وعزّ الشرق أوّله دمشق

الجمعة، 30 أغسطس 2013

الضربة الأمريكية: تقليم أظافر الأسد وليس اقتلاع براثنه

إذا وقعت ضربة عسكرية أمريكية ضدّ النظام السوري، بمشاركة بريطانية أو فرنسية أو تركية، وربما أطلسية مباشرة أو مقنّعة؛ فالأرجح أنها لن تكون، من حيث نطاق الأهداف وطبيعتها، أو مدّة العمليات العسكرية، أشدّ من عملية "ثعلب الصحراء"، التي نفّذتها إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلنتون، وحليفها رئيس الوزراء البريطاني توني بلير، ضدّ نظام صدّام حسين، في منتصف كانون الأول (ديسمبر) 1998. ذلك رأي ساجلتُ فيه منذ الساعات الأولى لابتداء خطاب التسخين اللفظي العسكري على لسان الناطقين باسم البيت الأبيض، وقبل خطاب وزير الخارجية الأمريكي جون كيري الذي ألقى على نظام بشار الأسد مسؤولية استخدام الأسلحة الكيميائية، واعتبرها "بذاءة أخلاقية"؛ وكذلك، بالطبع، قبل تصريحات الرئيس الأمريكي باراك أوباما نفسه، التي خفّضت سقوف البلاغة، وحدها، وأبقت ميادين الإدارة مشرّعة لقرع طبول الحرب.

وإذا صحّ أنّ تسعة أعشار أنماط التدخّل العسكري الأجنبي في شؤون الشعوب تُصنّف، بدورها، في خانة "البذاءة الأخلاقية" التي تحدّث عنها كيري؛ إلى جانب مضامين أخرى لا تقلّ بذاءة، حول افتراض دور الشرطي الكوني المخوّل ذاتياً، بعد التذرّع بأسباب "أخلاقية" و"إنسانية"، بوضع حدّ لعذابات الشعوب؛ وهو دور ينتهي، غالباً، إلى سياسات الكيل بمكاييل عديدة، لا مكيالين اثنين فقط (وموقف أمريكا، والغرب عموماً، من إسرائيل هو المثال الكلاسيكي)؛ فالصحيح الموازي يشير إلى أنّ أنماط التدخل العسكري الأمريكي، كافة، كانت الأسوأ بلا استثناء، أينما وقعت على خريطة الكون عموماً، وحيثما وقعت في بلدان العالمَين العربي والإسلامي خصوصاً. والتاريخ سجّل، بالدماء والأشلاء والخراب والعواقب بعيدة المدى وشديدة الأذى، سلسلة المآلات الكارثية التي انتهت إليها وقائع التدخل العسكري الأمريكي المباشر في الصومال والعراق وأفغانستان وليبيا، فضلاً عن أنماط التدخّل الأخرى الكثيرة وغير المباشرة.

ما يصحّ حول التدخل العسكري، المباشر أو غير المباشر، يصبح أكثر صحّة في العمليات على شاكلة "ثعلب الصحراء"، التي تستهدف إنزال العقاب بطاغية ما، ليس بهدف الحدّ من شدّة بطشه بشعبه، أو ردعه، أو كفّ يده بما يتيح لذلك الشعب فرصة مقاومة نظام البطش وإسقاطه؛ بل لأنّ ذلك الطاغية تجاوز هذا "الخطّ الأحمر" أو ذاك، فلجأ إلى طراز من البطش غير متفَق عليه، أو يغيّر قواعد اللعبة، كما سيقول أوباما لنظام الأسد، بصدد الجوء إلى الأسلحة الكيميائية. ومن الجلي، في مثال التسخين الراهن، أنّ رأس النظام السوري، في ارتكاب مجازر الغوطتَين الشرقية والغربية، على ذلك النحو الهمجي الوحشي المروع، لم يترك لرئيس القوّة الكونية العظمى أيّ خيار ثالث: إمّا أن يُؤدَّب الأسد على تجاوز للخطّ الأحمر (لم يكن الأوّل في الواقع، بل الرقم 50 ونيف، وإنْ كان الأعلى خرقاً لقواعد اللعب، واستهتاراً بالحدود القصوى لصبر البيت الأبيض)، أو أن يدخل أوباما التاريخ بصفات أخرى، غير أنه أوّل رئيس أفرو ـ أمريكي: أنه، أيضاً، ذلك الخَرٍع المتردد العاجز الأضعف من بطة قعيدة!

هذه حال أثارت سؤالاً طبيعياً، اتكأ عليه أنصار النظام أوّلاً، ثمّ طوّره ـ ضمن وضعية الاتكاء إياها، أو على نحو أسوأ ـ عدد من فئات "الممانعين" هنا وهناك (وفي مصر ما بعد السيسي، تحديداً، حيث بات ممانعوها الجدد، من أمثال حمدين صباحي، ينافسون ممانعي الأردن القدماء!)، أو معارضي الولايات المتحدة المزمنين في اليسار الغربي إجمالاً (جان ـ لوك ملنشون، زعيم "جبهة اليسار" الفرنسية، مثلاً)، أو أصدقاء النظام السوري في أوروبا (النائب جورج غالاوي...). السؤال يقول، ببراءة منطقية: ولكن... ما مصلحة النظام في استفزاز أوباما، وإجباره على الذهاب إلى خيارات قصوى ضدّ النظام، كما يحدث الآن في أجواء التسخين للعمل العسكري؟ وأمّا التفريع التالي لهذا السؤال الأوّل، فإنه يسير هكذا: لماذا هذا التوقيت القاتل لاستخدام الأسلحة الكيميائية، الآن إذْ يقيم فريق التحقيق الأممي في دمشق، على مبعدة كيلومترات قليلة من الغوطة؟

يتناسى هؤلاء أنّ المنطق الأوّل الذي حرّك دوافع النظام، في استخدام الأسلحة الكيميائية على هذا النحو الهستيري الفاضح والمفضوح، هو الحاجة العسكرية الصرفة، او بالأحرى منطق الحاجة إلى التعجيل بحسم معركة الغوطة بوسائل عسكرية غير تقليدية. كان النظام، وما يزال حتى الساعة، يخوض واحدة من أشرس مواجهاته مع كتائب "الجيش السوري الحرّ"، وكان في وضع حرج ومرتبك ظلّ يتفاقم طيلة شهور، ولم يعد يقبل انقلاب استمرار الأمر الواقع إلى هزيمة تدريجية للنظام تُدني فصائل المعارضة من قلب العاصمة دمشق. في عبارة أخرى، إذا صحّ أنّ الأسد استفزّ أوباما، فلم يكن ذلك الاستفزاز متعمداً وعشوائياً، بل كان قسرياً ولا غنى عنه في حسابات النظام؛ خاصة وأنّ تجارب استخدام الأسلحة الكيميائية في الماضي، وهي تُعدّ بالعشرات، لم تستجلب غضبة أوباما، وأبقت "الخطّ الأحمر"، إياه، افتراضياً ونظرياً فقط.

في عبارة ثالثة، لم يستفق الأسد من نومه ذلك الصباح الباكر، يوم مجازر الغوطتَين، وقد أنس في نفسه قوّة جديدة خارقة تستدعي استعراض العضلات، وصفع أوباما على الملأ، وإحراجه، بل إهانته شخصياً، قبل إرساله إلى زاوية الخيار العسكري الخانقة، الوحيدة. الذي حدث هو أنّ صمت البيت الأبيض الطويل على مجازر النظام، وتقرير الجنرال مارتن دمبسي، رئيس هيئة الأركان المشتركة الأمريكية، إلى الكونغرس (قبل ساعات سيقت تنفيذ مجازر الغوطة)، في الجانب السياسي؛ والحرج الشديد الذي كانت تنزلق إليه قوّات النظام على جبهات الغوطة، وبعض قرى الساحل السوري، في الجانب العسكري؛ سرّعت قرار استخدام السلاح الكيميائي، بل زيّنت للأسد أنه إجراء آمن، غير مستفِزّ، غير محفوف بالمخاطر، و... منطقي! بالطبع، إذْ سيتساءل العالم، تماماً كما فعل في الواقع: أيعقل منطقياً أن يستخدم الأسد هذه الأسلحة، وفريق التحقيق الأممي يحقق في دمشق؟         

المتحمسون للضربة الأمريكية ـ ولستُ شخصياً في عدادهم، بل أعلن صراحة أنني على الطرف النقيض ـ ينقسمون إلى أصناف، بالطبع: بينهم المفرط في التفاؤل، إلى درجة الوثوق بأنّ النظام ساقط بسببها، أو بعدها، لا محالة؛ وبينهم الواقعي، المتفائل بدوره، الآمل في أن تتسبب الضربة بخلخلة ما تبقى من تماسك في صفّ النظام، وبالتالي تعجّل في سقوطه؛ وبينهم ذاك الذي يكتفي بتقليم أظافر النظام، والحيلولة دون لجوئه إلى استخدام هذه الأسلحة، أو سواها من أصناف اسلحة الدمار الشامل. الآخرون، المشككون في جدوى الضربة، أو المناهضون لخيار التدخل العسكري الأجنبي، والأمريكي خاصة ـ وأضع نفسي بين دعاة هذا الطراز الأخير من المناهضة ـ يساجلون بالعكس تماماً: أنّ الضربة قد تقلّم أظافر النظام، إلى حين فقط، ولكنها لن تقتلع أنيابه ولن تنتزع براثنه؛ وأنها لن تمنعه من أيّ استخدام جديد لهذه الأسلحة، في أية فرصة يجدها النظام سانحة أو إلزامية لقوّاته الموالية؛ بل قد تجد إدارة أوباما، في هذه الحالة، أنها ضربت مرّة واحدة، وكفى، ولن تعيد الضربة كلما فتح الأسد ترسانة أسلحته الكيميائية!

ما العمل، إذاً، بعد أن أقرّ أوباما، ومن ورائه "المجتمع الدولي"، بأنّ الأسد تجاوز الخطّ الأحمر، الكيميائي حصرياً؛ على صعيد القوى الشعبية للانتفاضة السورية، أوّلاً، وكتائبها المقاتلة، المقاومة للنظام وللقوى الظلامية التي تصادر روح تلك الانتفاضة وجوهرها الديمقراطي التعددي، ثانياً؟ الإجابة لا تقتضي مشقة كبيرة، إذْ تنحصر في خطوتين: ما دام الصراع قد اتخذ الصفة العسكرية، عموماً وعلى النطاق الأوسع، فإنّ تزويد كتائب "الجيش الحرّ" بأسلحة نوعية (مضادّة للدروع وللطيران، تحديداً) لم يعد ضرورة عسكرية محضة، بل إنّ الامتناع عنه، او التلكؤ فيه، صار هو "البذاءة الأخلاقية"؛ وما دام هدف "المجتمع الدولي" هو حماية المدنيين السوريين، والكلّ يتباكى على عذاباتهم، فليفرض العالم على نظام الأسد قبول منطقتين عازلتين في شمال سورية وجنوبها، للمرّات الإغاثية والإنسانية تحديداً؛ وهذه هي الإجابة على الشقّ الثاني من السؤال.  

إكمال الانتفاضة حتى انتصارها الختامي هو مسؤولية الشعب السوري، الذي انتفض من أجل الحرّية والكرامة والعدل والمستقبل الديمقراطي والتعددي الأفضل، وخاض معارك مشرّفة طيلة سنتين ونصف، ودفع الأثمان الباهظة من دماء أبنائه وخراب بلده الجميل العريق، لا لكي يتسوّل الخلاص عبر بوّابة التدخل الأجنبي الخارجي؛ هذه التي لا تتعارض مع معمار أخلاقي يتوجب أن تنهض عليه سورية الجديدة، فحسب؛ بل تتعارض أيضاً مع الدروس التي خلّفها التاريخ، ساطعة وجلية وأليمة، من كلّ تجارب التدخّل الخارجي في الجوار. وكيف للشعب السوري ـ الذي ينتفض بوسائله، واعتماداً على ذاته، ويلحق الهزائم بجيش النظام، ولا يصمد بقوّة فقط، بل يحرز الانتصارات أيضاً، منذ آذار (مارس) 2011 ـ كيف له أن يدين التدخل الإيراني والروسي، وكتائب "حزب الله" و"أبو فضل العباس" والحوثيين... ويقبل، أو يعلّق الأمال على، عملية عسكرية محدودة النطاق، تستهدف عقاب النظام لا إسقاطه أو تبديله؟

وكيف إذا كان "الخلاص" منعقداً على الولايات المتحدة، دون سواها، صاحبة أربعة عقود ونيف من عمر علاقات مع آل الأسد، الأب قبل الابن، نهضت على الدعم والمساندة والتعاون والتفاهم والشراكة، وليس على العداء والتناقض والقطيعة. وذاك تاريخ جيو ـ سياسي حافل، شمل لبنان أوّلاً، منذ دخول قوّات النظام بإذن أمريكي سنة 1976، وضرب تحالف القوى الوطنية والمقاومة الفلسطينية في ذلك البلد، وشنّ حرب المخيمات على الفلسطينيين؛ وصولاً إلى "عاصفة الصحراء"، حين انخرطت وحدات من جيش النظام في تحالف "حفر الباطن"؛ دون إغفال الرضا الإسرائيلي الغامر، بصدد نظام كان حارس حدود للاحتلال الإسرائيلي للجولان، تحت مسمّى "دولة مواجهة". وذاك سجلّ يشير إلى أنّ الإدارات الأمريكية المتعاقبة، جمهورية كانت أم ديمقراطية، لم تشجّع أي مساس جدّي بنظام "الحركة التصحيحية"، بل ظلّ العكس هو الصحيح على الدوام، وبقي الخيار المعتمَد هو هذا: الاستغناء عنه، وعن سواه، ممكن بالطبع، ودائماً؛ ولكن لماذا نفعل، والنظام خدم ويخدم أجنداتنا، وأجندات حليفتنا إسرائيل، وغالبية حلفائنا في المنطقة، رغم كلّ الضجيج والعجيج حول "الممانعة" و"المقاومة"؟

نقلّم أظافره، إذاً، حين يتجاوز ما رسمناه له من حدود؛ ولا نقتلع براثنه، لأنّ لنا بها حاجة... أصلاً!

الاثنين، 26 أغسطس 2013

ما خفي كان أعظم!

في مناسبة الذكرى الستين لتنفيذه، يوم 19 آب (أغسطس) 1953، في إيران؛ اضطرت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، الـ CIA، إلى الإفراج عن سلسلة وثائق تقرّ بضلوعها، ضمن تعاون وثيق مع الاستخبارات البريطانية MI6، في الانقلاب العسكري الذي أطاح بحكومة محمد مصدق، المنتخَبة ديمقراطياً. رجالات الـ CIA، أسوة بزملائهم البريطانيين، والساسة على جانبَيْ الأطلسي، أنكروا على الدوام أيّ دور لأجهزتهم، سواء في التخطيط أم في التنفيذ؛ والوثائق لا تُنشر اليوم إلا عنوة، بموجب القانون الأمريكي حول حرّية المعلومات، الذي استند إليه معهد أبحاث "وثائق الأمن القومي"، صاحب طلب الكشف عن الوثائق.

والحال أنّ الأمر لم يكن سرّاً إلا على صعيد توثيقي رسمي فقط، وآخر الجولات في كشوفاته تولتها صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية، في خريف سنة 2000، حين أماطت اللثام عن واحدة من وثائق الـ CIA السرّية، والتي تعود إلى العام 1954 وتحكي تفاصيل الانقلاب. والوثيقة دراسة مفصّلة تقع في 200 صفحة، كتبها الدكتور دونالد ن. ولبر، الذي شغل منصب رئيس هيئة التخطيط للعملية (مهنته الرسمية المعلنة كانت تدريس علوم العمارة الفارسية في الجامعات الأمريكية، وكان يتباهى بصورته مرتدياً العقال العربي!).

تفاصيل "حبكة" الانقلاب، كما عرضتها وثيقة ولبر، هي التالية:

ـ في عام 1951 صوّت البرلمان الإيراني على تأميم صناعة النفط في البلاد، وانتُخب بطل حملة التأميم هذه، الدكتور محمد مصدّق، رئيساً للوزراء.

ـ في أواخر العام 1952 تشاور ممثّلو المخابرات البريطانية مع زملائهم في الـ CIA حول خطّة للإطاحة بمصدّق عن طريق انقلاب عسكري، بعد أن كان الأمريكيون قد عثروا على شخص قائد الانقلاب، والبطل المضادّ: الجنرال فضل الله زاهدي.

ـ كانت الخطة تقوم على إثارة الشغب والفوضى في البلاد، على نحو يمهّد لتدخّل الجيش بحجة فرض النظام. وبين الطرائق التي اعتمدتها الوكالة في هذا الصدد أنّ عملاءها انتحلوا هويّة مسؤولين في الحزب الشيوعي الإيراني (توده)، وهدّدوا رجال الدين المسلمين بالتصفية الجسدية إذا امتنعوا عن تأييد مصدّق، كما قاموا بنسف بيوت عدد من كبار الأئمة والعلماء ونسبوا الأمر إلى الشيوعيين.

ـ دور الشاه رضا بهلوي في العملية كان يقتصر على إصدار أمر ملكي يقضي بعزل مصدّق وتعيين الجنرال زاهدي بدلاً عنه. لكنّ الشاه، الذي لم يكن يثق بالبريطانيين، تردّد في إصدار الأمر حتى بعد سماع كلمة سرّ تطمينية عبر القسم الفارسي في الـBBC (لاحظوا هذا الدور الفريد للإذاعة العريقة!). كان الشاه يخشى تأييد الجيش للدكتور مصدّق، فاضطرّت الـCIA إلى استدعاء شخصيتين تكفلتا بإقناعه: شقيقته التوأم الأميرة أشرف (وكانت تقيم على شواطىء الريفييرا الفرنسية)، وضابط أمريكي كبير كان يحظى بثقة الشاه التامة، هو الجنرال نورمان شوارزكوف... والد الجنرال نورمان شوارزكوف، قائد "عاصفة الصحراء"... دون سواه!

ـ وبالفعل، وقّع الشاه الأمر الملكي، ولكنه مع ذلك ظلّ خائفاً، وفرّ إلى بغداد ثمّ إلى روما في اليوم التالي. وكاد الانقلاب أن يفشل تماماً حين اكتشف مصدّق الخطّة، وأخذت إذاعة طهران تتحدّث عن إحباط محاولة انقلابية تستهدف الحكومة الشرعية. لكنّ محطة الـ CIA في طهران سارعت إلى إعلان أمر إعفاء مصدّق عن طريق تمرير الخبر إلى وكالة أنباء الـ"أسوشيتد برس" وبعض الصحف الإيرانية، ممّا أسبغ على الانقلاب "شرعية" مطلقة في نظر أنصار الشاه، العسكريين والمدنيين على حدّ سواء.

ـ أخيراً، في امتداح ذلك اليوم، 19/8/1953، يختم الدكتور ولبر هكذا: "كان ينبغي لذلك اليوم ألا ينتهي، لأنه انطوى على الكثير من معاني الإثارة والإرضاء والاحتفاء"!

بالطبع، لسنا نعرف ـ على وجه التوثيق، تحديداً ـ عدد الانقلابات التي دبرتها وكالات مثل الـCIA أو الـMI6، وشقيقاتها في فرنسا وألمانيا، والزميلات والحليفات الأقلّ شأناً هنا وهناك في العالم؛ إلا أنّ من اليسير لنا، ومن المشروع، اتكاءً على المنطق البسيط، أن نتخيّل مسؤولية تلك الجهات عن تسعة أعشار ما شهدته بلدان "العالم الثالث"، في التسمية العتيقة، من صعود أنظمة وخسوف أخرى. ولنا، كذلك، أن نتعلّم الكثير من الدروس التربوية، حول أنساق الاستغفال، وطرائق الخداع، وأنماط ذرّ الرماد في العيون؛ فضلاً، بالطبع، عن نماذج تماهي الضحية السابقة مع جلادها، وسعيها إلى استنساخ أنساقه وطرائقه وأنماطه، وتطبيقها على شعوبها أوّلاً، ثمّ على الشعوب الأخرى. الاستخبارات في روسيا الراهنة، وفي إيران، وأجهزة "حزب الله"، ومحمد دحلان، و"حماس"... نماذج بارزة في هذا المضمار.

ولأنّ المناسبات تتناسب في ما بينها أحياناً، فتتكامل في تطابقها وتباينها معاً؛ فإنّ ما يُنشر اليوم من تقارير حول النوايا العسكرية الأمريكية ضدّ نظام بشار الأسد، في أعقاب المجازر الكيميائية الهولوكوستية التي شهدتها الغوطتان الشرقية والغربية مؤخراً، ليس بريئاً تماماً من سيناريوهات التدجيل الممنهج، واستبطان نقائض ما يُعلَن على الملأ. كذلك فإنّ حيرة البيت الأبيض، على مستويات اصطلاحية وقاموسية، إزاء تصنيف انقلاب الفريق عبد الفتاح السيسي في مصر، يمنحنا مناسبة جديدة في تبصّر الخفايا الخبيثة خلف المرئيات الخيّرة.

وفي استذكار الحكمة القديمة الصائبة: ما خفي كان أعظم!

الجمعة، 23 أغسطس 2013

المجازر الكيميائية: الحساب في الغوطة وليس في واشنطن

غالبية عظمى من التعليقات على المجزرة الكيميائية، التي تعرّضت لها مناطق في الغوطتَين الشرقية والغربية، اتفقت على جمهرة أسباب ـ نابعة من منطق بسيط تماماً، في الواقع ـ ترجح لجوء نظام بشار الأسد إلى هذا الخيار الأقصى، بهذه السوية من الوحشية العمياء، وفي هذا التوقيت تحديداً. ثمة، في المقام الأوّل، ذعر النظام من التقدّم العسكري المضطرد الذي تحققه كتائب "الجيش السوري الحرّ"، في هذه المناطق أسوة بتخومها؛ وعجز الوحدات الموالية عن مواجهة هذه السيرورة، رغم استخدام صنوف القصف الكلاسيكة كافة، الجوية والصاروخية والمدفعية. وهذه حال ليست جديدة، بالطبع، وتتواصل بصفة حثيثة منذ سنة ونيف، وابتداءً بأولى الاختراقات ضدّ خطوط انتشار الجيش الموالي، في أحياء الميدان وبرزة وجوبر والقدم والتضامن ومخيم اليرموك.

وثمة ذلك الذعر الثاني، المتصل بالهزائم التي مُني بها جيش النظام في ريف حلب وإدلب وحماة، والتي كانت تتكامل مع هزائم أخرى في حوران والمنطقة الجنوبية عموماً، وما اقترن بالعمليات هذه من ارتسام صيغة جديدة في تناسق الجبهات القتالية بين مجموعات "الجيش الحرّ. ورغم أنّ الصيغة بدت، وما تزال، وليدة العفوية، والمبادرات الفردية التلقائية، ومقتضيات التطورات الميدانية الصرفة؛ فإنّ معنويات جيش النظام الآخذة في انهيار، وتردّي أداء وحداته، وتفكك خطوطها، وتبعثر جهودها، وانعدام صفة التخطيط القيادي المركزي... عوامل أتاحت، من جانب ثانٍ، الارتقاء بالصيغة هذه من مستويات الصمود في المكان، وإيقاع ما أمكن من خسائر في صفوف النظام، إلى مستويات تنفيذ هجمات مضادة ناجحة، واغتنام أراضٍ ومواقع ومستودعات سلاح.

وثمة، ثالثاً، طراز الذعر الخاصّ الذي دبّ في نفوس الفئة المتنفذة من رجالات النظام، والقشرة العليا من ضباطه بصفة خاصة، جرّاء عمليات "الجيش الحرّ" في بعض قرى الساحل السوري. ولقد بدا جلياً أنّ أنساق ذلك الذعر انعكست، على نحو شرطي مباشر، في هيئة ردّات فعل عسكرية متعجلة، مرتبكة تماماً (كما في سحب وحدات من جبهة حماة، ونقلها على عجل إلى الساحل، والمجازفة باحتمال تحريرها على يد "الجيش الحرّ"، الأمر الذي حصل هكذا بالفعل). الوجهة الثانية لتلك المنعكسات الشرطية اتخذت منحى انتقامياً، وحشياً وهمجياً وعشوائياً، تجلى أوّلاً في مجازر الغوطة الكيميائية، وقد يتجلى ـ مجدداً، لدى أية مناسبة، ثانياً وثالثاً وعاشراً ـ في ما لا عدّ له، ولا حصر، من الأفعال البربرية العمياء.

وليس خافياً (إلا عند أنصار النظام، المتواطئين مع خياراته هذه، المتعامين عنها عن سابق قصد وتصميم، المصفّقين لها بوصفها "ممانعة" أو "مقاومة" ضد "التكفيريين"، المشاركين في تنفيذها على الأرض...)، أنّ أرباب النظام وضباطه، وبشار الأسد شخصياً على رأسهم، يؤمنون بأنّ قتل مئات السوريين، والأطفال منهم بصفة خاصة، في دقائق معدودة، هو واحد من أفضل سُبُل رفع المعنويات المنهارة. وإذْ يبدو الأمر همجياً صرفاً، وغير آدمي على أيّ نحو، في تفكير امرىء عاقل متصف بالحدود الدنيا من طبائع التفكير الإنساني؛ فإنه ليس طبيعياً وعادياً ومقبولاً، فحسب، في نظر الآمر بإلقاء سلاح دمار شامل فتاك على بشر نيام، بل هو مدعاة بهجة وفرح وانتصار. وذلك الآمر لا يفكّر في قطعان الفرحين المبتهجين إلا بوصفهم حيوانات انتقام، أو أدنى ربما، تقف خلفه لانها تفرح لسفك الدماء وتبتهج، إشباعاً لغريزتَين: تهدئة المخاوف من الآخر، حتى إذا كان رضيعاً وطفلاً؛ وإشباع عصاب الانعزال، الأقلوي أو الطائفي أو القطيعي، المريض الملوّث.

والمرء، بالطبع، يراهن على أنّ أمثال هؤلاء السوريين، حيوانات الانتقام الراقصة على جثث الأطفال، ليسوا موجودين إلا ضمن نسبة مطابقة لأولئك الوحوش الآمرين بالذبح الجماعي؛ أو، حسب رهان آخر وطنيّ أكثر، أنّ النسبة ذاتها ليست إلا تلك العابرة المؤقتة التي لا يجوز أن تُرى في صفة الظاهرة، أو تُعمم اعتباطاً على أيّة جماعة. وبهذا المعنى فإنّ المشاهد المروّعة التي خلّفتها المجازر الكيميائية في الغوطتين ينبغي أن تهزّ ضمائر السوريين، أجمعين، أياً كانت ولاءاتهم وانحيازاتهم، وأن تكون لها سمات تطهيرية عند جميع السوريين؛ ما خلا، بالطبع، أولئك الذين أمروا بتنفيذ المجازر، إذْ أنّ انتماءهم إلى الإنسانية عامة، وليس إلى الصفّ السوري وحده، أمر مطعون فيه أساساً.

وليس أقلّ سوءاً من هؤلاء، القتلة الآمرين بارتكاب المجازر، إلا ذلك الفريق الذي ينزّههم عن ارتكابها؛ أو يلقي باللوم على المعارضة في "استفزاز" التسبب بوقوعها، أو حتى بالمسؤولية المباشرة عن تنفيذها، كما فعلت إيران وروسيا؛ أو، في فئة ثالثة ليست أدنى انحطاطاً، وضع النظام والمعارضة في سلّة واحدة، من حيث استخدام الأسلحة الكيميائية. أمّا الصفّ المنافق، الذي يكتفي بالإدانة اللفظية، أو ذرف الدموع مدرارة على الضحايا، أو يطالب بتحقيقات أكثر تمحيصاً لاستخدام (وبالتالي احتمال عدم استخدام!) هذه الأسلحة؛ فإنه يشمل الغالبية الساحقة من "أصدقاء الشعب السوري"، عرباً وعجماً على حدّ سواء، والرئيس الأمريكي باراك أوباما على رأسهم.

وهكذا، اختفى سيد البيت الأبيض، ذلك اليوم، حين تقاطرت أخبار مجازر الغوطة وتواترت مشاهدها الهولوكوستية، وتصدّرت الصحف غرباً وشرقاً؛ واختفى معه وزير الخارجية، ثمّ وزير الدفاع، ورئاسة المخابرات المركزية... فلم يظهر إلا جوش إرنست، النائب الأوّل للسكرتير الصحفي، الذي أعرب عن "قلق" الولايات المتحدة إزاء تقارير الهجمات الكيميائية. الذي ظهر أيضاً، وإنْ على نطاق آخر يخصّ الكونغرس، كان الجنرال مارتن دمبسي، قائد الجيوش الأمريكية، الذي قال ـ في رسالة إلكترونية إلى النائب الديموقراطي إليوت إنجل ـ إن أي تدخل عسكري أمريكي في سورية لن يكون في مصلحة الولايات المتحدة، لأن "المعسكر الذي نختار دعمه يجب أن يكون مستعداً لتعزيز مصالحه ومصالحنا عندما تميل الدفة لمصلحته. والوضع حالياً ليس كذلك".

طريف، مع ذلك، أنّ أوباما هو المعنيّ الأوّل بتداعيات هذه المجازر الكيميائية، لأنه صاحب الوعد الشهير بأنّ استخدام أيّ سلاح كيميائي سوف يغيّر قواعد "اللعبة"، وبالتالي سوف يستدعي خطوات أخرى تصعيدية من جانب واشنطن، ضدّ النظام السوري. وقبل شهرين، فقط، كان أوباما قد أعاد التأكيد على هذا الخطّ، ثمّ تابع طرائق الالتفاف على تبعاته (التي كان هو الذي ألزم نفسه بها!)، حين أكّد: "مهمتي هي أن أزن المصالح الفعلية الحقيقية والشرعية والإنسانية لأمننا القومي في سورية، ولكن أن أزنها على أساس الخطّ الأساس الذي رسمته، وهو البحث عمّا هو أفضل لمصلحة أمن أمريكا والتأكد من أنني لا أتخذ قرارات مرتكزة على أمل وعلى صلاة، بل على تحليل صلب بمصطلح ما يجعلنا أكثر أماناً، ويكفل استقرار المنطقة".

كذلك اعتبر أوباما أنّ استخدام الأسلحة الكيميائية في سورية ما يزال مسألة "تصوّر"، أي أنه احتمال "انطباعي" فقط، وليس واقعة ملموسة ومرئية، تستند على أدلة مادية قاطعة. الإدارة، استطراداً، ليست متأكدة بعدُ، أو ليست متأكدة نهائياً وقطعياً، من أنّ النظام السوري قد تجاوز ذلك الخطّ الأحمر الشهير. لهذا يصعب على البيت الأبيض "تنظيم تحالف دولي" حول أمر "مُتصوَّر" فقط؛ و"لقد جرّبنا هذا من قبل، بالمناسبة، فلم يفلح على نحو سليم"، قال أوباما، في إشارة صحيحة إلى الخطأ الذي ارتكبه سلفه جورج بوش الابن في العراق. كان مدهشاً، مع ذلك، أنّ ذلك المنطق التأويلي اتكأ على منطق تبريري ينسفه، أو يبطل سلامته: أنّ إدارة أوباما تقرن القول بالفعل حين تتيقّن، أو حين تعلن اتخاذ موقف محدد، والدليل على ذلك ما فعلته مع أسامة بن لادن، ومعمّر القذافي!

والحال أنّ أيّ خطّ أحمر، لأيّ سلاح لمجتمع الدولي": مسى خلف أمريكا نفسه بها!)،مّ سعى غلى دية من جانب واشنطن، ضدّ النظام السوري.
أنّ استخدام ايّ سلاح كيماوي سوف يغكيميائي أو جرثومي، لم يكن ذريعة أوباما في التعجيل بتصفية بن لادن، أو في في قيادة تحالف أطلسي ضدّ القذافي؛ وكلا المثالين لا يضيف جديداً في تثبيت مصداقية أوباما، رئيس القوّة الكونية الأعظم؛ وليس لأيّ منهما، أيضاً، تأثير مباشر حول اتضاح أو غموض السياسة الأمريكية حول سورية، بافتراض وجود سياسة كهذه أصلاً. من جانب آخر، أما تزال إدارة أوباما تواصل التشكيك في واقعة استخدام الأسلحة الكيميائية، بعد مجازر الغوطة؛ أم أنّ مئات القتلى، اختناقاً أو شللاً، وعشرات المشاهد الفظيعة التي تفحصها خبراء الأسلحة الكيميائية وقادتهم إلى الجزم باستخدام تلك الأسلحة... لا تشكّل، بعدُ، أدلة ملموسة قاطعة؟

ولا مفرّ، اليوم، من استعادة افتراض سابق، حوّلته مجازر الغوطة الكيميائية إلى حقيقة ساطعة، أخلاقية وإنسانية وسياسية في آن معاً: إصرار أوباما على حصر الخطّ الأحمر في استخدام النظام السوري للأسلحة الكيميائية، جعل الأسد يعطي لذاته كلّ ضوء أخضر ممكن، لاستخدام كلّ سلاح، من المدفعية الثقيلة، إلى القصف الجوي، فالبراميل المتفجرة وصواريخ "سكود"، مروراً بمجازر العقاب الجماعي ومذابح التطهير الطائفي. ولأنه عبر كلّ، وأيّ، خطّ أحمر في ارتكاب الفظائع بحقّ الشعب السوري، فإنّ الأسد بلغ تلك المرحلة التي بات الوصول إليها محتماً: أن يختبر إدارة أوباما في خطها الأحمر، ذاته، فلا يستخدم الأسلحة الكيميائية على هذا النحو الهمجي والوحشي الأقصى، فحسب؛ بل أن يفعل فعلته على مبعدة كيلومترات قليلة من فندق الـ"فور سيزن"، حيث يقيم الفريق الأممي المكلف باستقصاء استخدام الأسلحة الكيميائية!

وعلى شاكلة أوباما، ورهط المنافقين من "أصدقاء سورية"، ثمة من يتساءل ـ جاداً، بعد كلّ تلك المشاهد الهولوكوستية في الغوطتَين الشرقية والغربية ـ عن غرابة اختيار النظام لهذا التوقيت بالذات، حين تكون الأنظار معلقة على أعمال فريق التفتيش الأممي. تُنسى، هنا، اعتبارات الذعر الثلاثة التي سيقت في الفقرات الأولى من هذه السطور؛ مثلما تُسقَط من الحساب تلك الخيارات الانتحارية التي لم يتوقف النظام عن الاستقرار عليها، منذ انطلاقة الانتفاضة الشعبية، في آذار (مارس) 2011؛ وتُغفل، أخيراً، حقائق سيناريوهات التصعيد الهوجاء التي صار النظام أداة تنفيذها، لصالح موسكو وطهران، والنيران التي صارت سورية باحة إشعالها بالنيابة عن إسرائيل.

ويبقى أنّ حساب قاصفي أطفال سورية بالأسلحة الكيميائية ليس في واشنطن أو باريس أو الرياض أو الدوحة أو اسطنبول، ذات يوم آت لا ريب فيه؛ بل في عين ترما وزملكا وعربين وحمورية، وسائر القرى والبلدات والمدن السورية التي كانت ضحية مرور البرابرة الجدد، في تاريخ سورية العريق العتيق.

الأحد، 18 أغسطس 2013

رفيق الصبان: وداع رائد كبير

في إحدى مستشفيات القاهرة، بعيداً عن وطنه سورية، ومدينته الأثيرة دمشق، رحل رفيق الصبان (1931ـ2013)، الناقد السينمائي الكبير الرائد، وكاتب السيناريو، والمسرحيّ، وأحد أهمّ نقّاد الدراما التلفزيونية، وبين الأكثر رصانة في الكتابة عن فنون عصرنا البصرية والسمعية. وهذا رجل، على شاكلة صفوة رائعة وفريدة من أبناء سورية الذين جايلوه أو سبقوه بقليل، كان مؤسسة ثقافية قائمة في ذاتها، معتمدة على ذاتها؛ جمعت بين فضائل الريادة والتأسيس، ومشاقّ دروبها الوعرة، وكرامة شقّ الطريق كمَن يغذّ السير في حقول ألغام متعاقبة. وأن يكون امرؤ رائداً ومؤسساً في آن، أمر كفيل بإثارة الأنواء العاتية والعواصف الهوجاء، فضلاً عن الكثير من حملات الإنكار والتحريم والتأثيم، وانطباق تلك الحكمة المأساوية العتيقة: لا كرامة لنبيّ في أهله!

رحل الصبان، إذاً، في مصر التي اختارها وطناً ثانياً، أقرب إلى منفى اختياري/قسري، وذاك ـ كما علّمنا إدوارد سعيد في واحدة من ألمع مقالاته عن ذهنية المنفيّ ـ بين الأنساق الأشدّ وطأة، والأقسى مرارة. ومنذ الشهور الأولى في عمر "الحركة التصحيحية"، خريف 1970، تهافت رجال انقلاب حافظ الأسد على التنكيل بعدد من خيرة رجالات الفنون، في السينما والمسرح والإذاعة والتلفزة، تحت ذرائع كاذبة شتى. ولم يكن عجيباً أنّ يكون الصبان (مؤسس "المسرح القومي"، ومديره طيلة سنوات؛ ومدير برامج التلفزيون، ومؤسس فرقته الدرامية؛ ومدير الشؤون السينمائية العامة في "مؤسسة السينما" الحكومية، وأحد أبرز المساهمين في تأسيس "صالة الكندي" التي احتضنت عشرات المهرجانات الرفيعة، وحاضنة أوّل نادٍ سينمائي جادّ)، في عداد أوائل المنكّل بهم.

وهذا الرجل، الذي يحمل الدكتوراه في الحقوق العامة من جامعة السوربون، وقع في هوى الفنون عبر خشبة المسرح أوّلاً، فأخرج ـ اتكاءً على مقاربات طليعية، عصرية، وإشكالية غالباً ـ سلسلة من الأعمال الكلاسيكية والحديثة والمعاصرة؛ بينها شكسبير: "ليلة الملوك"، و"تاجر البندقية"، و"يوليوس قيصر"؛ ماريفو: "الاعترافات الكاذبة"، و"لعبة الحبّ والمصادفة"؛ وموليير: "طرطوف"؛ وألبير كامو: "العادلون"؛ وناظم حكمت: "حكاية حبّ". وحين استولت السينما على جلّ اهتمامه، لجهة السيناريو تحديداً، كتب الصبان مجموعة من أفضل أفلام السينما العربية المعاصرة، اتسمت على الدوام بإشكاليات سياسية واجتماعية ذات حساسية عالية، لعلّ أشهرها "زائر الفجر"، 1973، شريط ممدوح شكري الذي سُحب من الصالات بعد أسبوع واحد من عرضه. وحصيلته، في هذَين الميدانين، تبلغ 25 شريطاً سينمائياً، و16 مسلسلاً للتلفزة؛ فضلاً عن عشرات المراجعات النقدية المعمقة، التي واظب على نشرها في الصحف والمجلات.

كتابه الأخير "السينما كما رأيتها"، 2012، يستجمع خلاصات نصف قرن من مشاهدة سينمات العالم، وتحليل خصائصها المحلية المختلفة، وربطها بحصيلة إجمالية لتأثيرات الفنّ السابع في الذائقة الجمالية الإنسانية، خاصة في قدرة السينما على التنوّع والاختلاف، وتلوّن مدارسها بأساليب فردية وأخرى كونية، وطرائق عيش ونماذج وجود، بين أقصى توترات الحياة البشرية المعاصرة، في المأساة مثل الملهاة. وفصول الكتاب تعرّفنا على ما امتاز به الصبان دائماً، من إطلالات بانورامية على المشهد السينمائي العالمي، إذْ نقرأ عن سينما الهند أسوة بالسويد، ومنجزات "الموجة الجديدة" الفرنسية أسوة بالواقعية الإيطالية، ونثمّن الانفرادات (غريفيث، شابلن، أورسون ويلز) أسوة بالظاهرات الجماعية (السينما اليابانية، هوليوود، مصر).

وللصبان ترجمات متميزة، لعلّ أبرزها ثلاثة أعمال. الأوّل بعنوان "نظرات في الأدب الأمريكي"، للناقد الفرنسي موريس ـ إدغار كواندرو، الذي يقترح قراءة مختلفة في أعمال وليام فوكنر وجون دوس باسوس وإرسكين كالدويل، كما يعرّف القارىء على أدباء (كانوا، ساعة إصدار الكتاب) في عداد المؤلفين الجدد. العمل الثاني هو "في النقد السينمائي الفرنسي"، للفرنسي جان ـ لوي بوري، الذي لا يستعرض مدارس النقد السينمائي الفرنسي وتياراته، بصفة خاصة، فحسب؛ بل يناقش، أيضاً، جملة الركائز التقنية والمعرفية التي لا غنى عنها في أية كتابة عن فنّ بالغ الأهمية والخطورة، ويقتضي بالتالي أقصى التعمق والجدية. وأمّا العمل الثالث فهو في ميدان المسرح هذه المرّة: "الإسلام والمسرح"ن للباحث التونسي محمد عزيزة؛ وهنا، إضافة إلى موضوعات الكتاب الغنية في ذاتها، حرص الصبان على أن تضمّ الترجمة بحثاً ثانياً مترجماً عن الفرنسية، بعنوان "فكرة المسرح والطقوس الإسلامية"، كتبه رشيد بنشنب؛ وكذلك نصّاً مسرحياً تراثياً بعنوان "آلام الحسين ومأساة كربلاء".

وتبقى إشارة إلى مقال بعنوان "سينما تتحدى الاستبداد"، كتبه الصبان في صيف 2012، عن شريط حاتم علي "الليل الطويل"؛ والذي كتبه هيثم حقي "بحرفية عالية وإحساس ثوري شديد، مضيفاً إلى قدرته الإخراجية موهبة كتابية مؤثرة وملفتة للنظر"، كما قال الصبان. الشريط، في نظره، نموذج مضيء "يعيد لنا الثقة في سينما سورية تنبعث دائماً من رمادها، وترفض بإصرار متكبر وعناد"؛ لأنها، على غرار خالد تاجا في أحد مشاهد الفيلم، كناية عن سوري "يستقبل حبات المطر، مطر الحرية"، على وجه "طالما حلم بهذا الماء المقدّس، الذي حرمته منه القضبان".

.. أو المنفى، كذلك؛ هذا الشرط الرهيب الذي جعل الصبان يوصي بأن يُدفن في القاهرة، لا في دمشق، ربما لكي نتنبّه إلى أنّ "خيام اللاجئين السوريين تذكّرنا بخيام الهاربين من الجحيم الإسرائيلي بعد نكبة الأربعينات"، كما كتب.

الجمعة، 16 أغسطس 2013

عن الطائفة العلوية: عود على بدء... لم يبتدىء أصلاً!

منذ انطلاق الانتفاضة السورية، في آذار (مارس) 2011، وما طرحته من أسئلة شائكة، ولكن مشروعة وموضوعية تماماً، حول أوضاع الطوائف السورية عامة، والطائفة العلوية خاصة؛ استفحلت أنساق متزايدة من الحساسية، لم تخلُ من مزاج التحريم، إزاء مناقشة تلك الأسئلة. ومؤخراً، بذريعة الامتناع عن صبّ الزيت على نار الاحتقانات الطائفية المختلفة، وتحديداً مع ابتداء عمليات "الجيش السوري الحرّ" في بعض قرى ريف اللاذقية التي تقطنها أغلبية علوية؛ استفحل ذلك المزاج أكثر، ولعلّه تضخّم وتورّم، حتى بلغ مستوى استفظاع تعبير مثل "منطقة الساحل"، لأنه ينطوي على تقسيم جغرافي يتنافى مع اللحمة الوطنية؛ أو رفض التعبير الآخر، "أبناء الطائفة العلوية"، لأنه يخدم غلاة الإسلاميين، ويؤجج لهيب الاستقطابات الطائفية.

ذلك دفن للرؤوس في الرمال، غنيّ عن القول، من جانب أوّل؛ لأنّ حظر الاستخدامات السياسية أو المعرفية أو التاريخية أو الثقافية للمفاهيم، لا يجتث تجذّرها في الرؤوس، أو يشذّب مدلولاتها. وهو، من جانب آخر، بمثابة استقالة طوعية عن واجب السجال المفيد حول تلك المفاهيم، وترك الساحة خالية أمام الغلاة المتشددين، أنفسهم، كي يبتسروا المفاهيم على هواهم، دون رادع أو منازع. ومن السخف تحريم توصيف "منطقة الساحل" هكذا، في إطار ما يمكن أن تدلّ عليه التسمية سياسياً وطائفياً على وجه التحديد، في موازاة تحليل توصيفات مثل "منطقة جبل العرب" أو "منطقة الجزيرة"، إذا كان السجال يتحرى النقاش حول مواقف وأوضاع الطائفة الدرزية أو الأغلبية الكردية.

المرء، إذاً ـ بسبب المقدار الهائل من سوء الفهم الذي يكتنف هذا النقاش، عادة وتلقائياً، سواء عن حسن نيّة أو عن سوء طوية ـ يجد حكمة دائمة في إعادة تثبيت سلسلة من المبادىء الناظمة التي قد تصلح ركائز، سياسية ومعرفية وأخلاقية أيضاً، لأيّ نقاش صحيّ وبنّاء بالمعنى الوطني، ورصين في الحدود المعرفية العليا الممكنة، حول علاقة الطائفة العلوية بالنظام، وحالها اليوم في الطور الراهن من الانتفاضة. ولعلّ خير بدء هو التذكير بأنّ اللاذقية (المدينة، كما تجب الإشارة؛ على اختلاف طوائف ساكنيها، كما أرجح شخصياً) كانت المدينة السورية الثانية التي انضمت إلى الانتفاضة، بعد درعا مباشرة؛ وعمّدت انضمامها، ذاك، بدماء الشهداء، وباتضاح انتقال النظام إلى خطّ دفاع تكتيكي جديد لوّح، بعد الانهيار السريع لسيناريو "المندسّين"، بـ"مخطط فتنة طائفية". المجتمع السوري، اللاذقيّ، في شرائحه المتديّنة خاصة، قدّم ردّاً سريعاً، قاطعاً وبليغاً: مسجد بساتين الريحان، الذي يستقبل المصلّين السنّة غالباً، أمّ الصلاة فيه إمام من الطائفة العلوية؛ ومسجد الحسن العسكري، وأغلبية مصلّيه من أبناء الطائفة العلوية، استقبل إمام المسجد السنّي ليؤمّ الصلاة.
مبدأ ثانٍ، هو علاقة الطائفة العلوية بالمعارضة المختلفة، أي بالعمل السياسي خارج التكوينَين التقليديين لحزب البعث والحزب السوري القومي الاجتماعي، واللذَين هيمنا عموماً على الانتماءات العقائدية في منطقة الساحل.

وفي حوليات التاريخ المعاصر، على امتداد العقود الأربعة من نظام "الحركة التصحيحية"، بين الأسد الأب والأسد الوريث، ثمة حقيقة ذات مغزى وطني كبير، ظلّت تترسخ سنة بعد أخرى، وتتأكد أكثر فأكثر كلما نفّذت السلطة حملة اعتقالات جديدة: أنّ المعارضين من بنات وأبناء الطائفة العلوية لم يكونوا في صدارة معتقلي، وشهداء، مختلف التيارات اليسارية والقومية التي طوّرت الحراك الديمقراطي السوري، فحسب؛ بل كانت السلطة توفّر لهم عقاباً إضافياً، أو مضاعفاً أحياناً، جرّاء خيار سياسي ظلت تعتبره "خيانة"... عظمى، أحياناً! وليس استمرار اعتقال عبد العزيز الخيّر، الناشط البارز وعضو قيادة "هيئة التنسيق"، سوى الواقعة الأحدث في سجلّ النظام (لا تنفك، بقدر ما تستكمل، إنزال عقاب خاصّ إضافي بالخيّر، نفسه، في فترة الاعتقال الأولى 1992 ـ 2005، أي بعد انقضاء أربع سنوات على إطلاق سراح آخر رفاقه).

مبدأ ثالث، استولدته شروط انطلاق وتطوّر الانتفاضة، وأعطى شعار "الجيش والشعب يد واحدة"؛ كان ذاك الذي نجم عن إدراك المواطنين مغزى التحفظ الذي أبداه بعض الضباط والأفراد في تنفيذ أوامر لاوطنية، على رأسها استخدام الذخيرة الحية في تفريق التظاهرات السلمية، أو لجوء بعضهم إلى الخيار الأقصى في رفض تنفيذ مثل تلك الأوامر، بما ينطوي عليه ذلك من عاقبة الإعدام في الميدان. ولم يكن ذاك سرّاً، ولا أمنية فقط، لأنّ الزمن تكفل بإماطة اللثام عن حقيقة أنّ العديد من هؤلاء الذين أُعدموا كانوا من أبناء الطائفة العلوية، التي لم تكن في أيّ يوم أقلّ وطنية، أو تطلعاً إلى الحرية والكرامة والديمقراطية، من أبناء جميع الطوائف والمذاهب والأديان والإثنيات في سورية. ورغم أنّ أجهزة النظام حرص على تصنيف أولئك الشهداء في خانة ضحايا "العصابات المندسة"، فإنّ الحقائق الميدانية لاستشهادهم إعداماً في الميدان سرعان ما تكشفت، وأعطت مؤشراً مبكراً على أنّ الكثير من أبناء الطائفة يرفضون الذهاب إلى المحرقة الوطنية التي يسعى النظام إلى دفعهم إليها.

الكثير، ولكن ليس السواد الأعظم في واقع ما تراكم بعدئذ من حال، داخل شرائح متزايدة من أبناء الطائفة العلوية، في القرى والبلدات والمدن، وفي صفوف الفئات الفقيرة والوسطى، وليس في أوساط المتطوعين في الجيش ومختلف الأجهزة الأمنية ومجموعات "الشبيحة" والميليشيات البعثية واللجان الشعبية وكتائب الدفاع الوطني، وما إليها من تشكيلات مسلحة. وهذا مبدأ رابع لا يكون استبعاده، عن أيّ نقاش جدّي حول علاقة الطائفة العلوية بالنظام وبالانتفاضة، إلا محاولة إرادية جديدة لدفن الرؤوس في الرمال؛ تتغاضى عن حقيقة نجاح النظام، وعلى نحو اضطرد وتزايد واستفحل، في تسويق سردية الخوف من زحف المتشددين السنّة على القرى العلوية، والسردية الأخرى المكمّلة التي تقول إنّ منجاة الطائفة العلوية لا تنفصل البتة عن منجاة النظام.

الخطأ الفادح، في نقاش هذا المبدأ الرابع تحديداً، اتخذ سمة تعميم مطلق، يرى في الطائفة العلوية كتلة إسمنتية صماء متجانسة، ذات ولاء واحد وحيد، ومرجعية سياسية وعسكرية وأمنية هي نظام "الحركة التصحيحية"، وشخص بشار الأسد، خليفة أبيه المرجع الأوّل حافظ الأسد. وهذا تأويل جامد أخرق، يتعامى عن وجود مجتمع وطبقات وفئات ومصالح وتناقضات داخل الطائفة، أسوة بسواها من الطوائف؛ ولا يرى أنّ الضيعة الواحدة يمكن أن تحوي فقراء يسكنون بيوتاً ما تزال سقوفها من طين، تتجاور مع قصور خرافية التصميم فاحشة الفخامة، شيّدها كبار الضباط. وثمة معارضون للنظام، سبق لهم أن قضوا في السجون عقوداً، إلى جانب أولئك الذين يخدمون النظام من منطلقات شتى، بينها الفساد والولاء الأعمى والانحياز الطائفي، وكذلك تأمين لقمة العيش البسيط؛ تماماً كحال الآلاف في كلّ أرجاء سورية، من كلّ الطوائف، في المؤسسة العسكرية أو الأمنية، أو في مختلف قطاعات الدولة.

والأساس، في التوقف عند مبدأ خامس، أنّ مركّب النظام الثلاثي، الأمني والعسكري والاقتصادي، ليس طائفي الهوية على أيّ نحو اجتماعي أو سياسي، وبالتالي فهو ليس علوياً أو سنّياً او درزياً، وليس مسلماً أو مسيحياً، وليس عربياً أو كردياً أو تركمانياً؛ أياً كانت نسبة الحضور الطوائفي أو الإثني في صفوفه، وبصرف النظر عن الغلبة العددية لهذه الطائفة أو تلك الإثنية. خطأ فادح، بدوره، ذلك الميل إلى أي "فرز" طائفي لوحدات الجيش السوري، بحيث يسهل التفكير بأنّ كتائب "الحرس الجمهوري" سوف تُجهز على الإنتفاضة الشعبية بسبب غلبة أبناء الطائفة العلوية في صفوفها، أو أنّ بعض ضباط الفرقة الرابعة سوف يفعلون العكس للسبب العكس؛ وذلك، هنا أيضاً، بصرف النظر عن النِسَب العددية لأبناء الطائفة العلوية في هذه التشكيلات. ورغم أنّ المؤسسة العسكرية، في الأنظمة الاستبدادية بصفة خاصة، تنضوي غالباً في صفّ الحاكم والنظام، ضدّ المواطن والدولة المدنية؛ فإنّ القراءة الطائفية لهذه الفرضية السوسيولوجية ليست اختزالاً قاصراً، فحسب، بل هي مراهنة خاطئة ومجازفة خطيرة.

وهكذا، ثمة خلاصة (يجوز، أيضاً، اعتبارها مبدأ سادساً يستكمل السياقات الخمسة السابقة)، مستمدة من حقيقة وقائعية بسيطة: أنّ ردود أفعال أبناء الطائفة العلوية ـ الجَمْعية، أو تلك التي تتصادى على أيّ نحو مع سلوك جماعي، غير فردي في كلّ حال ـ كانت، حتى الساعة، أكثر خدمة للنظام، وأكثر اتساقاً مع سياساته؛ حتى إذا صحّ أنها لم تنخرط تماماً في مخططاته الأشدّ خبثاً وشرّاً، والتي تمثلت أوّلاً في محاولات استدراج الطائفة إلى مواجهات أهلية مع الأغلبية السنّية، في أعقاب ارتكاب المجازر داخل القرى والمناطق المحاذية تحديداً. هنالك، بالتالي، ما يشبه ابتداءً لا يبتدىء في سلوك شرائح عريضة من جماهير أبناء الطائفة العلوية، فهم ليسوا تماماً داخل صفوفه العسكرية المقاتلة، خارج الوحدات النظامية والميليشيات وما شابهها؛ وليسوا تماماً في صفوف معارضته، إذْ يندر أن تخرج مظاهرة احتجاج في قرية أو بلدة علوية، حتى حين يعتقل النظام عدداً من أبنائها المعارضين...

لهذا، ليس دون مظانّ كثيرة تطعن في صدقية الحقائق ومنهجية التفكير بالطبع، شاء البعض تضخيم حوادث احتجاج فردية، أو منعزلة، هنا وهناك، على شاكلة ما قيل عن "المبادرة الوطنية الديمقراطية" التي دعا إليها محمد سلمان، وزير الإعلام الأسبق، صيف 2011، وضمّت حفنة من متقاعدي النظام، بينهم عدد من أبناء الطائفة العلوية، أقرّوا بأنّ "البلد يمرّ بأزمة وطنية، ويجب على المواطنين المخلصين أن يبادروا لإنقاذ الوطن من أزمته"؛ أو ما قيل، بعدئذ، عن "صراعات" عائلية وعشائرية شهدتها القرداحة، خريف 2012؛ أو ما يُقال، اليوم، عن تظاهرات احتجاج في مدينة اللاذقية، بتأثير اعتقال أو تهجير عدد من أبناء القرى التي كانت ساحة قتال خلال العمليات العسكرية الأخيرة.

ويبقى أنّ قرار النظام اليوم، كما كانت عليه حاله صبيحة انطلاق الانتفاضة الشعبية في آذار (مارس) 2011، في عهدة حفنة محدودة من الأشخاص، العسكريين والمدنيين، على رأسهم الأسد نفسه؛ تنتمي غالبيتهم إلى الطائفة العلوية، في صفوف العسكريين بصفة خاصة، إلا أنّ تركيبتهم البنيوية ليست طائفية، بقدر ما هي اجتماعية ـ اقتصادية في المقام الأوّل. ويبقى، ثانياً، أنهم لا يشتركون في خيارات العنف، والحلول القصوى الانتحارية، والارتهان الخارجي، فحسب؛ بل يتساوون في المصير، إزاء إرادة الشعب وحكم التاريخ، قبل أن يبتدىء معهم أيّ بدء آخر، زائف مؤقت أو عابر كاذب.

الاثنين، 12 أغسطس 2013

نصر الله: خيار إسرائيل الأرحم!

ذات يوم ـ غير بعيد في الزمن، ولكنه قريب تماماً من حيث تشابه السياقات ـ عمد المعلّق الإسرائيلي ألوف بِنْ إلى كسر الصمت، أو لعله باح بالمسكوت عنه في صفوف الساسة وأجهزة الأمن والقادة العسكريين الإسرائيليين؛ حين عقد مقارنة افتراضية بين: 1) صاروخ فلسطيني من طراز "القسام"، محمّل بمواد انفجارية بدائية ولا يتجاوز مداه 12 كيلومتراً،  يسقط على سيدروت أو عسقلان، ويتسبب في أضرار طفيفة لا تتجاوز جرح مستوطن أو حفر طريق إسفلتي؛ و2) صاروخ سوري من طراز "سكود"، محمّل برأس كيماوي، يمكن أن يسقط على تل أبيب، ويوقع مئات الإصابات.

وتوصّل بن إلى خلاصة قد تبدو بالغة الغرابة، للوهلة الأولى فقط: أنّ الصاروخ الأوّل، "القسام"، هو الأشدّ خطورة. لماذا؟ ببساطة، لأنّ الصاروخ السوري لن ينطلق في أية حال (إذ يعرف بشار الأسد أنّ عواقب إطلاقه سوف تعني قيام مقاتلات إسرائيلية من طراز F-16 بدكّ مراكز عصب السلطة السورية أينما كانت، ابتداءً من القصور الرئاسية)؛ في حين أنّ المقاتلات ذاتها لا تستطيع القيام بمهامّ مماثلة في غزّة ومحيطها، إلا في نطاق محدود وحساس، مضارّه أكثر من منافعه، وأنّ العلاج الذي سيُطرح على جدول الأعمال (أي إعادة احتلال القطاع) أسوأ من العلّة ذاتها.

الحكمة، إذاً، ليست في التكنولوجيا التدميرية للصاروخ ذاته، أو الأمدية التي يمكن أن يبلغها، بل في الأصابع التي تضغط على زناد الإطلاق، ولماذا ومتى يتمّ الضغط. وبهذا المعنى، استخلص بن يومذاك، فإنّ الأسد أرحم لإسرائيل من فتية كتائب القسّام؛ وصاروخ الـ"سكود" الفتاك أقلّ وطأة من صواريخ الهواة التي تُصنّع بموادّ بدائية وبتكنولوجيا فقيرة. استطراداً، اعتبر بن أنّ إسرائيل بحاجة إلى حسن نصر الله، فلسطيني/غزّاوي/حمساوي، يضبط صواريخ "القسام" كما ضبط نصر الله صواريخ الـ"كاتيوشا" على امتداد الحدود اللبنانية ـ الإسرائيلية.

في صياغة أخرى، من عندنا هذه المرّة، أراد بن وضع صواريخ "القسام" قيد السياسة، وليس وضع السياسة رهينة تلك الصواريخ، على غرار السياسة التي اعتمدها نصر الله، وفرضها ونفّذها "حزب الله"، بعد وخلال سنوات الاحتلال الإسرائيلي للجنوب: سلاح واحد/قانون واحد. أكثر من هذا، اعتبر بن أنّ الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان سنة 2000 لم يكن راجعاً إلى جرأة رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك، إيهود باراك، فحسب؛ بل كان، كذلك، يدين بالكثير لسياسة نصر الله في فرض وحدة القرارَين السياسي والعسكري، سواء بسواء.

وكتب بن أنّ نصر الله قد "لا يكره إسرائيل والصهيونية أقلّ من قادة حماس، وخاطفي شاليت، وفصائل القسام. ولكنه، على نقيض منهم، يمتلك السيطرة ويتحلى بالمسؤولية، ولهذا فإنّ التكهن بسلوكه ممكن عقلانياً ومنطقياً. وهذا، في الظروف الراهنة، هو الوضع الأفضل لنا: إنّ حزب الله يقوم بالحفاظ على الهدوء في الجليل على نحو أفضل بكثير مما فعل جيش لبنان الجنوبي الذي كان موالياً لإسرائيل". ولأنه لا يوجد في الأراضي الفلسطينية المحتلة نصر الله فلسطيني، تابع بن؛ كما أنّ الرئيس الفلسطيني محمود عباس لا يبدو زعيماً نافذاً مفوّضاً، بقدر ما يشبه "مثقفاً معذّباً مؤيداً للمفاوضات الدبلوماسية"؛ وحكومة "حماس" لا تملك السيطرة على السلاح، أو لا ترغب في ذلك أصلاً... فإنّ صواريخ "القسّام" أخطر من الـ"كاتيوشا" أيضاً!

والحال أنّ تلك المقاربة لم تكن تصدر عن فراغ، ولم تهبط من سماء التنظير السياسي الصرف، بل كانت تتكيء على مبادىء أساسية، بسيطة ومنطقية وذرائعية، صنعتها عقود من علاقة نظام "الحركة التصحيحية"، الأسد الأب مثل الأسد الابن، مع إسرائيل. وكان أمراً بسيطاً ومنطقياً وذرائعياً، أيضاً، أن تحظى تلك المبادىء بمقدار عالٍ من التكامل مع خطط "حزب الله"، لكي لا يتحدّث المرء عن حصيلة تكتيكاته مثل ستراتيجياته؛ ليس بسبب العلاقة الوثيقة بين الحزب ونظام آل الأسد، فحسب؛ بل كذلك لأنّ تاريخ علاقات إسرائيل مع إيران، ربيبة "حزب الله" ومرجعيته الفقهية والعقيدية والعسكرية والسياسية والأمنية، كان تاريخاً عاصفاً في مستوى السطح فقط، في اللفظ والبلاغة والضجيج والجعجعة، ليس أكثر.

ومع ذلك، ورغم حصافة معلّق مخضرم مثل ألوف بن، كيف كان له أن يستبصر أنّ ما عُدّ مستحيلاً يومذاك، صار ممكناً تماماً منذ آذار (مارس) 2011، حين انطلقت انتفاضة الشعب السوري ضدّ نظام "الحركة التصحيحية"، فواجهها الأسد بكلّ ما في ترسانة جيشه من أسلحة فتاكة؟ وأنّى له ان يتكهن بأنّ صاروخ الـ"سكود" سوف يُطلق من منصاته في قطنا، على مبعدة كيلومترات قليلة من حدود الاحتلال الإسرائيلي للجولان، لا لكي يستهدف تل أبيب، بل ليقصف حلب وإدلب والرقة ومناطف الشمال السوري؟ وأية مخيلة جهنمية كانت ستتيح للمعلّق ذاته أن يتخيّل مقاتلي "حزب الله" وهم يتلهفون على غزو القصير، البلدة السورية ذاتها التي آوتهم من ويلات القصف الإسرائيلي، سنة 2006؟

أيّ ساذج، والحال هذه، يمكن أن يستغرب استشراس إسرائيل، اليمينية مثل اليسارية، والمتدينة مثل العلمانية، في الدفاع عن بقاء نظام الأسد؟ أو ينقّب، في المقابل، عن أيّ معنى تبقى من مفردة "مقاومة، وأختها "ممانعة"؟

الجمعة، 9 أغسطس 2013

"تحرير الساحل" وتحريك المياه الراكدة: رفعت الأسد نموذجاً

رغم أنها ما تزال محدودة النطاق جغرافياً، وذات طبيعة رمزية عسكرياً، ومتضاربة في حصيلة فوائدها ومضارّها سياسياً؛ فإنّ عمليات "الجيش السوري الحرّ" الأخيرة في بعض قرى الساحل السوري حرّكت مقداراً ملموساً من المياه الراكدة في مواقف أبناء الطائفة العلوية، تجاه الانتفاضة أسوة بالنظام. كذلك استدعت ردود أفعال متباينة، ليس بمعنى اختلاف الرأي حول العمليات ذاتها (إذْ توفّر ما يشبه الإجماع، المشروع، على التخوّف من عواقبها)؛ بل بمعنى خلخلة عدد من الولاءات والانحيازات، التي لاح انها استقرّت عند مستوى من الثبات النسبي طيلة سنتين ونصف من عمر الانتفاضة. أخيراً، وبالتضافر مع نجاحات الجيش الحرّ في محيط حلب (تحرير مطار منغ)، وفي درعا، وما تردد عن استهداف موكب بشار الأسد أمس؛ شاعت مناخات توحي بتقهقر النظام عسكرياً، وارتداد الحال إلى ما قبل سقوط بلدة القصير.

وإذا كان من المبكّر، في هذه المرحلة، استخلاص أيّ تقدير متكامل في الحدود الدنيا حول عمليات قرى الساحل وجبل الأكراد، وخاصة من حيث الجدوى العسكرية (التي تتجاوز القيمة الرمزية لاستهداف بلدة القرداحة، مثلاً، مقابل إمكانية قطع طريق إمدادات قوّات النظام من اللاذقية إلى إدلب وحلب)؛ فإنّ رصد أنساق محددة من ردود الفعل متاح منذ الآن، بل لعلّه يرتدى مغزى بالغ الخصوصية، في شأن ما طرأ أو قد يطرأ من تحوّلات على مزاج بعض أبناء الطائفة العلوية، وفي ما هو أبعد من مظاهر الاحتجاج التلقائية التي قيل إنها اندلعت في القرداحة ذاتها، وكذلك في اللاذقية (حيث تردد أنّ تجمعاً شعبياً أمام فرع المخابرات الجوية، شهد هتافات مثل: "أولادنا بالقبور، وأولادكم في القصور").

نسق آخر من ردود الأفعال، عاد مجدداً بعد ظهور أوّل يعود إلى شباط (فبراير) 2012، وهو انتشار لافتات وملصقات تحمل صورة رفعت الأسد، وعبارة "الشعب يطالب بعودة القائد الدكتور رفعت الأسد. ناطرينك". ولم تكن مصادفة، استطراداً، أن يسارع "التجمع القومي الديمقراطي الموحد"، حزب هذا الأخير، إلى إصدار بيان اتهامي صارخ: "كلكم تتاجرون بالوطن وبالمواطن وبالحرية، وكلكم تقتلون باسم الوطن والمواطن والحرية، وكلٌ منكم تخلى عن أخلاقه، ولا بد لهذا النزيف اليومي والدمار اليومي أن يتوقف". كذلك لم يكن مستغرباً أن يطالب البيان "كافة الغرباء بمغادرة التراب السوري الطاهر، لأنهم يحيكون للوطن مؤامرة كبرى"، وأن يهاجم "المعارضة المسلحة داخل سورية" لأنها تمارس "سياسة القتل والتدمير وتفسيخ نسيج المجتمع السوري المتآخي"، ومعارضة الخارج بسبب "الاستقواء بالأجنبي على الوطن، وممارسة التأجيج والتجييش والحض على الجهاد، والدعوة إلى إسقاط النظام، حتى ولو لم يبق في سورية حجر على حجر آخر".

أمّا النظام ذاته، الذي يقصف البشر مثل الحجر، ويحرق الزرع اسوة بالضرع، ولا يوفّر سلاحاً خفيفاً أو متوسطاً أو ثقيلاً، ويقصف بالطائرات والدبابات والمدفعية والراجمات، بالبراميل المتفجرة وصواريخ "سكود" والأسلحة الكيميائية... فهذا ما يقوله عنه بيان رفعت الأسد: "لسنا مع المتشددين في النظام الذين يمارسون سياسة العنف". نعم، "متشددون"... فقط، لا غير! ولا عجب، بعد هذا، أن يتماهى العمّ (رفعت) مع أطروحات ابن أخيه (بشار)، فيردّد مثله: نحن "مع كلّ معارضة وطنية شريفة، ومع كلّ القامات والشخصيات الوطنية التي ترفض العنف، وتسعى لمصلحة الوطن والمواطن أولاً، وترفض كل ما يجري على الساحة الوطنية السورية من قتل ودمار وتمزيق لنسيج المجتمع السوري". ولا غرابة أن ينتهي البيان هكذا: "لا بدّ من صحوة وطنية عاجلة، والتمسك بسياسة العدل والسلام والحرية لإنقاذ الوطن قبل فوات الأوان".

ثمة "أوان" ما، إذاً، كان الدافع وراء إصدار هذا البيان، وكان حافز التغيير الجلي الذي طرأ على موقف العمّ من الانتفاضة الشعبية العارمة التي تعصف بركائز "الحركة التصحيحية"، حكم شقيقه حافظ، وشقيقه الثاني جميل، وحكمه هو شخصياً، ثمّ أبناء شقيقيه، وأبنائه، وآل الأسد أجمعين؛ متضافرين، متضامنين، مع آل مخلوف، وآل شاليش، وآل ناصيف، وآل دوبا، وآل الخولي، وآل مملوك؛ وقبلهم، وإنْ بحصص أقلّ دسماً وليس أقلّ شراهة إلى امتصاص دماء السوريين، آل خدّام، وآل طلاس، وآل الشهابي، وآل الأخرس... ومَنْ لفّ لفّهم، وجرّ جرّهم! الحال تتبدّل على الأرض، وثمة نيران تشتعل في أركان البيت الداخلي، بعد أن بلغ لهيبها مراكز موالاة لاح أنها منيعة بوفائها المطلق لسردية النظام، ومراصد دفاع بدت منيعة مدججة بالسلاح والشبيحة؛ ولا مناص إذاً، أو "لا بدّ" وفق نصّ البيان، من تغيير المواقف، بعد تبدّل الحال. 

وكان رفعت الأسد (75 سنة) قد بدأ بمحاولة امتطاء مظاهرات درعا، التي انطلقت في آذار (مارس) 2011، زاعماً أنه أعطى التوجيهات لأنصار حزبه بالمشاركة فيها، وأنها كانت سلمية تماماً، والحماقة الأولى أتت من قريب بشار الأسد، مسؤول الأمن السياسي هناك، الذي أعطى الأوامر باستخدام الذخيرة الحية ضدّ المتظاهرين (حوار مع أسبوعية "باري ماتش" الفرنسية، يعود إلى خريف 2012). قبلها كان قد أصدر بياناً خاصاً يترحم فيه على الشهيد حمزة الخطيب: "لا يسعني إلا أن أحيي هذا الطفل الشهيد، وأعزي نفسي باستشهاد الشعب السوري، وأجثو على قدمي مبتهلاً ما قدس الله شهداء، حيث لم يبق منه إلا جيلك وأجيالك عليك الصلاة ولك الخلود"!

بعدئذ، في نقلة دراماتيكية تتوخى تضخيم الذات، أعلن رفعت الأسد أنه يملك الحلّ السحري لإنهاء "الأزمة" في سورية، وأنّ روسيا موافقة عليه، وكذلك "الإخوان المسلمين"، وبشار الأسد يمكن أن يوافق، وثمة آفاق لإقناع المعارضة الداخلية والخارجية بالسير في الركاب... أين العائق، والحال هذه؟ إنها إيران: "لأنّ المشكلة الدولية اليوم هي سورية، وليست إيران. ولإيران كلّ المصلحة في صرف الأنظار عنها ورفض كلّ مساومة. يتوجب أن نجبر إيران. نحن نحترم إيران والشعب الفارسي. لكنّ لإيران مطامح مفرطة تجعلها تتجاوز حدودها في كلّ مرّة". (حوار مع موقع Slate.fr الفرنسي، يعود إلى آب/ أغسطس، 2012).

واتكاءً على ثقته المطلقة بأنه (كما تابع، في الحوار إياه) يُنتظَر في سورية بصفة المنقذ، يؤكد أنّ عودته إلى البلد اليوم هي أسهل بكثير ممّا كانت عليه قبل 20 سنة، حين نفاه شقيقه حافظ؛ وأسهل عليه، أيضاً، أن يتولى إصلاح سورية: "الكلّ يدرك ضرورة التغيير، والنظام مرفوض على نطاق واسع، ولا يحميه اليوم غلا خوف الأقليات، وسورية ترغب في العيش بسلام، ولهذا لا تمثّل خطراً على جيرانها، وليس لجيرانها أن يمثّلوا خطراً عليها". المنقذ من الضلال، إذاً؟ ربما، في ناظر شرائح ليست بالقليلة في صفوف عسكر النظام، وأفراد أجهزته الأمنية، وشبيحته، من أبناء الطائفة العلوية بصفة خاصة؛ لأسباب جديرة بالاستعادة، هنا، وكلما طُرح اسم رفعت الأسد في نقاش كهذا.

ذلك لأنّ أرصدته، السياسية والأمنية والعسكرية والمالية، سواء داخل صفوف الضباط أو المدنيين، في الحزب أو الدولة أو المجتمع، ليست محدودة، وليست مجمدة البتة؛ وهي بالتالي قابلة للتوظيف الفوري، سواء جرى استثمارها من داخل سورية لكي تعطي ثمارها في الداخل السوري وتُرحّل إلى الخارج في آن معاً؛ أو جرى العكس: استثمار من الخارج إلى الداخل، حيث تكتسب من أسباب القوّة ما يجعلها قابلة للتصدير مجدداً إلى الخارج! وكان انتشار اللافتات والملصقات التي تحضّ على عودته مثيراً تماماً، وذا مغزى بالطبع، لأنّ المرء كان يعثر على بعضها ملصقة حتى على جدران فروع الأمن، ومداخل الوحدات العسكرية، وشواخص الطرقات العامة، في القرى والبلدات والمدن.

والعمّ ما يزال يتمتع بولاء شرائح واسعة من كوادره القديمة (السياسية والعسكرية، الرسمية وغير الرسمية) التي صعدت منذ أوائل الثمانينيات على يديه، بفضل منه، وحين كان الرجل الثاني في البلاد، أو "البلدوزر" الذي يجرف ما يشاء، أنّى ومتى شاء. وتلك كوادر اضطرت ـ بعد تقليص سلطاته، وإبعاده خارج سورية إثر صراعات عام 1984، وحلّ "سرايا الدفاع"، ذراعه العسكرية الضاربة ـ إلى التقاعد أو الانزواء أو التأقلم مع الأوضاع الجديدة. وهي، أيّاً كانت مواقعها الراهنة، في مواقع الجيش الهامشية والإدارية الصرفة، أم في فروع المخابرات المختلفة، أم في ألوية الفرقة الرابعة والحرس الجمهوري، أم في عشرات القرى الصغيرة والكبيرة (بعد حلّها، امتهن أفراد "سرايا الدفاع" من رتبة "رقيب أوّل" أو "مساعد" وظائف مشايخ أو مخاتير في ضٍيَع الساحل السوري)... مستعدّة إلى الانضواء من جديد في كنف "القائد".

كذلك فإنّ رفعت الأسد قادر على مصالحة النقائض، وتقريب الهوّة بين شيوخ السلطة وكهولها وشبّانها، وبين الخاسرين منهم والرابحين، وحيتان الفساد أسوة بالقطط السمان، والجوارح التي تقتات على الجيف مثل تلك التي تستأثر بالطرائد الأدسم. وهو عسكري سابق امتهن الـ "بزنس" ذا العيار الثقيل، واستثماراته داخل سورية وخارجها تُحسب بالمليارات، وتحالفاته وثيقة مع التجّار ورجال الأعمال حتى جاء زمن عُدّ فيه "حامي التجّار" بامتياز. وحين كان قويّاً، على رأس جيشه الخاصّ، النخبوي تماماً في تسليحه وامتيازات أفراده، يقود تحالفاً عجيباً من العسكر والتجّار والأكاديميين (إذْ لا ننسى أنه "دكتور" في العلوم السياسية، ورئيس سابق لـ "رابطة خرّيجي الدراسات العليا"!)؛ أشاع رفعت الأسد ثقافة "عسكرة التجارة"، التي تجعل الضباط شركاء دون رساميل في أيّ وكلّ تجارة؛ بالتوازي مع "تَجْرَنة العسكر"، حيث ينقلب الضباط إلى تجار في كلّ وأيّ صنف، وسط ابتهاج مختلف فئات البرجوازية السورية الطفيلية.

وهذا، حين تقتضي الحال ويأزف "أوان" لا ريب فيه، رجل بطش وإراقة دماء وهتك أعراض وإحراق أخضر ويابس؛ سجلّه شاهد على ما ارتكب في تدمر، بل وفي أربع رياح سورية، خلال السنوات التي شهدت ذروة صعوده، وأقصى تعطشه للدماء. وإذا بدا للبعض في صورة "المنقذ" حقاً، وعلى أيّ نحو، فذلك لأنّ مزاج الرعب المطلق الذي يعصف بذهنية ذلك البعض لا يطيق رؤية أفق وطني سليم وصحّي يتيح تعايش السوريين بمختلف مذاهبهم وطوائفهم وأديانهم وإثنياتهم؛ بقدر ما يتشبث بسردية رهاب واحدة وحيدة، ترى الكابوس وحده، وتتشبث بعظام رميم، ولا تبصر إلا حافة الانهيار.

أو تهرع في خوافها إلى هاوية انتحار، استيهاميّ وذاتي أغلب الظنّ!

الاثنين، 5 أغسطس 2013

رحيل شارون: للنظام السوري طول البقاء!

في صيف العام 2006، حين أجبرت الغيبوبة أرييل شارون على مغادرة الحياة السياسية، كان آخر مواقفه، بصفته رئيس وزراء وزعيماً لحزب "كاديما"، هو الدفاع الشرس عن نظام بشار الأسد، وتوفير الأسباب الكفيلة بحفظ بقائه، وعدم المضيّ في الضغوط الأمريكية ـ الفرنسية (أيام الرئيسين الأمريكي جورج بوش والفرنسي جاك شيراك) إلى مستوى يهدّد بانهيار بنية النظام. ولتذهبْ إلى الجحيم، طبقاً لمنظومة تفكير شارون، تخرّصات القائلين بـ "شرق أوسط جديد" ديمقراطي، يفسح أيّ مجال أمام سقوط النظام، وقيام سورية جديدة ديمقراطية. إذا قامت هذه فإنها، في يقين شارون لن تعيد فتح ملفات الجولان المحتلّ، فحسب؛ بل سوف تعيد تركيب الجبهة السورية، شعباً وجيشاً ودولة ومؤسسات، بما يكفل استيلاد أخطار جدّية غير مسبوقة على أمن واستقرار إسرائيل.

من الإنصاف المحض، إذاً، أن يكون آل الأسد في عداد متقبّلي التعازي بغيبوبة شارون تلك، وكذلك رحيله أخيراً؛ خاصة وأنّ السياقات الراهنة، لجهة إصرار إسرائيل على إطالة عمر النظام السوري، تكاد تتطابق مع سياقات العام 2006، وتعيد إنتاج المسوغات ذاتها التي حثّت شارون على المطالبة بحفظ بقاء وريث حافظ الأسد، السائر على هديه في إسباغ السكينة والسلام على طول حدود الاحتلال الإسرائيلي للجولان، وإضفاء الأمان والاطمئنان على المستوطنات والمستوطنين هناك. وكان شارون يدرك جيداً، ولم يكن بحاجة إلى استعادة وقائع التاريخ القريب لكي يتأكد، أنّ هذا الوريث لن يذهب البتة أبعد مما فعل أبوه خلال مذابح صبرا وشاتيلا، والغزو الإسرائيلي للبنان سنة 1982، أو حصار المخيمات الفلسطينية وتجويعها... 

صحيح أنّ الدفاع عن هذا النظام، تحديداً، لم يكن يلغي مقولة الأصل، أي حقيقة أنّ سورية الشعب والجيش هي، في العمق الستراتيجي المديد والبعيد، بلد معادٍ في الجوهر، مثله في ذلك مثل الشعب والجيش في مصر والأردن. ولكن من الصحيح، أيضاً، أنّ إسرائيل كانت تتمتع، وتستمتع، بمزايا تلك التبدّلات الكبرى التي طرأت على خريطة ما يُسمّى بـ "الأنظمة الراديكالية" في العالم العربي: إخراج العراق من ساحة الصراع، تطويع ليبيا، إحياء المحور السعودي ـ المصري وتمتين وظائفه في الضغط أو التوسّط أو الإنابة الإقليمية على نحو يضمن حسن تنفيذ أغراض السياسة الأمريكية؛ وما إلى هذا وذاك من عناصر مشهد متحوّل قلب معادلات الصراع العربي ـ الإسرائيلي، رأساً على عقب أحياناً.

وليس صعباً على المرء أن يتفهم أسباب شارون في الدفاع عن هذا النظام، خاصة حين برهنت وقائع الانتفاضة السورية، شهراً بعد آخر، أنّ الفرضيات التي اتكأ عليها جنرال صبرا وشاتيلا، إنما تُفرز الحيثيات ذاتها التي انتظرها من جيش النظام: قُصفت القرى والبلدات والمدن السورية المنتفضة، بالأسلحة المدفعية والصاروخية الفتاكة كافة، وبالدبابة مثل المروحية والقاذفة، فضلاً عن صواريخ "سكود"... على مبعدة أمتار من خطوط الاحتلال الإسرائيلي في الجولان، تحت سمع وبصر الجيش الإسرائيلي السعيد بالمشهد، الآمن المستريح المطمئن. وهكذا، لم يكن شارون يهذي أو يجدّف حين طالب واشنطن وباريس بتخفيف الضغط عن نظام الأسد، ولم تكن أضغاث أحلام تلك المقاربة التي قادته إلى تعليق كلّ تلك الآمال على وارث "الحركة التصحيحية".

كان جلياً، أيضاً، أنّ ملفّ التوريث، وترتيب بيت النظام الداخلي لقبول الوريث، وتمكينه قدر المستطاع؛ قد اكتسب أولوية قصوى عند الأسد الأب، فور عودته من قمّة جنيف مع الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون، في آذار(مارس) 2000، واقتناعه بأنه لن يحصل على مطالب الحدّ الأدنى التي تجعل عقد مثل تلك الإتفاقية مصدر قوّة لوريثه، بدل أن تكون مصدر ضعف. ولهذا قرّر أن يذهب مذهباً آخر مختلفاً تماماً: لقد عاشت سورية في سياقات اللاحرب ـ اللاسلم منذ 32 عاماً، 29 منها في عهده هو، ولم تلعب تلك السياقات أيّ دور في المسّ بمعادلات الوضع الداخلي كما رسمها ونفذّها بدقّة هندسية صارمة. في وسع سورية، استطراداً، أن تعيش طوراً إضافياً في ظلّ السياقات ذاتها، حتى إذا كانت أساليب معالجة أخطار انعزال البلد في غيابه لن تكون شبيهة بأساليبه هو في معالجة تلك الأخطار.

وبالفعل، بعد شهرين على انطلاق الانتفاضة السورية، أعلن رامي مخلوف، صيرفي النظام وابن خال الأسد، أنّ أمن سورية مرتبط بأمن إسرائيل؛ ثمّ نقلت صحيفة "يديعوت أحرونوت" الإسرائيلية، عن مصادر أمريكية، أنّ الأسد أرسل ما يفيد استعداد نظامه لاستئناف المفاوضات مع إسرائيل؛ مع تشديد على أنّ استئناف جولات التفاوض لن يكون ميسّراً إلا إذا... "هدأت الأوضاع الداخلية" في سورية. إحياء، إذاً، للعبة العتيقة إياها: أنّ التفاوض مع إسرائيل، وما ينطوي عليه من التلويح بالتنازلات، هو أحد الركائز الكبرى التي يعتمد عليها النظام في تأمين منافذ النجاة، كلّما لاح خطر داهم؛ فكيف إذا كان الخطر الراهن داخلياً صرفاً هذه المرّة، يأخذ صفة انتفاضة شعبية شملت سورية بأسرها؟

صحيح أنّ شارون كان في موت سريري منذ سبع سنوات، إلا أنّ إعلان وفاته رسمياً، مؤخراً، يجيز انتظار تقبّل العزاء من نظام كان الجنرال الميت يريد له... طول البقاء!

الجمعة، 2 أغسطس 2013

بريجنسكي مؤسس "القاعدة": ما العيب في الأسد والسيسي؟

ليس كلّ انقلاب عسكري شريراً، يقول زبغنيو بريجنسكي، مستشار الأمن القومي في عهد الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر؛ تعليقاً على الانقلاب العسكري الذي قاده الفريق عبد الفتاح السيسي في مصر، مؤخراً. هكذا، يتابع بريجنسكي، كانت حال الجيشَيْن البرازيلي والتركي، اللذَيْن استعادا النظام الديمقراطي بعد انقلاب عسكري، وهكذا يمكن أن تكون حال الجيش المصري: فلننتظر، يستحثّ بريجنسكي الإدارة الأمريكية، متسائلاً: هل كنّا نعرف شيئاً عن أنور السادات قبل أن يتولى الحكم بعد جمال عبد الناصر (بمعنى: هل كنّا نتوقع منه فضيلة المشاركة في صنع اتفاقيات كامب دافيد مع إسرائيل)؟ هل نعرف ما يكفي، الآن، عن الفريق السيسي؟ مصر، يختتم بريجنسكي أحدث تنظيراته عن وقائع البلد المتفجرة، تعيش ثلاث ثورات معاً، سياسية واجتماعية ودينية، فلننتظر إذاً، ولا نتعجّل الحكم.

أمّا سورية، في سياقات تفكير بريجنسكي الراهنة، فإنها محض حال من الفوضى الشاملة، تسير من سيء إلى أسوأ؛ وإنْ كانت تمنح الولايات المتحدة فرصة استمالة إيران إلى اتفاق إقليمي شامل، يتضمن الملفّ النووي أيضاً، وينتهي لصالح إسرائيل في المقام الأوّل. وما يجري في سورية، منذ آذار (مارس) 2011 ليس سوى "أزمة، شاركت في التخطيط لها السعودية، وقطر، وحلفاؤهما الغربيون"، هكذا بجرّة قلم. يكتب بريجنسكي، في الدورية الأمريكية اليمينية ذائعة الصيت National Interest: "في أواخر العام 2011 حدثت اضطرابات في سورية، تسبّب بها الجفاف واستغلها نظامان أوتوقراطيان في الشرق الأوسط، هما قطر والسعودية". ولكي تكتمل أركان "المؤامرة" هذه، دخلت المخابرات المركزية الأمريكية على الخطّ، وقررت "زعزعة" الحكم في سورية، قبل أن تفطن إلى أنّ "العصاة" الثائرين على "حكومة بشار الأسد" ليسوا جميعهم من الصنف "الديمقراطي"، فكان أن خضعت السياسة بأسرها للمراجعة...

وبمعزل عن حقيقة أنّ "الاضطرابات" في سورية لم تبدأ أواخر العام 2011، بل في الشهر الثالث منه؛ وأنّ مناطق "الجزيرة" السورية شهدت الجفاف، ثمّ الهجرة، قبل أشهر من ابتداء "الربيع العربي" واندلاع الانتفاضة الشعبية في تونس؛ فضلاً عن أنّ انتظار انكشاف طوية السيسي قد يكون دونه خرط القتاد، وإراقة المزيد من دماء المصريين، مدنيين وعسكريين على حدّ سواء؛ وأنّ انقلابه، الذي اتكأ على إرادة شعبية واسعة ضدّ الأخونة واستبداد الحكم الإخواني، قد يرتدّ على تلك الإرادة الشعبية فيحوّلها إلى تفويض مزوّر يعيد العسكر إلى مؤسسة الرئاسة، كما يعيد إنتاج نظام حسني مبارك الأمني بصفة خاصة، بعد تجميله هنا وهناك... بمعزل عن هذه وسواها من حقائق، فإنّ بريجنسكي يعتمد مقداراً فاضحاً من التقدير السكوني لآمال الشعبين المصري والسوري، والشعوب العربية بأسرها في الواقع، والدوافع العميقة خلف التضحيات الجسيمة والوقائع الدامية التي شهدتها بلدان "الربيع العربي" خلال السنوات الثلاث الأخيرة.    

وعلى منوال هنري كيسنجر، الذي عرضنا في مقال سابق تقديراته للانتفاضات العربية جمعاء، والسورية منها بصفة خاصة، حيث اختُزلت آمال الشعوب في الحرية والكرامة والديمقراطية إلى محض صراعات مذهبية ترتدّ إلى مئات ومئات من السنين؛ يبلغ بريجنسكي خلاصة لا تقلّ اختزالاً، واحتقاراً، لانخراط الشعوب العربية في انتفاضات عارمة ضدّ أنظمة طغيان وفساد واستبداد وتوريث: أمريكا "تسرّع انتصار مجموعات أكثر عداء لنا ممّا كان عليه الأسد في أي يوم"، على صعيد سورية؛ و"تقطع الطريق على انقلاب عسكري ضدّ الفوضى"، وقد "ينتهي إلى خدمة مصالح الولايات المتحدة"، على الصعيد المصري. في عبارة أخرى، ما العيب في بشار الأسد وعبد الفتاح السيسي، إذا كانت النتائج ليست ضدّ واشنطن، ومعها إسرائيل، بل قد يكون العكس هو الصحيح؟

وعند هذه النقطة من استعراض أفكار بريجنسكي الراهنة حول سورية ومصر، آن الأوان لاستذكار بعض الحقائق التي تخصّ الرجل نفسه: أنه الأب المؤسس لمنظمة "القاعدة"، وذه النقطة من استعراض أفكار بريجنسكي الراهنة حول سورية ومصر، أن الأوان لاستذكار بعض الحقائق التي تخصّ الرجل نفسه:  هو الصحيح؟ّ أالمهندس الأبرز وراء توريط السوفييت في أفغانستان، ثمّ إطلاق تلك "الصناعة الجهادية" التي أعطت "الطالبان" و"الأفغان العرب" وأسامة بن لادن وأيمن الظواهري والزرقاوي... وتتمة المسمّيات والأسماء التي أقضّت مضجع أمريكا في الماضي القريب، وتضع في حيص بيص مجمل ستراتيجيات "الحملة على الإرهاب"، التي يخوضها رؤساء أمريكا منذ عقد ونيف. وكان المهندس الذي فتح علبة باندورا الأسطورية الشهيرة، أو أطلق المارد من القمقم كما نقول، متوهماً أنّ الأذى سوف يصيب السوفييت وحدهم، ولن ينقلب السحر على الساحر نفسه، بعد أن تُطوى نهائياً صفحة الاتحاد السوفييتي، و"المعسكر الاشتراكي" بأسره.

وفي حوار شهير نشرته أسبوعية "لونوفيل أوبزرفاتور" الفرنسية سنة 1998، كان بريجنسكي قد اعترف بأنّ البيت الأبيض هو الذي استدرج السوفييت ودفعهم إلى خيار التدخّل العسكري، وذلك بعد انكشاف مخططات المخابرات المركزية الأمريكية لتنظيم انقلاب عسكري في أفغانستان. وحول ما إذا كان يندم اليوم على تلك العملية، ردّ الرجل: "أندم على ماذا؟ تلك العملية السرّية كانت فكرة ممتازة. وكانت حصيلتها استدراج الروس إلى المصيدة الأفغانية، وتريدني أن أندم عليها؟ في يوم عبور السوفييت الحدود رسمياً، كتبت مذكرة للرئيس كارتر أقول فيها ما معناه: الآن لدينا الفرصة لكي نعطي الاتحاد السوفييتي حرب فييتنام الخاصة به".

ويسأله الصحافي الفرنسي فانسان جوفير، ألا يندم أيضاً على دعم الأصولية الإسلامية وما أسفر عنه ذلك من تدريب وتسليح إرهابيي المستقبل؟ يجيب بريجنسكي: "ما هو الأكثر أهمية من وجهة تاريخ العالم، الطالبان أم سقوط الإمبراطورية السوفييتية؟ بعض موتوري الإسلام، أم تحرير أوروبا الشرقية ونهاية الحرب الباردة"؟ ولكن، ألا يُقال إنّ الأصولية الإسلامية تمثّل اليوم خطراً عالمياً؟ يردّ بريجنسكي: "كلام فارغ!"، قبل أن يتابع: "يُقال لنا إنه ينبغي على الغرب اعتماد سياسة متكاملة تجاه النزعة الإسلامية. هذا غباء: لا توجد إسلامية عالمية. فلننظر إلى الإسلام بطريقة عقلانية لا ديماغوجية أو عاطفية. إنه الدين الأوّل في العالم، وثمة 1.5 مليار مؤمن. ولكن ما هو الجامع بين أصوليي المملكة العربية السعودية، والمغرب المعتدل، والباكستان العسكرية، ومصر المؤيدة للغرب أو آسيا الوسطى العلمانية؟ لا شيء أكثر ممّا يوحّد بلدان الديانة المسيحية".

فلماذا، إذاً، تُطبّق على مسلمي الإسلام، جميعهم بلا استثناء، التنميطات ذاتها التي تحثّ بريجنسكي على تفضيل دكتاتور مثل الأسد، على بديل شعبي له، ديمقراطي المقاصد والنوايا، قد يضمّ العلمانيين والإسلاميين؟ ولماذا يتوجب الرهان على جنرال مصري، قاد انقلاباً عسكرياً، اتكاء على حقيقة أنّ الرئيس المصري المنتخب شرعياً ـ للمرّة الأولى منذ ثمانية آلاف سنة من تاريخ مصر! ـ تعثر وأخطأ وارتكب الحماقة تلو الأخرى... خلال سنة واحدة فقط؟ فلنعدْ هنا، وبعد الوقوف على شخص مستشار الأمن القومي الأمريكي ومؤسس منظمة "القاعدة"، إلى جانب آخر هو بريجنسكي المفكر السياسي، وتحديداً في كتابه "الانفلات من العقال: حول الاهتياج الكوني عشية القرن الحادي والعشرين"، 1993.

هنا جادل بريجنسكي بأنّ التاريخ لم ينته بعد على طريقة فرنسيس فوكوياما، بل انضغط وتكثّف على طريقة بسمارك. وبينما شهد الماضي بروز الأحقاب جنباً إلى جنب وبتباين حادّ بعض الشيء يتيح تكوين معنى ما للتقدّم التاريخي، فإننا اليوم نشهد سيرورة مركبة من الإنقطاعات الحادة التي تتصادم فيما بينها، وتكثف إحساسنا بالمنظور الراهن إلى درجة منعنا من تكوين إدراك أوالية التطوّر ذاتها. في عبارة أخرى: نحن اليوم نعيش في عالم مختلف تماماً عن العالم الذي رغبنا، بل وشرعنا، في فهمه؛ وهو مرشح لكي يكون أكثر اختلافاً واغتراباً عن مدركاتنا، حين تحلّ ساعة الحقيقة التي نؤجلها حيناً، ونسدل عليها الأستار الرمزية الزائفة حيناً آخر!

كلام فلسفي ثقيل، وكلام مدهش إذ يصدر عن "سوبرمان الأزمات" ورجل تحطيم الأقواس ("قوس الإسلام التاريخي" على سبيل المثال)، أينما تشكلت في العالم؛ و"نبيّ الردع"، الذي أطلق مفهوم التدخل السريع في عهد كارتر، ثم أسلمه وديعة ثمينة إلى خلفائه من مستشاري الأمن القومي الأمريكي. استمعوا إليه يقول في الصفحة الثانية من كتابه: "إنّ قدرتنا على فهم تشعبات الحاضر ـ لكي لا نقول المستقبل ـ يكبّلها الانهيار الهائل في القيم الناجزة، سيما في الأجزاء المتقدّمة من العالم. لقد جرى إعلان إفلاس الأنظمة التوتاليتارية، وهذا أمر مبهج. ولكن دور الدين في تعريف المفاهيم الأخلاقية أخلى مكانه أيضاً لأخلاقيات استهلاكية تتخفي تحت قناع البديل الأخلاقي".

وصدّقوا أنّ بريجنسكي يتباهى بهذه المقولات، الآن تحديداً، في تغريدة على "تويتر"، أراد منها التذكير بنفسه: ألم أقل لكم! ولكن... ما الذي قاله لنا، سوى نقيض ما أثبتته وقائع الأزمنة اللاحقة، لا سيما تلك التي انطوت على صعود، ثمّ هبوط، خطاب الإسلام السياسي؛ وصعود الخطابات الديمقراطية والعلمانية، أسوة بانتفاضات الشعوب، ثمّ انخراط الإسلام السياسي في سيرورات صندوق الاقتراع، قبل أن تجهز الجيوش على التجربة، كما في نموذجَيْ الجزائر ومصر؟ أليست هذه هي سياسة "الجنون المنظّم"، كما أسماها بريجنسكي نفسه، التي رسمها ونفذّها وأدارها "مهندسو اليوتوبيا القسرية" حسب تعبيره؟ هل من الممكن اليوم التفكير بإجماع ليبرالي ـ ديمقراطي، أو بديمقراطيات سوق إجماعية ليبرالية، على نطاق عالمي؟ وهل يقدّم مفهوم الديمقراطية الليبرالية ذاته إجابات ذات معنى حول الأزمات الناشبة والمعضلات الجديدة الخاصة بالوجود الاجتماعي، قبل الوجود السياسي؟

في الماضي رجّح بريجنسكي إجابة مركّبة تفيد النفي الواقعي والتأكيد المأمول، متكئاً على "ميل العقائد الصغرى إلى تحقيق انتصارات صغرى مؤقتة، وعلى ميل العقائد الكبرى إلى تحقيق انتصاراتها في منطقة محايدة حساسة بين الواقعي والمتخيل". وللذين استغربوا هذه الجرعة الفلسفية العالية في كلام بريجنسكي، كان ثمة تفسير واحد كافٍ: لقد استند الرجل إلى خزان فلسفي عامر هو أفكار الناقد والفيلسوف البنيوي البلغاري ـ الفرنسي تزفيتان تودوروف، حول خطاب تعايش الذات مع الآخر؛ والفيلسوف الفرنسي جان ـ فرانسوا ليوتار، حول الشرط ما بعد الحداثي والتصارع بين الحكايات الصغرى والحكايات الكبرى؛ وأخيراً إلى أفكار الفيلسوف الإيطالي بنديتو كروتشه، حول... "جماليات الإنهيار الحضاري"!

كلّ هذه الترسانة الفكرية ـ الفلسفية، لكي ينكمش المفكّر ـ الفيلسوف إلى الإهاب الوحيد اللائق به عملياً: مستشار الأمن القومي الأمريكي المتقاعد، حيث مراقصة الطغاة أفضل من ملاقاة مجاهيل المجتمعات، وأسهل؛ وحيث أمثال بشار الأسد وعبد الفتاح السيسي أكثر سلاسة ـ وما همّ أنهم أشدّ عنفاً وبطشاً وشراسة! ـ للدخول في التنميط الجاهز... ذكر الله بالخير الراحل الكبير إدوارد سعيد، فضّاح أنماط الاستشراق وكليشيهات المستشرقين!