراني، ومقاتلي "حزب الله" في المعارك الطاحنة التي تشهدها منطقة القصير تحديداً، والتي تقضّ مضاجع الساعين إلى صياغة ذلك "الجيب الساحلي" المشؤوم، بوصفه آخر الخنادق القتالية، قبل أن يصبح الأسد أمام الخيارات القصوى الختامية: إمّا أن يولّي الأدبار، على ظهر بارجة حربية روسية، أو إيرانية؛ وإمّا أن يلقى مصير أخوته الطغاة العرب، اعتقالاً ومحاكمة، أو قتلاً. فهل انتقلت المقاومة ضدّ إسرائيل من هضاب الجولان المحتلّ وسهوله، ومن الجنوب اللبناني ومزارع شبعا، إلى القصير، تحديداً وحصرياً؛ حيث يُقتل رجال الجنرال قاسم سليماني، وحيث "يستشهد" العشرات من عناصر "حزب الله"، أثناء "قيامهم بالواجب" الشرعي؟

وليس "الممانعجي"، نفسه، بحاجة ـ مثل جميع العباد، في الواقع ـ إلى سياسي "معتدل" و"قومي" و"ناصري" ومستعدّ للحوار مع النظام، على غرار حسن عبد العظيم، الأمين العام لحزب الاتحاد الاشتراكي الديمقراطي العربي؛ لكي يدرك أن تصريح كيري، حول جلوس المعارضة السورية والأسد إلى طاولة المفاوضات، "ليس زلة لسان، وإنما هو حصيلة جهود المبعوث المشترك الأخضر الإبراهيمي في الوصول إلى توافق أمريكي ـ روسي حول حل سياسي للأزمة ووقف العنف ونزيف الدماء". ذلك لأنّ قوى واسعة داخل المعارضة كانت، وتظلّ، على يقين من أنّ الموقف الأمريكي من الانتفاضة كان يعتمد الوقوف في صفّ المتفرّجين، وانتظار سقوط النظام الحتمي، تلقائياً، وتوريط موسكو حتى أقصى مدى ممكن في الرمال المتحركة التي انقلبت إليها ساحات سورية السياسية والعسكرية.

وقبل أسابيع قليلة، في هذه الصحيفة تحديداً، خلال حوار مع محمد علي الأتاسي، قال المعارض السوري الأبرز رياض الترك إنّ الولايات المتحدة الأمريكية، وفي سياق تبرير "موقفها المتقاعس تجاه ثورة الحرية والكرامة، وإصرارها على إيجاد تسوية وفق منطق لا غالب ولا مغلوب (...) لا تقبل أبداً بالانتصار الكامل للثورة. فموقفها في المحصلة لا يختلف عن الموقف الروسي، إلا في كون الموقف الأمريكي ذكياً والثاني غبياً أحمق. هم يريدون إنهاك الطرفين لإيصالهم إلى حل على الطريقة اللبنانية". وتابع الترك: "في ظلّ هذا السياق يمكن أن تتحول اتفاقية جنيف إلى بازار بين الروس والأمريكيين، ثمنه التوافق على إزاحة بشار الأسد، والاتفاق على حكومة هجينة تحافظ على بعض مؤسسات النظام، مضافاً إليها بعض رموز المعارضة المدجنة. بهذا المعنى يمكن أن نفهم خلفية الطروحات التي يقدمها الوسيط الدولي ـ العربي الأخضر الإبراهيمي. وبهذا المعنى أيضاً يمكن للروس أن يحققوا بعضاً من طموحاتهم ومطالبهم. كما يحقق الأمريكان من خلال هذا النظام الهجين شيئاً من العودة إلى 'الاستقرار' وضمان أمن إسرائيل".

يدهش، في المقابل، أن يقول عبد العظيم، في حديث مع "روسيا اليوم"، إن "هذا التوجه الأمريكي الجديد يقلص العنف، سواء عنف النظام أم عنف المعارضة المسلحة، ويرجح الحل السياسي والانتقال السلمي للسلطة وفق مقررات جنيف التي يعمل الإبراهيمي على إيجاد تفسير موحد لها وتوافق دولي". هذه ليست زلة لسان، بدورها، ولكنها إعادة اجترار لما أقدمت عليه هيئة التنسيق مراراً، بخصوص الحوار مع النظام، وكانت في كلّ مرّة تتلقى صفعة مهينة من النظام ذاته، طرف الحوار المفترَض. كانت آخر الصفعات اعتقال عدد من ناشطي هيئة التنسيق، بينهم عبد العزيز الخيّر، الشخصية الأبرز في الهيئة، رغم أنه كان قادماً من جولة خارجية حظي خلالها بضمانات أمنية من قوى عظمى حليفة للنظام، روسيا والصين في المقدّمة. ومدهش، كذلك، أن يرحّب عبد العظيم بالحوار مع النظام، من دمشق؛ في حين أنّ هيثم مناع، رجل الهيئة في الخارج، أعلن من موسكو أن "الظروف غير مواتية لإطلاق حوار مع النظام"، وأنه "من المستحيل الآن إحراز أي تقدم نحو وقف العنف والبحث عن حل سياسي يؤدي إلى تشكيل سلطة انتقالية".

والحال أنه لا يليق برجل مثل عبد العظيم، ورغم تاريخه "الحواري" مع رجالات في السلطة من أمثال عبد الحليم خدام، أن يستخدم مفردة "العنف" بمعنى متكافىء يشمل طائرات الـ"ميغ" والـ"سوخوي"، وصواريخ الـ"سكود" والمدفعية الصاروخية والثقيلة، والبراميل المتفجرة، والقنابل العنقودية، وتلك المحرّمة دولياً... في صفّ النظام؛ والأسلحة الفردية الخفيفة، أو مضادات الدروع، أو ما يغنمه مقاتلو "الجيش السوري الحرّ" أثناء اقتحام كتائب النظام الموالية... في صفّ المعارضة. هذه قسمة غير عادلة، لا عسكرياً ولا سياسياً؛ وهي قسمة غير أخلاقية أيضاً، لأنها تساوي بين القاتل والقتيل؛ فضلاً عن الجانب الأخطر فيها: أنها تتعمد السكوت عن جرائم النظام في عشرات المناطق السورية المحاصرة، لا سيما دير الزور وحمص، كما تسكت عن المشروع الأقبح الذي ترتدّ إليه السلطة اليوم، أي "الجيب الساحلي"، الذي يُنفّذ تدريجياً بعون مباشر من عناصر "الحرس الثوري" الإيراني ومقاتلي "حزب الله".

وقد يلوح مرجحاً تماماً أن تكون الاستخبارات الروسية قد نصحت الكرملين بإقناع الأسد أن إقامة "دولة علوية" في جبال الساحل السوري الوسطى ومناطق من سهول حمص وطرطوس، ليست فكرة حمقاء فحسب؛ بل هي غير قابلة للتنفيذ، ولن تعيش بضعة شهور إذا نُفّذت على أيّ نحو. كذلك قد تكون مرجحة تلك التقارير التي تحدثت عن مخاوف بلغت أسماع آية الله علي خامنئي، المرشد العام للثورة الإيرانية، مصدرها عدد من آيات الله في إيران والعراق، تساجل ضدّ تحويل أبناء الطائفة العلوية في سورية إلى محرقة رهيبة ومجانية، أهلية عشوائية عمياء، إذا أصرّ الأسد على خوض آخر معاركه هناك. موسكو تنطلق من معطيات جيو ـ سياسية واقتصادية، تريد ضمان مصالح الروس في القاعدة البحرية اليتيمة التي يمتلكونها على شطآن المتوسط؛ ومشائخ قمّ، قبل ساسة طهران، يدغدغهم حلم توغّل آمن أعمق في مناطق تبشير على امتداد قرى الساحل، توطيداً لمكانة إيران كقائدة، وقاعدة، للشيعة الإثني عشرية، في القوس الذي ينطلق من غيران، ويشمل اليمن والخليج ولبنان، مروراً بإيران والعراق وسورية!

ويبقى التشديد، مجدداً وعلى أعتاب سنة ثالثة في عمر هذه الانتفاضة المجيدة الفريدة، أنّ "أرباح" النظام ليست سوى تلك الثمار ذاتها التي توجّب أن تطرحها خياراته في مواجهة الانتفاضة، ولا سيما اعتماد الحلّ الأمني العنفي المباشر في المقام الأوّل، ثمّ رفده بسلسلة مخططات خبيثة لتفريق الصفّ الوطني، والترهيب من الحرب الأهلية والطائفية، ومحاولة افتعال الشرارات التي يمكن أن تؤدي إلى اندلاعها، وتهويل احتمالات عسكرة الانتفاضة، وتضخيم موقع المكوّنات الإسلامية المتشددة داخل صفوفها، وتدبير أعمال إرهابية تُنسب إلى "القاعدة"، وإثارة هواجس الأقليات... فضلاً عن تغطية هذا المناخ، كلّه، بأكاذيب "الإصلاحات" السياسية التي تستهدف ذرّ الرماد في العيون. "أرباح" النظام هي، في اختصار بسيط، مزيج من ارتكاب الجرائم وإشاعة الأضاليل، في غمرة يقين مركزي لم تتزحزح عنه الطغمة الحاكمة: إمّا نحن، أو الطوفان!

و"أرباح" النظام تشمل، أيضاً، ما يكسبه من تلك الحماية الخاصة التي تمتّع بها على الدوام، ويتمتع بها اليوم أيضاً: معلَنة عند دول مثل إيران وروسيا والصين، ومبطنة عند أخرى مثل إسرائيل والولايات المتحدة ومعظم دول الاتحاد الأوروبي. المصيبة ليست هنا، لأنّ السذّج أو الأتباع هم وحدهم الذين ينتظرون خير سورية من الجهات ذاتها التي ساندت نظام الاستبداد والفساد؛ بل في أنّ بعض أطراف "المعارضة" يأخذ على أطراف أخرى أنها تنوي الدخول إلى دمشق، على ظهر دبابة أمريكية (الأمر الذي يوحي، ضمناً، أنه لا مشكلة في الدخول على ظهر دبابة إيرانية، مثلاً!)؛ وكأنّ الدبابات جاهزة على بوّابات دمشق، لا تنتظر إلا مَنْ يمتطيها!

كذلك يصحّ التذكير بأنّ إعلان جنيف، الذي يتغنى به كيري ولافروف، ثمّ أمثال عبد العظيم، يشبه كثيراً جدّه قرار مجلس الأمن الدولي 242: يقبل كلّ تفسير، أيّ تفسير، واللاتفسير أيضاً. فلندعهم، نحن السوريين، في تأويلاته يتبارون، ويعمهون؛ الحسم هنا، على أرض سورية، في حلب والشام ودرعا وحمص ودير الزور... لأنه من هنا بدأ، وهنا سوف ينتهي، إلى انتصار لا ريب فيه. ونحن على موعد!

الاثنين، 11 مارس 2013

شافيز الشعوب وشافيز الطغاة

في سنة 2005، التي صادفت الذكرى الـ400 لصدور رواية "دون كيخوتة"، إحدى أرفع أمهات، إذا لم تكن الأمّ الأرفع، في فنّ الرواية؛ قرّر الرئيس الفنزويلي هوغو شافيز أن يحتفي بعمل سيرفانتيس العظيم، على نحو فريد حقاً: لقد طلب من وزارة الثقافة أن تطبع مليون نسخة منها، وأن توزّعها مجاناً على مليون أسرة فنزويلية فقيرة. هو، نفسه، شافيز الذي صادق معظم دكتاتوريات العالم العربي؛ وكان، على نحو أو آخر، يطبّق سلوكاً معيارياً تبسيطياً، مفاده أنك إذا أعلنتَ العداء للإمبرالية، حتى على صعيد اللفظ وحده، فإنت عدوّ لها بالضرورة، وأنت صديق الشعب الفنزويلي، أياً كان نظام الاستبداد والفساد الذي تديره.

هذه واحدة من المعضلات التي لا مفرّ للمرء من مواجهتها عند تلمّس حصيلة ما، موضوعية في الحدود الدنيا، لأحد أهمّ القادة الشعبيين، والشعبويين ربما؛ ليس في فنزويلا الحديثة وحدها، بل على امتداد غالبية دول أمريكا اللاتينية المعاصرة. هو، داخل بلده، وريث أصيل لتراث سيمون بوليفار الثوري، وصديق حميم وشرس لفقراء بلاده، ومناهض أشرس للولايات المتحدة والاحتكارات النفطية والغازية. وهذه بعض العناصر الإيجابية التي صنعت شعبيته، وجعلتها صيغة في العمل السياسي والاقتصادي والاجتماعي تعكّر صفو السياسات الأمريكية المعتمَدة، والراسخة التي لم تتغيّر كثيراً بعد أن رسم ملامحها العريضة وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر.

وكان غلاة الليبراليين في واشنطن، وكذلك في معظم عواصم القارّة اللاتينية، يقارنون بين أسلوب شافيز ("المتهور"، "الشعبوي"، "الاشتراكي"...)، وأسلوب الرئيس البرازيلي السابق لويس إيناسيو لولا دا سيلفا ("العقلاني"، "الليبرالي"، "الهادىء"...)؛ حتى أقرّ الأخير، وليس البتة تعظيماً للأوّل بمناسبة رحيله، أنّ شافيز كان أحد اعظم القامات السياسية والشعبية في تاريخ القارّة. في بال لولا كانت إنجازات فنزويلا خلال عهدَي شافيز، من تحقيق نموّ اقتصادي بلغ 9 في المئة وكان بين الأعلى على مستوى القارة، إلى محو الأمية واجتثاث التقاليد الإقطاعية المعيقة للنموّ في القطاعات الزراعية، مروراً بالقفزات النوعية في تطوير البنى التحتية والخدمات العامة والتنمية المستدامة.

أمّا في الخارج، أو بالأحرى في بلداننا نحن على وجه التحديد، فإنّ صورة شافيز استقرّت على نقائض صفاته اللاتينية: يخرق الحصار على العراق، ويزور بغداد، لكنه يكيل لدكتاتور العراق مدائح عجز عنها حتى لطيف نصيف جاسم أو محمد سعيد الصحاف! ولا يتردد في القول إنّ القذافي "هو الشخص الوحيد الذي أؤدّي له التحية العسكرية، وأتمنى أن أعمل جندياً تحت إمرته"؛ وأنّ "نظام القذافي"، ولا نعرف المقصود بالتعبير هنا، سوف "يظلّ خالداً إلى الأبد"! وأمّا بشار الأسد، فكيف لا ندعم حكومته وهي الحكومة الشرعية لسورية؟"، أعلن شافيز، بعد أن صنّف "مناوئي النظام السوري" هكذا: "إنهم "إرهابيون يقتلون الناس في كلّ الاتجاهات"؛ معتبراً أنّ ما يجري هو "أزمة مخطط لها، على غرار سقوط معمر القذافي في ليبيا"، وأنّ "الشعب السوري هو حاليا ضحية سياسة استعمارية عنيفة".

وفي مقابل، وربما على نقيض، مفهوم "محور الشرّ" الذي اجترحه الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش مطلع العام 2002، والذي تألف من كوريا الشمالية وإيران والعراق آنذاك؛ اقترح الكاتب الباكستاني ـ البريطاني طارق علي مفهوم "محور الأمل"، الذي رآه قائماً أيضاً على ثلاث ركائز: كوبا وفنزويلا وبوليفيا، تحت زعامات فيديل كاسترو وهوغو شافيز وإيفو موراليس. كان هذا موضوع كتابه "قراصنة الكاريبي: محور الأمل"، في محاكاة ذات مغزى للفيلم الأمريكي الرائج "قراصنة الكاريبي". غلاف الكتاب يسخر من ملصق الفيلم إياه: العنوان على لفافة ورق قديم، ووجوه "القراصنة" الثلاثة (كاسترو، شافيز، موراليس) ظاهرة في الجزء الأعلى، تماماً على غرار جوني ديب وأورلاندو بلوم وكيرا نايتلي!

لماذا القراصنة؟ لأنهم ببساطة أبطال أزمنة خلت الآن، وحلّت محلها أخرى بديلة أو مضادة لأخلاقيات البطولة تلك؛ ولأنهم كانوا ثوّار تلك الأيام، ضدّ المراكز الإمبراطورية الكبرى والقوى العظمى. هم كذلك أسطورة تشحذ المخيّلة المعاصرة في كلّ ما يتصل بحسّ المغامرة في إطار عامّ، وفي حسّ المقاومة ضدّ الطغيان السياسي والجبروت العسكري بصفة خاصة. لقد رحل أحدهم، اليوم؛ والثاني، كاسترو، أقعده المرض عن السياسة؛ وظلّ الثالث يصارع الأنواء والأعاصير!

وكما يصحّ أن نميّز بين أكثر من شافيز واحد، يصحّ أيضاً أن نميّز بين أكثر من علي واحد: مؤلف هذا الكتاب الجميل، وعشرات سواه، أخطأ بحقّ الانتفاضة السورية مراراً، فهبطت مواقفه وصعدت وتقلّبت وتدنّت، حتى بلغ به الأمر حدّ تبرئة النظام من مجزرة الحولة. صحيح أنه عدّل الموقف، وأعاد اتهام النظام وحده؛ وصحيح، كذلك، أنه لا يوفّر مفردة في تحقير النظام السوري؛ ولكن من الصحيح أيضاً أنّ معظم الغمام الذي يكتنف مواقفه نابع من مناهضته للتدخل الخارجي الأطلسي... وكأنّ هذا التدخّل على الأبواب!

والحال أنّ الحصيلة بين شافيز الشعوب، وشافيز الطغاة، تجعل الكفة تميل إلى الشخصية الأولى، في يقيني؛ وبهذا فإنّ الشعوب الفقيرة، وشعوب الجنوب عموماً، خسرت قائداً شعبياً كبيراً؛ بل لعلها ودّعت آخر التمثيلات المعاصرة لمزيج نادر من بوليفار وتشي غيفارا، في آن معاً.