وعزّ الشرق أوّله دمشق

الخميس، 28 نوفمبر 2013

كيميائي الغوطة: كان البنتاغون يعلم مسبقاً

قبل ثلاثة أيام نشرت صحيفة "وول ستريت جورنال" الأمريكية تقريراً بالغ الأهمية، حول الهجمة الكيميائية التي شنّها النظام السوري على الغوطتَين الشرقية والغربية، في الساعات الأولى من فجر 21 آب (أغسطس) الماضي؛ وقد وقّع التقرير ثلاثة من خيرة أعضاء الفريق الذي يغطّي الشأن السوري: آدم إنتوس، نور ملص، وريما أبوشقرة. الخلاصة، التي تتكيء على شبكة من التفاصيل المترابطة والمتقاطعة، تفيد التالي: كانت أجهزة الرصد الاستخباراتي الأمريكية قد سجّلت مجموعة الاتصالات التي أجرتها وحدات النظام العسكرية، عبر مختلف شبكات القيادة والتحكّم، قبيل تنفيذ الضربة الكيميائية؛ لكنّ المحتوى لم يُترجم إلى اللغة الإنكليزية على نحو فوري، إلى أنْ ظهرت آثار الهجمة، وبدأت مشاهد الضحايا تتعاقب عبر أشرطة الفيديو التي بثتها أطراف المعارضة السورية.

التفصيل الأوّل الحاسم، الذي يسوقه التقرير، يقول إنّ الاجهزة الأمريكية أخذت ترصد علامات جلية منذرة بما سيقع، خلال اتصالات النظام العسكرية منذ يوم 18 آب، حين كانت وحدة خاصة، معنية بالسلاح الكيميائي، قد تلقت الأمر بالتحرك نحو موقع أقرب إلى خطوط المواجهة مع كتائب الجيش الحرّ، كما بدأت فعلياً في مزج السموم. وطيلة يومين، يتابع التقرير، تواصلت الإشارات التحذيرية، حتى صدرت تلك الرسائل المشفرة التي تأمر وحدة النخبة بإخراج "الكبيرة"، وارتداء أقنعة الغاز. ومع ذلك فقد امتنعت الأجهزة الأمريكية عن ترجمة هذا كلّه إلى الإنكليزية، وإبلاغ القادة المباشرين بما يعتزم النظام القيام به، حتى الساعة 2,30 صباحاً، يوم 21 آب، حين نُفّذت الرشقة الأولى من الصواريخ المحمّلة بالعبوات الكيميائية.

التفصيل الثاني في التقرير هو أنّ الاتصالات أخذت تنهال على بشار الأسد من حلفائه، روسيا وإيران و"حزب الله"، خاصة وأنّ مقاتلي الحليف الأخير كانوا في مرمى النيران، وأنّ الأطراف هذه ـ أسوة بالولايات المتحدة وإسرائيل، بالطبع ـ كانوا على علم بسوابق النظام في استخدام الأسلحة الكيميائية. وهذه الأجهزة، وسواها من استخبارات غربية وشرق ـ أوسطية، رصدت حالة واسعة من الارتباك في صفوف القشرة العليا من القادة العسكريين الملتفين حول النظام، وأنّ بعضهم خشي أن تكون الهجمة من فعل الجيش الحرّ، وأبرق بالفعل يسأل عن الحيثيات!

تفصيل ثالث، في التقرير، يشير إلى أنّ الأجهزة الأمريكية كانت قد جمعت، منذ شهر تموز (يوليو) الماضي، معلومات وبراهين مادية على لجوء النظام إلى استخدام الأسلحة الكيميائية، في مناسبات متفرقة، وإنْ على نطاق محدود؛ وأنّ دنيس ماكدونو، نائب مستشار الأمن القومي في البيت الأبيض، أبلغ مساعديه بضرورة كتم هذه المعلومات، لكي لا تحرج الإدارة بصدد "الخط الأحمر" الشهير الذي رسمه الرئيس الأمريكي باراك أوباما. قبلئذ، في كانون الأوّل (ديسمبر) العام الماضي، كانت الأجهزة الأمريكية قد رصدت اتصالاً بين ضباط النظام، تطرّق إلى احتمال استخدام الأسلحة الكيميائية عبر القصف الجوي، وأنّ البيت الأبيض أبلغ روسيا بمضمون ذلك الرصد، فبادرت موسكو إلى مفاتحة طهران، لكي تضغط بدورها على الأسد كي يصرف النظر عن هذا الخيار.

تفصيل رابع يخصّ شخصية العميد بسام حسن، الضابط البارز في "الحرس الجمهوري"، والذي يشير تقرير "وول ستريت جورنال"، استناداً إلى معطيات الاستخبارات الأمريكية والفرنسية، إلى أنه المفوّض مباشرة من بشار الأسد، حول استخدام الأسلحة الكيميائية. وما لم يصدر أمر كهذا عن الأسد نفسه، أو شقيقه ماهر، فإنّ العميد حسن قد يكون بالفعل (في تقديري شخصياً، هذه المرّة) الضابط الأكثر تمتعاً بثقة آل الأسد في اتخاذ قرارات ميدانية حاسمة، حول معارك ريف دمشق إجمالاً، وجولات الكرّ والفرّ في الغوطة تحديداً. وثمة تقديرات تشير إلى أنّ حسن هو وريث العميد محمد سليمان، الذي اغتيل في استراحته الخاصة على شواطىء طرطوس، صيف 2008؛ ليس في مسائل التسليح الخاصة والحساسة وحدها، بل كذلك في التنسيق مع الجنرال قاسم سليماني، قائد "فيلق القدس" الإيراني، حول وجود عناصر "الحرس الثوري" ومقاتلي "حزب الله" على الأرض السورية.

كان البنتاغون يعلم مسبقاً، إذاً، ويصعب القول إنه لم يسكت على مذبحة وشيكة، كفيلة بالانقلاب إلى صيغة إبادة جماعية؛ تماماً كما حدث بعدئذ، باعترافات مسؤولي البيت الأبيض أنفسهم، ابتداءً من أوباما نفسه، وانتهاءً بوزير خارجيته جون كيري، مروراً بمستشارته للأمن القومي سوزان رايس. الفارق أنّ ضجيج الإدارة وعجيجيها لم يصطخب إلا خلال مراحل التحضير للضربة العسكرية ضدّ نظام الأسد، وسرعان ما خفت وهمد وخمد حين استدار أوباما على عقبيه وصرف النظر. وهذا فارق مألوف في سياسات شاغلي البيت الأبيض تجاه السكوت عن مباذل الطغاة عموماً، أو غضّ البصر عن الانتهاكات الفظيعة والجرائم والمذابح.

ولا عزاء لأولئك السوريين، "المعارضين" منهم بصفة خاصة، ممّن علّقوا الآمال على المنقذ الأمريكي، وأخذوا علينا أننا نناهض رهن الانتفاضة بأيّ محور خارجي، عربي أو أقليمي، وغربي أو شرقي؛ وأننا رفضنا الضربة الأمريكية، ليس إشفاقاً على شعبنا من ويلات إضافية فقط، بل لأنّ ما وراء الأكمة الأمريكية، تجاه شعوبنا عموماً، لم يعد خافياً إلا على ساذج، أو مرتهِن الإرادة، أو تابع.

لا عزاء؛ واللهم لا شماتة، أيضاً!
25/11/2013

الاثنين، 25 نوفمبر 2013

الغرب و"علمانية" النظام السوري: لماذا التصديق.. والمصادقة؟

 لا يكاد يمرّ يوم، أو تقع واقعة ذات صلة بهذا أو ذاك من أنساق التباين داخل صفوف المعارضة السورية، إلا ويستذكر السواد الأعظم من المعلّقين الغربيين، بصفة خاصة، تلك الثنائية الكبرى، السهلة المستسهَلة مع ذلك: صراع "العلمانيين" و"الإسلاميين". ويحدث، غالباً، أن ينتهي الأمر إلى ترسيخ حال قطبية، موازية أو ثالثة، تفترض ـ باسترخاء تام، وخمول فاضح، وضحالة صارخة ـ أنّ النظام السوري "علماني" بالضرورة، وبالمنطق الشكلي والتبسيطي، أو حتى من دون أيّ منطق آخر سوى ما تردّد ويتردد عبر التنميطات العتيقة حول حزب البعث، أو بنية السلطة كما سهر حافظ الأسد على صنعها طيلة ثلاثة عقود أولى من عمر "الحركة التصحيحية"، وكما تابع بشار الأسد تقاليدها على امتداد 13 سنة أعقبت توريثه بعد وفاة أبيه.

وإذا كان المرء يألف ترسيخ هذه الحال القطبية لدى الصحافي أو المعلّق السياسي، مثل المحلل والخبير الستراتيجي، إلى جانب المستشرق والمستعرب؛ فإنّ المرء ذاته لا يعدم العثور على الثنائية ـ السهلة المستسهَلة، مجدداً ـ لدى المفكّر أو الفيلسوف أو الناقد الثقافي أو عالم الاجتماع، اليساري أسوة باليميني، والتقدّمي الثوري مثل المحافظ الرجعي... القارىء، هنا، لا يسقط ـ إنْ سقط، بالطبع، وغالباً ما يفعل في الواقع ـ ضحية التوظيف الرديء، لكي لا نقول: الخبيث، للمعلومة الإخبارية الملموسة والوقائعية، كما يقترحها الصحافي أو المراسل أو المعلّق؛ بل تتناهبه توظيفات أشدّ تعقيداً، وبالتالي أكثر جاذبية، لفلسفات ومناهج وطرائق بحث وأدوات تحليل، تزعم الاتكاء على نُظُم علمية وإنسانية متقاطعة، تسخّر علوم السياسة والنفس والاتصال والأديان، ولا تتورّع عن استخدام مرجعيات الأنثروبولوجيا والإثنولوجيا! 

وشخصياً، لست أملّ من اقتباس سلافوي جيجيك، الأشهر من نار على علم، في مقالته "سورية صراع زائف"، التي نشرها مطلع أيلول (سبتمبر) الماضي، تحت وطأة العجيج والضجيج الذي اكتنف احتمالات توجيه ضربة عسكرية أمريكية ضدّ النظام السوري. "حسناً، هنالك دكتاتور سيء يستخدم (كما زُعم) الغاز السامّ ضدّ سكان دولته ذاتها"، كتب جيجيك، ثمّ سأل: "ولكن مَن الذي يعارض نظامه؟ يبدو أنّ ما بقي من المقاومة الديمقراطية ـ العلمانية غارق الآن، كثيراً أو قليلاً، في فوضى المجموعات الإسلامية الأصولية التي تساندها تركيا والمملكة العربية السعودية، مع حضور قوي لمنظمة القاعدة في الخلفية". وفي المقابل، واستكمالاً للصورة الموازية، على جانب النظام، يتابع جيجيك: "سورية بشار الأسد ادّعت أنها دولة علمانية على الأقلّ، ولهذا فلا عجب أنّ المسيحيين والأقليات الأخرى تميل اليوم إلى الاصطفاف معه ضدّ المتمردين السنة".

أمّا مثال الصحافي، فإنّ سؤال الأمريكي شارلز روز، الذي لا يقلّ شهرة عن جيجيك، خلال المقابلة مع بشار الأسد، مطلع أيلول الماضي أيضاً، وضمن أجواء الضربة العسكرية إياها، صار اقتباساً كلاسيكياً لازماً، ومغرياً لا ريب، كلما نوقشت مسألة الإسلام والعلمانية بصدد الانتفاضة السورية. "سألتك مرّة عن أكبر مخاوفك، وقلتَ إنه يتمثل في نهاية سورية كدولة علمانية. هل حلت تلك النهاية؟"، سأل روز (في الترجمة الرسمية التي نشرتها "سانا"، وكالة أنباء النظام). أجاب الأسد: "طبقاً لما رأيناه مؤخراً في المناطق التي يسيطر عليها الإرهابيون، حيث يمنعون الناس من الذهاب إلى المدارس، ويمنعون الشباب من حلق لحاهم، ويفرضون على النساء أن يغطين أنفسهن من قمة رؤوسهن إلى أخمص أقدامهن، وباختصار يفرضون نمط حياة طالبان في أفغانستان، نفس أسلوب الحياة تماماً (...) إذا لم تتخلص من أولئك الإرهابيين والمتطرفين وذلك الأسلوب الوهابي، فإن ذلك سيؤثر على الأقل في الأجيال الجديدة القادمة. لا نزال علمانيين في سورية، لكن بمرور الوقت فإن هذه العلمانية ستتلاشى".

فإذا كان جمهور جيجيك سيصدّق تشخيصاته السطحية الضحلة، خاصة بعد انحطاط تحليلاته لظواهر "الربيع العربي" عموماً؛ وجمهور روز سيصادق على توصيفات الأسد الكاريكاتورية، وسيقبل بها كحقائق راسخة؛ فإنّ المستوى الأعمق للتصديق والمصادقة لن يكون مرتبطاً بما يُقال للجمهور، وما يُعرض عليه، فحسب؛ بل كذلك بما يحلو لهذا الجمهور أن يصدّقه، أو يصادق عليه؛ تلقائياً هذه المرّة، وطواعية! أمّا على الجانب الآخر، العميق أيضاً، من السيرورة ذاتها، فإنّ الجمهور لن يتوانى عن استحضار ثنائية أخرى، ذاتية التوليد، مرتبطة بمجتمعات الغرب قبل مجتمعات الشرق، وبالبنى الثقافية والدينية قبل تلك السياسية أو الأخلاقية: ثنائية الديانة المسيحية/الإسلام، وكيف يمكن أن يتقابلا على نحو صراعي وتنافسي، يشمل العقيدة الروحية والدساتير الوضعية، سواء بسواء.

وفي مثل هذه الأيام، ولكن قبل أربع سنوات، شهدنا تصويت سويسرا على حظر بناء المزيد من المآذن، ولكنّ السجالات والأصداء انتقلت سريعاً إلى معظم أرجاء أوروبا، أي أرض الكون المسيحي كما يتوجّب القول تحرّياً لدقّة أكبر، ما دمنا في المصطلح الديني، وفي مدلولاته. وهكذا، في فرنسا على سبيل المثال، قال استطلاع متعجّل أجرته مؤسسة "إيفوب" إنّ 46 بالمئة من الفرنسيين يؤيدون حظر المآذن، وقبلت بها نسبة 40، ورفضت نسبة 14 الإفصاح عن الرأي. لكنّ المغزى الأهمّ للاستطلاع كان التالي: 19 بالمئة فقط هي المؤيدة لبناء المساجد، أي النسبة الأضعف منذ ثلاثة عقود، بل كانت أضعف حتى من نسبة ما بعد تفجيرات 11/9 سنة 2001 ، إذْ بلغت 22 بالمئة آنذاك.

 كذلك وجدنا وزيرة سابقة تنتمي إلى اليمين المسيحي، كريستين بوتان، تقول إنّ "المئذنة ترمز إلى الديانة الإسلامية، ونحن لسنا في دار الإسلام"؛ متجاهلة تماماً أنّ الأمر ليس تناظراً بين الإسلام والمسيحية، بل يخصّ واحداً من حقوق الإنسان الجوهرية، أي حقّ المعتقد وممارسته والتعبير عنه بالوسائل التي يكفلها القانون. فماذا يمكن أن تقول، وسواها، لو أنّ استفتاءً معاكساً جرى في القاهرة أو بغداد أو دمشق أو الرباط، وهي عواصم مسلمة بامتياز، فأفضت نتيجته (بنسبة 57,5 بالمئة، كما في المثال السويسري) إلى حظر تزويد الكنائس بالأجراس، وحظر قرعها أيام الآحاد والمناسبات الدينية؟ ألا يشكل استفتاء كهذا اعتداءً على حرّية المعتقد المسيحي، في ديار الإسلام؟

سويسرا ديار مسيحية لا ريب، ومن المفهوم أن يشعر المسيحيّ المتديّن البسيط ـ التقليدي أو العصري، سواء بسواء في الواقع ـ بأخطار تتهدد ديانته، من ديانة لا يكفّ أهل النخبة، في المذياع والتلفاز والصحيفة والكتاب، عن وصفها بالمتشددة والمتطرفة والمنغلقة، فضلاً عن كونها صانعة الإرهاب. بيد أنّ هذه أيضاً، ولا ريب، بلاد ديمقراطية تعددية، وموطن أكثر من شرعة كونية لتعزيز حقوق الرأي والتعبير والمعتقد، بالإضافة إلى ما اشتهرت به من حياد في الحرب كما في السلام. هل ثمة تناقض موروث ومتأصل ومستعصٍ، إذاً؟ وكيف، ومن أين ينبثق؟ وإذا كان طراز الديمقراطية السويسري، أي الاعتماد الدائم على استفتاء الشعب، قد أماط اللثام عن حقائق ذلك التناقض، فكيف يمكن أن تتكشف حقائق مماثلة في طراز آخر من الديمقراطية، في فرنسا مثلاً؟

الأكاديمي الفرنسي جان ـ بول ولايم، الأخصائي في علم اجتماع الأديان، يرى أن المجتمع الفرنسي تَعَلْمَن، لكنه لم يتجرّد البتة من تديّنه، و"بقي المخيال الوطني ضارب الجذور في المسيحية"، بدليل ذلك الملصق الذي اختاره فرنسوا ميتيران، الرئيس اللشتراكي الأوّل في الجمهورية الخامسة، أثناء حملته الانتحابية: صورته واقفاً أمام كنيسة عتيقة، في عمق الريف الفرنسي. ولهذا فإنّ المئذنة، في رأي ولايم، "تخدش المشهد الثقافي، لتفرض تعددية دينية لا تبدو يسيرة القبول. والفرنسيون، مثل الأوروبيين، لديهم ردّ فعل سيادي، وضِيْق من العولمة الاقتصادية والثقافية والدينية. وتطرح عليه صحيفة "فيغارو" الفرنسية ـ اليمينية، للتذكير المفيد ـ السؤال التالي: البعض يرى في المئذنة رمزاً سياسياً ـ دينياً، وعلامة اجتياح"، فيجيب: "إنّ الصروح الدينية هي صيغة تعبير عن تحدّيات حيازة السلطة، إذْ كان الكاثوليك في القرن التاسع عشر مخوّلين ببناء الكنائس في الشوارع الرئيسية، وتُرك للبروتستانت أن يبنوا معابدهم في الشوارع الخلفية والجانبية فقط".

وبالفعل، ألم تعتبر المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل أنّ بناء المآذن أمر ممكن، شرط ألا ترتفع أعلى من برج الكنيسة، حيث يُقرع الجرس؟ أليس في جوهر هذه المواقف ما يطلق عليه ولايم، دون تردّد، تسمية "الكاثو ـ علمانية"، نسبة إلى تَكَثْلُك أو كَثْلَكة الحياة اليومية التي تبدو علمانية في المظهر، ولكنها في الباطن تواصل تديّنها القديم، بدليل التقويم المسيحي، والأعياد الدينية، وعادات المأكل والمشرب؟ أليست جميع الأديان التوحيدية مشتركة في صفة الأداء الشعائري للعبادات والمناسك، وبالتالي من غير الممكن بلوغ تعددية دينية فعلية، وتعايش مشترك صادق، دون احتمال الجميع للجميع؟

على ساحات أخرى، وتلك الأمريكية تحديداً، فإنّ التنميطات الراهنة ليست سوى تتمة هذه الأيام من سجال الحروب الثقافية وصدام الحضارات، الذي اندلع على يد صمويل هنتنغتون، واستقرّ وتنامى كالفطر حتى بعد رحيله، رغم مراجعة الكثير من آرائه، وبطلان خلاصاتها. لماذا انفرد الاسلام، وما الذي ميّزه عن سواه من الحضارات الستّ الأخرى (الصينية، اليابانية، الهندية، الغربية، الأمريكية اللاتينية، والأفريقية) التي ستتصادم وتتصارع في قادم العقود؟ باختصار، أجاب هنتنغتون، لأنّ "الإسلام حضارة مختلفة عن سواها، وأهلها على قناعة تامة بتفوّق ثقافتهم على سواها، ولأنهم مهووسون بفكرة تدنّي قوّة أبناء هذه الحضارة عن سواهم". سواها، سواهم، وسوانا... نحن (أبناء الغرب) بطبيعة الحال!

وهكذا، للمرء ـ والمواطن السوري المعارض، تحديداً ـ أن يراهن على معادلة بسيطة، تفيد اختلاط الاستقبال الشعبي الأوروبي لأكاذيب النظام السوري حول "علمانية" السلطة، بالمواقف الشعبية الأوروبية إزاء واقع الإسلام في ديار أوروبا المسيحية. وإذا كانت ممارسات غلاة الإسلاميين داخل صفوف المعارضة السورية توفّر الدليل القاطع على انحراف هؤلاء عن روح الانتفاضة، فإنّ الافتضاح اليومي لممارسات النظام في مغازلة الإسلام المشيخي، وتدجين مؤسساته (من "القبيسيات" والمدارس القرآنية، إلى دور الإفتاء والقناة الدينية)، لا يعدّل الميزان في الرأي العامّ الغربي العريض. تبقى المعادلة مختلة، إذاً، لصالح النظام وليس بما ينصف سواد الشعب السوري وآماله في مجتمع تعددي ديمقراطي مدني؛ وعلماني، غنيّ عن القول!

الثلاثاء، 19 نوفمبر 2013

"خلطة" حسن نصر الله

 محمود أحمدي نجاد، الرئيس الإيراني السابق، غادر المنصب السياسي، وتوجّب أن تغادر معه (لا أن يصطحبها هو، بالضرورة!) تلك التخاريف الطريفة التي اقترنت بخطابه السياسي والعقائدي؛ حول "الإمام المهدي الذي يدير العالم ونرى يده المدبّرة في شؤون البلاد كافة"، بما في ذلك نصر إيران على العراق، وتقدّم البرنامج النووي الإيراني؛ أو "هالة النور"، التي زعم أنها تحيط به كلما خطب؛ أو تهديد الاحتلال الأمريكي في العراق بـ"يد الله"، التي سوف "ترفع جذور الظلم عن العالم". والإنصاف يقتضي القول إنّ تلك الهلوسات أثارت حفيظة بعض ممثّلي التيّار المحافظ أنفسهم، كما في تعليق حجة الإسلام غلام رضا مصباحي، على سبيل المثال فقط: ""مؤكد أنّ المهدي المنتظر لا يقرّ التضخم الذي بلغ 20 في المئة، وغلاء المعيشة، والكثير غيرهما من الأخطاء".

 توجّب أيضاً أن يصمت، وإنْ إلى حين، أولئك الذين كانوا يغرّدون في السرب ذاته، ضمن الصفّ المحافظ الملتفّ حول نجاد، أمثال غلام علي حداد عادل، الرئيس الأسبق للبرلمان الإيراني، والأوّل غير المعمم، عضو مجلس تشخيص مصلحة النظام ومجلس الشورى والمجلس الأعلى للثورة الثقافية، حامل الدكتوراه في الفيزياء والفلسفة، والمرشح للانتخابات الرئاسية الأخيرة... ولعلّ أشهر هلوسات صاحبنا هذا، ذلك التصريح الذي أطلقه سنة 2006، حين كان يتسيّد البرلمان، وكانت إسرائيل لا تُبقي حجراً على حجر في لبنان: "الحرب بدأت لتوّها"، ومعها "بدأ يوم القيامة"، "وجاء يوم عودة الفلسطينيين إلى ديارهم ووطنهم وكذلك عودة الإسرائيليين إلى البلاد التي جاءوا منها أصلاً"! وإذْ أوضح أننا "سنؤدي صلاة الشكر في القدس قريباً إن شاء الله"، بشّرنا لا فُضّ فوه بأنّ "دماء آية الله الخميني تجري في عروق نصر الله"، ولهذا "لن تكون هناك بقعة في الأراضي المحتلة بمأمن من هجمات حزب الله"...

بيد أنّ هذا الطراز من خطاب الاستيهام غاب عن الواجهة الأولى في إيران، لكي يتواصل، أو تظهر تنويعات شتى عليه، في أماكن أخرى مترامية، لعلّ لبنان أبرزها وأشدّها سخونة، أو سعاراً بالأحرى؛ ولعلّ الإطلالات الجماهيرية التي دأب عليها حسن نصر الله، الأمين العام لـ"حزب الله"، أعلاها تمثيلاً لروحيّة ذلك الخطاب، وأكثرها إدراكاً لوظائفه، وإحياءً لمفرداته. والمرء يتذكّر ذلك الإفراط الشديد في تلميع صورة نجاد، أثناء زيارته إلى لبنان قبل ثلاث سنوات، وكيف أنّ تضخيم سجاياه القيادية، ورفع خصاله الشخصية إلى سوية رفيعة (السند العظيم للمقاومين والمجاهدين والمظلومين) بدا وكأنه باغت الرئيس الإيراني السابق نفسه. حصّة نصر الله، في ذلك التلميع، كانت مشهودة حقاً: "نشمّ بك يا سيادة الرئيس رائحة الإمام الخميني المقدّس، ونتلمس فيك أنفاس قائدنا الخامنئي الحكيم، ونرى في وجهك وجوه كلّ الإيرانيين الشرفاء من أبناء شعبك العظيم الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه في كلّ الساحات، ومنهم من ينتظر وما بدّلوا تبديلا".

الأرجح، اتكاءً على منطق حسابي وأخلاقي بسيط، أنّ الإيرانيين الذين لم يصوّتوا لأحمدي نجاد في ترشّحه الثاني للانتخابات الرئاسية (وهم في عداد "الإيرانيين الشرفاء" الذين تحدّث عنهم نصر الله، في المنطق الحسابي والأخلاقي البسيط هنا أيضاً)، لم يذهبوا مذهب الأمين العام لـ"حزب الله" في ذلك التفخيم للرجل؛ تماماً كما كان العديد من السوريين قد نظروا بمرارة، وباستنكار، إلى عبارات مثل "سورية حافظ الأسد" و"سورية بشار الأسد" كان نصر الله قد اعتاد النطق بها في خطب سابقة. هذا بمعزل عن احتمالات مواقف عكسية تصدر عن مرجعيات دينية عليا في إيران، على غرار حجة الإسلام مصباحي، قد تأبى على نصر الله شمّ رائحة الخميني، أو تلمّس أنفاس خامنئي، في شخص نجاد!

"نريد أن نقول لكلّ عدو ولكلّ صديق، نحن شيعة علي بن أبي طالب في العالم"؛ "ونحن حزب الله. الحزب الإسلامي الشيعي الإمامي الإثنا عشري، لن نتخلى عن فلسطين"؛ وأيضاً: ""قولوا رافضة. قولوا إرهابيين. قولوا مجرمين. اقتلونا تحت كل حجر ومدر، وفي كل جبهة، وعلى باب كلّ حسينية ومسجد، نحن شيعة علي بن أبي طالب!"، هكذا ردّد نصر الله، في آب (أغسطس) الماضي، احتفاءً بيوم القدس. وبالأمس، في يوم عاشوراء، تكررت النغمة ذاتها: "يجب أن نذكّر أمّتنا الإسلامية جمعاء بالقضية المركزية، قضية فلسطين وشعب فلسطين ومقدسات الأمة في فلسطين"؛ ليس دون ربط القتال إلى جانب نظام الاستبداد والفساد ضدّ الشعب السوري، بفلسطين... أيضاً وأيضاً: "إنّ وجود مقاتلينا ومجاهدينا على الأرض السورية، هو بهدف الدفاع عن لبنان والدفاع عن فلسطين وعن القضية الفلسطينية"...

هذه "الخلطة"، بين الإمامية الإثنا عشرية، وإشعال جذوة الحمية المذهبية على النحو الأشدّ استدراراً للشعور العصبوي الجَمْعي الرخيص؛ وادعاء الجهاد (نعم، وليس "المقاومة" هذه المرّة!) على أرض سورية، ضدّ "الإرهابيين" و"التكفيريين"، وليس ضدّ إسرائيل بأية حال من الأحوال؛ ثمّ الدفاع عن لبنان وفلسطين معاً، ولكن من القصير وحلب وسبينة وبيت سحم والسيدة زينب... هي خلطة ضيزى، شائهة زائفة مضلِّلة، لا ينقصها إلا استلهام هستيريا نجاد حول المهدي المنتظَر، أو التماس هالة النور... على جبين البشار الأسد!

الجمعة، 15 نوفمبر 2013

الائتلاف السوري: مُبتلى بالمعاصي.. يُفتضح ولا يستتر!

 "مَنْ يهُنْ يسهل الهوان عليه"، قال أبو الطيب المتنبي ذات يوم، فاختصر في شطر واحد شريحة إهانة واستهانة وهوان ومهانة، واسعة عريضة متعددة، سوف تطبع الكثير من سمات شخصية المُذلّ المُهان؛ في السياسة بادىء ذي بدء، ثمّ في الاجتماع الإنساني عموماً، بما ينطوي عليه من تعاقدات اقتصاد ومال وأعمال، وما يشترطه من أنساق سلوك، فضلاً عن ميادين تربية وثقافة وفلسفة... الشطر الثاني، من البيت إياه، يستكمل توصيف العاقبة التالية لامتهان الذات، وبالتالي ابتلاع المذلة والتطبّع عليها، وفيها: "ما لجرحٍ بميّت إيلام"؛ كما يقول أي رصد منطقي لسكنات جثة هامدة!

ولكي يكتمل انطباق بيت المتنبي على حال المعارضة السورية الخارجية، و"الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية" بصورة أولى، خاصة في هذه الأيام، بعد سلسلة "الإنجازات" الكبرى المتمثلة في واقعة الصفعة، و"الموافقة المشروطة" على حضور مؤتمر جنيف ـ 2، وتشكيل الحكومة الائتلافية برئاسة أحمد الطعمة؛ لا مفرّ من العودة إلى بيت الاستهلال في قصيدة المتنبي: "لا افتخار إلا لمَنْ لا يُضام/ مدرك أو محارب لا ينام". هذا في نطاق الكرامة والإباء والشمم (إقرأها عند غالبيتهم الساحقة هكذا: زلفى وملق ونفاق...)؛ وليس في صدد المعاصي الأخرى الكثيرة، السياسية والمالية والسلوكية والأخلاقية، التي ابتُلي بها الائتلاف، جرّاء ابتلائه لنفسه بنفسه، وليس بسبب أية بلوى ناجمة عن أيّ بلاء!

والحال أنّ الصفعة ـ التي تلقاها لؤي المقداد (عضو الائتلاف، والذي يسير لقبه الرسمي هكذا، ما شاء الله: "المنسّق الإعلامي والسياسي للجيش السوري الحرّ"!)، من أحمد العوينان العاصي الجربا (الذي يتولى هذه المسؤوليات الجسام: أنه أحد شيوخ عشيرة شمّر، وعضو الأمانة العامة للمجلس الوطني السوري، ورئيس الائتلاف)، لم تكن القشة التي قصمت ظهر البعير (القاعد القعيد، أصلاً)؛ بل كانت ذلك الدبوس، الصدىء مع ذلك، الذي فقأ الدمل، فأخرج إلى العلن ما كان خافياً فيه من قيح تجمّع طيلة أسابيع وأشهر، حتى تضخّم وتدرّن وتسرطن. ولم يكن ينقص هذا الائتلاف، في صيغة مهانة الذات التي انحطّ إليها، وفي المستوى البذيء من الاستهانة بآمال السوريين وآلامهم؛ إلا اصطدام شيخ عشيرة بمحارب ضدّ طواحين الهواء، ولجوئهما إلى اللغة الوحيدة الجديرة بهما، معاً: الصفع واللطم والركل والرفس!

وقد يتساءل بريء حسن الطوية منحاز إلى انتفاضة الشعب السوري، أو ساذج غير متفقه في أصول وقواعد عمل هذا الائتلاف: علام الخلف بينهما، الجربا والمقداد؟ على المشاركة في جنيف ـ 2 أو مقاطعته؟ على الحوار مع نظام الاستبداد والفساد والفاشية والهمجية؟ على برنامج سياسي وإغاثي للائتلاف في المرحلة القادمة؟ على طرح الثقة في حكومة الطعمة العتيدة، أو حجبها؟ على جنس الملائكة، أو حجر الفلسفة؟ كلا، بالطبع؛ فهذه من سفاسف الأمور التي لا يتناطح عليها السيد بونتيلا وتابعه ماتي (كما في مسرحية بريخت الشهيرة، أو "علي جناح التبريزي وتابعه قفة" في عمل الراحل الكبير ألفريد فرج). لقد اختلفا، فصفع الرئيس مرؤوسه، حول أمر آخر جلل، أعظم شأناً وأكثر خطورة: عدد المقاعد المخصصة لهيئة الأركان في الائتلاف، من جانب المقداد؛ وضمّ 11 عضواً جديداً يمثلون الكرد، من جانب الجربا!

ما يزيد الطين بلّة، والفضيحة قباحة، أنّ هذا الاجتماع المهيب كان قد صال وجال حول "لاءات" المشاركة في جنيف ـ 2، وتنافخ أعضاؤه ملء رئاتهم وأفواههم وألسنتهم حول المشاركة أو المقاطعة، و"لحس" البعض تصريحات سابقة ساجلت ضدّ الذهاب إلى المؤتمر (بينها ذاك الدراماتيكي السوبرماني الذي نطق به ميشيل كيلو، رئيس "كتلة اتحاد الديمقراطيين"، من أنه لن يذهب شخصياً إلى مؤتمر جنيف بالشروط الحالية، حتى وإن قطعوا رأسه؛ وأنه سينصح رئيس الائتلاف بعدم المشاركة)؛ ثمّ صوّتوا على الذهاب "المشروط"... كأنّ ائتلافهم، أو سادة اتئلافهم ممّن تعاقبوا على رعايته وتمويله وتوجيهه، يمتلكون أصلاً حقّ الاشتراط، أو فرض "لا" واحدة يتيمة. أو كأنّ "الشروط الحالية"، التي جعجع البعض حول رفضها بالأمس، تغيّرت اليوم فانصاعت واشنطن وموسكو لحزمة شروط جديدة فرضها الائتلاف.

صنف آخر من القيح، الذي فقأته صفعة الجربا، كان حكاية تشكيل "حكومة للمعارضة"، وإطلاق صفة "الإنجاز التاريخي" على خطوة قيل إنها تتوسل "الكفاءات" و"الخبرة التكنوقراطية" الصرفة، فانتهت إلى سلسلة من المهازل، والمزيد من إضافة الإهانة على جراح السوريين. فما الكفاءة التكنوقراطية التي اكتشفها الائتلاف في شخص عمار القربي (طبيب الأسنان)، لكي يتولى حقيبة الداخلية؛ إذا تغاضى المرء عن سؤال أكبر يخصّ وظائف هكذا وزارة، وأجهزتها؟ وما السجلّ الثقافي الذي يبرر تعيين تغريد الحجلي وزيرة للثقافة، إذا كانت لا تملك من ناصية اللغة العربية ما يتيح لها التمييز بين "الذي" و"اللواتي" عند الحديث عن المعتقلات السوريات، على الفضائيات؟ وأية "تربية"، تعددية وديمقراطية، لكي لا نقول: علمانية وعلمية وعصرية، تلك التي سيعتمدها عبد الرحمن الحاج، وزير التربية والتعليم الإسلامي الإخواني؟ وهل نسبة التصويت على أسماء الوزراء، وحقيقة أنها تراوحت بين الإقرار والرفض، تبدّل من جوهر خطيئة اختيارهم في الأصل؟ 

إلا أنّ جوهر الحال المزرية التي يعيشها الائتلاف تبدأ، مع ذلك، من حقائق أخرى تتصل بطبائع هؤلاء "المعارضين" أنفسهم، سواء في ما شابوا عليه، بعد أن شبّوا في كنفه؛ أو في ما بدأوا منه، وانقلبوا عليه بعدئذ؛ أو في منازل بين هاتين المنزلتين، تتنقل بهم من حال إلى حال أخرى على طرف نقيض، وبين عشية وضحاها أحياناً. وفي وسع المرء ان يستعرض ثلاثة نماذج على الأقلّ، أو في التمثيل الأعمّ، تشكّل باطن الائتلاف مثل سطحه، وتتربع على المستوى القاعدي مثل ذاك القيادي، وفي الهيئات السياسية مثل تلك الإعلامية والعسكرية والإغاثية. ولا يعفّ المرء عن ذكر أسماء محددة، بعينها، إلا لأنّ التمثيل النموذجي أشدّ أمانة في التمثيل الوظيفي من الاسم ذاته؛ بمعنى أن الإفصاح عن اسم فلان من هؤلاء، لن يكون أعلى بلاغة من ممارساته على الأرض، ولن يضيف إلا جرعة فضيحة... هي، للإنصاف، في غنى حتى عن التفضيح!

النموذج الأوّل هو ذاك الذي كان، قبل الانتفاضة أو حتى خلال أسابيعها الأولى، متذبذباً بين موشور عريض من الصداقات: النظام، والمعارضة، وخصوم النظام، وخصوم المعارضة؛ وكان يتحدث تارة عن بشار الأسد، بوصفه "الرئيس الشاب" الطامح إلى التغيير والإصلاح؛ وطوراً عن مشكلات المعارضة السورية، وعجزها عن تطوير "خطاب" معارض ملائم، "هادىء" و"معتدل"؛ ولكنه، في كلّ حال، لم يكن داخل أيّ من قوى المعارضة وتجمعاتها وأحزابها، وكان آمناً من الاعتقال (عند أقامته داخل البلد)، ومرحّباً بزياراته (حين يكون في الخارج). وهذا نموذج وجد ضالته في الانتفاضة، بالطبع، فركب الموجة سريعاً، وقرّر أن يثوّر صورته إلى الدرجة القصوى الممكنة، فلم يتأخر في الانضمام إلى "مؤسسات" المعارضة الخارجية، المجلس الوطني والائتلاف خاصة، وانخرط في كلّ مزاد يشهد مزاودة، وهيهات أن ينافسه منافق أو متملق!

النموذج الثاني كان، قبل الانتفاضة، معارضاً بالفعل، على نحو أو آخر؛ عمل في صفوف المعارضة، حتى وإنْ اقتصر دوره على التنظير أو الكتابة أو المهامّ الإعلامية، فلوحق، أو اعتُقل، أو نُفي، أو نفى نفسه بنفسه. لكنه، بعد الانتفاضة، امتهن وظيفة "المعارض" الذي يبدّل مواقفه بصفة يومية، أكثر مما يبدّل جوربيه أحياناً؛ فيتنقّل من الصفّ "العلماني"، إلى صفّ "الإسلام المستنير"، قبل أن يعرّج على "جبهة النصرة"؛ ويتباكى يوماً على الانتفاضة من أمراض "العسكرة" التي طرأت عليها، لكي يمتدح "الجيش الحرّ" في اليوم التالي، فيعتبره جيشاً وطنياً يخوض "حرب تحرير شعبية"؛ وإذْ يتمرّغ شهراً على شاشة "الجزيرة"، وتحت ظلال الرعاية القطرية لمؤسسات المعارضة الخارجية؛ فإنك ستجده، الشهر التالي، على شاشة "العربية"، في رعاية السعودية للمؤسسات ذاتها؛ وهكذا دواليك... تتكاثر التمثيلات عليه أينما يمّم المرء وجهه في أرجاء انتشار هذه المعارضة الخارجية. 

النموذج الثالث، المأساوي حقاً، ولعله الأكثر إثارة للأسى والسخط معاً، هو ذاك الذي كان في قلب الانتفاضة، يشارك في المظاهرات أسوة بتنظيمها وصياغة شعاراتها وحمايتها؛ ويجمع بين مختلف أنشطة العمل الوطني المعارض، من الأحزاب المحظورة، إلى "إعلان دمشق"، إلى المنتديات والتجمعات والهيئات على اختلافها... حتى قُدّر له أن يغادر سورية، وينضمّ إلى واحدة من مؤسسات المعارضة الخارجية. هذا المناضل/ الناشط، سواء أكان مخضرماً متمرساً أم مستجداً متدرباً، انقلب إلى رهينة في يد المؤسسة؛ ينحني صاغراً لمتطلبات وجوده فيها، حتى عندما تتناقض مع قناعاته، ويدافع عنها من باب غريزة القطيع في أغلب المواقف. كذلك صار أسير الأسفار والفنادق والمؤتمرات والزيارات، محاطاً بالسكرتير الشخصي والمريد الشخصي والحارس الشخصي، وباتت لقاءاته مع ممثّلي الأمم والدول والمنظمات العالمية، من رؤساء أو وزراء أو مستشارين أو خبراء، بمثابة قوت وجودي يُشبع لديه نرجسية الذات، وينمّي حسّ البقاء الشخصي؛ تحت ذريعة العمل النضالي، هذه التي تغنيه عن التبصّر في الخطأ، أو تعميه عن رؤية الصواب.     

هؤلاء ثلاثة نماذج من سدنة ائتلاف ينطبق عليه، اليوم، مقدار من السوءات أكبر من تلك التي انطبقت ذات يوم على المجلس الوطني، سواء على مستوى هيئاته المختلفة أو الأفراد في قيادته: سلسلة أخطاء فاحشة، على أصعدة العمل كافة وبلا استثناء، تكررت وتعاقبت وكأنّ وضوح الخطأ يستدعي أن يعمهوا فيه أكثر فأكثر، لا أن يجتنبوه. كذلك غرقوا، ويغرقون، في مستنقع الحوارات البيزنطية العقيمة (داخل الإقامات الفارهة، خلال مؤتمرات غامضة التمويل)؛ وأساؤوا إدارة أموال الإغاثة على نحو جعلها تضلّ السبيل إلى مبتغاها الإنساني والكفاحي، فصارت مصيدة كاشفة لمعادن الرجال؛ وتخبطوا في توظيف العلاقات الخارجية، بحيث انقلبت هذه إلى مراكز استقطاب تركية أو سعودية أو قطرية أو فرنسية أو أمريكية أو بريطانية؛ وكان طبيعياً أن ينقلبوا إلى إمّعات عند أمثال روبرت فورد (السفير الأمريكي)، أو إريك شوفالييه (السفير الفرنسي)، لكي لا يرتقي المرء بمستويات اتصالهم، فيشير إلى جون كيري ولوران فابيوس!

إذا ابتليتم بالمعاصي فاستتروا، تقول العبارة المأثورة؛ على نقيض ما يفعل الائتلاف وأهله: كلما زادت المعاصي، خاصة تلك التي من صنع أيديهم، وتفاقم افتضاحهم في أعين السوريين، والعالم بأسره، زادوا غيّاً وضلالاً، وتنابذوا... صفعاً ورفساً!

الثلاثاء، 12 نوفمبر 2013

مواقعة استعرابية

منذ سنة 1993 كان الصحافي والمعلّق الأمريكي روبرت د. كابلان قد أصدر كتابه الشهير "المستعربون: رومانس نخبة أمريكية"، والذي كان خليطاً من النعي والرثاء والقدح والمدح، معاً؛ ليس دون التلميح إلى أنّ الكتاب يطمح، وظيفياً، إلى أداء دور مسمار أخير، يُدقّ في نعشة الاستعراب والمستعربين. اليوم، بعد عقدَين بالتمام والكمال، لا يتباكى كابلان نفسه على هؤلاء، فحسب؛ بل يتحسّر على غيابهم عن مشهد تحليل الوضع في الشرق الأوسط، عموماً، وسورية خصوصاً: "كانت سورية مسرح اندماج التوراة بالبحر الأبيض المتوسط (...) وتوفرت مجموعة هامة للغاية من الأمريكيين الذين رأوا سورية الأصفى خلال خمسينيات القرن الماضي"، يكتب كابلان، في مقال بعنوان "نحتاج إلى المستعربين أكثر من ذي قبل".

و"المستعرب" Arabist، في سياقات الظاهرة التي أنتجته خلال التاريخ الاستعماري البريطاني والفرنسي، ثمّ صعود الإمبراطورية الأمريكية بعدئذ؛ هو ذاك المنتمي إلى رهط يختلف، في التصنيف والتعريف، عن رهط المستشرقين الذين تكفّل الراحل إدوارد سعيد بتفكيك مآربهم ومشاربهم وأجنداتهم وفضائل بعضهم وقبائح معظمهم. أو قلْ، في تسويغ اجتراح توصيف جديد يُفرد لهم خانة منفصلة أو مستقلة، إنهم تلامذةٌ أبناء، للمستشرقين الآباء؛  يسخّرون طرائق الاستشراق في خدمة الأغراض الجيو ـ سياسية والدبلوماسية والأمنية للقوى العظمى، الغربية غالباً. كذلك يمكن للبعض منهم أن يمتهن، بين حين وآخر، خدمة سلسلة من الأغراض "الثقافية" في الظاهر، تظلّ بريئة حسنة النيّة حتى تسفر عن أهدافها الباطنة.

 و"المستعربون" هؤلاء متعددو المنابع والأهواء والمواهب، فمنهم الأكاديمي أو السفير (وكابلان يسوق أمثلة تالكوت سيلي ورايان كروكر وروبرت فورد، وثلاثتهم شغلوا سفارة الولايات المتحدة في دمشق!)؛ ومنهم الأديب أو ضابط الاستخبارات، ومنهم المعلّق السياسي أو عالم الآثار. ويكفي للتدليل على "تعددية" تكوينهم أن يسرد المرء لائحة محدودة للغاية من أسماء كبارهم: ريشارد برتون، الليدي هستر ستانهوب (أو "ملكة البدو" في اللقب الظريف!)، توماس إدوارد لورانس (العرب)، جرترود بيل، هاري "عبد الله" فيلبي، دانييل بليس (مؤسس "الكلية البروتستانتية السورية" التي ستتحوّل إلى الجامعة الأمريكية في بيروت). ثمّ، في اللائحة المعاصرة، ريشارد مرفي، هيرمان إيلتس، روبرت بلليترو، دافيد نيوتن (السفير ما قبل الأخير للولايات المتحدة في عراق صدّام حسين)، والسفيرة الشهيرة أبريل غلاسبي، التي أبلغت دكتاتور العراق بأنّ الولايات المتحدة ليس لها رأي في نزاعه الحدودي مع الكويت.

وإذْ يحنّ إليهم كابلان هذه الأيام، فذلك لأنّ الانحطاط لحق بهذه الفئة لاعتبارات عديدة؛ على رأسها العوامل السياسية التي تلازمت مع ولادة إسرائيل، والانحياز المطلق الذي اتسمت به السياسات الخارجية للولايات المتحدة والغرب إجمالاً. ولقد اتُهمت هذه الفئة بالانحياز إلى العرب ـ صدّقوا هذا! ـ أو الخلط بين عشق اللغة العربية والافتتان بحياة الصحراء، وبين الحماس للقضايا العربية أو السعي إلى تفهّم السخط العربي تجاه الغرب. وتلك حال لخّصها مرفي بمرارة ذات يوم: "أصبحت كلمة مستعرب ترادف مواقعة العرب فكرياً ودبلوماسياً"!

من جانبه كان فرنسيس فوكوياما، دون سواه: صاحب صرعة "نهاية التاريخ"، قد خصّ ظاهرة الاستعراب بتحليل أكثر تهذيباً، واتكأ على معلّمه الفيلسوف الألماني هيغل لكي يعتبر المستعربين "ظاهرة سوسيولوجية، ونخبة داخل النخبة، ارتكبوا من الأخطاء المنهجية أكثر بكثير مما ارتكب زملاؤهم من المختصين بمناطق أخرى في السلك الدبلوماسي. والسبب في ذلك أنهم لا يتبنّون القضايا العربية فحسب، بل يتبنّون الميل العربي إلى إيهام الذات أيضاً"! بذلك تكون حكاية المواقعة والمضاجعة والنوم في فراش العرب... أقلّ وطأة من هذا التشخيص الذي يمزج بين علم النفس والأنثروبولوجيا!

وليام ب. كواندت، الباحث والمؤرّخ المعروف المختصّ بالدبلوماسية الأمريكية في الشرق الأوسط، يميل إلى إنصاف هؤلاء، عن طريق وضع تصنيفاتهم التنميطية في سياق سياسي ملموس: "المستعربون لا يشبهون أمثالهم من أخصائيي المناطق، في المخيّلة الشعبية على الأقلّ. فإذا أشار المرء إلى أفريقاني، مثلاً، فإنّ الصورة الناجمة سوف تصف شخصاً مختصاً بتاريخ ولغات وثقافات أفريقيا، ممّن قضى في القارة ردحاً من الزمن، ولن تتبادر إلى الذهن تداعيات تدعو إلى ذمّ الرجل. لكنّ صفة المستعرب تستدعي، على الفور، دلالة سيئة: هو ذاك الذي صرف الوقت في تعلّم اللغة العربية، أو عاش زمناً طويلاً في العالم العربي، وهو معادٍ لإسرائيل بالضرورة"!

وكاتب هذه السطور ينضوي في عداد فئة ترى أنّ محاق الاستعراب فأل خير، وليس نذير خسران كما يساجل كابلان اليوم (هو الذي كان، قبل عشرين سنة، قد شيّعهم إلى سلّة مهملات التجارب الاستعمارية الغربية، غير آسف)؛ لأنّ قضايا العرب لن تفقد الكثير من وراء تشييع استعراب ساد حقبة من الزمن، ثمّ باد واندثر، أو انقلب إلى ضدّه تماماً. وفي نهاية الأمر، كان وزير الدفاع الإسرائيلي الأشهر، موشيه دايان، هو صاحب القول المأثور: "كلما زاد أصدقاء العرب في الإدارات الأمريكية، توطّد أمن اسرائيل أكثر". وأمّا أحدث دليل على صحّة هذه النظرية، فإنه "تعاطف" روبرت فورد مع انتفاضة الشعب السوري؛ أو بالأحرى ذلك الاستعراب الذي يمارسه السفير، صباح مساء، على جمهرة أصدقائه المعارضين السوريين الإسطنبوليين! 

الجمعة، 8 نوفمبر 2013

سنة أولى من رئاسة أوباما الثانية: حروب في سورية.. وعليها

انقضت، يوم أمس، السابع من تشرين الثاني (نوفمبر)، سنة كاملة على إعادة انتخاب باراك أوباما، الرئيس الرابع والأربعين للولايات المتحدة الأمريكية؛ ليس دون سلسلة متزايدة من المآزق، السياسية والاقتصادية ـ الاجتماعية والعسكرية، على صعيد الداخل الأمريكي والخارج الدولي وما يمتزج بين الصعيدين من ملفات متقاطعة. وليس دون اقتران، وثيق ومضطرد، بين هبوط شعبية أوباما الشخصية في ناظر المواطن الأمريكي، وانحطاط صورة أمريكا ـ من حيث السطوة الكونية وموقع القوّة الأعظم، وكذلك مصداقية السياسات والستراتيجيات ـ في ناظر المواطن العالمي إجمالاً، وحلفاء الولايات المتحدة بصفة خاصة.

فعلى الصعيد الداخلي، ثمة مشكلات الصدام الدائم بين البيت الأبيض والكونغرس الجمهوري، حول إقرار الميزانية (الأمر الذي تسبب في إغلاق الحكومة)، وقانون التأمين الصحي المعروف باسم "أوباماكير" (والحلّ الوحيد المطروح الآن هو تأخير تطبيقه الفيديرالي الفعلي، طيلة سنة كاملة)؛ وذلك رغم تحسّن سوق العمل، والانتعاش النسبي الذي شهده الاقتصاد الأمريكي مؤخراً. أمّا على الصعيد الخارجي، فإنّ ملفّ التجسس على الحلفاء ـ أمثال فرنسا وألمانيا أساساً، ثمّ البرازيل ودول أخرى أيضاً ـ فقد كان الكاشف الدراماتيكي الأحدث حول المدى الذي يمكن أن تذهب إليه أجهزة الاستخبارات الأمريكية في إغفال "حرمة" الحليف وانتهاك مبدأ التحالف ذاته. ولم يكن الكشف فاضحاً من حيث إجراءات التجسس ذاتها، فحسب؛ بل كان فاقعاً، ومهيناً على نحو ما، لجهة مقدار الاكتراث الضئيل الذي أبداه أوباما في الاعتذار من حلفائه.

غير أنّ الملفّ السوري تحديداً، ولاعتبارات تتجاوز بكثير أمنيات السوريين وآمالهم وآلامهم، ظلّ يمثّل أحد أكبر المآزق التي انطوت عليها سنة أوباما الأولى، في ولايته الثانية؛ كما أنه ـ ويا للمفارقة، حمّالة الأوجه والاحتمالات! ـ يظلّ الملفّ الذي يعكس تلك الصفة التي أُلصقت بشخصيته، وتُعدّ نادرة تماماً لدى الغالبية الساحقة من رؤساء أمريكا: أنه يسعى إلى أن تضع الحروب أوزارها، لا أن تزداد اشتعالاً، أو ينشب المزيد منها. لقد انتُخب أوباما، في ولايته الأولى أسوة بالثانية، لكي يغلق حربَيْ أمريكا في أفغانستان والعراق، لا لكي يدشّن حرباً ثالثة في سورية؛ يقول قائل، محقاً تماماً من حيث الشكل. ولكن هل يصحّ المحتوى، حقاً، كما لاح الشكل صحيحاً، في أنّ أوباما عازف عن الحروب، كافة، وأنه قاب قوسين أو أدنى من شخصية الرئيس الأمريكي المسالم، الذي يستحقّ بالفعل جائزة نوبل للسلام؟

فهل سياسة الاغتيال بالطائرات من دون طيار، أو قيام الوحدات الخاصة الأمريكية بتنفيذ عمليات عسكرية خارجية، وانتهاك استقلال الأمم وسيادة الدول، ليست وجهة أخرى لاستئناف الحروب؟ يسأل سائل، محقاً تماماً هنا أيضاً، من حيث الشكل والمحتوى في الواقع. ولماذا، والحال هذه، لا يرسم أوباما من الخطوط الحمر، في الملفّ السوري تحديداً، إلا ذاك الذي يتعلق بحظر استخدام الأسلحة الكيميائية (وبالتالي غضّ النظر عن لجوء نظام بشار الأسد إلى كلّ، وأيّ، سلاح فتاك آخر، بما في ذلك القصف الجوي والصاروخي، والبراميل المتفجرة)؟ ولماذا التلويح بضربة عسكرية "صغيرة على نحو لا يُصدّق"، إذا كانت هذه لا تخدم أية ستراتيجية أمريكية عريضة لإنقاذ السوريين من نظام دكتاتوري همجي متوحش، بل لعلها تمدّ في عمره وتمنحه مبررات جديدة لاستئناف بطش أشدّ؟

ليس من الإجحاف القول إنّ جوهر "سياسة" أوباما تجاه الملفّ السوري انبثق من زلّة لسان حقيقية (هي خروج الرئيس الأمريكي عن رؤوس الأقلام التي أعدّها مساعدوه له، ذات مؤتمر صحفي، وحديثه عن خطّ الأسلحة الكيميائية الأحمر)؛ وزلّة لسان مفتعلة (هي تصريح وزير الخارجية الأمريكي، جون كيري، بأنّ الإدارة قد تلغي الضربة العسكرية إذا سلّم النظام السوري ترسانته من الأسلحة الكيميائية). وما بين زلّة وأخرى، كان الجوهر يقتصر على تأجيل أيّ جهد أمريكي يساعد على إسقاط النظام، أو إبطاء الحسم فيه ما أمكن، ريثما تتضح الصورة أكثر (خلال الأشهر الأولى لانطلاقة الانتفاضة)؛ وحتى تفعل عوامل تفكك النظام فعلها تلقائياً، حسب مبدأ "الهبوط السلس" (خلال الأشهر الوسيطة)؛ مما يتكفل بتسعير ثلاث حروب استنزاف، متزامنة ومترابطة، على الأرض السورية أو تحت مفاعيل الملفّ السوري (خلال الأشهر الأخيرة، وحتى أجل غير منظور).

الحرب الأولى ضدّ إيران، التي لم تعد حليفة النظام السوري اقتصادياً وعسكرياً فقط، بعد أن تجاوز النفوذ الإيراني في سورية صفته الإقليمية، ولم يعد يقتصر على تأمين خطوط إمداد "حزب الله"، أو تحويل ما يُسمّى "محور الممانعة" إلى حلف جغرافي ـ عسكري ذي بأس وسطوة، أو توطيد موقع إيران كقوّة عظمى إقليمية في ذاتها؛ بل صارت سورية شأناً داخلياً، إيرانياً ـ إيرانياً، يشتمل على جوانب دينية عقائدية (نشر التشيّع، أو بسط السيطرة على الطائفة العلوية في أقلّ تقدير)، وأخرى قومية وتاريخية (فارسية إمبراطورية، لا تغيب عنها المطامع القديمة في الخليج العربي). وليس خافياً أنّ تورّط إيران في الشأن السوري لا يضعفها عسكرياً واقتصادياً فقط، بل يرهقها سياسياً على مستويات إقليمية أيضاً، ويربك استقرارها تنموياً، ويعرقل برامجها التسليحية ولا سيما النووي منها، وبالتالي يضعفها أكثر ممّا تفعل العقوبات الاقتصادية الراهنة. وما تخسره إيران على الأرض السورية، تكسبه أمريكا في الحساب البسيط، دون عناء يُذكر. 

حرب الاستنزاف الثانية، على الأرض السورية، تجري ضدّ "حزب الله" اللبناني؛ الذي ماطلت قياداته طويلاً، منذ انطلاقة الانتفاضة السورية في آذار (مارس) 2011، قبل أن تضطرّ إلى إعلان انخراطها المباشر، عسكرياً هذه المرّة، بعد الاصطفاف السياسي، في حرب النظام السوري من أجل البقاء، ضدّ سورية الشعب والبلد والبشر والتاريخ. هذا الانخراط كبّد الحزب خسائر جسيمة، سورية ولبنانية وعربية: فإلى جانب مَن سيسقط من مقاتليه على أرض لا تُجيز فضيلة "الواجب الجهادي"، ولا تُكسب القتيل صفة "الشهيد"، ثمة تلك الأضرار الشديدة التي لحقت بصورة الحزب كـ"فصيل مقاومة" ضدّ إسرائيل، مَسَخَ ذاته إلى مقاوم ضدّ الشعب السوري؛ وتلك مشاعر لم تقتصر على جموع السنّة العرب والمسلمين الذين ساندوا الحزب طيلة عقود، بل شملت أيضاً قطاعات من الشيعة أنفسهم. هنا أيضاً، وعلى غرار التورّط الإيراني في سورية، فإنّ خسائر "حزب الله" هي مكاسب أمريكية، يسيرة وتلقائية!

حرب استنزاف ثالثة تجري ضدّ روسيا، ويراقب البيت الأبيض اشتعالها على مبعدة، وعن كثب، ضمن لعبة شطرنج خبيثة يبدو الظفر فيها منعقداً للروس؛ للوهلة الأولى فقط، في الواقع، لأنّ تورّط موسكو في الملفّ السوري لا يمنح الكرملين إلا زخرف حفظ ماء الوجه، على المدى المنظور؛ ويُفقدها الكثير من المغانم المادية، بالمعنى المالي والاستثماري والتجاري للكلمة، على الأمدية البعيدة. ففي مقابل ما خسرته، أو سوف تخسره، في علاقاتها مع العالم العربي، شعوباً وأنظمة ومؤسسات اقتصادية، ما الذي كسبته موسكو من 30 شهراً شهدت مساندة عمياء لنظام الأسد، وما الذي ستكسبه من أي أشهر أخرى تبقت في عمر هذا النظام؟ وإذا صحّ أنّ واشنطن كانت تعتمد مبدأ "الهبوط السلس"، فتراقب اهتراء النظام السوري عن بُعد، من الصفّ المتفرّج؛ فإنّ الشطر الآخر من الموقف الأمريكي اتخذ وجهة توريط موسكو حتى أقصى مدى ممكن في الرمال المتحركة التي انقلبت إليها ساحات سورية السياسية والعسكرية. خسارة موسكو، في هذه أيضاً، هي ربح يُضاف إلى رصيد واشنطن، دون جهد اقتصادي أو عسكري، ودون مشقة جيو ـ سياسية!

حرب الاستنزاف الرابعة، والأولى من حيث المغزى والعمق، بهذا المعنى، هي تلك التي تنخرط فيها الولايات المتحدة ضدّ الشعب السوري ذاته، وأوّلاً؛ قبل شنّ حروب الاستنزاف المقنّعة ضدّ الأطراف الثلاثة المشار إليها أعلاه، ثانياً. ليس دون فارقَين نوعيين: أنّ أكلاف الحروب الثلاث تظلّ بخسة زهيدة في عرف واشنطن، في حين أنّ أكلاف الحرب الأخيرة باهظة غالية، يسدّدها السوريون بدماء مئات الآلاف من القتلى والجرحى والمعتقلين والمفقودين، وملايين المشرّدين في أربع رياح الأرض؛ وأنّ أوباما يخوض هذه الحروب دفاعاً عن مصالح إسرائيل، قبل مصالح أمريكا ذاتها، في حقيقة الأمر. وللمرء أن يدع جانباً تلك التخرّصات المعتادة، التي لا تفارق لسان أيّ رئيس أمريكي، أينما وكلما تشدّق بالحديث عن الديمقراطية وحقوق الإنسان وتقديم العون للشعوب في نضالاتها ضدّ أنظمة الاستبداد والفساد.

لكنّ السنة الأولى من ولاية أوباما الثانية أثبتت أنّ هذا "المحارب الكاره للحرب"، كما يُقال في وصفه عادة، ليس أقلّ مهارة من أقرانه رؤساء أمريكا السابقين، في إدارة اللعبة العتيقة إياها، التي سبق أن أعلنها على الملأ في خطاب أمام "مجلس شيكاغو للشؤون العالمية"، في نيسان (أبريل) 2007. "هنالك خمسة طرق لكي تعود أمريكا إلى قيادة العالم، حين أكون أنا الرئيس"، قال أوباما؛ بينها الطريقة الثانية التي تعنينا في هذا المقام: "بناء أوّل نظام عسكري حقّ في القرن الحادي والعشرين، وإظهار الحكمة في كيفية نشره"، حيث "سيبقى في وضعية الهجوم، من جيبوتي إلى قندهار"، وحيث "لا ينبغي لأيّ رئيس أن يتردد في استخدام القوّة ـ حتى من جانب واحد، إذا اقتضت الضرورة ـ لحماية أنفسنا والدفاع عن مصالحنا الحيوية".

وخلال أطوار الشدّ والجذب التي اكتنفت مناخات تلك الضربة العسكرية، "الصغيرة على نحو لا يُصدّق"، والتي لم تقع في نهاية المطاف؛ كان أوباما أشبه بمَنْ يراوح بين شخصية لاعب الشطرنج المتمرس البارع، وبين متقافز حول الرقعة فارّ من عقابيلها. والتاريخ سوف يكشف، إنْ عاجلاً أم آجلاً، ما إذا كانت شخصية الرجل تقتضي هذا الأداء تحديداً، حيث المزج بين المحارب الكاره والمحارب الراغب هو السيّد!  

الثلاثاء، 5 نوفمبر 2013

إعادة تصنيع الاستشراق


على مدار ثلاثة أيام، نهاية الأسبوع الماضي، شهدت "دار ثقافات العالم" HKW، في برلين، مؤتمراً دولياً بعنوان "رحلة أفكار متقاطعة"، يكرّم الناقد والمنظّر الفلسطيني ـ الأمريكي إدوارد سعيد (1935 – 2003)، في مناسبة الذكرى العاشرة لرحيله. وقد شارك في جلسات المؤتمر عدد كبير من دارسي سعيد، والمشتغلين بالنقد الأدبي والثقافي، والفلسفة، وعلم الاجتماع، والفنون المسرحية والسينمائية والبصرية المختلفة؛ فضلاً عن باحثين مثّلوا منظمات مختصة بالأعمال الميدانية الثقافية والتربوية والتنموية (مثل مجموعة "المشاع" الفلسطينية التي تُعنى بتطوير الحياة في المخيمات)، وآخرين عرضوا طرائق قراءة سعيد على نحو مرتبط بفنون الشارع (مثل جماعة "أهل الكهف" التونسية).

كذلك حضر الملفّ السوري، من خلال حوارية مسرحية بعنوان "يوسف مرّ من هنا"، كتبها المسرحي السوري محمد العطار (مؤلف مسرحية "فيك تطلّع بالكاميرا؟")، وتولى أداءها على الخشبة الممثّلون السوريون رامي خلف وحلا عمران ومحمد آل رشي. والعمل يتناول رحلة عودة إلى سورية، تمرّ بأحياء مدينة حلب وأطرافها وريفها، وتنتهي في مدينة الرقّة، بحثاً عن يوسف الذي اختفى، ولا يُعرف له مصير: أهو في قبضة السلطة، أم احتجزته "داعش"، أم بات رهينة في يد جهة أخرى... والرحلة هذه ـ التي تمزج بين السخرية السوداء، والنقد والنقد الذاتي، والتوصيف التوثيقي ـ تنطوي على نماذج وتجارب إنسانية شتى، صارت مقترنة بحياة السوريّ اليومية، من انقطاع الكهرباء والماء، إلى التآلف مع قذائف الهاون والبراميل المتفجرة وطائرات الـ"ميغ".

انتفاضات العرب، والانتفاضة السورية تحديداً، حضرت أيضاً من خلال الورقة التي قدّمها كاتب هذه السطور، بعنوان "إعادة تصنيع الاستشراق: تغطية إسلام(ات) 'الربيع العربي'"؛ والتي انطلقت من الفرضية التالية: إنّ الفشل في التأطير السليم للأنساق المختلفة التي اتخذها الإسلام السياسي خلال الانتفاضات العربية، أفسح المجال أمام نمط من الاستشراق لا يتوقف عند الثوابت العتيقة، غربية التمركز، حول "الشرق"، فحسب؛ بل يعيد تصنيعها أيضاً، بطريقة تنتهي إلى حشر شعوب المنطقة، وانتفاضاتها، في طبعات جديدة من ثوابت الهيمنة الثقافية، ثمّ السياسية. وفي حالة سورية، أكثر من سواها في الواقع، لم تكن عمليات تصنيع وإعادة تصنيع هذه "المعرفة" الاستشراقية مقتصرة على اليمين، والمحافظين، والمحافظين الجدد؛ بل تولاها أيضاً عدد من الليبراليين، والماركسيين، والتروتسكيين، وأهل اليسار عموماً.    

وفي مقدّمة تعود إلى تشرين الأول (أكتوبر) 1980، صدّر بها كتابه "تغطية الإسلام"، الذي سيُنشر بعد عام، يشير سعيد (في ترجمة محمد عناني؛ دار رؤية، 2006) إلى أنّ "الآراء تتفق على اعتبار 'الإسلام' كبش الفداء الذي ننسب إليه كلّ ما يتصادف أن نكرهه في الأنساق السياسية والاجتماعية والاقتصادية الجديدة في عالم اليوم. فاليمين يرى أنّ الإسلام يمثّل الهمجية، واليسار يرى أنه يمثّل حكم الدين في القرون الوسطى، والوسط يرى انه يمثّل الغرابة الممجوجة". أمّا في مقدّمته لطبعة 1997 المنقحة، والتي تصلح فصلاً إضافياً للكتاب لأنها تقع في 48 صفحة، فإنّ سعيد يؤكد تقديرات العام 1980، بل يشددها أكثر: "سوق التمثيلات، حول إسلام أحادي، حانق، مهدِّد، منتشر بطريقة تآمرية... صارت سوقاً أوسع نطاقاً، وأكثر نفعاً، كفيلة بتوليد المزيد من الإثارة".

تجدر الإشارة، هنا، إلى أنّ سعيد اعتبر "تغطية الإسلام" بمثابة كتاب ثالث، وأخير كما قال، من سلسلة أعمال حاول فيها دراسة العلاقة القائمة في العصر الحديث بين عالم الإسلام والعرب والشرق من ناحية، وبين الغرب وفرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة من ناحية أخرى. الكتاب الأول كان "الاستشراق"، 1978، الذي نهض أساسه الفكري على "الارتباط الوثيق بين المعرفة وبين السلطة أو القوّة، ورصد شتى مراحل تلك العلاقة منذ غزو نابليون لمصر، والفترة الاستعمارية، ونشأة دراسات المستشرقين الحديثة في أوروبا حتى انتهاء الهيمنة الإمبريالية، البريطانية والفرنسية، بعد الحرب العالمية الثانية، وظهور السيطرة الأمريكية في الوقت نفسه. وأمّا الكتاب الثاني فقد كان "المسألة الفلسطينية"، 1979، الذي يعرض للصراع ما بين سكان فلسطين العرب الأصليين، والحركة الصهيونية ذات المنشأ الغربي والتي تنتهج في تعاملها مع حقائق الواقع "الشرقي" نهجاً غربياً إلى حدّ كبير. كذلك يصف الكتاب ما اختفى ويختفي تحت السطح في الرؤى الغربية للشرق، أي الكفاح الوطني الفلسطيني في سبيل تقرير المصير.

والحال أننا، منذ مطلع العام 2011، شهدنا، ونشهد كلّ يوم تقريباً، سلسلة من القراءات الاستشراقية للانتفاضات العربية، تثبت أنّ مؤسسة الاستشراق ما تزال مكينة؛ وهي لم تكن، وليست اليوم أيضاً، مرحلية في الزمن السياسي (الذي يخصّ المشروع الاستعماري البريطاني ـ الفرنسي وحده)، أو محدودة في النطاق المعرفي (الأدب والفلسفة والاجتماع والثقافة إجمالاً). وهكذا، نقول مجدداً إنّ سعيد كان غائباً في الجسد عن عام الثورات العربية، ولكن مؤسسة الاستشراق التي انتقدها لم تكن حاضرة بقوّة في تفكير غالبية الآراء والتحليلات الغربية، فحسب؛ بل لعلّها قبعت وراء صياغة معظم السياسات الغربية الرسمية.

لهذا فإنّ مؤتمر برلين لم يسعَ إلى تكريم سعيد فقط، بل أعاد تلمّس منهجيته النقدية العميقة في ضوء حاجتنا الماسة إليها، راهناً: في أماكن غير منتظَرة، وأخرى مألوفة؛ وفي شوارع الانتفاضات العربية، أسوة بأروقة إنتاج المعرفة والسلطة.