وعزّ الشرق أوّله دمشق

الأحد، 26 مايو 2013

نصر الله بين أسدَين

 في تسجيل قديم العهد، ظلّ نادراً حتى جعلته الأحداث الأخيرة شائعاً ومتوفراً، يردّ حسن نصر الله، الأمين العام لـ"حزب الله"، على سائل يسأل عن شكل نظام الحكم الذي يريده الحزب في لبنان، "حسب وضع البلد وتعدد الطوائف"؛ فيقول (وننقل بالحرف، حتى حين يجنح نصر الله إلى العامية): "بالنسبة لنا، ألخّص: في الوقت الحاضر ليس لدينا مشروع نظام في لبنان. نحن نعتقد بأنّ علينا أن نزيل الحالة الاستعمارية والإسرائيلية، وحينئذ يمكن أن يُنفّذ مشروع، ومشروعنا الذي لا خيار لنا أن نتبنى غيره، كوننا مؤمنين عقائديين، هو مشروع الدولة الإسلامية وحكم الإسلام، وأن يكون لبنان ليس جمهورية إسلامية واحدة، وإنما جزء من الجمهورية الإسلامية الكبرى التي يحكمها صاحب الزمان، ونائبه بالحقّ الوليّ الفقيه الإمام الخميني".

وفي الردّ على سؤال ثانٍ، حول علاقة "حزب الله" بالثورة الإسلامية في إيران، يقول نصر الله: "هذه العلاقة، أيها الأخوة، بالنسبة لنا أنا واحد من هؤلاء الناس الذين يعملون في مسيرة 'حزب الله'، وفي أجهزته العاملة، لا أبقى لحظة واحدة في أجهزته لو لم يكن لديّ يقين وقطع في أنّ هذه الأجهزة تتصل، عبر مراتب، إلى الولي الفقيه القائد المبريء للذمة الملزم قراره. بالنسبة لنا هذا أمر مقطوع ومُطْمَأن به. التصريحات الدبلوماسية والسياسية ليست هي الأساس في هذا المجال، يعني ليس طبيعياً أن يقف آية الله كروبي ويقول نعم 'حزب الله' هنن جماعتنا في لبنان. سياسياً هيدا مش صحيح، إعلامياً مش صحيح. على مستوى العلاقة العضوية والجوهرية مع قيادة الثورة الإسلامية في إيران وولاية الفقيه، هذه المسألة بالنسبة لنا أمر مقطوع به، وهذه المسيرة إنما ننتمي إليها ونضحي فيها ونعرّض أنفسنا للخطر لأننا واثقون ومطمئنون بأنّ هذا الدم يجري في مجرى ولاية الفقيه".

سؤال ثالث، يستفسر عن التالي: "مَن أعلم بالحالة السياسية ومتطلباتها في لبنان"، فيجيب نصر الله، بنبرة جازمة وعصبية، بعد أن يلقي بورقة السائل على الطاولة أمامه: "الأعلم هو الإمام الخميني! لماذا؟ لأنني سابقاً ذكرت بأنّ الحالة السياسية في لبنان ليست حالة معزولة عن حالة المنطقة. هي جزء من حالة الصراع في الأمّة، هي جزء من وضع الأمّة، فكما أنّ إمام الأمّة يعرف هذا الجزء، يعرف هذا الجزء (...) الإمام الذي يخطط، هو يخطط للأمّة. المجتهدون تأتي أدوارهم في كلّ بلد، مكمّل [كذا] لخطّ الإمام، ولمشروع الأمّة الإسلامية الواحد. فلا يجوز أن نجزيء صراع الأمّة مع أعدائها، ما دام الأعداء يخوضون صراعاً واحداً مع الأمّة، فيجب أن يكون [كذا] إدارة الأمّة في صراعها واحدة، وهي من خلال الإمام".  

ولقد استجازت السطور السابقة اقتباس ثلاث إجابات من حديث نصر الله، لأنها إنما تردّ حاضر أفكار الأمين العام لـ"حزب الله" إلى ماضي تلك الأفكار، حين كان أحد الكوادر الشابة الطالعة، والمبشّر الأبرز بخطّ التشدد في العلاقة "الجوهرية" و"العضوية" مع الوليّ الفقيه، ومشروع "دولة صاحب الزمان". هذا فضلاً عن اعتماد خطاب مزدوج بصدد تلك العلاقة، ومشروع الحزب في لبنان: أوّل، للإعلام والسياسة، يتفادى تبيان ارتباط الحزب بالوليّ الفقيه؛ وخطاب ثانٍ، داخلي وعقائدي، يؤكد أنّ العلاقة "أمر مقطوع ومُطْمَأن به". وفي خطاب الأخير جدد نصر الله التشديد على تلك الأفكار، بعد طول غياب في الواقع، على خلفية تدخّل "حزب الله" العسكري في بلدة القصير السورية، واعتبارها "جبهة" من جبهات الحزب، وله ستُعقد راية النصر فيها: "نحن أهل ورجال معركة القصير وصنّاع انتصاراتها"!

والحال أنّ المرء يحتاج إلى قرابة ثلاثة عقود خلت لكي يقع على نظير لهذه البرهة من تطابق المصالح، وربما المصائر أيضاً، بين النظام السوري وإيران/ "حزب الله"؛ وذلك في سنة 1984 حين زار علي خامنئي دمشق (وكان، يومذاك، رئيساً لإيران)، على رأس وفد عُدّ الأرفع منذ انتصار الثورة الإسلامية في إيران. وتلك مناسبة دشّنت إخضاع "حزب الله" لمقتضيات المصالح المشتركة للنظام السوري وإيران في لبنان، إذْ قام العقيد شيرازي، قائد الجيش الإيراني آنذاك، بزيارة خاطفة إلى البقاع، فأبلغ قيادة الحزب بضرورة الامتثال التامّ لسياسات سلطات النظام السوري على امتداد الأراضي اللبنانية. الفارق، بين أمس واليوم، هو أنّ حافظ الأسد ظلّ يلاعب طهران دون أن يسمح لها بالتوغل، أكثر ممّا ينبغي، في ملاعبه؛ وكان يحظر، بشدّة، أي تبشير شيعي داخل طوائف سورية المسلمة، وخاصة الطائفة العلوية، لأنه رأى في التشيّع خطراً مباشراً يمسّ أحد التوازنات الاجتماعية ـ السياسية الحساسة التي أقام عليها سلطة "الحركة التصحيحية".

امتياز نصر الله، على سابقيه من قادة "حزب الله"، أنه عاصر أسدَين، الأب والوريث؛ وتعامل مع سياستَين، التصلّب والارتخاء؛ فضلاً عن أنّ الأب لم يواجه انتفاضة شعبية عارمة، كهذه التي تعصف اليوم بنظام الابن. ولهذا فإنّ تدخّل "حزب الله" في القصير ليس غزواً لسورية، وحرباً ضدّ شعبها، فحسب؛ بل هو صفعة جديدة مزدوجة، لـ"الحركة التصحيحية" أسوة بجيش النظام (الموعود بانتصار يصنعه له الغزاة)، تأتي هذه المرّة من... مقاتلي الوليّ الفقيه!

الثلاثاء، 21 مايو 2013

سورية في "بيت موليير"

 الـ"كوميدي فرانسيز" ليس أبرز المسارح الفرنسية الحكومية، وهذه قليلة العدد أو نادرة، فحسب؛ بل هو، أيضاً، بين الأبهى من حيث عمارة المبنى والموقع، قبالة متحف اللوفر؛ وبين الأعرق، كذلك، إذْ يعود تاريخه الرسمي إلى سنة 1680، حين أنشأه لويس الرابع عشر بمرسوم ملكي، ثمّ إلى قرابة قرن قبل هذا التاريخ، حيث العقود الحافلة التي شهدت ازدهار أعمال موليير (1622ـ1673). وإلى هذه السمات، يفاخر المسرح بفرقة ممثلين خاصة به، وقرابة 700 كاتب مسرحي، ونحو ثلاثة آلاف عمل مسرحي تعود بأصولها إلى لغات عالمية شتى... كانت العربية أحدثها، إذْ دخلت للمرّة الأولى، مؤخراً، عبر مسرحية "طقوس الإشارات والتحولات"، للمسرحي السوري الكبير الراحل سعد الله ونوس (1941 ـ 1997)؛ بتعاون عربي أيضاً، ضمّ الأكاديمية والمترجمة السورية البارزة رانيا سمارة (التي كانت قد نقلت المسرحية إلى الفرنسية سنة 1996، وصدرت يومذاك عن دار النشر الفرنسية Actes Sud)، والمخرج الكويتي سليمان البسام، واللبنانية ياسمين حمدان في التأليف الموسيقي والأداء الغنائي.

وتجدر الإشارة إلى أنّ هذا العمل بالذات، في ترجمة سمارة أيضاً، كان قد عُرض صيف 2009 في المهرجان المسرحي الدولي الأبرز، الذي تشهده مدينة أفينيون الفرنسية كلّ عام، بإخراج السوري فداء محيسن؛ الذي سبق له أن قدّم ونوس، "الملك هو الملك"، في باريس، سنة 2000؛ كما دمج مقاطع من مسرحيتَي "الاغتصاب" و"يوم من زماننا"، في عرض بعنوان "كتاب دمشق والنبوءات"، أواخر 2012. ومن جانبه، كان البسام قد عرض "طقوس الإشارات والتحولات" في مدينة مرسيليا، قبلئذ؛ إلا أنّ عرض باريس، على خشبة "بيت موليير"، وهي التسمية الأخرى الجميلة للمسرح، هو الذي استأثر حقاً بصفة الحدث الثقافي الفرنسي ـ العربي الأهمّ.

المسؤولون عن برمجة النصوص الأجنبية لا يخفون حقيقة أنّ ما تشهده سورية من وقائع مأساوية راهنة كان له أثر جلي في اختيار نصّ ونوس، وهذا ما يشير إليه الملفّ الرسمي للعرض إذْ يقتبس عبارة نقلها الصحافي الفرنسي جان ـ بيير بيران على لسان مواطن سوري من مدينة حماة، حول مجزرة  1982: "هنا، حتى الحجر يصرخ!". وإذْ تذكّر بأنّ 70 ألف مواطن قضوا، طيلة سنتين، وتعرّض البلد للتخريب والتشوّه؛ تشدّد افتتاحية الملفّ على القيمة الرمزية العالية لاختيار عرض يكرّم كتابة في ذاتها، مثلما يقيم حواراً مع الثقافات الأخرى.

ومن المؤكد أنّ مسؤولي الـ"كوميدي فرانسيز" استمزجوا آراء عدد من المسرحيين والمثقفين العرب، وحصلوا على ترشيحات متباينة، ثمّ توصلوا إلى توافق، بدرجة كافية، حول ونوس. والأرجح، عندي شخصياً، أنّ موضوعات مثل نقد المؤسسة الدينية الرسمية، والفضائح الجنسية، ومباذل السلطة عموماً، والمسائل النسوية، والمثلية الجنسية... لعبت كلها دوراً، ليس ضئيل الشأن ربما، في ترجيح كفة "طقوس الإشارات والتحولات".

ذلك لأنّ هذه المسرحية ليست أفضل أعمال ونوس، في يقيني، ولا تعكس تلك الاختمارات الأسلوبية الكبرى التي انتهت إليها مسارات ثلاثة عقود ونيف من التجريب العاصف. ففي أواسط الستينيات كان وعي ونوس منشطراً بين أقصيَين: العبث الوجودي كما عكسه مسرح ألبير كامو، والموقع الكفاحي للمثقف وللنصّ الأدبي كما عكسه مسرح بيتر فايس وبرتولت بريخت. وكانت العواصف التي يطلقها جان جينيه وأنتونين آرتو في فرنسا تبلغ أسماع ونوس وهو بين القاهرة ودمشق وباريس، مثلما كانت تقلقه الأسئلة التي طرحها مسرح العبث عند توفيق الحكيم، ومسرح التغريبة الملحمية عند ألفريد فرج وجلال خوري. لكنّ "حفلة سمر من أجل 5 حزيران"، التي كتبها على امتداد سنتَي 1967 ـ 1968 وعُرضت للمرّة الأولى في دمشق سنة 1970، دشّنت طور النقلات الحاسمة التي أنزلت الراحل، مرّة وإلى الأبد، من الأبراج العاجية كافة.

وهكذا شهدنا "مغامرة رأس المملوك جابر"، 1971، حيث استخدم ونوس المادّة التاريخية لصناعة حكاية قادرة على إعادة إنتاج الحاضر في شكل إسقاطات سياسية واجتماعية معاصرة؛ و"سهرة مع أبي خليل القباني"، 1973، حيث اختار تقنية المسرح داخل المسرح وألوان الفرجة الشعبية وخيال الظلّ، لكي يوجّه النقد الشديد للخطاب الأصولي والمؤسسة الدينية المتحالفة مع السلطة؛ "والاغتصاب"، 1990، حيث بلغت شحنة الرسالة السياسية في النصّ المسرحي ذروة دراماتيكية جلبت على ونوس تهمة التبشير بالسلام مع إسرائيل؛ و"منمنمات تاريخية"، 1993، حيث يتعرّض المثقف العربي، ممثّلاً هنا بالمؤرّخ وعالم الاجتماع ابن خلدون، لنقد توبيخي بالغ القسوة؛ و"الأيام المخمورة"، 1996، حين أخذت المحنة الذاتية (داء السرطان) شكل يأس داخلي متعاظم يطمس قدرة الوعي على إدراك وتحليل اليأس الخارجي...

وتبقى تلك المفارقة التي شاءت أن تتصادف عروض باريس مع تاريخَين، يسجلهما يوم 15 أيار (مايو) ذاته: "النكبة" الفلسطينية، ونهار رحيل ونوس؛ فهل نضيف، أيضاً، الذكرى الثانية لتصريحات رامي مخلوف، صيرفي الفساد والاستبداد، حول ارتباط أمن إسرائيل بأمن النظام، وتصريحات بعض الإسرائيليين اليوم حول "الأسد الصديق"؟ والذكرى الثانية لاقتحام بلدة بانياس وقرية البيضا، والتنكيل بنسائها وأطفالها وشيوخها، على مرأى ومسمع من العالم، في الأرجاء ذاتها التي شهدت مؤخراً سلسلة مذابح التطهير الطائفي، على مبعدة كيلومترات قليلة من "حصين البحر"... مسقط رأس ونوس؟

الجمعة، 17 مايو 2013

أوباما وأكذوبة "الخط الأحمر": رخصة كلّ الخطوط الخضراء

في إجابة مستفيضة على سؤال من مندوب وكالة الصحافة الفرنسية، خلال مؤتمر صحفي جمعه مع رئيسة كوريا الجنوبية بارك غون هي، بدا الرئيس الأمريكي باراك أوباما أقرب إلى المزج بين تأويل موقف إدارته من الوضع السوري الراهن، وتبرير السمات السلبية التي يرى البعض أنها تكتنف ذلك الموقف، وإعادة التشديد على خلاصات عريضة سبق أن اعتبرها أوباما بمثابة ركائز كبرى لفلسفته الشخصية تجاه شؤون الشرق الأوسط عموماً. والأرجح أنّ ستيفن كولنسون، طارح السؤال، كان أوّل المندهشين من استفاضة أوباما هذه؛ إنْ لم يكن بسبب ميل الأخير إلى الاختصار الشديد كلما طُرح عليه سؤال مماثل حول سورية في الأسابيع الأخيرة، فعلى الأقلّ لأنّ سؤال كولنسون كان يحرج أوباما في نقطة محددة تستدعي "لفلفة" الإجابة، لا الاستفاضة فيها: أنّ "فشل" الولايات المتحدة في الردّ على انتهاك النظام السوري لـ"الخطوط الحمراء" التي رسمها الرئيس الأمريكي نفسه، إنما يشجّع كوريا الشمالية على انتهاك المزيد من تلك الخطوط.

كان الشقّ الأوّل من سؤال كولنسون يسير هكذا: "هل تملك الولايات المتحدة مصلحة قومية جوهرية لإيقاف المذبحة في سورية، أم هي رغبة أخلاقية صرفة لإنهاء العنف؟ وعند أية نقطة يكون ثمن عدم التدخل بطريقة مباشرة أكثر مما فعلتم حتى الآن، أعلى كلفة من التدخل؟". وفي جانب أوّل، ردّ أوباما هكذا: "أعتقد أنه يقع على عاتقنا واجب أخلاقي ومصلحة قومية أيضاً، في إنهاء المذبحة أوّلاً، وفي ضمان سورية مستقلة تمثّل كلّ الشعب السوري، ولا تخلق الفوضى للجوار، ثانياً. ولهذا كنّا خلال السنتين المنصرمتين ننشط في محاولة ضمان خروج بشار الأسد من المسرح، وأننا نستطيع البدء بسيرورة انتقال سياسي". بيد أنّ ترجمة هذا الخيار، كما جاء في تتمة كلام أوباما، غرقت مجدداً في متاهة العموميات: تقديم الدعم الإنساني، مساندة المعارضة، تعبئة المجتمع الدولي لعزل النظام، تزويد المعارضة بأسلحة غير فتاكة، ومواصلة "العمل الذي يتوجب علينا القيام به".

الولايات المتحدة ليست مكتوفة اليدين، إذاً، حسب أوباما؛ والإدارة تدرك "الأثمان الباهظة" التي تترتب على عدم القيام بشيء، ولهذا فإنها قامت وتقوم بالكثير؛ كما أنها تقيّم، وتعيد تقييم، ما يتوجب فعله من أجل "تحديد ملامح"، أو تسريع، "اليوم الذي يتيح لنا أن نرى وضعاً أفضل في سورية". لكنّ البيت الأبيض، والرئيس شخصياً، يتفهم "الرغبة في إجابات سهلة"، ولكنّ "الموقف هناك" لا يسمح بها: "مهمتي هي أن أزن المصالح الفعلية الحقيقية والشرعية والإنسانية لأمننا القومي في سورية، ولكن أن أزنها على أساس الخطّ الأساس الذي رسمته، وهو البحث عمّا هو أفضل لمصلحة أمن أمريكا والتأكد من أنني لا أتخذ قرارات مرتكزة على أمل وعلى صلاة، بل على تحليل صلب بمصطلح ما يجعلنا أكثر أماناً، ويكفل استقرار المنطقة".

وفي الالتفاف على "الخطّ الأحمر" الذي كان قد حدده بنفسه في تصريح شهير، اتكأ أوباما على طراز آخر من الترحيل إلى "التحليل الصلب"، فاعتبر أنّ استخدام الأسلحة الكيميائية في سورية ما يزال مسألة "تصوّر"، انطباعي على نحو ما، وليس حقيقة ملموسة تستند على أدلة مادية قاطعة. إدارته، استطراداً، ليست متأكدة نهائياً من عبور ذلك الخطّ الاحمر، ولهذا يصعب على البيت الأبيض "تنظيم تحالف دولي" حول أمر "مُتصوَّر" فقط؛ و"لقد جرّبنا هذا من قبل، بالمناسبة، فلم يفلح على نحو سليم"، قال أوباما، في إشارة (صائبة تماماً، ومحقة، في الواقع) تغمز من قناة سلفه جورج بوش الابن. مدهش، مع ذلك، أنّ هذا المنطق التأويلي يذهب مباشرة إلى منطق آخر تبريري، يؤكد أنّ إدارة أوباما تقرن القول بالفعل حين تتيقّن، أو حين تعلن اتخاذ موقف محدد، والدليل... بن لادن، والقذافي!

ذلك لأنّ خطّ الأسلحة الكيميائية الأحمر لم يكن الباعث المركزي خلف قرار أوباما الخاصّ بتصفية بن لادن، أو قيادة تحالف دولي ضدّ القذافي؛ وبالتالي فإنّ سَوْق المثالين لا يقدّم ولا يؤخر حول مصداقية أوباما، رئيس القوّة الكونية الأعظم؛ أو حول صلابة أو ميوعة، أو تماسك أو تخبط، موقف إدارته من الملفّ السوري. يُضاف إلى هذا حقيقة ساطعة، أخلاقية وإنسانية وسياسية في آن معاً، مفادها أنّ اقتصار أوباما على خطّ أحمر واحد، هو استخدام الأسلحة الكيميائية، أعطى بشار الأسد الضوء الأخضر لعبور كلّ الخطوط الحمراء التي يمكن أن تخطر على بال مجرم حرب دكتاتور: من المدفعية الثقيلة، إلى القصف الجوي، فالبراميل المتفجرة وصواريخ "سكود"، مروراً بمجازر العقاب الجماعي ومذابح التطهير الطائفي. هذا إذا تجاوز المرء تسريبات البيت الأبيض للصحافة الأمريكية، من أنّ خطّ أوباما الأحمر كان في الأصل زلّة لسان، أو خروجاً عاثراً عن النصّ، ولم يكن ركيزة معتمدة في موقف البيت الأبيض الإجمالي من الوضع السوري.  

بهذا المعنى فإنّ ذلك الموقف الإجمالي يظلّ متصفاً بالتخبط، لكي لا يتخيل المرء حال جمود مفضّلة عن سابق قصد وتصميم، تواصل انتهاج قاعدة الابتداء ذاتها، أي "الهبوط السلس"، التي تفترض أنّ النظام السوري ساقط لا محالة، طال الزمان أم قصر، ولا حاجة لأمريكا بتورّط جديد بعد افغانستان والعراق، ولا بأس من تلاوة صلاة تعاطف يانكية (على نقيض مزاعم أوباما!) لراحة الشعب السوري الذي يُقتل بالمئات كلّ يوم، ولراحة سورية التي يدمّرها نظام يرفع الشعار الفاشي الوحشي والبربري: "الأسد، أو نحرق البلد". وبهذا المعنى فإنّ أوباما لا يتهرّب من مسؤوليات القوّة الكونية الأعظم، أي تلك التي يتفاخر بها هو نفسه، وأسلافه من رؤساء امريكا، فقط؛ بل يسفّه تصريحاته الطنانة الرنانة ذاتها، أيضاً، ويُلقي بمصداقيته السياسية والأخلاقية إلى حضيض بائس.

وللمرء أن يعود بالذاكرة إلى مثل هذه الأيام، ولكن قبل أربع سنوات خلت، حين ألقى أوباما خطاب "الانفتاح على العالم المسلم"، من حرم جامعة القاهرة، فبدا بالغ الحرص على إعطاء صورة مخالفة، أو عكسية نقائضية أحياناً، للخطاب الرسمي الذي اعتمدته الإدارة السابقة، تجاه مسألة العلاقات الأمريكية مع العالم المسلم عموماً، ومسائل الشرق الأوسط بصفة خاصة. ولقد لوحظت آنذاك رغبة خفية، وأحياناً جلية تماماً، في توبيخ سلفه بوش الابن، ونائبه ديك شيني، ووزير دفاعه دونالد رمسفيلد، وعقائد المحافظين الجدد، أو حتى صمويل هنتنغتون وأطروحته حول صدام الحضارات، من جهة أولى؛ وفي الإيحاء، من جهة ثانية، بأنّ هذه الإدارة تختلف، أو سوف تخالف، ذلك الماضي الحزين، لاستشراف مستقبل أكثر سعادة، أو أقلّ حزناً.

غير أنّ الخطبة لم تأتِ بأي جديد ـ مفصّل، ملموس، أو انعطافي ـ في ما يخصّ القضية الأكبر التي عكّرت وتعكّر علاقات الولايات المتحدة بالعالم المسلم: انحياز الولايات المتحدة الأعمى لدولة إسرائيل، على حساب حقوق الشعب الفلسطيني، في انتهاك صارخ دائم لكلّ ما يتشدق به قادة أمريكا أنفسهم حول قرارات الشرعية الدولية، واستهتار بالمصالح الأمريكية الستراتيجية ذاتها. وكما أنّ الحديث عن تجميد المستوطنات لم يكن جديداً (وكان جيمس بيكر، وزير الخارجية في إدارة بوش الأب، أشطر فيه بما لا يُقارَن، حين ذكّر حكومة إسحق شامير بأرقام هواتف الخارجية الأمريكية، قائلاً: حين تكونون جديين حول السلام، اتصلوا بنا!)؛ فإنّ إطراء التسامح في الإسلام، وامتداح الشعر العربي والعمارة الإسلامية، والإعراب عن احترام حقّ المراة المسلمة في ارتداء الحجاب، واقتباس القرآن والتلمود والإنجيل... لم تصنع أيّ فارق بالقياس إلى ما قال وفعل السابقون من رؤساء أمريكا في الأحقاب الراهنة.

كذلك فإنّ حرص أوباما على طيّ صفحة المبدأ الذي اعتمدته الإدارة السابقة، حول فرض الديمقراطية عن طريق التدخّل في شؤون الأمم الأخرى (وهو المبدأ الذي كان خاطئاً في الأصل، ونفاقياً دعاوياً صرفاً لم يُطبّق أيّ من عناصره على أرض الواقع، في أيّ بلد)، بمثابة تحصيل حاصل لحال من الفشل الذريع. ولقد بدا أوباما وكأنه يأخذ الشعب الفلسطيني بجريرة خياره ـ الذي كان ديمقراطياً حرّاً تماماً، بشهادة كلّ المراقبين ـ في تفويض منظمة "حماس" سياسياً، ومنحها أغلبية مطلقة في المجلس التشريعي الفلسطيني. لكنه، بمعزل عن هذه المسألة التي فاحت فيها روائح انقلاب الديمقراطيات الغربية على جوهر مبادئها بصدد صندوق الاقتراع، تفادى الحديث عن معضلة الخيارات الديمقراطية في ظلّ صعود الإسلام السياسي، وكيف ستتعامل إدارته مع احتمالات تفويض حكومات أخرى إسلامية التوجّه، إذا امتلك الشارع العربي حقّ التصويت الحرّ.

وأخيراً، إذا كان أوباما قد أعلن أنّ محاربة التنميطات المسبقة السلبية عن الإسلام هي بعض مسؤوليته كرئيس للولايات المتحدة، فهل تكفي مهمة كهذه ـ بافتراض أنها حققت أية نسبة من النجاح، عملياً أو حتى نظرياً ـ في إنزال إسرائيل من ذلك المقام الفريد الذي تتنعم به؟ أو تكفي لإحقاق حقوق الفلسطينيين، ليس كما يحلمون بها أو يطمحون إليها، بل كما نصّت عليها تفاهمات ومواثيق مثل "خريطة الطريق"، في أقلّ تقدير؟ أو تكفي لكي تنقلب خيارات الولايات المتحدة العتيقة في المنطقة، في حماية الدكتاتوريات وأنظمة الاستبداد والفساد، ضماناً لمصالح أمريكا في تأمين النفط وحماية إسرائيل والتواجد العسكري في المنطقة؟ أو تجعل سفك دماء الأبرياء خطاً أحمر لا يجوز لأيّ مستبدّ أن يتجاوزه، أياً كان السلاح الذي يقتل ويدمّر؟

ويبقى ما قيل في مناسبات سابقة، ونقوله اليوم أيضاً، من أنّ محترفي التضليل، فضلاً عن الحمقى والسذّج، هم وحدهم الذين يساجلون بإنّ الإدارة الأمريكية، هذه أو سواها، يمكن أن تكون سعيدة بما شهدته الشوارع العربية من انتفاضات. هي، كذلك، ليست حزينة جرّاء الانتكاسات ومظاهر الثورة المضادة هنا وهناك، وبالتالي لا تزمع مساعدة الشعوب في مشاريعها الديمقراطية، كما يسير الزعم الرسمي، بل لعلها ترقب تلك الانتكاسات بعين الرضا، وحسّ الاستثمار. ولهذا، وبعد الاتكاء على تجارب الشعوب مع الولايات المتحدة، خيرٌ للتدخل الأمريكي أن لا يأتي أبداً، من أن يأتي منطوياً على أجندات لا تخدم، في المقام الأوّل، إلا المصالح الأمريكية؛ وتبدأ مفاعيلها الأولى من خدمة الطاغية، وإسباغ صفة "وطنية" و"مقاوِمة"، على موقفه إزاء أنساق التدخل الخارجي.

.. أو ترسم له ذلك الخطّ الأحمر الوحيد، الذي يطلق كلّ ضوء أخضر وحشي، لكلّ يدٍ مضرجة بدماء الأبرياء!

الثلاثاء، 14 مايو 2013

وفاة العرب؟

 في مثل هذه الأيام، قبل عشر سنوات، نشر الأديب والدبلوماسي السعودي الراحل غازي القصيبي (1940 ـ 2010) قصيدة بعنوان طويل، غير عادي: "من غازي القصيبي إلى نزار قباني الذي سأل: متى يعلنون وفاة العرب". ولعلّ المقطع الاستهلالي، في القصيدة، يلخّص موضوعها ونبرتها: "نزار! أزفّ إليك الخبر/ لقد أعلنوها.. وفاة العربْ/ وقد نشروا النعي.. فوق السطور/ وبين السطور.. وتحت السطور/ وعبر الصُوَر!/ وقد صدر النعي/ بعد اجتماع يضمّ القبائل/ جاءته حِمْيَرُ تحدو مُضَرْ/ وشارون يرقص بين التهاني/ تَتَابُع من مَدَر أو وَبَرْ/ وسام الصغير.. على نوره/ عظيم الحبور.. شديد الطرب".

والمقاطع اللاحقة من القصيدة، التي تبلغ 64 سطراً، تواصل تطوير هذا المزيج الرثائي ـ الهجائي العنيف، الذي يمتدّ ليشمل الإعلام العربي ("تلفازنا مرتع الراقصات/ فكَفْلٌ تثنّي.. ونهدٌ نَفَرْ")؛ والنشاط الفكري العربي (المنصبّ على "عقد مؤتمرات تباهي بعولمة الذلّ")؛ والعلاقة العربية مع العالم ("في دزني لاند جموع الأعاريب"، و"لندن ـ مربط أفراسنا/ مزادُ الجواري.. وسوق الذهب"، وفي "الشانزليزيه سددنا المرور/ منعنا العبور")؛ وافتقاد المعتصم، وجيش ابن أيوب، وبيبرس "الذي يقضي إجازته/ في زنود نساء التتر"؛ وصولاً إلى الوعّاظ الذين "يرقبون الخلاص/ مع القادم.. المرتجي.. المنتظر". وأمّا في اختتام القصيدة، فإنّ القصيبي يبلغ الذروة في تأجيج المزيج إياه: "نزار! أزفّ إليك الخبر/ سئمتُ الحياة بعصر الرفات/ فهييء بقربك لي حفرة!/ فعيش الكرامة تحت الحُفَرْ".

وقد يجادل المرء، باديء ذي بدء، بأنّ القصيدة لم تكن تحرّض على اليأس تماماً، وتلك نقطة في صالح شاعرها، رغم أنها كانت تتصادى مع الأجواء الدراماتيكية التي أعقبت هزيمة 1967، حين أخذ نعي العرب وهجاؤهم ونقدهم يمتزج بحال ساحقة من التيئيس والتأثيم، والحضّ على الإحباط، ونفض اليد من المستقبل. وإذْ أعلن القصيبي وفاة العرب، على هيئة تناصّ مع الشاعر السوري الكبير الراحل، فقد كان جلياً تماماً أنّ العرب الذين ماتوا في قصيدته هم نماذج من نوع محدّد، أقلّ من الأقلّوي: سلطان تابع للعمّ سام الصغير، إعلامي منافق مبتذل، مفكّر صغير متصاغر، ثريّ مبذّر بهيميّ الغرائز... ويصعب أنّ هؤلاء كانوا تمثيل جمهرة العرب، في تلك الحقبة، أو في أزمنتنا الراهنة!

كذلك فإنّ قصيدة القصيبي كانت في الواقع تحيل إلى قصيدة أخرى لنزار قباني، أقلّ شهرة ربما، ولكنها ليست أقلّ حرقة وحدّة ومرارة؛ هي "قرص الأسبرين"، وفيها يقول: "إياكَ أن تقرأ حرفاً من كتابات العرب/ فحربهم إشاعة وسيفهم خشب/ وعشقهم خيانة ووعدهم كذب/ إياكَ أن تسمع حرفاً من خطابات العرب/ فكلّهم نحوٌ وصرفٌ وأدب/ ليس في معاجم الأقوام/ قومٌ اسمهم عرب". ومن جانبي، كدارس نصّ شعري، اعتبرت أنّ التناصّ بين القصيبي وقباني لا يؤشّر على تجذّر اليأس في الوجدان العربي، بقدر ما يدلّ على اتضاح ـ وربما، في مقام آخر متمم: افتضاح ـ الأسباب الجذرية الحقّة التي وقفت وتقف خلف اليأس.

ولم يكن بالأمر العابر، والحقّ يُقال، أن يفصح شاعر سعودي (كان في الآن ذاته وزيراً!) عن كلّ ذاك المقت للعمّ سام الأمريكي، ولأتباعه الحكّام والأفراد من بني العرب. فكيف إذا كانت تلك الحقبة الأمريكية تحتشد بفكر، وممارسات، الصقور الأشدّ شراسة ضمن تيارات المحافظين الجدد في أمريكا؛ وكانت المناخات تمهّد لغزو العراق، بذرائع شتى، يختلط فيها الترهيب (أسلحة الدمار الشامل)، بالترغيب (نقل "فيروس الديمقراطية"، قسراً، إلى الجسم العربي العليل).

وبين مصائر هذا الطراز من الأغراض الشعرية، أو بالأحرى ذلك المزيج الرثائي ـ الهجائي الذي دشّنه قباني في قصيدته الشهيرة "هوامش على دفتر النكسة" (وفي صدرها يقول: "أنعي لكم.. كلامَنا المثقوب، كالأحذيةِ القديمة.. ومفرداتِ العهرِ، والهجاءِ، والشتيمة")؛ أنه حمّال أوجُهٍ متغايرة، وبالتالي حمّال أزمنة متقلبة: تارة يفضي إلى جلد الذات والتقوقع، وطوراً إلى الانتفاض على اليأس والسعي إلى النهوض. وهكذا قد يرى قارىء أوّل أنّ عقداً من السنين قد مرّ على العرب، وما زالت قصيدة القصيبي (أو قصيدة قباني، بعد 46 سنة!) تُثقل بكاهلها على واقع كريه مرير، لا يشير إلا إلى أوان إعلان وفاة العرب. وقد يرى قارىء ثانٍ أنّ العكس هو الصحيح، لأنّ انتفاضات العرب الراهنة قد تنطوي على انتصار هنا أو انكسار هناك، ولكنها ليست أقلّ من عودة الروح إلى الجسد.

وعلى نحو خاصّ، بسبب الخذلان العربي الواسع، قد يشعر السوريون أنّ العرب ماتوا، أو يموتون، إذْ يتفرجون على ما يرتكبه النظام السوري من مجازر وحشية، وما يستخدمه من أسلحة فتاكة، وما يتصف به سلوكه العنفي من استهانة وعربدة. ولهذا كُتبت، ولعلها تُكتب كلّ يوم، قصائد كثيرة تنتهج الغرض ذاته، بعد أن تضيف المزيد إلى مرارات العقود التي انصرمت، بعد قباني والقصيبي. وذلك، كله، لا يرجح كفّة على أخرى بالضرورة: لا وفاة العرب، ولا عودة الروح إليهم؛ لأنّ التاريخ أبعد ما يكون عن هذه الثنائية الجامدة، وأقرب إلى ترجيح جدلية الحياة... حتى في ذروة مظاهر الموات!

الخميس، 9 مايو 2013

التفاهمات الروسية ـ الأمريكية: خوض عقيم في مستنقعات راكدة

خير للمرء أن يبدأ من قاعدة قياس بسيطة، لكنها جبّارة في مدلولاتها، الوظيفية بصفة خاصة، والراهنة تحديداً؛ ذات شقّين، متلازمين بالمعنى الجدلي، وإنْ بدا أنهما على تناقض: الشقّ الأوّل هو أنّ الانتفاضة السورية لم تنطلق، حين انطلقت قبل 26 شهراً ونيف، بإذن من الولايات المتحدة، بل العكس كان هو الصحيح، إذْ كانت واشنطن تتمنى بقاء أنظمة الاستبداد والتوريث والفساد والتبعية، في تونس ومصر وليبيا واليمن وسورية؛ والشقّ الثاني، المتمم، هو أنّ روسيا لم تكن على اتفاق أو توافق مع أمريكا، من طراز يُذكّر بـ"وفاق" العقود الأخيرة من الحرب الباردة، حول سُبُل ملاقاة الانتفاضة السورية، بل انتفاضات العرب عموماً.

تطبيق أوّل لقاعدة القياس هذه يمكن أن يعطي النتيجة المنطقية التالية: ليس انتصار الانتفاضة السورية على نظام الاستبداد والفساد، وبالتالي ليس انكسارها أو انتكاسها أو تعقّد مشهدها، على أصعدة داخلية، وطنية وسياسية وعسكرية، وأخرى إقليمية ودولية، مرهوناً باتفاق أمريكي ـ روسي من أيّ نوع؛ أو، على نحو ملموس أكثر، من النوع الذي تردد أنه نجم مؤخراً عن لقاء وزيرَي خارجية البلدين، جون كيري وسيرغي لافروف في موسكو. صحيح أنّ أية صفقة حول الشأن السوري بين واشنطن وموسكو، أو أيّ من قوى الكون العظمى الأخرى، يمكن أن توثر سلباً أو إيجاباً على واقع الأرض والمجريات اليومية في الانتفاضة السورية؛ إلا أنها ليست العامل المرجّح الأوّل، وليست عنصر الحسم في كلّ حال، فمَن لم يكن أصل البدء في أمر، ليس له أن يكون الأصل في اختتامه، بحكم المنطق البسيط بالطبع، ولكن انحناءً أيضاً أمام إرادة الشعب السوري وتضحياته وقراره بطيّ صفحة النظام، مرّة وإلى الأبد.

وهكذا، إذا كان المرء متعاطفاً مع النظام السوري، أو حتى كارهاً لممارساته الوحشية ولكنه "ممانع" معادٍ لأمريكا؛ فإنه سيطرب إزاء اتفاق كيري ولافروف على خطط لعقد مؤتمر دولي يجمع النظام والمعارضة، وسينطوي الطرب على إحساس بأنّ هذا التوافق الأمريكي ـ الروسي هو في صالح بشار الأسد. أمّا إذا كان امرؤ آخر معارضاً للنظام السوري، فسيقرأ المشهد من زاوية مناقضة تماماً، إذْ سيعتبر أنّ موسكو هي التي أخذت تميل إلى التنازل، بدليل تصريح لافروف: "لسنا مهتمين بمصير بعض الأشخاص. نحن مهتمون بمصير الشعب السوري بأسره"؛ وتصريح كيري في روما، اليوم التالي: "بشار الأسد لا يمكن أن يشارك في حكومة انتقالية سورية". وثمة، في القراءتين معاً، استسهال تحليلي يتيح التسرّع في استخلاص النتائج، ويغيّب سلسلة اعتبارات أخرى أكثر صلابة، وأشدّ واقعية، اقترنت بلقاء موسكو هذا، وربما بأيّ تفاهمات حول الملفّ السوري يمكن أن تتفق عليها أمريكا وروسيا. 

وهكذا، إذا كان امرؤ ثالث أقرب إلى ترجيح تجارب التاريخ في الماضي والحاضر، فالأرجح أنه سوف يبدأ من وقائع الانتفاضة السورية ذاتها، وتطوراتها اليومية (خاصة بعد مجازر البيضا ورأس النبع في بانياس، وانخراط الميليشيات الموالية في عمليات تطهير طائفي تبدأ من قرى ذات أغلبية سنّية في قلب الأغلبية العلوية)، وأوضاع النظام العسكرية والأمنية والسياسية (الارتهان، أكثر فأكثر إلى إيران و"حزب الله"، والعجز الفاضح أمام الغارة الإسرائيلية، وخسران المزيد من المواقع العسكرية في ريف دمشق وحوران والجولان وحمص وإدلب وحلب...). ليست هذه معطيات نظام ظافر، أو مستقرّ القوة، أو حتى مرتاح في معاركه؛ وإلا فما الذي يقذف به إلى مزيد من السيناريوهات الانتحارية (كما في تسعير استعداء الأغلبية السنّية عبر ارتكاب مجازر وحشية وبربرية جديدة)، أو المهازل المبتذلة (كما في الردّ على الغارة الإسرائيلية عن طريق السماح لـ"المقاومة الفلسطينية" بالعمل انطلاقاً من الجولان المحتلّ).

ولعل المرء ذاته سينتقل إلى الخيار الوحيد، العالق والجامد، الذي يتأكد أنّ موسكو صارت منحصرة فيه، وأسيرة معادلاته الخاسرة التي لم تعد تليق بقوّة عظمى، أي الاستمرار في مساندة نظام لا تتداعى أركانه ركناً بعد آخر، منذ سنتين، فحسب؛ بل سار، ويسير حثيثاً، نحو سيناريوهات تأزيم محلية وإقليمية ودولية لا تملك موسكو رفاه الوقوف مكتوفة اليدين أمام تداعياتها. وبمعزل عن حصيلة كهذه، بائسة وفقيرة في خدمة مصالح دولة عظمى تعطّلت علاقاتها، أو تجمدت، مع دول عربية وخليجية فاعلة اقتصادياً وسياسياً؛ فإنّ روسيا تدرك جيداً أنّ تقوية التيارات الإسلامية والجهادية المتشددة المقاتلة ضدّ النظام في سورية، سرعان ما ستُترجم آثاره الكارثية على امتداد الجمهوريات الإسلامية في الاتحاد الروسي، وسينقلب إلى بؤر قتال ضدّ موسكو، لن تكون اقلّ من حاضنات تشدّد قصوى هي آخر ما يشتهيه الكرملين... ثمناً لنظام بشار الأسد!

مفيد، إذاً، التذكير هنا بأن العلاقات الروسية مع النظام السوري، في عهد الأسد الوريث بصفة خاصة، ظلت تحصيل حاصل متفق عليه، ويحظى بإجماع طبيعي؛ لولا أنّ ما معادلات خافية اكتنفتها ورسّخت منطقاً آخر مختلفاً، لعلّه أطاح بقسط لا بأس به من معنى الحصيلة ذاتها. ذلك لأنّ النظام كان يمدّ يد الصداقة إلى موسكو، ولكنّ القلب يتلهف على تحسين العلاقات مع واشنطن، قبلئذ وبعدئذ وفي الغضون؛ فهذه اكتسبت الأولوية على المستوى العملي التكتيكي، بل حدث أنها صارت غاية عليا على المستوى الستراتيجي كذلك. وموسكو لم تجهل هذا، كما للمرء أن يتخيّل، فكانت تقيم التوازن مع النظام على هذا المعيار، منذ ولاية فلاديمير بوتين الأولى، وحتى سنة 2005 عندما قرّر الأسد اتخاذ خطوة نوعية تجاه موسكو بعد أن ضاقت به سبل ترطيب الأجواء مع واشنطن.

عمود ثانٍ في معمار "صداقة" موسكو مع النظام هو أنّ العلاقات الروسية ـ الإسرائيلية صارت أفضل حالاً من العلاقات الروسية ـ السورية، لا سيما في عهد رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق أرييل شارون، الذي خالف الولايات المتحدة ومعظم الدول الغربية في رفض إدانة سياسة الحديد والنار التي اعتمدتها موسكو في بلاد الشيشان، بل لجأ إلى النقيض فباركها وامتدحها. ولعلّ واقعة قيام بوتين بزيارة إسرائيل ومصر، ولكن ليس سورية، في نيسان (أبريل) 2005، أي بعد أقلّ من ثلاثة أشهر على زيارة الأسد إلى موسكو (حين لاح أنّ العلاقات عادت متينة، بدليل استعداد موسكو لتزويد سورية بصواريخ ارض ـ جوّ متطورة)؛ كانت بمثابة تذكرة صارخة بأنّ المياه لم تعد تماماً إلى مجاريها، وأنّ خيار الأسد في اللعب على حبال روسية، لشدّ انتباه المتفرّج الأمريكي أساساً، لم تكن خافية على موسكو.

عمود ثالث، جيو ـ سياسي بامتياز، إقليمي ودولي، هو أنّ موسكو تضع العلاقات مع النظام السوري في إطار الفلسفة ذاتها التي أخذت تقود نهج روسيا على امتداد المنطقة، والتي تقوم على قاعدة أولى بسيطة: نحن أصدقاء مع الجميع، أنظمة "الاعتدال" مثل أنظمة "الممانعة"، وإسرائيل مثل إيران، و"حماس" و"حزب الله" مثل السلطة الوطنية الفلسطينية وجماعة 14 آذار في لبنان... والفيصل في هذا كلّه هو مصالحنا الاقتصادية العليا، وهذه وفيرة ويمكن أن تكون مجزية تماماً، من جهة أولى؛ فضلاً عن اكتساب سكوت الشارع العريض المسلم، السنّي بصفة خاصة، عمّا ارتكبته وترتكبه موسكو من مجازر وأعمال قمع في بلاد الشيشان، من جهة ثانية. ولهذا فإنّ واحدة من أشهر الحماقات التي تكفلت بتعكير صفو العنصر الأخير، كان تصريحات لافروف، في آذار (مارس) 2012، أنه "إذا انهار النظام القائم في سورية، فسيغري هذا بعض بلدان المنطقة بإقامة نظام سني في البلد"، وهذا سوف "يؤثر على مصير المسيحيين والأكراد والعلويين والدروز، وهو الأمر الذى قد يمتد إلى لبنان والعراق"!

البيت الأبيض، من جانبه، يتلهف على تحريك المياه الراكدة، في مستنقع أغرق الرئيس الأمريكي باراك أوباما نفسه فيه، حين تحدّث عن "خطّ أحمر" يمثّله استخدام النظام السوري للأسلحة الكيميائية، وأنّ تجاوز ذلك الخطّ سوف يغيّر قواعد اللعبة. الآن يسرّب مساعدو الرئيس، كما فعلوا مع تحرير "نيويورك تايمز" مثلاً، أنّ أوباما تسرّع فارتجل عبارة "الخطّ الأحمر"، وأنها تسرّبت إلى تصريحاته من وحي قاموس التسخين اللفظي المعتمد في الحديث عن البرنامج النووي الإيراني. ولكن هيهات أن تفلح تسريبات كهذه في إرضاء أمثال السناتور جون ماكين، الذي يريد من رئيس القوة الكونية العظمى أن يكون جديراً بالمنصب، وأن يصدق في  ما يقول، وفي ما يعد (وهذا، في الواقع، ما أخذ أوباما يشدد عليه في الآونة الأخيرة، كلما سنحت فرصة لمخاطبية الصحافة).

أمّا في الجوهر، فإنّ موقف إدارة أوباما من الانتفاضة السورية حكمه التقدير التالي: تأجيل الحسم، حتى تتضح الصورة أكثر (خلال الأشهر الأولى لانطلاقة الانتفاضة)؛ وحتى تفعل عوامل تفكك النظام فعلها تلقائياً، حسب مبدأ "الهبوط السلس" (خلال الأشهر الوسيطة)؛ ولكي لا يكون للملفّ أيّ تأثيرات سلبية على إعادة انتخاب أوباما، أو المساس بصورته كقائل بعقيدة الامتناع عن زجّ أمريكا في حروب جديدة بعد الخروج من أفغانستان والعراق. وليس عسيراً تلمّس مجموعة الأسباب التي قادت البيت الأبيض إلى هذه المراوحة في الحسم، والتي يراها البعض حال تردّد (لا يراوح في الجوهر، بقدر ما يركن إلى تاريخ طويل من حسن العلاقات مع نظام "الحركة التصحيحية"، وضآلة الرغبة في المراهنة على نظام سواه، قد تكتنفه مجاهيل كثيرة)؛ أو حال تجميد ذاتيّ (يكتفي بالعقوبات، والضغوط الدبلوماسية، والتصعيد اللفظي، وتشجيع الحلفاء الأوروبيين، والإيحاء باحتضان المعارضة).

وهكذا، كان اللقاء الروسي ـ الأمريكي في موسكو مؤخراً، وإعلان الاتفاق على مؤتمر دولي لبحث أوضاع سورية، "يُعقد في أسرع وقت ممكن" كما قيل، هو أحد الحلول الدراماتيكة للإيحاء بتحريك مياه المستنقع الدبلوماسي الأمريكي، والإيحاء بأنّ أوباما عند كلمته، ومصداقيته ليست محلّ تشكيك. أمّا على الجانب الروسي، فإنّ موسكو كانت بحاجة لاسترداد بعض ماء الوجه، في أعقاب الصفعة التي مثّلتها الغارة الإسرائيلية على نظام يُفترض أنه "حليف"؛ وبحاجة، أيضاً، إلى تأكيد حضورها في الملفّ السوري، بعد أن بدا وكأنّ إيران تلتهم النظام السوري قطعة قطعة.

ولعلّ من الخير، هنا أيضاً، التذكير بعُرف شائع في الدبلوماسية العالمية، أفاد على الدوام بأنّ اللجوء إلى عقد مؤتمرات دولية حول أزمات عالقة، لا يعني دنوّ الحلول بالضرورة، بل قد يعني العكس تماماً: أنّ الحلول غائبة، ويتوجب التنقيب عنها عبر الخوض في... مستنقعات راكدة!

الاثنين، 6 مايو 2013

يوسف اليوسف: يخضور فلسطين السورية

كان ينبغي لإغماضة عينيه الأخيرة أن تكتمل في لوبية، قضاء طبرية، مسقط رأسه؛ وذاك منتهى توق الفلسطيني الذي شُرّد عن وطنه، ومرتع صباه، سنة 1948، في مستهلّ النكبة. أو، عند مشتهى أقلّ، كان من حقّ العينين أن تُغمَضا على مشهد سوري ـ فلسطيني في شارع الجاعونة، مخيّم اليرموك الدمشقي، حيث وفد مع أسرته سنة 1956، ودرس، وتخرّج من جامعة دمشق، ثمّ درّس وكتب وتألق. لكنّ أحقاد النظام السوري على المخيّم، واستهدافه بقصف مدفعي وصاروخي شبه يومي، شاءت ردّ الناقد الفلسطيني الكبير يوسف سامي اليوسف (1938 ـ 2013) إلى لبنان، المحطّة الأولى في أوديسّة الراحل؛ وإلى مخيّم نهر البارد تحديداً، غير بعيد عن "ويفل"، تلك الثكنة الفرنسية القديمة التي حُوّلت إلى ملجأ للفلسطينيين.  

ومنذ أواسط السبعينيات، باندفاع أمضى أعقب صدور كتابه الاختراقي الممتاز "مقالات في الشعر الجاهلي"، جاهد اليوسف من أجل الانتصار للمثال الأعلى ـ الصافي والراقي والمتسامي والمتعالي... حسب مفرداته الأثيرة ـ في ما اعتبر أنه جوهر "الشعر العظيم". وأغلب الظنّ أنه كان بين آخر الفرسان، الكبار النبلاء، المنتمين إلى مدرسة في التحليل النقدي لا ترى غضاضة في إعلاء شأن المثال والمثالية في النموذج الشعري؛ ولعلها أيضاً، وهذا تفصيل هامّ واستثنائي في آن، لم تخضع، البتّة، لمختلف ضروب "الإرهاب" الفكري، القدحي والتشهيري والابتزازي. ولم يكن الراحل بين آخر هؤلاء الفرسان على مستوى عربي، فقط، بل على مستوى عالمي أيضاً.

واليوسف كان مثالياً، باعتزاز شخصيّ جدير بالانتباه والاحترام، ليس في ما يتّصل بمنهجيته المفتوحة في قراءة النصّ الشعري قديمه وحديثه، فحسب؛ بل كان رسولياً في دفاعه عن سلسلة مصطلحات أقرب إلى أحجار الأساس عنده: الروح، الوجدان، الذائقة، القيمة وحكم القيمة، المعيار، الخيال، وحرية الخيال. وهو لم يتلعثم، بل توقّد يقيناً وانحيازاً، حين كتب: "الجرعة الوجدانية هي العنصر اليخضوري الفعال في تحديد قيمة النصّ الأدبي"، أو: "الحميم هو المحتوى الأوّل لكلّ أدب عظيم"، أو: "في الحقّ أنّ كلّ نصّ أدبي هو استحضار لصباغ عصره، أو لما يستتبّ في ذلك العصر من ماهية. وهذا يتضمن ما فحواه أنّ النصّ البكر لا ينتجه إلا عصر بكر، أو طور تاريخي لم يرضخ بعد لشيخوخة الروح. وفي صلب الحقّ أن عصرنا الراهن لم تعد له أية بكارة، مهما تك نسبتها، ولهذا فلست أحسبه شديد القدرة على إنتاج الكثير من الأدب الأصيل"!

الاقتباسات السابقة تتيح الوقوف على عنصرين، في لغة اليوسف: الجرعة المثالية، المتسامية والشجاعة معاً، وراء مواقفه من واجبات ولادة، وقراءة، النصّ الشعري؛ وخصوصية قاموسه النقدي، ذلك المزيج الناجح من الفصحى العالية، التي تتقعرّ لغوياً عن سابق قصد، دون أن تفقد طلاوتها وسحرها وطرافتها؛ والفصحى الفلسفية الميسّرة، التي تغرف من معين التراث الصوفيّ إجمالاً، ومن ابن عربي والحلاج بصفة خاصة.

وهكذا فإنّ قرّاء اليوسف باتوا على ألفة مع سلسلة مفردات، نحتها الراحل وارتقى بها إلى مستوى المصطلحات الصانعة للعدّة التحليلية؛ وأحسب، شخصياً، أنها ألفة لم تخلُ من مشقّة معجمية وتركيبية أحياناً، ولكنّ مثوبتها كبيرة وقائمة في كلّ حين. فإلى جانب مصطلحه الشهير حول "البرهة الطَلَلية" في القصيدة العربية الجاهلية، شاعت في كتابات اليوسف عبارات مثل "تهجّس أسرار الوجود"، و"حوزة السداد"، و"تسريح النفس"، و"الرحم الراخم في اللغة"، و"لباب الإنسان"، و"مملكة الهيف والدماثة"، و"عرام الأدب"، و"الألطاف الحسنى"، و"استنباع اللغة... وهذا الرجل، الذي يتفق العارفون على حقيقة أنه أفضل مَن ترجم ت. س. إليوت إلى العربية، بدا في الشعر منذهلاً إلى دانتي أليجييري وشكسبير، أكثر من و. ب. ييتس وإزرا باوند وإليوت.

ولست، شخصياً، بين الذين ينقبّون في الشعر عن المثال المتسامي المتعالي وحده؛ كما أنني لا أجد أنّ المآلات التاريخية المعقدة التي أفضت إلى أفول نجم الفلسفة المثالية، وربما في مواقفها من الوجود والفنّ بصفة خاصة، يمكن أن تشهد "صحوة" إعجازية تعيدنا أكثر من قرنين إلى الوراء. ولذلك أختلف في كثير، وليس في قليل فقط، مع آراء اليوسف حول ماهية الشعر، و"رَوْحَنة" الظاهرة الإبداعية، وتحويل الهاجس الميتافيزيقي إلى قلبٍ وقالبٍ للعمل الإبداعي.

غير أنّ اختلافي هذا لا يحجب، بأيّ مقدار، احترامي البالغ لمنجز اليوسف النقدي النظري، وكذلك التطبيقي (وأخصّ بالذكر كتابه التطبيقي "الشعر العربي المعاصر"، 1980، وفيه دراسات عن السياب، و"الشعر المقاوم"، فضلاً عن اثنتَين من أعمق الدراسات في شعر أدونيس)؛ ولطرائقه المستقلّة في البرهنة على ما يجيش في روحه (ولست أعني المجاز هنا، بل أقصد المعنى الحرفي) من قلق نبيل حول واقع الشعر؛ ولثقافته العميقة، السمحة والتعددية، التي ساعدته في أن لا يتعصّب ولا ينتبذ ولا يجرّم؛ ولدأبه، طيلة ثلاثة عقود ونيف، على خوض الحملة تلو الحملة، انتصاراً للشعر العظيم.

رحيله في نهر البارد لا يُخمد شيئاً من طاقاته اليخضورية التي استولدت مشهداً نقدياً وفكرياً وثقافياً عميقاً، فيه امتزجت "رعشة المأساة" الفلسطينية بأكثر من "برهة طللية"، في "عرام" تاريخ سورية المعاصرة. 

الجمعة، 3 مايو 2013

قراءة في خطاب نصر الله الأخير: ضاقت العبارة واندثر "الوعد الصادق"

خلال شهر نيسان (أبريل) المنصرم، لقي أكثر من 3300 مواطن سوري حتفهم على يد قوّات النظام السوري الموالية، أو أجهزته الأمنية المختلفة، أو قطعان الشبيحة وميليشيات ما يُسمّى بـ"اللجان الشعبية" المسلّحة، أي بمعدّل 138 مواطناً كلّ يوم، وفق إحصائيات "الشبكة السورية لحقوق الإنسان". بين هؤلاء، 377 طفلاً (بمعدّل 13 يومياً)، و176 قضوا تحت التعذيب (ستة معتقلين في اليوم). هل كان لهذه الأرقام أيّ حظّ في احتلال كلمة واحدة من إطلالة حسن نصر الله، الأمين العام لـ"حزب الله"، على شاشة المنار، قبل أيام؟ كلا، بالطبع، لأنّ مساحة التباكي على سورية انحصرت عنده في أفعال المعارضة المسلحة؛ وليس، البتة، في ما ارتكبه ويرتكبه النظام السوري من جرائم وحشية، كلّ يوم، بل كلّ ساعة.

وخلال الشهر ذاته، قصف النظام مئذنة الجامع الأموي الكبير في حلب، أحد أهمّ المواقع الأثرية والتاريخية الإسلامية في سورية، والذي يعود تشييده إلى سنة 96 للهجرة، 716 ميلادية؛ وقبل هذا كانت عمليات قصف أخرى قد ألحقت أضرار بالغة بجدران الجامع، فهُدم بعضها أو تشقق أو احترق. وكانت أبشع واقعة تخريب ضدّ الجامع قد سُجّلت باسم إمبراطور الروم نقفور فوكاس، سنة 962 ميلادية؛ كما تعرّض لتخريب على أيدي التتار، بأوامر من هولاكو، عند اجتياح حلب سنة 1260. وفي درعا، خلال شهر نيسان أيضاً، قصف النظام مئذنة الجامع العمري، ويُنسب بناؤه إلى الخليفة عمر بن الخطاب عند زيارته إلى حوران، وتُعدّ مئذنته الأولى التي تُشيّد في بلاد الشام؛ ومنه انطلقت التظاهرات الأبكر في درعا، ساعة انطلاقة الانتفاضة السورية هناك، يوم 18 آذار (مارس) 2011. فهل كان للمئذنتين حظّ، مقدار كلمة واحدة يتيمة، في حديث نصر الله المستفيض عن مقام السيدة زينب، وما يمكن أن يتعرّض له من أخطار على يد "التكفيريين"؟ أليس للجامع الأموي في حلب، وللجامع العمري في درعا، "حساسية مفرطة جداً وبالغة جداً"، كما يصف نصر الله حال المقامات الشيعية الشريفة الأخرى؟

هنا نموذجان، لا أكثر، على سوية انحياز نصر الله إلى صفّ النظام السوري، ليس في مسائل سياسية أو عسكرية (إذْ أنّ مواقفه في هذه الميادين ليست بحاجة إلى استقراء، فهي قديمة قاطعة، وثابتة راسخة... كما عبّر ويعبّر مراراً)؛ بل في مسائل إنسانية، تخصّ معدّلات القتل؛ ومسائل روحية تشمل المقدّسات والمقامات الشريفة عند أهل السنّة، الذين يحلو لنصر الله مساواتهم بأهل الشيعة؛ وثالثة رمزية، تخصّ تراث السوريين، وتاريخهم، وآثارهم. كان في وسع الأمين العام لـ"حزب الله" أن يبدي الأسف، ليس أكثر، على الجامعَين والمئذنتَين، ما دام قد أتى على ذكر المخاطر التي قد يتعرّض لها مقام السيدة زينب؛ أو كان في وسعه أن يتبنى رواية النظام السوري، فيتهم "جبهة النصرة"، أو أي طرف "تكفيري" داخل صفوف المعارضة السورية، بالمسؤولية عن الجريمتَين، خاصة وأنه تبنى رواية مرتزقة "لواء أبو الفضل العباس" العراقيين، الذين يحتلون مقام السيدة زينب.

كان لافتاً، في المقابل، مقدار القصور اللفظي الذي طبع أقوال نصر الله في ثلاثة ميادين، جديدة على خطابه المعتاد بصدد الانتفاضة السورية، أو هي بالأحرى ليست جديدة إلا بمعنى اتصافها بضيق عبارة لم نتعوّده، ولم يعوّدنا عليه، الأمين العام لـ"حزب الله". ففي تبرير أمر "شهداء" الحزب على الأرض السورية، تعمّد نصر الله اللجوء إلى صياغات غائمة، وتأويلات تبسيطية تماماً، تتوسّل تمويه المعاني الفعلية وراء عبارات مثل "مَنْ يستشهد منا نشيّعه علناً"، و"كلّ مَنْ سقط شهيداً منا في أي مكان من الأمكنة وخصوصاً هؤلاء الشهداء في الأسابيع الأخيرة ومن سبقهم من إخوانهم نعتز بهم"، و"نحن لا نخجل بشهدائنا، لا نستحي بشهدائنا، نحن نعتز بهم، نرفع رؤوسنا بهم". هذه بلاغة تحصيل الحاصل، كما قد يقول قائل، لأنها في نهاية المطاف تحشد سلسلة أفعال من طراز "نعتز" و"لا نخجل" و"لا نستحي" و"نرفع رؤوسنا"؛ وقد تكون كلّ هذه المشاعر والاحاسيس وردود الأفعال تكررت بالفعل كلما وصل جثمان قتيل من قتلى "حزب الله" إلى أهله. 

لكنها مسألة أخرى أن يكون القتيل "شهيداً"، ومسألة ثالثة أكثر تطلباً أن يُطرح السؤال حول موقع استشهاده، لأنّ خطاب الحزب الرسمي ـ منذ تصعيد تدخله العسكري المباشر إلى جانب النظام السوري، في منطقة القصير تحديداً ـ تقلّب في توصيف حال هؤلاء القتلى، وتدرّجت أنماط المماطلة في توصيفهم: تارة قُتل هذا "خلال قيامه بواجبه الجهادي"، ولا نعرف أين، ولماذا (ولكنننا على يقين من أنه لم يستشهد على أية جبهة مع العدو الإسرائيلي)؛ وطوراً قُتل ذاك دفاعاً عن القرى ذات الأغلبية اللبنانية، ولكنّ الواقعة جرت داخل الأراضي السورية؛ ومؤخراً، استقرّ الحزب على ما يشبه رشوة أهل القتيل، بالقول إنه كان يدافع عن العتبات الشيعية الشريفة، في ظاهر دمشق (مقام السيدة زينب، مقام السيدة سكينة)! هذه، في أخفّ ما يليق بها من حكم قيمة، مخاتلة ومخادعة، تكتسب بُعداً أخلاقياً فاضحاً حين تصدر عن طرف يزعم احتكار روح المقاومة ضدّ إسرائيل، ويتفاخر بـ"الوعد الصادق"؛ أمّا في حكم قيمة أثقل، فإنها انحراف عن الحقّ إلى الباطل، واصطفاف خلف الجلاد ضدّ الضحية.

ميدان القصور اللفظي الثاني هو هذه العبارة العجيبة: "بالخط العريض ـ ومثلما يقولون ويكتبون في آخر البحث العلمي: فافهم وتأمّل وتدبّر ـ إنّ لسورية في المنطقة والعالم أصدقاء حقيقيين لن يسمحوا لسورية أن تسقط في يد أمريكا أو في يد إسرائيل أو يد الجماعات التكفيرية. لن يسمحوا، كيف؟ هذا تفصيله وتفسيره يأتي لاحقاً، وأنا عندما أقول هذا أقوله من موقع المعلومات والمتابعة التفصيلية وليس من موقع التكهن والتحليل والأماني". لافت، أوّلاً، أنّ نصر الله قرأ هذه الفقرة تحديداً من ورقة أمامه، ولم يرتجلها، ممّا يوحي بأنّ الضرورة اقتضت نطقها بحذافيرها، كأنما قد اتُفق عليها نصّاً، ربما خلال زيارته إلى طهران واجتماعه مع الولي الفقيه علي خامنئي (نشر موقع "العهد" الإخباري صورة فوتوغرافية تجمع خامنئي مع "الأمين العام لحزب الله حجة الإسلام والمسلمين السيد حسن نصر الله"، أعاد نشرها موقع "المنار" أيضاً).

لافت، ثانياً، أنّ الفقرة تعتمد ذرّ الرماد في العيون حين تتفادى الحديث عن سقوط النظام، وتستبدله بتهديد حول عدم السماح بسقوط سورية في يد أمريكا وإسرائيل والتكفيريين؛ رغم أنّ المنطوق الفعلي للفقرة يفيد المعنى الأوّل، لا الثاني. أمّا كيف، فإنّ نصر الله يؤجّل الإجابة (كما فعل مراراً بصدد تفاصيل كثيرة، خلال هذه الإطلالة تحديداً) إلى موعد لاحق، ويلمّح إلى أنه لا ينطق عن هوى، ولا يتكهن أو يأمل أو حتى يحلل، بل يصدر عن "المعلومات". فما الذي يملكه من معلومات أخرى، سوى تلك التي تأتي من "أصدقاء حقيقيين" للنظام، في المنطقة والعالم، أي إيران وروسيا والصين حصرياً (وليس "دول البريكس" كما تفاءل!)؛ وترتدي طابعاً سرّياً يستوجب التكتم في هذه الإطلالة، والتأجيل حتى تفسير لاحق؟

وأمّا ميدان القصور اللفظي الثالث فهو هذا الارتداد إلى سردية النظام عن أسباب الانتفاضة ومساراتها، إذْ يبدو نصر الله وكأنه يتبنى حرفياً ما قاله بشار الأسد في جميع خطاباته وتصريحاته الصحفية طيلة سنتين ونيف، وما تكرره أبواق النظام وأدواته. يقول الأمين العام لـ"حزب الله": "الهدف مما يجري في سورية لم يعد فقط إخراج سورية من محور المقاومة، هذا ما كنا نقوله في البداية، الموضوع أصبح أكبر من ذلك، لم يعد فقط إخراج سورية من محور المقاومة ومن معادلة الصراع العربي – الإسرائيلي، وأيضاً لم يعد الهدف فقط أخذ السلطة بأي ثمن من النظام الحالي والقيادة الحالية، بل يمكن القول بشكل قاطع إن هدف كل الذين يقفون خلف الحرب في سورية هو تدمير سورية كدولة وشعب ومجتمع وجيش". فكيف حدث أنّ هدف "إخراج سورية من محور المقاومة" قد طُوي، ومَن الذي استبدله، ومتى، ولماذا، وما الفارق بين "إخراج" و"أخذ سلطة"، و"تدمير"؟ ثمّ مَن الذي يدمّر سورية أكثر: النظام المسلّح بالنواجذ، والذي يستخدم الطائرات وصواريخ "سكود" والمدفعية الصاروخية والثقيلة والبراميل المتفجرة وغاز السارين السامّ، ويقصف المساجد والكنائس وأوابد التاريخ، ويصيب البشر والحجر والزرع والضرع؛ أم "الجماعات التكفيرية" التي يعرف نصر الله طبيعة تسليحها، ومواقع انتشارها، ونوعية مقاتليها، وقدراتها التدميرية؟

وفي سياقات هذا التبنّي التامّ لرواية النظام، لا يجد نصر الله أي حرج (وهو صاحب المقام الروحي، قبل ذاك السياسي أو الحزبي) في إعادة تكرار سلسلة من الاتهامات التي اعتادت أجهزة الأسد على اختلاقها، وعهدت بأمر ترويجها إلى الأبواق والأزلام والأتباع. يقول، مثلاً، إنّ الاتجاه المطالب بإسقاط النظام "ذهب إلى الخيار العسكري، وكان يعلق آمالاً كبيرة على الخيار العسكري. القتال والقتل والاستنزاف وابشع أنواع القتال أيضاً من ذبح وقطع رؤوس وإلقاء من على الأسطح، وصولا إلى استدعاء التدخل الدولي العسكري، استدعاء سياسي وميداني، وما لعبة السلاح الكيمياوي في الأيام الأخيرة إلا محاولة أيضاً جديدة لاستدعاء تدخل خارجي، ليأتي هؤلاء ويدمروا سورية، كما دمرت من قبل دول أخرى". هل هذه أفعال المعارضة السورية، حقاً؟ وهل يصدق صاحب "الوعد الصادق" حين يلصق بأغلبية الشعب السوري، رافع شعار إسقاط النظام، أقذر التهم وأقبح الممارسات؟ وما الذي يمكن لأيّ تدخّل خارجي أن يخلّفه من دمار في سورية، أبشع من هذا الذي خلّفه ويخلّفه نظام الأسد؟

وفي خلاصة الأمر، أليس التدخل الخارجي الوحيد، اليوم، هو ذاك الذي أدخل إلى العمق السوري مقاتلي "حزب الله" اللبناني، وميليشيات "حزب الله" العراقي، ومرتزقة "لواء أبو الفضل العباس" وأفراد "الحرس الثوري" الإيراني؟ أليست عمليات قتال "حزب الله" في صفّ نظام الاستبداد والفساد والفاشية، ضدّ أبناء الشعب السوري، بمثابة مشاركة مباشرة في تدمير سورية، الشعب والوطن والتاريخ؟ وما الذي تبقى من "الوعد الصادق"، ذائع الصيت، من صداقة مع سورية، وصدق مع التاريخ، ومصداقية... صرفة؟