وعزّ الشرق أوّله دمشق

الجمعة، 27 سبتمبر 2013

صناعة "الصوملة": انتظروها في سورية.. فأتت من كينيا!

 شتان بين كينيا، بوصفها صورة الفردوس الأرضي الذي شهد المغامرة العاطفية للكاتبة الدانمركية البارونة كارين بليكسن، وعشيقها دنيس فينش هاتون (ميريل ستريب وروبرت ردفورد، في الشريط السينمائي الشهير "خارج أفريقيا")؛ وكينيا الأيام القليلة الماضية، حين نفّذت "حركة الشباب المجاهدين" الصومالية عملية إرهابية واسعة النطاق، دامت أربعة أيام، واستهدفت أحد أهمّ مراكز التسوّق السياحية في العاصمة نيروبي، وزاد عدد ضحاياها عن 70 قتيلاً. وسيّان، في المقابل، مع حفظ فوارق طفيفة تخصّ متغيرات الأزمنة، لا الجوهر والأساس؛ بين إرهاب قادم من الجوار، يثأر لتدخل عسكري كيني ضدّ الحركة في الصومال، بدفع من واشنطن، وتسهيل لوجستي، إضافة إلى تقارير جدّية عن استخدام طائرات أمريكية بلا طيار في اغتيال قادة "الشباب"؛ وبين إرهاب شقيق، كينيّ صرف هذه المرّة، يستعيد التراث الدامي لعملية التفجير التي استهدفت السفارة الأمريكية في نيروبي، أيضاً، وأوقعت قرابة مئتَي قتيل، جلّهم من أهل البلد.

فتّشْ عن أمريكا، إذاً، كما سيقول البعض (وفي عدادهم كاتب هذه السطور)، وعن سياسات البيت الأبيض هنا في كينيا، وكذلك في الصومال والقرن الأفريقي إجمالاً؛ ثمّ دعْ جانباً، أو حتى إشعار آخر غير منظور، صورة كينيا الفردوس الأرضي، أو صورة البلد الذي ظلّ، طيلة عقود، واحة تجانس اجتماعي ـ إثني (رغم قبائله التي يتجاوز عددها الـ 40)، وتنعّم باستقرار سياسي لم ينهض على سيرورة ديمقراطية متقدّمة نسبياً، فحسب، بل بدت نادرة في غمرة اضطرام الصراعات والنزاعات؛ في القارّة الأفريقية، عموماً، وفي منطقة البحيرات الكبرى بصفة خاصة. ولا مناص، في استكمال التشابك الجدلي لهذه السيرورة، من ربط حاضر هذه الأيام، بماضيها القريب، سنة 2008، حين كان التدخّل الأمريكي السافر في الانتخابات الرئاسية الكينية (فوز مواي كيباكي، رجل واشنطن، بفارق ضئيل عن منافسه رايلا أودينغا) إلى صبّ المزيد من الزيت على نيران المواجهات الإثنية العنيفة، وإلى استدراج عمليات "القاعدة" الإرهابية.

ولأنّ جذور الإرهاب، أينما استوطنت وضربت عميقاً، لا تنفكّ عن تربتها الاجتماعية؛ فإنّ ظواهره الكينية ارتبطت سريعاً بنزاعات اجتماعية عميقة، تعكس صراعات طبقية مستعصية، بين البؤس والرفاه، والفاقة والفساد، ومنتهى الفقر الشعبي وذروة التكلّف الحكومي. ومن جانب آخر، لم تكن "حكاية النجاح السعيدة"، كما استطاب بعض زعماء أوروبا وصف كينيا، عرضة لتهديد صراعات داخلية إثنية وقبائلية واجتماعية وسياسية، فقط؛ بل توفرت أيضاً سلسلة أسباب ذات صلة بسياسات كيباكي الخارجية، الإقليمية والدولية. فالرجل اعتُبر "رئيس الغرب المدلل"، و"صديق صندوق النقد الدولي"، و"منفّذ وصفات التقشف" القاسية التي يصدرها "البنك الدولي"، والحليف السائر كالأعمى خلف الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الابن في "الحملة ضدّ الإرهاب".

ولا يغيب عن الذاكرة الكينية مقدار الاستخفاف الذي طبع موقف واشنطن من الانتخابات الرئاسية تلك، حين سارع البيت الأبيض إلى تهنئة كيباكي، بعد نصف ساعة أعقبت تنصيبه؛ بل ذهب روب ماكينترف، الناطق باسم الخارجية الأمريكية آنذاك، إلى درجة مطالبة الشعب الكيني بقبول النتيجة (سوف تضطرّ واشنطن إلى التملّص من هذا الموقف الفاضح بعد ساعات، حين اتضح أنّ التزوير كان أشدّ جسامة من أن يُغطى). كذلك لم يكن غريباً أن يسكت الغرب بأسره عن فضائح حكومة كيباكي، التي لم يكشفها أحد آخر سوى جون غيثونغو، الرجل الذي عيّنه كيباكي نفسه للتحقيق في الفساد، فاختار المنفى الطوعي في أكسفورد، بريطانيا، بعد أن ذهبت تقاريره أدراج الرياح. وحين اضطرّ إدوارد كلاي، المفوّض الأعلى البريطاني، إلى استخدام لغة مقذعة في وصف فاسدي كينيا (قال بالحرف: لقد ابتلعوا وابتلعوا حتى تقيأوا على أحذية المانحين الأوروبيين)، كان عقابه الفوري هو الإعفاء من المنصب، وتعيين بديل أكثر تفهماً للإقياء والمتقيئين!

هذا فضلاً عن حقيقة أنّ كينيا كانت ميدان إقامة وتدريبات الـ Africom، القيادة العسكرية الأمريكية الجديدة الخاصة بأفريقيا؛ رغم أنّ مدينة شتوتغارت، في ألمانيا، هي المقرّ الرسمي لرئاسة أركان هذه القوّات. وهكذا، تكتب ميكيلا رونغ، الأخصائية في الشؤون الأفريقية وصاحبة العملَيْن المميّزين "على خطى المستر كرتز: العيش على حافة الكارثة في الكونغو"، و"لست الفاعل: كيف استخدم الغرب وأساء استخدام الدول الأفريقية الصغرى": "لأنها عرضة لاستهداف متكرّر من منظمة ’القاعدة’، كما أنها ممرّ للمخدّرات الثقيلة المنصبّة على شوارع أوروبا في آن معاً، يرى الدبلوماسيون الغربيون أنّ كينيا بلد لا يعتمد استقرار المنطقة على قوّته أو ضعفه داخلياً فحسب، بل يعتمد عليه أمن البلدان الغربية كذلك".

ثمة هنا تكرار لسلسلة خطايا (فهي ليست محض أخطاء!) ارتكبتها الإدارات المتعاقبة، منذ أن اكتشفت الولايات المتحدة وجود القارّة الأفريقية، على صعيد الثروات والجيو ـ سياسة، أواخر الخمسينيات من القرن الماضي. وطيلة عقود أعقبت ذلك الاكتشاف، ظلّ مخططو السياسة الخارجية الأمريكية يمارسون في القارّة دور الثور الضخم البليد الذي يغرق في سبات عميق حتى تلوح في الأفق نجمة حمراء سوفييتية، وعندها فقط يهيج ويرغي ويزبد، ثمّ يحيك المؤامرات ويشتري العملاء ويسلّح الطغاة حتى النواجذ. خلال الثمانينيات صرف الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريغان مئات الملايين من الدولارات لإغواء واجتذاب أسوأ دكتاتوريي القارّة، في ليبيريا وكينيا والصومال وزائير وسواها. وخلال تلك الحقبة قبض محمد سياد بري، دكتاتور الصومال الأشهر، أكثر من 700 مليون دولار على شكل مساعدات مالية وعسكرية من إدارتَيْ ريغان وجورج بوش الأب، استخدمها في بناء شبكات الولاء العشائرية، وقمع الشعب الصومالي، وتفتيت الوحدة الوطنية الداخلية.

وهل ثمة حاجة إلى التشديد على أنّ غزوة واشنطن الصومالية الشهيرة، في عام 1991، لم تكن تسعى إلى اقتفاء أثر "القاعدة" أو مطاردة أسامة بن لادن، بقدر ما شاءت إطلاق مشروع انتداب عسكري يستهدف استئناف ما كان سياد برّي يقوم به لصالح واشنطن، أي ضبط القرن الأفريقي؟ كذلك كانت الغزوة تسير على نقيض صريح، وصفيق تماماً، مع منطوق قرار مجلس الأمن الدولي رقم 751، الذي منح التخويل بنشر قوّات عسكرية أممية لتنظيم عمليات الإغاثة الإنسانية، لا لشيء إلا لأنّ الرجل المسؤول عن خراب البلد (سياد بري، نفسه) كان ببساطة صنيعة البيت الأبيض. وفي تلك الأثناء كان رجل مثل هنري كيسنجر يفلسف الغزوة على أنها محض ممارسة للعبء التمديني العتيق إياه، المُلقى ـ تاريخياً، حضارياً، سياسياً، واقتصادياً... ـ على عاتق الرجل الأبيض. وأمّا عملياً فقد كانت القارّة تستشرف المزيد من المجاعات والأوبئة والحروب الأهلية، وتخضع أكثر فأكثر لهيمنة مؤسسات كونية لا تشتغل إلا لصالح اقتصاد السوق.

ثمّ أتى ردح من الزمن أجبر الثور الأمريكي على استبدال النجمة السوفييتية الحمراء بالراية الإسلامية الخضراء، أو السوداء هذه الأيام، أو الهلال في كلّ حال (تسهيلاً للأمريكي ذي الوعي المتوسط، ربما، كي يدرك مغزى التوافق بين النجمة الحمراء والهلال الأخضر!). ومنذئذ حلّت ذريعة محاربة الإرهاب الإسلامي محلّ ذريعة محاربة الشيوعية، دون أن يتغيّر الكثير في المعادلة الفاسدة العتيقة: لكي تحارب هذا أو ذاك (الشيوعية، أو الإرهاب الإسلامي)، ينبغي أن تساند الطغاة على الأرض، أياً كانت موبقاتهم وجرائمهم. ويبقى أنّ تعَلُّم أيّ شيء من دروس التاريخ كان خياراً غير ممكن، أو حتى غير مطروح على رجالات البيت الأبيض؛ بل ظلّ عند بعضهم رياضة ماركسية ديالكتيكية، غير مستحبة أيضاً، أو مكروهة بالضرورة!

وقبل الولايات المتحدة كان التاج البريطاني قد اكتشف "وكر الدبابير" الصومالية، حين قام السلاح الجوي الملكي بقصف بلاد الصومال عشرات المرّات في عام 1919، لقمع ثورة محمد بن عبد الله حسن بربر (أو "الملاّ المجنون" كما سيصفه أرشيف حروب الإمبراطورية البريطانية)، فلم يفلح التاج إلا في حراثة الرمال. الجنرال إسماي، قائد القوات البريطانية في الصومال آنذاك، كتب في مذكراته يقول: "ما تكاد طائرات سلاح الجوّ الملكي تغادر سماء المعركة بعد إلقاء حمولاتها المدمرة، حتى تعجّ الصحراء بالدراويش والهتافات: الله أكبر! الله أكبر! لكأنهم يخرجون من شقوق الصخر وأخاديد الصحراء"...

وللوهلة الأولى، وكما في كلّ مرّة، تبدو المعادلة خرقاء حمقاء ذات نتائج مدمّرة بعيدة الأثر، قبل أن تتكشف عناصرها عن انسجام عالٍ مع معظم المعادلات الأعلى التي منها يتشكّل التفسير الأمريكي لفلسفة "الحملة ضدّ الإرهاب". تلك معادلة تدير الميزان التالي: أغلِقوا هنا ثغراً (أي: حاضنة!) للتشدد الإسلامي الذي يُعدّ المناخات ويصنع ويصنّع ظواهر التطرّف والإرهاب؛ ولكن لا بأس أن تفتحوا، هناك، ثغراً جديداً لتشدّد مماثل، أو أدهى، بهوية مختلفة وأجندات ملتهبة. وفي صياغة وقائعية: أغلِقوا ثغور الطالبان في أفغانستان، وافتحوا ثغور "المحاكم الشرعية" في الصومال، أو في "صومال ـ ستان"، كما شاع بعدئذ؛ ثمّ أغلقوها في معاقل "المحاكم الشرعية"، بعد كرّ وفرّ وعنف وتدخّل عسكري مباشر وغير مباشر، وافتحوا ثغرة جديدة في كينيا، قد لا يطول الوقت قبل أن تستغلّ وقائعها محاكم شرعية من نوع آخر جديد ـ عتيق، فتشتعل كلّ الأسباب الجديرة بإطلاق وانطلاق كوابيس "كينيا ـ ستان"، حيث يستوي العنف القبائلي والإرهاب الأعمى، وحيث يشترط واحدهما الآخر!

والمرء يتعثر ـ جيئة وذهاباً، صبحاً ومساءً، في تسعة أعشار ما يُنشر عن سورية الراهنة من "تحليلات" ـ بذلك الصنف من خبراء الإسلام/خبراء الإرهاب (إذْ بات هؤلاء من طينة واحدة، باختصاص متماثل!)، ممّن لم يسجّلوا من مباذل المحاكم الشرعية في المناطق السورية "المحررة" إلا أكذوبة تحريم الـ"كرواسان"، وأغمضوا البصر والبصيرة عن جدل صعود هذه المجموعات، وتعاموا عن المخاطر الأعمق المرتبطة بتجذّرها في تربة سورية وطنية لم تكن في أيّ يوم حاضنة صالحة لها؛ ثم انتظروا أن تتمخض الظاهرة عن ولادة "الصوملة"، دون سواها؛ أو صورة طبق الأصل عنها، كما أسسها شيخ شريف شيخ أحمد في مقديشو، سنة 1991!

.. في الغضون، وحتى يأتيك بالأخبار مَن لم تزوّد، هلّت أحدث طبعات "الصوملة" من نيروبي، كينيا؛ وليس من حلب، أو الباب، أو اعزاز، أو سراقب...   

الاثنين، 23 سبتمبر 2013

مَنْ ضحك أخيراً: عبابنة الأردني أم لافروف الروسي؟

بدأت الحكاية يوم 29 آب (أغسطس) الماضي، حين نشر موقع Mint Press الإخباري، ومقرّه في منيسوتا، الولايات المتحدة، تقريراً يحمل العنوان المثير التالي: "سوريون في الغوطة يزعمون أنّ ثوّاراً تزوّدهم السعودية بالسلاح هم وراء الهجمة الكيميائية". والفقرة الاستهلالية من التقرير، تسير هكذا: "الثوّار والسكان المحليون يتهمون الأمير بندر بن سلطان بتوريد أسلحة كيميائية لمجموعة من الثوّار ذات ارتباط بـ'القاعدة'". وجاء، في الخلاصة الأهمّ من معلومات التقرير، نسبة إلى مواطنين سوريين في الغوطة، بينهم أطباء وثوّار (عُرّفوا بحروف أولى من أسمائهم)؛ أنّ سوء نقل تلك الأسلحة، وكانت معبأة في أسطوانات وأنابيب، أسفر عن انفجارها، وتسبب في وقوع أعداد كبيرة من الضحايا.

ولقد سرت الحكاية سريان النار في الهشيم، فتلقفتها مصادر معنية بالخبر المثير في ذاته، على خلفية قرع طبول الضربة العسكرية الأمريكية ضدّ النظام السوري، بعد ذيوع أخبار مجازر الكيميائية في الغوطتَين؛ مثلما انقضت عليها منابر "الممانعة"، وأوساط تبرئة النظام السوري، فوجدت فيها ضالة دعاوية لا تُقدّر بثمن؛ كما أنّ جاذبية الحكاية لم تغب عن مناهضي الحرب، عموماً، من أصحاب النوايا الحسنة أو السيئة، على حدّ سواء. وإذا كان طبيعياً تماماً، ومنتظَراً، أن تتبناها وسائل إعلام إيرانية، وأخرى مرتبطة بأجهزة "حزب الله"، ومَنْ لفّ لفّهم من مواقع ومدوّنات وأفراد؛ فإنّ اللافت، بصورة خاصة، كان إسراع مواقع إخبارية روسية رسمية إلى المصادقة على الرواية، بحذافيرها، وإلى اعتناقها، إلى درجة اقتباسها ـ نصّاً كاملاً، أو تحريفاً قليلاً، أو تلميحاً ـ في تصريحات كبار المسؤولين الروس، بمَنْ فيهم وزير الخارجية سيرغي لافروف!

اعتبارات أخرى ساهمت في رواج الحكاية، بالطبع؛ بينها أنّ الرأي العامّ العالمي ـ على نطاق عريض، في أربع رياح الأرض ـ كان، ويظلّ، جاهزاً لتصديق كلّ ما يُنسب إلى المعارضة السورية، وخاصة أجنحتها الإسلامية المتشددة، من فظائع (ليس دون بعض الأسباب الوجيهة، على غرار اقتلاع القلوب الآدمية، والتهامها، وتصوير المشهد، ثمّ تعميمه على الـ"يوتيوب"، كما يتوجب التذكير). اعتبار آخر، مهني صرف هذه المرّة (وقع ضحيته عدد من كبار الصحافيين الأجانب المختصين بشؤون الشرق الأوسط، ومتابعي الملفّ السوري تحديداً)، انبثق من هوية موقِّعي التقرير: الأمريكية ديل غافلاك، وزميلها الأردني يحيى عبابنة (والمعذرة من كلّ حامل آخر للاسم ذاته، لأنّ العبابنة عائلة كبيرة كما هو معروف). وإذا كان الأخير مغموراً بصفة عامة، أو بالأحرى ظلّ مغموراً تماماً حتى ساعة انكشاف فضيحة الحكاية؛ فإنّ الأولى كانت مراسلة الـ"أسوشيتد برس"، وتقيم في العاصمة الأردنية عمّان منذ عقدين، وتغطي المنطقة في إذاعتَيْن جبارتين، الـ NPR الأمريكية والـ BBC البريطانية، وهي ـ كما تعرّف عن نفسها، على الأقلّ ـ "أخصائية"، تحمل الماجستير في الدراسات الشرق ـ أوسطية من جامعة شيكاغو.

أولى خيوط التشكيك في الرواية جاءت من المعطيات الدقيقة، الموثقة بمشاهد الفيديو المتقاطعة وذات المصادر المتعددة، حول الصواريخ التي حملت الرؤوس الكيميائية إلى الغوطة؛ وكيف أنها في عهدة قوّات النظام، وانطلقت من المواقع التي يسيطر عليها، في جيل قاسيون بصورة خاصة. وهذه تفاصيل تقنية، معقدة بقدر ما هي دقيقة، نشرها الصحافي البريطاني إليوت هغنز، على مدوّنته الشهيرة المعروفة باسمBrown Moses؛ ثمّ أكدها تقرير محققي الأمم المتحدة الذين زاروا مواقع المجازر بعدئذ. في عبارة أخرى، لا صحة البتة ـ علمياً وعقلياً، ثمّ تكنولوجياً ـ للافتراض بأنّ المجازر قد وقعت نتيجة "سوء نقل" أسلحة كيميائية معبأة في أسطوانات وأنابيب؛ ومطلوب من غافلك وعبابنة، استطراداً، تقديم المزيد من البراهين الميدانية على صحة التقرير، وصدقية ما احتواه من أقوال نُسبت إلى أهل الغوطة.

هنا كرّت سبحة الأكذوبة، وانفرط عقدها تباعاً: كتبت غافلاك إلى هغنز، وإلى صحافيين في مواقع أخرى، بينهم روبرت ماكي من "نيويورك تايمز"، تقرّ بأنها لم تذهب إلى سورية، ولم تستمع بنفسها إلى أقوال أهل الغوطة، ودورها في التقرير هو نقل أفكار زميلها عبابنة إلى الإنكليزية، وأنها أوصت التحرير بالامتناع عن وضع اسمها على المادة، لكنهم رفضوا، ولهذا فإنها تنوي مقاضاة الموقع. من جانبه، توارى عبابنة عن الأنظار، فمسح المعلومات القليلة المتوفرة عنه على مواقع التواصل الاجتماعي، وتهرب من الصحافيين الذين حاولوا التحقق من صحة تقريره، قبل أن يتضح أنه دائم الزيارات إلى روسيا، ويكتب في "جيروزاليم بوست" الإسرائيلية باسم "يان بركات"، وله باع طويل في تقديم الخدمات السياحية للإسرائيليين! وأمّا الموقع الإخباري ذاته، Mint Press، فقد اتضح أنّ كبير مستشاريه يُدعى عوده مهاوش الدعجة، الذي يعلن (في محاضرة تتوفر على "يوتيوب") أنه مواطن أردني، كان من أهل السنّة ثمّ اهتدى إلى التشيّع!    

ومن حيث المبدأ، يبدو الأردني عبابنة في موقع مَن ضحك أخيراً، حتى إذا لم يكن قد ضحك طويلاً؛ مقابل لافروف، الذي يواصل اقتباس التقرير (بوصفه "معطيات ميدانية روسية"). إلا أنّ قهقة الأوّل لا تبلغ أسماع الثاني، فحسب؛ بل تطيل أنفه، على وتيرة الكذاب في الأكذوبة، حتى يبلغ الأرض طولاً!

الجمعة، 20 سبتمبر 2013

واشنطن وطهران: مصارعة في سورية وتانغو في إسرائيل؟

لم تبدأ كرة الثلج في التدحرج إثر "زلّة لسان" من الرئيس الأمريكي باراك أوباما، على غرار حكاية "الخطّ الأحمر" الكيميائي الذي يتوجب على النظام السوري أن لا يعبره؛ ولا، أيضاً، من "زلّة" أخرى جديدة، تصدر عن وزير خارجيته، جون كيري. ذلك لأنّ الإفصاح عن تدشين جولة إضافية في الحوار الأمريكي ـ الإيراني بدأ من ذلك التسريب الذي تعمده أوباما نفسه، في حواره مع جورج ستيفانوبولوس، عبر قناةABC  الأمريكية، يوم 15 من هذا الشهر، بصدد احتمالات الضربة العسكرية الأمريكية ضدّ نظام بشار الأسد. هنالك رسائل متبادلة، أقرّ أوباما، واتصالات مباشرة أو عن طريق وسطاء، مع الرئيس الإيراني المنتخَب حسن روحاني.

تتمة مسير كرة الثلج سوف تشهدها اروقة الجمعية العامة للأمم المتحدة، الأسبوع القادم في نيويورك، حين سيتواجد أوباما وروحاني معاً؛ بعد تمهيد دراماتيكي من الأخير، خلال حوار غير مسبوق مع إحدى كبريات وسائل إعلام "الشيطان الأكبر"، شبكة NBC الأمريكية. لقد أعلن الرئيس الإيراني أنّ لديه سلطة كاملة للتفاوض مع الغرب، بشأن برنامج تخصيب اليورانيوم؛ وأنّ بلاده لن تقدم أبداً، مهما تكن الظروف، على تصنيع أسلحة دمار شامل، بما فيها تلك النووية؛ كما أكّد أنّ رسالة بعث بها إليه أوباما، مؤخراً، كانت "من وجهة نظري إيجابية وبناءة"؛ وأنّ هذه، جميعها، "خطوات صغيرة تجاه مستقبل هام". جاي كارني، المتحدث باسم البيت الأبيض، أدلى بدلوه: "في رسالته أوضح الرئيس أنّ الولايات المتحدة مستعدة لتسوية القضية النووية بطريقة تسمح لإيران بأن توضح أنّ برنامجها النووي لأغراض سلمية فقط". ومن جانبه قال علي أكبر صالحي، رئيس الوكالة الإيرانية للطاقة الذرية: "نحن متفائلون جداً بشأن العملية التي بدأت لحلّ القضايا النووية".

وعلى هامش اجتماعات قمّة "منظمة شنغهاي للتعاون"، في العاصمة القرغيزية بيشكيك، تردد أنّ روحاني أطلع الرئيسين، الروسي فلاديمير بوتين والصيني شي جين بينغ، على "الأجواء الإيجابية" التي أخذت تكتنف مشروع الحوار الإيراني ـ الأمريكي. وثمة مًن قرأ، طيّ الفقرات التي تخصّ الملفّ السوري في البيان الختامي للقمّة، رائحة اعتدال إيراني لا سابق له بصدد ترسانة الأسلحة الكيميائية للنظام السوري، والنأي عن تحميل المسؤولية لأيّ من طرفَي الصراع، النظام والمعارضة، في استخدام تلك الأسلحة (الأمر الذي عدّه البعض تنازلاً إيرانياً، لا يخلو أيضاً من خطوة روسية إلى الوراء).

ولكي تُسند أوراق اعتماد الحوار الوشيك بشهادة حسن سلوك إيرانية إضافية، بادرت سلطات طهران إلى مباغتة العالم بقرار الإفراج عن 11 من سجناء الرأي، بينهم ثماني سيدات، وعلى رأس المجموعة يبرز اسم المحامية والناشطة الشهيرة نسرين ساتوده، وكذلك السياسي الإصلاحي محسن أمين زاده. وكانت ساتوده تخدم حكماً بالسجن ستّ سنوات، بعد اعتقالها خلال الاضطرابات التي أعقبت انتخاب محمود أحمدي نجاد، سنة 2009؛ وجاء الإفراج عنها مفاجأة للجميع، بما في ذلك المفرَج عنها نفسها، إذْ صرّحت بأنها تجهل الحيثيات القانونية التي كانت وراء قرار إطلاق سراحها. ولا يخفى أنّ للتوقيت دلالاته الثمينة، بل الفاضحة في الواقع، إذْ يتصادف مع اقتراب موعد سفر روحاني إلى اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة.

غير أنّ الضوء الأخضر الأشدّ سطوعاً، على طريق ابتداء حوار أمريكي ـ إيراني، جاء من آية الله علي خامنئي، المرشد الأعلى للثورة الإيرانية، في لقاء ـ غنيّ الدلالات، كما يتوجب التشديد ـ مع قادة "الحرس الثوري"؛ قال فيه التالي، حول التفاوض: "لا أعارض الدبلوماسية المرنة، شريطة ان تكون شجاعة"، و"أؤيد إظهار تسامح الأبطال"، إذْ "قد يتساهل المصارع لأسباب تكتيكية، ولكنه يجب أن يتذكر مَنْ خصمه وعدوّه"؛ ثمّ قال التالي، الذي لا يقلّ أهمية، حول وظائف المنصتين إليه: "الحرس الثوري، ومن أجل الحفاظ على الثورة، ينبغي أن يمتلك بالتأكيد معرفة كافية وشاملة عن التطورات والتيارات في مختلف الساحات"، ولكن "ليس من الضروري أن يمارس الحرس الثوري أنشطة سياسية"، لأنّ "العيش حياة ثورية، والديمومة الثورية والثبات من المظاهر الجميلة للحرس الثوري".

وهكذا، بدا واضحاً أنّ خامنئي أباح للدبلوماسي الإيراني (الرئيس روحاني) أن يرقص التانغو مع نظيره الأمريكي، في نيويورك وما بعد اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، ليس في الملفّ النووي وحده، بل في كلّ وأيّ ملفّ سواه، بما في ذلك مصير النظام السوري؛ كما طالب المصارع الإيراني (الحرس الثوري عموماً، والجنرال قاسم سليماني قائد "فيلق القدس" ضمناً) باتباع بعض "الحركات الفنّية المرنة"، ذات الطبيعة التكتيكية، والمرنة؛ لأنّ "الساحة الدبلوماسية مسرح للابتسام" كما قال، وحلبة المصارعة باتت مسرحاً للمجازر الكيميائية، كما للمرء أن يفترض! في عبارة أخرى، ما دام روحاني سيؤكد للبيت الأبيض أنّ إيران لن تصنّع أسلحة نووية (الأمر الذي سيطمئن إسرائيل)؛ فإنّ في وسع سليماني، ثمّ نصر الله من بعده، تهدئة الحلبة قليلاً، حتى يتضح الخيط الأبيض من الخيط الأسود في الحوار الأمريكي ـ الإيراني.

والمرء، هنا، يعود بالذاكرة إلى ربيع العام 2009، حين جاز للبعض أن يطلق صفة الـ"دراماتيكية" على رسالة التهنئة التي وجهها أوباما إلى الشعب الإيراني،في مناسبة السنة الجديدة الفارسية؛ وحين امتزجت اعتبارات شكلية (اختيار الصيغة المتلفزة، والترجمة المتزامنة إلى اللغة الفارسية أسفل الصورة، والبثّ عبر إذاعة صوت أمريكا) مع أخرى تخصّ المحتوى الأهمّ، لترجيح انطلاقة أخرى في مشاريع الحوار الأمريكي ـ الإيراني. ذلك لأنّ تلك الرسالة كانت، والحقّ يُقال، قد مثّلت انعطافة فارقة عن خطّ الإدارة السابقة، وانفكاكاً عن خطاب "المحافظين الجدد" بصدد إيران إجمالاً، ونظرية "محور الشرّ" التي اعتمدها الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش بصفة خاصة. أمّا في الجوهر، أي سلسلة الخيارات الستراتيجية التي ظلّت إدارة أوباما تقرّها وتعمل بهدي منها (وبعضها يرتقي إلى مستوى "الثوابت" الراسخة، مثل أمن إسرائيل)، فإنّ المبادرة كانت محتومة؛ ليس بالمراوحة في المكان، هذه المرّة، بل بالموت الفوري.

فإذا طوى المرء صفحة خطابات التشدّد والتهديد والعدوانية التي أشاعها جورج بوش الابن ونائبه ديك شيني ضدّ إيران، واستبشر خيراً في ميل أوباما إلى فتح صفحة جديدة مع "حضارة عظيمة"، لشعب "كان فنّه، وموسيقاه، وأدبه، وابتكاره قد جعلت العالم مكاناً أفضل وأجمل"، كما جاء في رسالة التهنئة تلك (وكما في لغة أوباما الوردية عن "الطاقة الفكرية" الإيرانية، هذه الأيام)؛ فإنّ حصيلة المحاولات السابقة ـ قبل بوش الابن، وقبل صعود خطاب "المحافظين الجدد" ـ لا تبشّر بخير جلي، أو لعلها تنذر بالنقيض. وقبل عقد من الزمن، سبق تلك الرسالة، كانت وزيرة الخارجية مادلين أولبرايت، قد دعت إلى رسم "خريطة طريق" للعلاقات الأمريكية ـ الإيرانية، واعدة بالخير إذا أحسن الإيرانيون قراءة ما حمّلته عليها الإدارة من تفاصيل طبوغرافية (بحار وأنهار، تلال ووديان، دروب مستقيمة وأخرى متعرّجة... كما للمرء أن يتخيّل!).

العقدان صارا ثلاثة ونيف اليوم، وبدل أن تنجسر الهوّة (كما استبشرت أولبرايت في خطبة مأثورة، أمام "الجمعية الآسيوية")، فإنها ازدادت اتساعاً؛ والخريطة التي يمكن أن تُرسم اليوم تحتوي على أربعة عناصر متفجرة (برنامج إيران النووي، نظام بشار الأسد، عراق نوري المالكي، و"حزب الله") لم تكن متوفرة في خريطة 1998. كذلك لم يكن نجاد (صاحب التصميم على "محو" إسرائيل من الخريطة، واليقين بأنّ الإمام المهدي يدير العالم) هو رئيس إيران، بل محمد خاتمي، الرئيس الأكثر اعتدالاً وتنويراً في تاريخ الثورة الإسلامية الإيرانية.

وفي تلك الحقبة أجرى خاتمي حواراً مع شبكة الـ CNN بدا دراماتيكياً بدوره، وربما أكثر من رسالة التهنئة المتلفزة التي وجهها أوباما، إذْ كان الأوّل من نوعه ومحتواه ومستواه منذ انتصار الثورة سنة 1979. ولقد سعى الرجل إلى توجيه أكثر من رسالة سياسية ـ عقائدية إلى الداخل (حيث كانت رسائل كهذه ترقى إلى مستوى العلاج بالصدمة)؛ ثمّ إلى العالم بأسره، وإلى الولايات المتحدة خاصة (حيث لا تبدو الرسالة "شيفرة" مبطنة، قياساً على وضوح سياقاتها ودوافعها). وكان خاتمي أشدّ ذكاء وحصافة من أن يصرف نصف ساعة في مديح "الأمّة الأمريكية العظيمة"، ودقائق معدودات فقط في ملامة القيادات الأمريكية، ويعتبر هذه الحصيلة رسالة "اعتدال" هادفة إلى فتح صفحة جديدة في العلاقات الإيرانية ـ الأمريكية. كان، في الحقيقة، يمارس مزيجاً من التسليم والنقد الذاتي، حين اعتبر أنّ السطور الأولى في تلك الصفحة لن تكتبها مبادرة دبلوماسية من أي نوع (معلَنة أو خفية، فالأمر سيان)؛ بل قد يدشنها "أساتذة الجامعات والكتّاب والعلماء والفنانون والصحفيون والسيّاح"، كما اقترح خاتمي، ربما على غرار المعجزة التي اجترحتها كرة الـ"بنغ بونغ" في العلاقات الصينية ـ الأمريكية ذات يوم.

وثمة، ما تزال، "لاءات" ثلاث كبرى، إذا صحّ القول، تختصر روح الموقف الأمريكي من إيران: الأولى، بسبب دعم طهران لما تسمّيه واشنطن "حركات الإرهاب الإسلامي" إجمالاً، و"حزب الله" تحديداً (وكذلك "حماس" في حقبة سابقة)؛ والثانية، بسبب إصرار إيران على تطوير قدراتها النووية، في الصناعة المدنية قبل العمل على امتلاك أسلحة الدمار الشامل؛ والثالثة، بسبب موقف إيران المناهض، أو غير المؤيد، للعملية السلمية التي تديرها الولايات المتحدة بين العرب وإسرائيل. على تخوم "لاءات" كهذه يبقى العراق شوكة عالقة بجبهات الصدام الثلاث، منفردة أو مجتمعة، ولعلّ الانسحاب العسكري الأمريكي انقلب إلى إعادة جدولة لتلك اللاءات، بما أسفر عن حقنها بالمزيد من أسباب التوتّر. وعلى التخوم، هذه الأسابيع بصفة خاصة، ثمة نظام الأسد في أبعاده الداخلية التي تخصّ الانتفاضة الشعبية، وفي استقطابات قوى المعارضة الديمقراطية والوطنية والعلمانية، مقابل قوى التشدد الإسلامية؛ وثمة، أيضاً، استقطابات المحاور الإقليمية الإيرانية/الخليجية/التركية/الإسرائيلية...

الأرجح، إذاً، أنّ تقاسم المهامّ بين المصارع الإيراني ومواطنه راقص التانغو سوف يفضي إلى طراز من الازدواج والتضارب والتناقض، وليس إلى أيّ حدّ أدنى من التناغم والانسجام والتكامل؛ الأمر الذي يراقبه، بأناة وخبث وترصّد، أناس من أمثال بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلي، وينجرّ إلى حلباته البيت الأبيض أسوة بالكرملين، كلٌّ من حيث تقديره لحصيلة الربح والخسارة؛ ويتساقط ضحيته، باضطراد وثبات، خاسرون طغاة من أمثال بشار الأسد، وخاسرون أتباع على شاكلة حسن نصر الله. والأيام القادمة، القليلة، كفيلة بتبيان الحدود القصوى للفارق بين "التسامح البطولي" في المصارعة، و"الحركات الفنّية" في التانغو!

الاثنين، 16 سبتمبر 2013

.. من بطيخ حوران!

جاء في الأنباء أنّ المزارع الياباني هيروشي كيمورا نجح في إنتاج بطيخ على شكل قلب، حلو في الشكل والمذاق معاً، ويصلح ـ فضلاً عن الغذاء، بالطبع ـ هدية طريفة في عيد الحبّ، كما تنبّه بعض العشّاق. من جانبه، كانت فرحة كيمورا غامرة لأنه تمكن من تهجين ثمرة تتيح لزبائنه أن "يأكلوا شيئاً لذيذاً، وبشكل بديع" في آن معاً، كما صرّح.

ليت هذا الياباني المجتهد يتعرّف إلى مواطن سوري، مهندس زراعي، يُدعى محمد الزعبي (لا أعرف له أرضاً اليوم، راجياً أن يكون على قيد الحياة بادىء ذي بدء)؛ لأنه نجح، قبل عشر سنوات إذا لم تخنّي الذاكرة، في إنتاج بطيخ فريد حقاً، وزن الثمرة الواحدة منه يتجاوز 60 كيلوغراماً، أي ما يكفي لإطعام أكثر من مئة شخص! كذلك فإنّ في رأس محاسن ذلك الصنف من البطيخ أنه منتخَب، غير مهجّن، وغير معدّل وراثياً؛ الأمر الذي يعني إمكانية زراعة بذور منه، تنتج نفس الصنف والوزن. والشروط المطلوبة ليست خارقة للمألوف، بل تتوفر في العديد من مناطق سورية الزراعية: صيف حارّ وجافّ، وتربة غضارية خفيفة، وريّ بالتنقيط.

وحين بلغني الخبر في حينه، انتابتني فرحة مضافة إلى تلك النابعة من الحسّ الوطني السوري الصرف، لأنّ المزرعة التي أنتجت ذلك البطيخ تقع في محافظة درعا، أو حوران كما نقول في سورية حين نصف تلك المنطقة على نحو أعرض. فهذه المحافظة الخيّرة ظُلمت مراراً، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً أيضاً، رغم أنها بين أبرز أهراء سورية (تماماً مثل منطقة الجزيرة)؛ ليس في إنتاج الحنطة الحورانية الشهيرة فحسب، بل أيضاً في إنتاج الشعير والزيتون والعنب والخضروات واللوزيات. وكان الشاعر الأردني عرار (1897 ـ 1949) قد امتدح خبزها القمحي في بيت شهير: "فلا عليك إذا أقريتني لبناً/ وقلت خبزتنا من قمح حوران".

فكيف لا يتضاعف الحسّ الأوّل ذاك، اليوم، في مناسبة المقارنة بين إبداع المزارع الياباني وإبداع المزارع السوري؛ ولكن، وهو الأمر الجوهري أكثر، على خلفية ما تعنيه حوران في وجدان الانتفاضة الشعبية السورية، حيث منها "هلّت البشاير" كما تقول الأهزوجة الجميلة، وعلى ثراها سقط أوائل الشهداء؟ وكيف لا يزداد الفخار بحوران، الحاضنة التاريخية العريقة، بِنْت الوقائع الفاصلة في التواريخ القديمة والوسيطة والحديثة والمعاصرة؛ ساحة صراع قوى إقليمية كبرى عتيقة، كالأنباط والرومان قبل الفتح الإسلامي في القرن السابع؛ وصنو الجولان، العريق والخصيب بدوره، تلك الجيرة التي ألهمت النابغة الذبياني حين هتف، راثياً النعمان بن المنذر: "بكي حارث الجولان من فقد ربّه/ وحوران منه موحش متضائل"؟

وفي العودة إلى المهندس الزراعي السوري المبدع، أستعيد ابناً آخر لعائلة الزعبي، الكبيرة والكريمة، هو الراحل محمود الزعبي، الذي تولّى رئاسة مجلس الدمى الباصمة (أو "مجلس الشعب" حسب تسمية النظام)، قبل أن يترأس سلسلة وزارات، طيلة 13 سنة. وكما ظلم الشارع السوري "الحماصنة"، أهل حمص الذين ضربوا الرقم القياسي في بلوغ سدّة الرئاسة السورية؛ كذلك فعل مع "الحوارنة"، من حيث تأليف النكات التي تدور حول مسائل شتى، ولكنها في الجوهر لا تبتعد البتة عن الموضوع السياسي. محتوى الظلم أنّ أهل حوران لم يستفيدوا كثيراً، بل إنّ معظمهم لم يستفد أبداً، من وجود "أبو مفلح" في مجلس الشعب أو رئاسة الوزراء.

وكان رحيل الزعبي (الذي انتحر، أو نُحر، أو "انتُحر"...)، قد قطع استرسال ذلك المسلسل الذي عُرف، أواخر أيام الأسد الأب ومطالع تحضير الأسد الابن لوراثته، باسم "حملة مكافحة الفساد"؛ فأسدل ستاراً ثقيلاً ـ كان في الواقع مبكّراً، مفاجئاً، وعنيفاً أيضاً ـ على فصول مسرحية تراجيكوميدية، أُريد للزعبي أن يكون بطلها وضحيتها، معاً. الأمر الذي يردّ إلى البطيخ، إذْ نقول في بلاد الشام: "بلا كذا، بلا بطيخ"، دلالة على اليأس من أمر ما، أو السخط من عدم تحقّقه، أو نفض اليد منه أو استبعاده. والأرجح أنّ مواطناً صالحاً مثل المهندس الزعبي كان، وهو يبتهج لمرأى بطيخة تُطعم مئة آدمي، مخوّلاً في البرهة ذاتها بهمهمة ذات صلة بثمار السنوات الأولى من عهد الأسد الوريث، مفادها: "بلا إصلاح، بلا بطيخ!"...

له، كذلك، أن يستخدم الجزء الثاني من المقولة إياها، في توصيف ظاهرات شتى ذات صلة بالمشهد السوري الراهن، تخصّ جرائم النظام السوري، مثل مباذل معارضات على غرار "المجلس الوطني" و"الائتلاف" و"هيئة التنسيق"؛ وتخصّ أكاذيب "أصدقاء الشعب السوري"، مثل جعجعة "محور الممانعة"؛ وتفكيك ترسانة النظام الكيميائية، مقابل تركيب كلّ أسلحة النظام التقليدية الفتاكة؛ واليسار الغربي المتظاهر ضدّ أية ضربة عسكرية أمريكية، ثمّ اليسار نفسه صامتاً صمت القبور عن المجازر كافة، بما فيها تلك الكيميائية...

وهذه الاعتبارات، وسواها، لا تلغي حقّ المهندس الزراعي محمد الزعبي، الذي لا يقلّ إبداعاً عن زميله الياباني، في أن يستذكر بيتاً ثانياً من عرار، يقول: "سيمتْ بلادي ضروبَ الخسف وانتُهكتْ/ حظائري واستباح الذئب قطعاني"؛ قبل أن يتجذر أعمق في أرضه الحورانية، ويقاوم، وينتصر كلّ يوم؛ صحبة خبز من حنطتها، وبطيخ عبقري من نعميات بطاحها العبقرية!

السبت، 14 سبتمبر 2013

كيمياء النظام السوري: ستة دروس و"زلة لسان" واحدة

في نطاق الافتراض أوّلاً، ولأنّ العالم لا يملك سوى هذا الخيار أساساً، ثمة سلسلة من التعقيدات التكنولوجية الصرفة، الأقرب إلى عوائق كبرى عصية على التجاوز، تجعل تنفيذ الاقتراح الروسي ـ حول وضع ترسانة النظام السوري من الأسلحة الكيميائية قيد الرقابة الدولية، ثمّ التخلص منها نهائياً ـ مهمة شبه مستحيلة. يكفي الوقوف على اللائحة التي يسردها مايك كولمان، كبير العلماء في شركة "باتيل" المتخصصة، والتي شاركت في أعمال تفكيك الترسانة الكيميائية الأمريكية: آجال زمنية قد تمتدّ على عقود، أكلاف مالية عالية تُقدّر بالمليارات، منشآت وأفران يتوجب أن تُبنى خصيصاً، وخبراء بمهارات عالية تقوم على التخصص والكفاءة والدراية العلمية، فضلاً، بالطبع، عن مناخات أمنية مضمونة تماماً، هيهات أن تتوفر في الظروف الراهنة التي تعيشها سورية.

من السابق لأوانه، إذاً، مناقشة هذه الجوانب التقنية على أيّ نحو عملي، أو حتى جدّي؛ ليس في انتظار أن يتكشف الاقتراح الروسي عن حدود دنيا من تفاهم الكبار على تطبيقه، فحسب؛ بل كذلك لأنّ حرب المصير، بين نظام بشار الأسد والغالبية الساحقة من أبناء الشعب السوري، لم تعد تسمح برفاه مستدام من المناظرة بين معركة كيميائية وأخرى دبلوماسية! الحكمة، في المقابل، تحضّ على استخلاص بضعة دروس سياسية من السياقات التي أفضت إلى ولادة المبادرة الروسية؛ هي، في الآن ذاته، بضع إشارات حول جدل الضربة العسكرية المحدودة ضدّ النظام السوري، واحتمالات تأجيلها، أو تبديل طبيعتها من حيث الشدّة أو الضعف، أو صرف النظر عنها كلياً.

ولعلّ الدرس الأوّل، الذي يعني السوريين قبل سواهم، وبالتالي أكثر من غيرهم، هو حقيقة استعداد النظام للتفريط بما تبقى لديه من أوراق قوّة، كانت ذات يوم تُحتسب ـ عند النظام، وكذلك عند أنصاره في "محور الممانعة" الشهير ـ ضمن عناصر "التوازن الستراتيجي" مع العدوّ الإسرائيلي. صحيح أنّ مضامين ذلك "التوازن" تبدّلت جذرياً، ومنذ انطلاق الانتفاضة السورية في آذار (مارس) 2011 بصفة محددة، فصارت منحصرة في محاربة الشعب بالأسلحة المتوفرة كافة، بما في ذلك الكيميائية منها؛ بدل التلويح بها كخيار ردعي ضدّ إسرائيل، يمكن أيضاً أن يُنقل إلى حليف مثل "حزب الله"، أو أن يُستخدم ورقة ابتزاز ترجيحية، هنا وهناك في النزاعات الإقليمية.

ومن نافل القول، ضمن استخلاص درس ثانٍ من باطن هذا الدرس الأوّل، أنّ حكاية التفريط هذه تواصل أيضاً خدمة أمن إسرائيل على مستويات ستراتيجية بعيدة المدى؛ وهذا هو ذلك الدور الذي أنيط بنظام "الحركة التصحيحية" طيلة 43 سنة، بل قبلئذ، منذ هزيمة 1967 حين كان حافظ الأسد وزيراً للدفاع. جلي، إلا عند الحمقى ودافني الرؤوس في الرمال من أضراب "الممانعين"، أنّ مشروع تفكيك الترسانة الكيميائية للنظام السوري لا يضرّ قوى المقاومة العسكرية داخل صفوف المعارضة السورية إلا بمعدّلات تقلّ كثيراً عن المنافع التي يسديها لجيش الاحتلال الإسرائيلي في الجولان. وعلى غرار "الردع الصاروخي" الشهير، الذي طالما تغنى به "الممانعون"، واعتبروا أنه السيف المسلط على رأس إسرائيل؛ كسر النظام محرّم الصواريخ بعيدة المدى هذه، وأطلق الـ"سكود" بالفعل، ولكن... ضدّ الداخل السوري، بدل العمق الإسرائيلي!

وبهذا المعنى لم يجانب الصواب كثيراً ذلك التأويل الذي استمدّ درساً ثالثاً من هذه السياقات تحديداً، فرأى أنّ للمقترح الروسي مرجعيات إسرائيلية؛ تكشفت على لسان بنيامين نتنياهو، رئيس وزراء إسرائيل، حين "خرج عن صمته" وشارك في تأطير أجواء ما سُمّي "زلة لسان" جون كيري، وزير الخارجية الأمريكي؛ فأعطى بُعداً إسرائيلياً لانقضاض سيرغي لافروف، وزير الخارجية الروسي، على مقترح تسليم ترسانة النظام الكيميائية؛ وسهّل لهاث وليد المعلّم، ناطقاً بلسان معلّمه الأسد، إلى إعلان القبول الفوري. كان التوقيت لافتاً، بالفعل، حين كسر نتنياهو بنفسه حال التحريم التي فرضها على وزرائه، بصدد إطلاق التصريحات حول الضربة الأمريكية، فأعلن أنّ الوقت قد حان "لنزع الأسلحة الكيميائية في سورية"؛ دون أن ينسى إيران، بالطبع، إذْ حثّ على أن تشملها عمليات نزع مماثلة.

ذلك لأنّ إسرائيل كانت في حيرة بين جاذبية الموافقة على الضربة الأمريكية، بما ستسفر عنه من اهتراء إضافي في قدرات الجيش السوري (وليس قوّات النظام وحدها، أو أوّلاً، بالضرورة)؛ والنفور من الضربة ذاتها، بما قد تفضي إليه من تقوية وحدات المقاومة العسكرية ضدّ النظام (وهذه، وفق التصنيفات الإسرائيلية كافة، قوى معادية لإسرائيل بالضرورة، أو ليست على الأقلّ صديقة لها كما كانت عليه الحال مع نظام "الحركة التصحيحية" طيلة اربعة عقود ونيف). والأرجح، منطقياً، أنّ إدارة نتنياهو فضّلت خياراً ثالثاً، ليس أشدّ نفعاً وأعظم مغنماً فحسب، بل بدا بعيد المنال حتى افترت شفتا وزير الخارجية الأمريكي عن تلك "الزلة"، فلم يتأخر نتنياهو في مباركة الفرصة السانحة، إذا لم يصحّ القول إنه شجّع أصدقاء إسرائيل في الكرملين على اغتنام رياحها.

هذا درس رابع، إذاً، يشير مجدداً إلى مقدار التقارب ـ وربما التطابق، في كثير من التفاصيل، أيضاً ـ بين الموقفَين الروسي والإسرائيلي من نظام الأسد، وكذلك من الانتفاضة الشعبية استطراداً؛ بما تتضمنه حال التقارب، أو التطابق، من توافق على أمن إسرائيل في جانب حاسم من شبكات ذلك الأمن، أي بقاء النظام كواحد من أفضل ضامني ذلك الأمن. وهذه، في الآن ذاته، حال روسية ـ إسرائيلية ضاغطة على الولايات المتحدة، ذاتها، ابتداء من الرأي العام كما تصنّعه وسائل الإعلام المعروفة بانحيازها الأقصى لإسرائيل، مروراً بتجاذبات الكونغرس الحزبية التي تتكسر في الختام على صخرة الولاء لإسرائيل، وانتهاء بالرئيس الأمريكي باراك أوباما نفسه كمصبّ ينتهي إليه خضمّ هذه الاعتمالات، وسواها.

الدرس الخامس هو أنّ موسكو، في الانقضاض على "زلة لسان" كيري، لم تتقصد اجتراح شطارة دبلوماسية فائقة، بحيث أنها أخذت واشنطن على حين غرة، وأعادت خلط الأوراق على نحو جعل إدارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تبدو ـ ومعها في الظلّ تابعها، النظام السوري ـ أقرب إلى منتصر في لعبة عضّ الأصابع مع إدارة أوباما. ذلك تفسير تبسيطي، وانفعالي على نحو ما، يقيم موازين العلاقات بين روسيا وأمريكا، أو بالأحرى روسيا والعالم الخارجي عموماً، على ألاعيب الشطارة الأشبه بالضربات القاضية في الملاكمة. أغلب الظن، في المقابل، أنّ موسكو عثرت على منفذ نجاة لسياستها العالقة تجاه مجازر 21 آب (أغسطس) الكيميائية؛ إذْ بات مربكاً، ومحرجاً تماماً، أن تتمسك دولة عظمى مثل روسيا بسردية واحدة وحيدة، هشة وضعيفة وهزيلة، مفادها أنّ المعارضة هي التي استخدمت الأسلحة الكيميائية في "خان العسل"، وأنّ النظام لم يستخدمها في الغوطتَين الشرقية والغربية.

ومن الواضح أنّ ارتباك البيت الأبيض، حول الضربة العسكرية تحديداً، لم يبدأ من سوء التخطيط لها، وسوء إدارتها، سياسياً وإعلامياً وعسكرياً، والنقلات الدراماتيكية التي مرّت بها (ولم يكن قرار تحكيم الكونغرس أقلّها حصافة، أو أشدّها مدعاة لإثارة البلبلة في أذهان الأمريكيين)؛ بل بدأ من ابتداء سياسة أوباما تجاه الملفّ السوري، والانتفاضة الشعبية، وربما انتفاضات العرب جميعها، وذاك هو الدرس السادس. وهكذا، مجدداً، وقبل أن يشرع أوباما في ولايته الثانية، ويتولى كيري ملفات "الربيع العربي"؛ لعب البيت الأبيض ـ ممثلاً في مسؤوليه السابقين: وزيرة الخارجية هيلاري كلنتون، وزير الدفاع روبرت غيتس، رئيس أركان القوات المسلحة الأدميرال مايكل مولن، مساعد وزيرة الخارجية جيفري فلتمان، المدير في مجلس الأمن القومي الأمريكي دافيد لبتون، والمبعوث الشخصي فرانك وايزنر... ـ لعبوا، في تونس ومصر واليمن والبحرين، ثمّ في سورية لاحقاً، الأدوار الأسوأ والأشدّ ضرراً.

البيت الأبيض، وكما ساجلتُ شخصياً في مرحلة مبكرة من انطلاق الانتفاضة، ما يزال غير حاسم بصدد، أو غير مستقرّ تماماً على، تحديد سياسة مفصلة وملموسة وقابلة للتطبيق المرحلي، بصدد الملفّ السوري. واليوم أيضاً، كما في الماضي، هنالك أسباب وجيهة، سورية داخلية صرفة وإقليمية دولية أيضاً، جيو ـ سياسية وعسكرية واجتماعية واقتصادية وثقافية، تجعل الملفّ السوري أشدّ تعقيداً، وإنذاراً بالمخاطر والمزالق، من أن يدفع أوباما إلى اتخاذ قرارات تسير على نقيض فلسفته الرئاسية، حول حروب أمريكا الخارجية بصفة خاصة.

ولقد سال حبر كثير في وصف ألعاب "الشطارة" الأخيرة، بين "زلة لسان" كيري هنا، وبراعة لافروف هناك؛ ولم نعدم جوقة "الممانعة" التي اعتبرت تراجع أوباما عن الضربة بمثابة انتصار للأسد، والمتواضع بينهم ردّ الانتصار إلى بوتين؛ كما غاب عن الجوقة أيّ صوت يتحسر على تفكيك ترسانة النظام الكيميائية بوصفها استقالة علنية من مبدأ "التوازن الستراتيجي"، فكيف بالركوع والانبطاح أمام "الصهيونية والإمبريالية العالمية". للحبر أن يسيل أكثر، بالطبع؛ وللدم السوري أن يُراق، بأسلحة كيميائية أو أخرى تقليدية؛ وللخاتمة، التي يدوّن التاريخ حيثياتها بتؤدة، أن تسير إلى حيث قرّر لها الشعب السوري أن تنتهي: شاء أوباما أم أبى بوتين، وتلكأ الأوّل أم تواطأ معه الثاني!

الثلاثاء، 10 سبتمبر 2013

أبراج عاجية من أجل سورية

يُقال ـ ليس دون وجه حقّ، وليس بمعزل عن تجارب الواقع، وبراهين مقترنة بوقائع حاسمة فاصلة ـ إنّ من الحكمة ابتعاد الفلسفات الكبرى، وكبار ممثّليها استطراداً، عن التفلسف حول قضايا سياسية واضحة؛ خاصة تلك التي تنطوي على مزيج من أقصى المآسي وأقصى الآمال، كما في الانتفاضات الشعبية ضدّ أنظمة الاستبداد والفساد، ونماذجها العربية الراهنة بصفة خاصة. وقد يصحّ انطباق هذا القول، في المثال الأحدث عهداً، على الفيلسوف السلوفيني والناقد الثقافي الشهير سلافيو جيجيك؛ بصدد تنظيراته لخصائص "الربيع العربي" عامة، والانتفاضة السورية مؤخراً، بمناسبة احتدام الأجواء حول احتمال ضربة عسكرية ضدّ النظام السوري.

ففي مقالة بعنوان "سورية صراع زائف"، نشرتها صحيفة الـ"غارديان" البريطانية قبل ثلاثة أيام، كتب جيجيك: "كلّ ما كان زائفاً في فكرة وممارسة التدخل الإنساني انفجر بشكل مكثف بخصوص سورية. حسناً، هنالك دكتاتور سيء يستخدم (كما زُعم) الغاز السامّ ضدّ سكان دولته ذاتها ـ ولكن مَن الذي يعارض نظامه؟ يبدو أنّ ما بقي من المقاومة الديمقراطية ـ العلمانية غارق الآن، كثيراً أو قليلاً، في فوضى المجموعات الإسلامية الأصولية التي تساندها تركيا والمملكة العربية السعودية، مع حضور قوي لمنظمة القاعدة في الخلفية". وفي المقابل، واستكمالاً للصورة الموازية، على جانب النظام، يتابع جيجيك: "سورية بشار الأسد ادّعت أنها دولة علمانية على الأقلّ، ولهذا فلا عجب أنّ المسيحيين والأقليات الأخرى تميل اليوم إلى الاصطفاف معه ضدّ المتمردين السنة".

سكت جيجيك دهراً، إذاً، عن وقائع الانتفاضة السورية (هذه، بالمناسبة، أوضح مساهماته حول ملفّ يتفجر منذ 30 شهراً)، ثمّ نطق سردية تبسيطية مسطحة وسطحية، أسوأ من الكليشيهات الأردأ التي ساقها النظام ذاته في توصيف الصراع. ولهذا فإنّ الأسد، عند جيجيك، وليس قاتل أطفال وقائد ميليشيات وآمر مجازر جماعية، ومسلِّم سورية لوحدات "الحرس الثوري" الإيراني و"حزب الله" وغلاة الطائفيين الأجانب. هو، أيضاً، ليس "العلماني" الزائف، وريث نظام قام على التزلف للأديان، وتجنيد الطوائف، واعتماد سياسات التمييز والتفريق والمحاباة، ، في آن معاً؛ بل هو، ببساطة، محض "دكتاتور سيء"... التوصيف الوحيد الذي يطلقه فيلسوف عصرنا، على أحد أشرس طغاة عصرنا!  

فاضح، أكثر، أنّ جيجيك يبدو كمَن أعاد النظر في أطروحاته السابقة، والمبكرة التي اقترنت بانتفاضتَيْ تونس ومصر تحديداً، حول الدور "التحرري" الذي يمكن أن يلعبه الإسلام السياسي؛ ونقده، المكمّل، للتنميطات الغربية التي وحّدت الليبراليين والمحافظين الجدد، حول التشكيك في القوى الإسلامية داخل تلك الانتفاضات. إنه اليوم لا يرى، في سورية مثلاً، ذلك الاجتماع السياسي والاقتصادي والإثني والثقافي المعقد، الثائر على نظام استبداد وفساد معقد وتعددي المكوّنات بدوره، في برهة تاريخية محلية وعربية وإقليمية فارقة ومعقدة هي أيضاً؛ بل يكتفي بما يفعله أي مراقب خامل كسول، مدمن على التمثيلات المسبقة الكسيحة: أنّ الصراع في سورية يدور بين النظام (بوصفه حامي الأقليات) من جهة، وجموع السنّة (ولا يتذكر جيجيك أنهم أغلبية الشعب الساحقة)، من جهة ثانية؛ وهو، إلى هذا، صراع زائف أيضاً!

والحال أنّ مقالة جيجيك هذه تعيدنا إلى زميله المفكّر الفرنسي ما بعد الحداثي جان بودريار، الذي كتب مقالة شهيرة بعنوان "حرب الخليج لن تقع"، قبل اندلاع عمليات "عاصفة الصحراء"؛ اعتبر فيها أنّ "حرب الخليج لن تبلغ الدرجة 2 أو 3 على مدرّج ريختر لقياس الزلازل، فالتصعيد غير حقيقي وأشبه باختلاق الزلازل عبر إساءة استخدام معدّات القياس". ثم كتب بودريار مقالة ثانية، لم تصبح أقلّ شهرة في الواقع، بعنوان "حرب الخليج لم تقع"، وذلك بعد أن اختتم الحلفاء ستة أسابيع من القصف غير المسبوق في العراق: صواريخ من كلّ الأنواع تُطلق من البحر أو الجوّ، وطائرات مقاتلة بعيدة المدى، وأخرى لا تُرى بالرادار، وقاذفات وحوّامات مضادة للدروع، ومدفعية أرضية، وقنبل فراغية، وخارقات دروع خرافية...

كلّ ذلك تحت سمع وبصر مشاهِد تلفزة كوني، أتيح له أن يتابع دقة إصابة الهدف على شاشات تذكّر بلعبة الـ"نينتندو"؛ ومع ذلك أصرّ بودريار أنّ مرصده الفلسفي، المنتصب أعلى برجه العاجي، لم يبصر من تلك الحرب إلا "الهلوسة الجماعية" فقط! صاحبنا جيجيك، موضة هذه الأيام، كما كان بودريار موضة مطالع تسعينيات القرن الماضي، لم يبصر حصيلة انتفاضة شعبية أسفرت، حتى الساعة، عن أكثر من 120 ألف ضحية، و215 ألف معتقل، وقرابة مليونَيْ لاجىء؛ ونظام استخدم القاذفة والحوامة والدبابة والراجمة والزورق الحربي والمدفعية الثقيلة والصاروخية، بما في ذلك صواريخ الـ"سكود"، فضلاً عن أسلحة الدمار الشامل...؛ وأبصر، من برجه العاجي المتسامي، أنّ الصراع... زائف!

"كمأساة أوّلاً، وثانياً كملهاة"، عنوان اختاره جيجيك لأحد أعماله، مستعيداً عبارة كارل ماركس الشهيرة حول عاقبتَي التاريخ حين يشاء تكرار دروسه أحياناً؛ ومنطلقاً منها في رصد مفارقات النظام الكوني خلال العقد الأوّل من هذا القرن. وليس يسيراً أن يقاوم المرء إغراء استعارة العنوان إياه، في توصيف هذا الطراز من التقلبات التي انساق إليها أمثال جيجيك، منذ أن داهمتهم الانتفاضات العربية من حيث لم تحتسب مراصدهم، في أبراجها العاجية العالية! 

السبت، 7 سبتمبر 2013

الفاتيكان وسورية: عن "دينونة لا يمكن الفرار منها"

دعا بابا الفاتيكان، فرنسيس الأول، إلى تخصيص يوم غد السبت، السابع من أيلول (سبتمبر)، للصوم والصلاة من أجل السلام في سورية، والشرق الأوسط، وسائر أنحاء العالم. وقال: "أعيش بألم بالغ وبقلق حالات الصراع الكثيرة الموجودة في أرضنا هذه، ولكن قلبي، في هذه الأيام، مجروح بعميق بسبب ما يحدث في سورية، ومهموم من التطورات المأساوية الماثلة أمامنا". وإذْ أوضح بأنه يدين، "بحزم شديد"، استخدام الأسلحة الكيميائية؛ فإنّ الحبر الأعظم للكنيسة الجامعة تفادى تحميل المسؤولية لأيّ طرف، وكأنه يضع النظام والمعارضة في سلّة اتهام واحدة، وفضّل بالتالي الاستقرار على صيغة أخلاقية فضفاضة: "اللجوء إلى العنف لن يقود مطلقاً إلى السلام. فالحرب تجلب الحرب، والعنف يجلب العنف".

ويلفت الانتباه طرازان من ردود الأفعال على مبادرة البابا، واحد مأساوي والأخر كاريكاتوري؛ لكنهما، حين يوضعا على محكّ البُعد الوظيفي، ينتهيان معاَ إلى مقدار عالٍ من التكامل، وأداء الغرض المتماثل ذاته. وهكذا، قال بيان أساقفة دمشق إنّ "دعوة بابا الفاتيكان من أجل السلام في سورية والشرق الأوسط تعكس التعاليم المسيحية الصافية، التي تعمل فى الضمير الانساني لنشر السلام في الارض"؛ وهذه خلاصة لا جدال فيها، من حيث روحية دعوة البابا على الأقلّ. مدهش، في مستوى ثانٍ من البيان، أنّ الأساقفة أعادوا إنتاج خطاب النظام، ذاته، حول نظرية المؤامرة الخارجية، ليس على سورية وحدها هذه المرّة، بل على المنطقة بأسرها: دعوة البابا "تأتي فى وقت تتعرض فيه سورية إلى حرب من قبل دول وأنظمة جلّ همها القضاء على سورية وتاريخها ومستقبلها، إضافة إلى خلق حالة من الفوضى والرعب في جميع دول المنطقة"!

ردّ الفعل الثاني، الطراز الكاريكاتوري، صدر عن الشيخ أحمد بدر الدين حسون، مفتي النظام السوري؛ إذْ نقلت وكالة "فيديس"، التابعة رسمياً للفاتيكان، أنّ الأخير "تأثّر" بنداء البابا فرنسيس الأول من أجل السلام في سورية، فأعرب عن عن رغبته في المشاركة بأمسية الصلاة، التي ستُقام من ساحة القديس بطرس، قبالة الصرح البابوي، في روما. وقالت الوكالة إنّ السّفير البابوي في دمشق، المونسنيور ماريو زيناري، "سوف يدرس إمكانية تحقيق هذه الرغبة"؛ وإلا، في حال تعذّر سفر حسون إلى روما، فإنّ "جماعته في دمشق"، حسب تعبير وكالة "فيدس، سوف تلبّي نداء البابا؛ وأنّ "المسلمين السوريين مدعوّون للمشاركة بالصلاة مع البابا في جوامع دمشق وفي سائر المناطق الأخرى". ولم يعدم المرء جهات إعلامية مرتبطة بالنظام، سارعت إلى إسباغ الدراما الإضافية على الخبر، فأشارت إلى أنّ "الفرق الإسلامية، الجماعات القبلية، الدّروز، الإسماعيليّون وغيرها من مكوّنات المجتمع السوري سينضمون الى أمسية الصلاة"!

قبل هذا وذاك، ومنذ افتضاح أخبار المجازر الكيميائية في الغوطتَين الشرقية والغربية، دعا الفاتيكان إلى "الحذر في التعامل مع الادعاءات والمزاعم" حول مسؤولية جيش النظام عن استخدام أسلحة كيميائية هناك؛ كما حضّ على "عدم إطلاق أحكام إلا بعد الحصول على دليل واضح"، حسب الأسقف سيلفانو توماسي، المراقب الدائم للفاتيكان لدى مقرّ الأمم المتحدة في جنيف. أيضاً، في مقابلة مع إذاعة الفاتيكان الرسمية، اعتبر توماسي أنّ "السؤال الحقيقي المطروح بهذا الصدد هو من المستفيد الحقيقي من هذه الجريمة اللاإنسانية". ولكي لا يظلّ المشهد خالياً من هوية المذنب، أشار الأسقف إلى أنّ "التسرّع في إصدار الأحكام خلال أزمنة الحرب والنزاع، خاصة من جانب وسائل الإعلام، لا تقود دائماً إلى الحقيقة، ولا تجلب السلام"!

الأب أدولفو نيكولاس، الرئيس العام للرهبانية اليسوعية، أدلى بدلوه أيضاً، ضمن توجّه مماثل لا يتعمد تبرئة النظام السوري من المجازر الكيميائية، فحسب؛ بل يلقي باللائمة على الآخرين، في صفوف المعارضة السورية أو خارج البلد. لقد انتقد الضربات التي تعتزم الولايات المتحدة وفرنسا توجيهها إلى النظام السوري، وهذا حقّه بالطبع، وثمة كثيرون يوافقونه الرأي من منطلق التعاطف مع الشعب السوري، ضحية كلّ تدخل أجنبي، وليس بسبب أيّ تعاطف مع النظام. غير أنّ نيكولاس اعتبر أنّ الضربات هذه ـ وليس المجازر الكيميائية، البتة! ـ  هي التي تدفع البشرية إلى "ردّة نحو الهجمية"؛ فتخسر فرنسا موقعها كـ"مرشد  حقيقي للفكر والذكاء، له إسهام كبير في الحضارة والثقافة"، وتفقد الولايات المتحدة ما كان الأب اليسوعي يكنه لها من إعجاب بالغ!

والحال أنّ هذا المشهد الفاتيكاني ـ البائس سياسياً والمتعامي أخلاقياً عن رؤية الحقائق الدامغة، والمرتاح إلى مساواة الضحية بجلاّدها... ـ ليس جديداً على مواقف الصرح البابوي من الملفّ السوري، ولا يلوح أنه سيكون خاتمة التعامي. وثمة مقدار فاضح من التشويه، فضلاً عن التهويل، طبع تغطيات وكالة أنباء الفاتيكان للوقائع السورية منذ انطلاق الانتفاضة الشعبية؛ يشدد، بالطبع، على أوضاع مسيحيي سورية، ويكيل شتى التهم إلى المعارضة عموماً، والفصائل الإسلامية بصفة خاصة؛ بحقّ نادراً، ودون وجه حقّ غالباً. وثمة، في هذا المضمار، سوابق كثيرة سارت على المنوال ذاته، واتضح أنها عارية عن الصحة تماماً، في المقام الأوّل؛ كما أنها، في المقام الثاني، تكشف تلك المنهجية القصدية التي تتوخى التضخيم، وتتلقف التقارير المغالية، أو الكاذبة عن سابق قصد، وتتبناها كحقائق مسلّم بصدقيتها.

ففي أواخر العام الماضي، 2012، وزّع القسم العربي لوكالة "فيديس" خبراً مسهباً، قيل إنه صادر من مدينة حلب، يبدأ هكذا: "هناك حوالي ألف مسيحي من الكاثوليك والروم الأرثوذكس محاصرون في قرية اليعقوبية المسيحية الصغيرة الواقعة في شمال حلب. إنهم منهكون، ويفتقرون إلى الغذاء والكهرباء والاحتياجات الأساسية، ويجدون أنفسهم وسط قتال عنيف بين القوى الموالية والقوى المعارضة. لا يستطيعون مغادرة القرية ويعيشون في أوضاع رهيبة ويواجهون خطر الزوال. هذا هو الإنذار الذي أطلقه عبر 'فيدس' الأخ الفرنسيسكاني الأب فرنسوا قصيفي، راعي كنيسة القديس فرنسيس في الحمرا (بيروت) الذي يعتني ويهتم بحوالي 500 لاجىء سوري".

لافت، في البدء، أنّ الوكالة تعلن نقل الوقائع من حلب، ثمّ لا يحتاج المرء إلا إلى حفنة كلمات بعدها كي يكتشف أنّ الناقل يقيم في بيروت، وهو مطلِق الإنذار الرهيب، المنضوي أيضاً في موقع الخصم والحكم. جديرة بالانتباه، ثانياً، تلك اللغة التهويلية، والتهييجية استطراداً، التي تذهب إلى حدود قصوى مثل "الإنذار"، و"خطر الزوال" (Extinction باللغتَين الإنكليزية والفرنسية!)، و"الحصار"، و"المأساة الرهيبة" و"المسار الخطير"... في فقرات الخبر الأخرى. مدهش، ثالثاً، أنّ الوكالة بدت وكأنها تضع مسيحيي سورية في مصافّ افتراقية عن بقية السوريين، إذْ يتوجب ألا يفتقروا إلى الغذاء والكهرباء والاحتياجات الأساسية، أسوة بحال مواطنيهم عموماً؛ وهم أشبه بفريق محايد، مستقلّ، منفصل، لا هو "قوى موالية" ولا "قوى معارضة"!

وفي حزيران (يونيو) 2012، نقلت الوكالة ذاتها تقريراً عن اضطهاد المسيحيين في مدينة حمص، نسبته إلى أسقف فرنسي يدعى فيليب تورنيول دو كلو، ادّعى النطق باسم كنيسة الروم الملكيين الكاثوليك، وتحدث عن كنائس دمرها المعارضون المسلحون، وعن مقتل كاهن، وفرار عدد كبير من المسيحيين تحت تهديد "الإسلاميين". خطأ الوكالة الأوّل كان إضفاء مرتبة الأسقف على دو كلو، في حين أنه "أرشمندريت"، وهي مرتبة دينية أدنى. وأمّا الخطأ الثاني، الذي عُدّ فضيحة مهنية وأخلاقية، فقد كان تأكيد مجلة "مسيحيو المتوسط" الفرنسية، ومدوّنة "إل موندو دي أنيبال" المتخصصة بالعالم العربي، أنّ دوكلو شاهد زور، ببساطة: لم يسبق له أن زار سورية، كما أنه مقرّب من أوساط اليمين الفرنسي المتطرف! وتساءلت المدوّنة: كيف وقعت في الخطأ وكالة مثل "فيدس"، يتوجب أن تمثّل مجمع التبشير الإنجيلي للشعوب؟

وبين الانخداع، الذي وقعت فيه الوكالة؛ والخداع، الذي مارسته عامدة، كما يتوجب القول؛ ثمة تلك الأمثولة القديمة، المتكررة والمكرورة، عن الكيل بمكيالين. فالكنيسة الكاثوليكية اعتذرت، في مناسبات شتى، عن مواقف الصمت، أو التواطؤ، أو المباركة الضمنية، التي اتخذتها بعض المؤسسات الكاثوليكية إزاء الجرائم النازية. ولكنها ما تزال تلتزم الصمت المطبق إزاء عمليات الإبادة الجماعية التي مارسها الفاتحون الإسبان ضدّ الأقوام الأصلية الأمريكية ("الهنود الحمر"، في تسمية كريستوفر كولومبوس)، وسط لامبالاة الكنيسة، ولكن، أيضاً... وسط مباركتها للمذابح في أمثلة عديدة!

والتاريخ يسجّل أنّ المبشّر ورجل الدين كان العمود الرابع في تنفيذ الفتح، بعد الملاّح، والكاتب المؤرّخ، والفاتح العسكري. وفي كتابه الشهير "دموع الهندي"، يشرح الأب الدومينيكاني بارتولوميو لاس كاساس الفظائع الرهيبة التي سكت عنها الآباء والمبشّرون، بل شجّعوها تحت دعوى التنصير الإجباري لهذه "الأقوام الهمجية". وفي موازاة دفاع الأب لاس كاساس عن المساواة بين البشر، توفّر الفقيه الإسباني خوان دي سيبولفيدا، الذي دافع عن التمييز الصريح بين البشر، وتساءل بقحة: "كيف يمكن لأحد أن يعتبر غزوهم، وإبادتهم في حالة الضرورة، أمراً غير مبرر، وهم على ما هم عليه من همجية وبربرية ووثنية وكفر ودعارة"؟

كذلك سجّل التاريخ تلك العبارة/المسمار، ("الماريشال بيتان هو فرنسا، وفرنسا هي الماريشال بيتان")، التي هتف بها الكاردينال بيير جيرلييه، أسقف مدينة ليون، ورددت أصداءها جدران كاتدرائية بوردو العريقة أثناء قيام الماريشال ـ زعيم حكومة فيشي، المتعاونة مع الاحتلال النازي ـ بزيارة الكاتدرائية. وثمة ذلك النداء، الرهيب بدوره، الذي أطلقه الكاردينال الكاثوليكي بودريار، عام ، 1941، في امتداح النازية: "لأنني قسّ وفرنسي يمرّ بمرحلة حاسمة، هل في وسعي أن أرفض إقرار المشروع النبيل المشترك الذي تقوده ألمانيا، والذي يسعى إلى تخليص فرنسا وأوروبا والعالم بأسره من الهواجس الأشدّ خطورة، وإقامة تآخٍ صحي بين الشعوب على خلفية تجديد مسيحية القرون الوسطى؟ ها قد حان الوقت لحملة صليبية جديدة. وأؤكد لكم أنّ ضريح المسيح سوف يتحرر. ومن خلال أحزان اللحظة، سوف ينبلج فجر جديد"!

تلك، بدورها، وقائع تُستدعى لفهم عبارة البابا فرنسيس، في نصّ دعوته إلى الصيام والصلاة من أجل سورية: "أقول لكم إن صور الأيام المنصرمة البشعة ما زالت منطبعة في الذهن وفي القلب. هناك دينونة الله، وهناك أيضا دينونة التاريخ وفق أعمالنا، وهي دينونة لا يمكن الفرار منها". بالطبع، فإلى أين؟ وكيف، أصلاً، المفرّ؟  


ديمقراطية أوباما: سراء أم ضراء؟

فشل دافيد كاميرون، رئيس الوزراء البريطاني، في الحصول على تخويل من مجلس العموم، يتيح له مشاركة الولايات المتحدة الامريكية في توجيه ضربة عسكرية؛ هو هزيمة، بالطبع، سياسية ومعنوية وحزبية، فضلاً عن كونها شخصية تصيب كاميرون نفسه. ولكنّ صفتها الأخرى المتلازمة هي أنها انتصار للديمقراطية البريطانية، أياً كانت تحفظات المرء ضدّ أحفاد أوليفر كرومويل وميثاق الـ"ماغنا كارتا"، وبصرف النظر عن المظانّ التي قد تطعن في مصداقية هذا البرلماني الرافض، أو ذاك الموافق. الأساس، في كلّ حال، أنّ كاميرون كان ملزَماً بالرجوع إلى المجلس، على أصعدة دستورية وأخلاقية، قبل أن تكون رمزية صرفة، ولم يكن حرّاً طليق اليدين. 

من جانبه، لم يكن الرئيس الأمريكي باراك أوباما مجبراً على العودة إلى الكونغرس بصدد الأمر ذاته، وكان يكفيه التشاور الشكلي مع زعماء الأغلبية ورؤساء اللجان المختصة بالأمن القومي والقوات المسلحة والسياسة الخارجية؛ وثمة سابقة حديثة العهد، في هذا المضمار، هي انخراط أمريكا في عمليات الحلف الأطلسي ضدّ نظام معمّر القذافي، دون أيّ تخويل من الكونغرس. لكنّ أوباما فاجأ العالم، وغالبية معاونيه ورجالات إدارته (باستثناء رئيس أركان البيت الأبيض، دنيس ماكدونو، كما تردد)، حين أعلن أنه ينوي إرسال مشروع قرار إلى الكونغرس، مجلسَيْ النوّاب والشيوخ، يتضمن طلب التفويض بعملية عسكرية (محدودة، ضيّقة النطاق، ولا تستهدف إسقاط الأسد، أو تغيير نظامه... للتذكير الضروري!)، بعد تنظيم نقاش، وإجراء تصويت.

هل تراجع، إذاً، وصرف النظر عن الضربة العسكرية، وعَكَس تيّار الإدارة التي لم تعد تصريحات كبار ممثليها تتحدّث عن "هل"، بل "متى" و"كيف" سيتمّ تنفيذها؟ أم أنّ الرجوع إلى الكونغرس يستهدف تأمين غطاء دستوري، وشرعية عابرة للخلافات الحزبية، إذا تطوّرت الضربة المحدودة إلى ما هو أبعد أثراً، وأطول زمناً، وأشدّ عاقبة على القائد الأعلى للقوّات المسلحة الأمريكية؟ أم أنّ غرض أوباما هو ممارسة التمرين الديمقراطي، وتكريم رأي ممثّلي الشعب، وإظهار بلده بمظهر أقوى من الوحدة والتلاحم بين الرئيس والمشرّعين، كما قال؛ خاصة وأنّ الديمقراطية الأمريكية ليست أقلّ من نظيرتها البريطانية حرصاً على دستورية قرارات كبرى مثل الانخراط في عمل عسكري خارجي؟

الحال أنّ تصريحات أوباما لا توفّر إجابة صريحة على هذه الأسئلة، ولكنها لا تغلق احتمالاتها، أو هي بالأحرى لا تغلق أيّ احتمال؛ خاصة تلك الفقرة التي تشير إلى أنه "اتخذ القرار" بالفعل، حول ضرورة معاقبة النظام السوري بضربة عسكرية، ثمّ اتخذ قراراً تالياً هو الرجوع إلى الكونغرس. المحزن، في هذه الرياضة بأسرها، أنّ بعض أقطاب المعارضة السورية الخارجية ـ ممّن يتوجب أن يدفعهم برنامجهم السياسي والأخلاقي، من أجل سورية المستقبل الديمقراطية، إلى امتداح هذا الطراز من السلوك الديمقراطي الذي لجأ إليه أوباما ـ أعربوا عن "خيبة أمل" لأنه انحنى أمام مؤسسة التشريع الأعلى في بلده!

بيد أنّ سلوك أوباما هذا يقودنا إلى واحد من دروس التاريخ البليغة: أنّ بين أشدّ خلائط السياسة خطراً، وشذوذاً وغرابة، تلك التي تجعل الولايات المتحدة ديمقراطية داخلية وإمبريالية خارجية، في آن معاً؛ الأمر الذي تناوله شالمرز جونسون، أحد أذكى متابعي مخاطر صعود الإمبراطورية الأمريكية، على نحو ثاقب ومعمّق في كتابه "نيميسيس: الأيام الأخيرة للجمهورية الأمريكية". وهذا العمل، الذي قد يكون التحليل الأعمق والأشجع والأشدّ قتامة لانحطاط الديمقراطية الأمريكية، خاصة في ولايتَيْ جورج بوش الابن، هو الجزء الأخير من ثلاثية بدأها جونسون سنة 2000 بكتاب "ردّ الصاع: أكلاف وعواقب الإمبراطورية الأمريكية"؛ ثمّ أعقبها بكتاب "ضرّاء الإمبراطورية: النزعة العسكرية، الكتمان، ونهاية الجمهورية".

ويرسم جونسون المشهد التالي الذي لا ينطوي على أيّ تهويل أو مبالغة: ثمة خليط من جيوش هائلة منتشرة خارج البلاد، موضوعة في حالة حرب؛ واعتماد اقتصادي متزايد على المجمّعات الصناعية ـ العسكرية، وتصنيع الأسلحة خصوصاً؛ وإنفاق خرافي على القواعد العسكرية، مع تضخّم هائل غير مسبوق في ميزانية البنتاغون؛ إذا وضع المرء جانباً ذلك الانتشار السرطاني لنفوذ وزارة الأمن الداخلي وصلاحياتها، والتدمير المنظم لبنية الحكم الجمهوري لصالح رئاسة إمبريالية أكثر فأكثر... ولا يتردد جونسون في إنذار أبناء جلدته: "نحن على حافة خسران ديمقراطيتنا من أجل الحفاظ على إمبراطوريتنا. وحين تسير الأمّة على هذا الدرب، فإنّ الديناميات التي تنطبق على كلّ الإمبراطوريات السالفة لا بدّ ان تنطبق علينا: العزلة، الإفراط في التوسع، توحيد العناصر المحلية والكونية المناهضة للإمبريالية، والإفلاس في الختام".

وهكذا، إذا جاز افتراض الباعث الديمقراطي في لجوء أوباما إلى تخويل الكونغرس، حول عقاب النظام السوري على استخدام الأسلحة الكيميائية؛ فإنّ ما يجوز التفكير به، استطراداً، هو أنّ هذه الديمقراطية الأمريكية هي، ذاتها، التي استخدمت القنبلة النووية، وأشكال أخرى من أسلحة الدمار الشامل؛ أو زوّدت الجيوش الحليفة بأنماط مختلفة منها، أو تغاضت عن استخدامها في حروب شتى. وهي ديمقراطية فظائع سجون "أبو غريب" العراقي، و"باغرام" الأفغاني، و"غوانتانامو" الأمريكي، والمعتقلات الطائرة، والسجون السرّية...

وهذه، في نهاية المطاف، بعض تناقضات شخصية نيميسيس، ربّة الثأر والعقاب في الأسطورة الإغريقية، حيث السراء ضراء... والعكس!