وعزّ الشرق أوّله دمشق

الجمعة، 14 فبراير 2014

فاروق الشرع: بدأ بيدقاً ممنوعاً من الارتقاء.. وهكذا ينتهي

 المكان: جنيف، إياها التي على كلّ شفة ولسان اليوم، بصدد الشأن السوري؛ لكنّ الزمان مختلف، يرتدّ 14 سنة إلى الوراء، يوم 26 آذار (مارس) سنة 2000؛ والسياق هو القمة الثنائية بين الرئيس الأمريكي الأسبق، بيل كلنتون، وحافظ الأسد، للبحث في اتفاقية سلام بين النظام السوري وإسرائيل. حضور الاجتماع، إلى جانب كلنتون والأسد، هم فاروق الشرع وزير خارجية النظام، وبثينة شعبان (بوصفها مترجمة الأسد الشخصية)؛ ومن الجانب الأمريكي، وزيرة الخارجية مادلين ألبرايت، ومساعدها لشؤون الشرق الأوسط دنيس روس، وجمال هلال (مترجم كلنتون). هنا واقعة، نقلها الصحافي الفرنسي المخضرم شارل أندرلان، في كتابه "الأحلام المحطمة: فشل عملية السلام في الشرق الأوسط، 1995 ـ 2002"؛ ذات صلة بموضوع هذه المقالة:

يبدأ كلنتون في تلاوة الرسالة التي وصلته من إيهود باراك، رئيس وزراء إسرائيل آنذاك، وعندما يذكر عبارة "الحدود المتفق عليها"، يقفز الأسد على قدميه ويسأل: "أي حدود متفق عليها؟ هل هذا خطّ 4 حزيران/يونيو 1967؟" فيردّ كلنتون: "دعني أكمل... سوف تحتفظ إسرائيل بالسيادة على بحيرة طبريا وشريط من الاراضي..."؛ وهنا يقاطعه الأسد: "الإسرائليون لا يريدون السلام! لا جدوى من الاستمرار". يتوقف كلنتون عن تلاوة الرسالة، ليقول: "فاروق الشرع شرح لنا في شبردزتاون أنه، ما دام خطّ حدود 1923 وخطّ 1967 ليسا مختلفين على هذا الجزء من البحيرة، فالأمر يتعلق بالمساحة إذاً، وليس بالمبدأ. هنالك فارق عشرة أمتار". هنا يلتفت الأسد إلى الشرع، ويسأله: "هل قلتَ هذا؟"، فيجيب الأخير: "ما قلته هو أنه حتى حدود 1923 غير مقبولة بالنسبة إلينا".

مناسبة استعادة هذه الواقعة هي التقارير التي راجت مؤخراً، وهي في الواقع تعيد إنتاج تقارير مماثلة شاعت الصيف الماضي، حول وضع فاروق الشرع، نائب بشار الأسد، رسمياً على الأقلّ، تحت الإقامة الجبرية؛ مع تنويع جديد، مثير: أنّ أفراد الحرس المكلّفين بهذه المهمة ليسوا سوريين، بل هم عناصر "الحرس الثوري" الإيراني. الثابت مع ذلك، بصرف النظر عن مقدار الصحة في هذه التقارير، أنّ الشرع غائب، أو مغيّب، عن واجهة الدولة كما تعكسها أجهزة النظام الإعلامية في التغطيات اليومية؛ وأنه، استطراداً، فقد حتى تلك الصفة الاستشارية، الرمزية غالباً، التي منحها له الأسد خلال الأشهر الأولى التي أعقبت انطلاق الانتفاضة الشعبية السورية، في آذار 2011. وهذا مآل منطقي، غنيّ عن القول، لأنه يتسق تماماً مع مسارات الشرع في معمار "الحركة التصحيحية"، منذ سفارة النظام في إيطاليا، سنة 1976، وحتى نيابة الأسد الابن سنة 2006؛ مروراً، بالطبع، بوزارة خارجية النظام، وقبلها الشؤون الخارجية، طيلة 26 سنة!

هي، في عبارة أخرى، مآلات خادم النظام الطيّع المنفّذ، والموظف المدني الذي تتسع صلاحياته أو تضيق طبقاً للحاجة إليه، والبيدق الممنوع من الارتقاء إلى سلطة فعلية أو فاعلة في الهرم الأعلى، والذي يُستغنى عنه عند الحاجة، أو يُضحى به دون أدنى أسف... تلك حال نماذج مرّت في هذا أو ذاك من أطوار "الحركة التصحيحية"، فسادت (في موقع البيدق دائماً)، ثمّ بادت، فلم تخلّف أثراً بعد عين؛ على شاكلة أحمد الخطيب ("رئيس الجمهورية"، حين كان الأسد الأب رئيس وزراء!)، أو عبد الرؤوف الكسم (أشهر "التكنوقراط" في وزارات الأسد، والذي لم يمتلك سلطة لجم خليل بهلول، رئيس مؤسسة الإسكان العسكرية، والضابط برتبة مقدّم!)، وصولاً إلى محمود الزعبي (مواطن الشرع، الذي تولى رئاسة الوزارة 13 سنة متتالية، حتى انتحر أو انتُحر!)...  

وهكذا، في العودة إلى الشرع، مَنْ يتذكّر اليوم "هيئة الحوار الوطني"، التي شكّلها الأسد في حزيران (يونيو) من ذلك العام، وعهد برئاستها إلى الشرع، وضمّت أبناء النظام (الأخير نفسه، بالإضافة إلى هيثم سطايحي عضو القيادة القطرية لحزب البعث، و ياسر حورية زميله في القيادة)؛ أو المتحالفين معه في ما يُسمّى "الجبهة الوطنية التقدّمية" (صفوان قدسي الأمين العام لحزب الاتحاد الاشتراكي العربي، وحنين نمر الأمين العام للحزب الشيوعي السوري ـ جناح يوسف فيصل)؛ أو المسبّحين بحمد النظام (عبد الله الخاني، وليد إخلاصي)؛ أو العاملين في مؤسساته (منير الحمش، إبراهيم دراجي)؟ وماذا نُفّذ، أو تبقى، من المهامّ التي أوكلها الأسد إلى هؤلاء: "صياغة الأسس العامة للحوار المزمع البدء به بما يحقق توفير مناخ ملائم لكل الاتجاهات الوطنية للتعبير عن أفكارها وتقديم آرائها ومقترحاتها بشأن مستقبل الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في سورية، لتحقيق تحولات واسعة تسهم في توسيع المشاركة وخاصة فيما يتعلق بقانونَيْ الأحزاب والانتخابات وقانون الإعلام، والمساهمة في وضع حد لواقع التهميش الاجتماعي والاقتصادي الذي تعاني منه بعض الشرائح الاجتماعية"...؟

وحين وبّخ الأسد وزير خارجيته، الشرع، في اجتماع جنيف سابق الذكر، كان يدرك جيداً أنّ الأخير لا يسمح لجفنه أن يرفّ دون موافقة سيده، وأنّ ما قاله عن حدود 1923 و1967 كان مستوحىً من التوجيهات الحرفية التي حملها معه من دمشق إلى شبردزتاون. ولكنّ الأسد مارس، في المقابل، ما يتوجب على دكتاتور مثله أن يمارسه إزاء أداة تخدم عنده، فكذّب الشرع، لكي يحرّكه كقطعة بيدق في شطرنج المناورة مع كلنتون. ذلك لأنّ جدول أعمال مفاوضات شبردزتاون، وكما تكشف لاحقاً، كان يسير وفق الأولويات الإسرائيلية، لا تلك التي يريدها النظام: العلاقات السلمية الطبيعية (التطبيعية، في العبارة الأوضح)؛ الترتيبات الأمنية (ما ستحصل عليه إسرائيل من الولايات المتحدة، مساعدات مالية واسلحة، لقاء الانسحاب من، أو في، أراضي الجولان)؛ المياه (تحكّم الإسرائيليين المطلق، أو الشراكة التي لا تمسّ التحكّم المطلق، في منابع بانياس والضفة الشرقية من نهر الأردن والضفة الشمالية ـ الشرقية من بحيرة طبريا والضفة الشمالية من نهر اليرموك)؛ والحدود الدولية (في إطار الفارق بين حدود الانتداب التي رُسمت العام 1923 وحدود 1967 كما رسمتها الحرب). 

وفي أواخر العام 1999، لاح أنّ أكثر من نار هادئة تُطبخ في واشنطن ودمشق والقدس المحتلة، هدفها "ترطيب" الأجواء أو "تطبيع" النقائض، أمام معوقات الحوار بين إسرائيل والنظام السوري. صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية أماطت اللثام عن ترتيبات لعقد "قمّة روحية" فريدة في دمشق، يحضرها مفتي النظام آنذاك، الشيخ أحمد كفتارو، ويسرائيل لاو كبير حاخامات إسرائيل، والحاخامات إلياهو بكشي، وعوفاديا يوسف (الزعيم التاريخي لحركة "شاس") ويوسف جيجاتي (حاخام اليهود السوريين). ثمّ توالت أخبار اللقاء المشهود ـ و"التاريخي" حسب توصيف الصحافة الإسرائيلية ـ بين مفتي النظام الحالي، الشيخ أحمد بدر الدين حسون والحاخام الأكبر للجالية اليهودية في النرويج يوئاف ملكيئور؛ ذلك اللقاء الذي لم يكن روحياً فحسب، كما حرص المفتي على التأكيد، بل تضمّن طلب الحاخام من حسون أن يبذل مساعيه الحميدة من أجل نقل رفاة الجاسوس الإسرائيلي الشهير ايلي كوهين إلى إسرائيل.

ثالثاً، في جانب غير روحيّ البتة، على الجبهة الدبلوماسية ـ السياسية، كان سفير النظام في لندن، سامي الخيمي، قد صرّح بالتالي: "تعيش في سورية أقليات كثيرة، من مسيحيين وأرمن وأكراد. ولا توجد أي مشكلة في أن يعيش إسرائيليون أيضاً". تصريحات السفير وردت خلال ندوة نظمها "المركز الإعلامي السوري" في لندن، تحت عنوان "هضبة الجولان: ننهي الاحتلال، وننشيء سلاماً"، في مناسبة الذكرى الأربعين لاحتلال الجولان، وجاءت ردّاً على سؤال مباشر حول مصير مستوطني الهضبة في حال انسحاب الدولة العبرية منها. ولقد سارع الخيمي إلى تصحيح أقواله تلك، وأنّ جوابه كان أنّ المستوطنين "قد يفضّلون البقاء تحت السيادة السورية، كون سورية بلد مسالم بالنسبة لكلّ جيرانها، بلد علماني يحترم كل الأديان ويتمتع فيه كافة المواطنين بحقوق متساوية"، كما جاء في صحيفة "السفير" اللبنانية.

أخيراً، لن تتكامل جهود المفتي وجهود السفير إلا إذا صبّت المياه في طاحونة التلميح والتصريح التي يشغّلها وزير الخارجية، وليد المعلّم. ولقد جاء في الأخبار أنّ مايكل وليامز، المبعوث الشخصي للأمين العام للأمم المتحدة في الشرق الأوسط، نقل إلى رئيس الحكومة الإسرائيلية إيهود أولمرت استعداد دمشق للعودة فوراً إلى طاولة المفاوضات مع إسرائيل، دون شروط مسبقة. وسلّم وليامز الرسالة إلى أولمرت بحضور الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون، أثناء مأدبة عشاء أقامها داني غليرمان، المندوب الإسرائيلي. وأمّا الطرف المرسِل فقد كان وليد المعلّم، مفوّضاً من سيّده الأسد، الذي ينتظر الوسيط الأممي نفسه، وما يمكن أن يكون ردّ أولمرت على عروض دمشق.

مَن الذي سيختاره الأسد لإدارة هذه "الأضرار"، الروحية والدبلوماسية؟ ليس وليد المعلّم، ولا السفير الخيمي، ولا المفتي حسون؛ بل... الشرع، دون سواه. وهكذا خرج على العالم بتصريحات تقول إنّ "إسرائيل والولايات المتحدة لا تريدان السلام مع الفلسطينيين، ولا مع سورية"؛ التي "تأخذ كلّ الاحتمالات على محمل الجدّ، وتعطي الأولوية للسلام". ومع ذلك فإنّ النظام لم يعقد مفاوضات سرّية مع إسرائيل، لأنّ "الاتصالات السرية هدفها فقط التنازل، وسورية غير مستعدة للتنازل". ولكي يذهب أبعد، في جانب تسديد بعض النيران على البيت الأبيض تحديداً، قال الشرع إنّ اتفاقاً بين النظام وإسرائيل "سوف ينقصه الدعم الأمريكي اللازم، "لأنّ "الرئيس الأمريكي جورج بوش قال بصريح العبارة أخيراً: أنا لا أريد السلام مع سورية".

فهل كانت علنية، أم سرّية، تلك "المشاورات التي أجراها الشرع، خلال ثمانية اجتماعات مطوّلة مع السوري ـ الأمريكي إبراهيم سليمان، الذي كان قد اجتمع مع مسؤولين إسرائيليين، وضمّت لقاءاته بهم مسؤولاً بارزاً في قسم الشرق الأوسط في وزارة الخارجية السويسرية (نيكولاس لانغ)؛ والأمريكي اليهودي جيفري أرونسون، مدير الأبحاث والمطبوعات في "مؤسسة سلام الشرق الأوسط" في واشنطن؟ وكيف يصف الشرع اجتماعاته مع هذا "المواطن السوري"، بعد أن زار الأخير إسرائيل، وألقى كلمة أمام لجنة الخارجية والأمن في الكنيست، رمى خلالها القفاز: "أتحدى الحكومة الإسرائيلية أن تردّ على نداء السلام الذي أطلقه الأسد، وأن تجلس إلى طاولة المفاوضات مع السوريين"؟

وبيدق كهذا، قصارى القول، كيف له أن يرتقي أعلى من السقف الذي منحه له النظام؛ سواء حجر عليه "الحرس الثوري" الإيراني، في قلب دمشق، أم طالب به أحمد الجربا بديلاً لوليد المعلّم، في جنيف؟ 

الاثنين، 3 فبراير 2014

إتيل عدنان: الحصة السورية

 قبل أيام مُنحت إتيل عدنان، الشاعرة الكبيرة والفنانة التشكيلية، وسام الفنون والآداب الفرنسي، برتبة فارس؛ وهذا أحد أرفع الأوسمة الفرنسية في ميدانه، وسجلّ الحاصلين عليه، في مرتباته المختلفة، يضمّ أمثال ت. س. إليوت، خورخي لويس بورخيس، نادين غورديمر، شيموس هيني، فاكلاف هافيل؛ إلى جانب فيروز (1988)، ومحمود درويش (1993). وفي هذه المناسبة، وهذه الأزمنة تحديداً، يحلو لي ـ ويحقّ، كذلك، كما أعتقد ـ أن استذكر عدنان، لا باعتبارها الأديبة اللبنانية، كما توصف عادة؛ بل نسبة إلى محتدها السوري، إذْ من المعروف أنها وُلدت لأب سوري دمشقي مسلم، كان أيضاً ضابطاً في الجيش العثماني.

آخر تعبيرات عدنان السورية كان التوقيع، الصيف الماضي، على بيان يطالب بإطلاق سراح الفنان التشكيلي السوري يوسف عبدلكي؛ ومنذ اندلاع الانتفاضة، في آذار (مارس) 2011، لم تتوقف عن تبيان انحيازها التامّ، والصريح، إلى حقّ الشعب السوري في الكرامة والحرّية والديمقراطية. أمّا في الموقف الإجمالي من النظام، قبل الانتفاضة، فإنّ كتابات عدنان انطوت دائماً على إدانة الطبيعة التسلطية والاستبدادية للسلطة، وشدّد في الآن ذاته على حيوية الثقافة السورية، التي ظلّت تبدع وترتقي وتقاوم في آن معاً. (يُنظر، على سبيل المثال، نصّ عدنان في مراجعة كتاب مريام كوك "سورية المنشقة"، مجلة "الجديد"، 1999).

ولعلّ العناصر السورية في شخصية عدنان لن تبدو حصيلة عجيبة، بل تحصيل حاصل إنساني وثقافي، إذا أعاد المرء قراءة شهادة لها، بعنوان "أن نكتب بلغة أجنبية"؛ مطوّلة ومعمّقة واعترافية، وشهيرة تماماً عند متابعي أعمال الشاعرة، تصف فيها تاريخ تجاربها الشخصية مع اللغات والمنافي. وهي تروي كيف كانت لكلّ لغة تكويناتها الوجدانية والشعورية الخاصة: اليونانية والتركية، عن طريق الأمّ المسيحية المولودة في سميرنا، أو إزمير المعاصرة؛ والفرنسية، في مدرسة خاصة تابعة لأحد الأديرة الكاثوليكية في بيروت؛ والعربية، عن طريق الأب، والأصول السورية؛ والإنكليزية، في الجامعة والمغترب الأمريكي.

آثار تلك "المطحنة اللغوية"، إذا جاز القول، تبدّت بجلاء في ما أنجزت عدنان بعدئذ من شعر ونثر، وعن هذا تقول ببساطة مذهلة: "كان الفنّ التجريدي هو معادل التعبير الشعري عندي. لم أكن بحاجة إلى استخدام الكلمات، بل الألوان والخطوط. لم أكن بحاجة إلى الانتماء إلى ثقافة ذات توجّه لغوي، بل إلى شكل مفتوح في التعبير". ولديّ، شخصياً، ما يكفي من الدلائل، البصرية والتصويرية والتعبيرية، وسواها من المصطلحات المعتمدة في قراءة اللوحة والعمل التشكيلي إجمالاً؛ لكي أصدّق ما تقوله عن شكل التعبير المفتوح ذاك، وعن لغة قصيدتها الخاصّة والمفتوحة بدورها.

ومنذ القصيدة الطويلة "كتاب البحر"، التي كتبتها في سنّ العشرين (هي اليوم تقارب التاسعة والثمانين، بقلب شابّ أبداً!)؛ انهمكت عدنان في تلمّس ذلك القاموس التعبيري الفريد الذي سوف نعرفها عن طريقه، وفي تطوير طاقاته التصويرية والتشكيلية بصفة خاصّة، وتأثيث عوالمه ومناخاته وموضوعاته، قصيدة بعد أخرى. وهذا العمل، المكتوب أصلاً باللغة الفرنسية، يحاول وضع العلاقات التبادلية بين البحر والشمس في إطار من التعايش الإيروسي الأكواني؛ ولكنه جوهرياً يرسم مشهداً تشكيلياً حاشداً في الأساس، ينقلب فيه لقاء البحر والشمس إلى انفجار بصري مذهل لعناصر الطبيعة المحسوسة والمتخيَّلة، للعالم المادّي والمجازي، وللمعنى الآخر الأعظم وراء انحسار الحدود بين الشيء وكناياته، والكنايات ذاتها إذّ تدخل في استعارات مفتوحة.

غير أنّ عدنان لا تستطيع الانفكاك عن حقيقة اللغة الأمّ وحقوقها، وربما حقوق كلّ اللغات: أليس من المحزن، تقول الشاعرة، أنّ "كتاب البحر" قصيدة تعزّ على الترجمة إلى اللغة العربية، لا لشيء إلا لأنّ "البحر" اسم مؤنّث في الفرنسية ومذكّر في العربية، الأمر الذي ينسف البُعد الإيروسي الأهمّ في القصيدة، بل ويلغي معادلاتها الكبرى؟ هذه، بالطبع، بعض أكلاف العيش في ما نسمّيه عادة "منفى اللغة"، الأمر الذي يقود عدنان إلى يقين بأنّ منفاها "يعود إلى حقبة سابقة بعيدة، ويمتدّ زمناً طال كثيراً، حتى صار طبيعتي الخاصة. الشاعر، في نهاية المطاف، طبيعة إنسانية على النحو الأصفى، ولهذا فإنّ الشاعر إنسانيّ كما القطة قطة، وشجرة الكرز شجرة كرز".   

غير أنّ حال النفي هذه هي، أيضاً، بعض السبب في أن عدنان تبدو مظلومة كلما تعيّن توزيع شهادات "الريادة" على "الروّاد". إنها تكتب الشعر الرفيع منذ أكثر من نصف قرن، وهي ليست غائبة عن المشهد الشعري العربي، إذْ واصلت الحضور ـ على طريقتها، بالفرنسية أوّلاً ثمّ بالإنكليزية ـ وساهمت في إطلاق صوت خاصّ لعلّ أثره يتخفّى طيّ العديد من التجارب العربية الناضجة المعاصرة. وبعض عزاء عدنان يأتي من حقيقة أنّها ليست مجهولة لدى القارىء العربي، وعشرات من قصائدها تُرجمت إلى العربية، على يد شعراء وكتّاب متمرسين من أمثال سركون بولص وفايز ملص وخالد النجار وميّ مظفر وسواهم، أثّرت وما تزال في تكوين الذائقة الشعرية العربية المعاصرة.

تتعدد معاني المنفى عند عدنان، وتتنوّع مستويات النفي: في أشكال التجربة الإبداعية، وفي الترحال، وفي اللغات والهويات؛ ولهذا فإنّ في تكريمها، اليوم، حصّة سورية مستحقة، أصلية، وأصيلة أيضاً.