وعزّ الشرق أوّله دمشق

الاثنين، 11 أغسطس 2014

عرسال: هل هي تنويع جديد لمحاصصات فاسدة؟

 إذا كانت "داعش" قد قدّمت للنظام السوري هدايا كثيرة، منذ صعودها كتنظيم عسكري مواظب على ارتكاب الجرائم الفظائع والقبائح التي توفّر نظائر مطابقة لما ترتكبه وحدات بشار الأسد العسكرية، وأجهزته، وميليشياته الطائفية منها بصفة خاصة؛ أفليس طبيعياً، والحال هذه، أن تقدّم "داعش" هدايا مماثلة لحلفاء النظام، في لبنان والعراق تحديداً؟ أليس ما جرى في عرسال، مراراً قبلئذ، في المواجهات مع "حزب الله"، وما يجري منذ أيام في مواجهات جديدة مع الجيش اللبناني، مدعوماً من "حزب الله" و"أمل" وفصائل أخرى حليفة للنظام السوري؛ بمثابة "ستراتيجية مخرج"، حتى إذا كانت ركيكة ومفضوحة ومكشوفة، يعتمدها حلفاء الأسد اللبنانيون لتبرير قتالهم إلى جانب نظامه، داخل سورية؟

خلاصة قد تبدو بديهية، في نهاية المطاف، او حتى بسيطة وتبسيطية؛ الأمر الذي لا يلغي أهميتها في التحريض الميداني ضدّ النزوح السوري في لبنان، بادىء ذي بدء، وفي الخلفية البعيدة (كما تُقرأ ردود الفعل الغاضبة في اللبوة، وقطع الطريق على قافلة المساعدات الإنسانية إلى النازحين السوريين المحاصرين في عرسال)؛ وكذلك، استطراداً، وفي الخلفية السياسية الأقرب، ضدّ قوى الانتفاضة السورية، التي تعاني من "داعش" أكثر بكثير ممّا عانت عرسال. كذلك لا ينبغي لخلاصة كهذه أن تطمس حقيقة أخرى جوهرية، موازية بقدر ما هي وازنة، في المعادلة ذاتها: أنّ جماهير عرسال، في سوادهم الأعظم، كانوا على الدوام متعاطفين مع الانتفاضة، وقدّموا ما استطاعوا لإغاثة السوريين، حتى حين كانت طائرات الأسد تقصف بيوتهم، على مرأى ومسمع من وحدات الجيش اللبناني.

خلاصة أخرى، بديهية بدورها، وإنْ كانت أكثر احتفاءً بالتهويل الدرامي؛ هي أنّ مناخات "الالتفاف الوطني" الحارّ حول الجيش اللبناني، واتفاق جميع القوى والساسة والفئات على اجترار العبارة المكرورة التي تقول إنّ هذا الجيش "خطّ أحمر"... كانت، في الواقع، تعيد عزف أسطوانات مشروخة، كاذبة تماماً، ومنافقة مرائية، تفيد العكس... تماماً، أو تكاد: أنّ هذا الجيش منتهَك الكرامة، عسكرياً ومعنوياً، على يد مسلّحي "حزب الله" أوّلاً، والميليشيات كافة ثانياً؛ وأنّ الجوهر الأقصى لوظائفه بات منحصراً في... ترقية قائد الجيش إلى رتبة رئيس الجمهورية، حيث يسود الوئام الوطني ساعة، وتهيمن الانشطارات الطائفية والمذهبية والطبقية كلّ ساعة.

وللوهلة الأولى، قد يبدو مدهشاً أنّ هذه الخلاصة تعيد ترجيع أصداء ترددت عشية الانتخابات النيابية، صيف 2009، حين أكّدت النتائج مآلَيْن، منتظَرَيْن تماماً في الواقع: انتخاب نبيه برّي، لولاية خامسة، في رئاسة المجلس النيابي، أي المؤسسة ذاتها التي عطّلها عن سابق قصد وانحياز سياسي، وحوّلها إلى أضحوكة، طيلة أشهر؛ وتكريس سلطة المال السياسي الحريري في سدّة رئاسة الوزارة، استمراراً للنهج الذي دشّنه رفيق الحريري سنة 1992، في وزارته الأولى، وتوجّب أن يتابعه وريثه السياسي سعد الحريري. آنذاك، كما اليوم، بدت "الوحدة الوطنية" مختزَلة في هذا الوئام القديم/ الجديد حول مؤسسة الجيش، ثمّ بعدئذ في شخص الرئيس (العسكري) العتيد.

في عرسال، اليوم، تتكاتف آلة عسكرية متنافرة، وليست البتة تعددية "تحت سقف الوطن اللبناني"، إذا جازت الاستعارة من خطاب إعلام النظام السوري؛ لم يسبق لها ان تكاتفت على هذا النحو، العسكري أو التعبوي، في أية واقعة وطنية سابقة، وربما على امتداد تاريخ لبنان. في باطن هذا السياق، بدا "حزب الله" وكأنه عاد خطوة إلى الوراء ـ واحدة فقط، أغلب الظنّ! ـ عن التبشير الأحدث الذي طلع به حسن نصر الله قبل أشهر، في خطاب حماسي عاطفي مشبوب: "نحن شيعة علي بن أبي طالب في العالم"؛ "ونحن الحزب الإسلامي الشيعي الإمامي الإثنا عشري". كان ذاك هو الإعلان الأكثر وضوحاً عن هوية مذهبية للحزب، شيعية، لكنها تشدّد أيضاً على الركنَيْن، "الإماميّ" و"الإثنا عشري"، تحديداً. في عرسال الراهنة، يلوح أنّ الحزب عاد، وإنْ بمعدّل خطوة واحدة يتيمة، إلى خطاب سابق، حُرق واستُهلك واستُنفد، يشدد على الانتماء إلى الاجتماع السياسي اللبناني، "الوطني" هذه المرّة، وليس "الإماميّ" و"الإثنا عشري".

يُراد لنا، إذاً، أن نكون في منأى عن ـ وعلى مبعدة بعيدة... بعيدة من ـ "غزوة بيروت" في أيار (مايو) 2008 (ساعة اتضح أنّ "حزب التحرير" استدار ببندقيته، على عكس ما أقسم قادته مراراً، نحو خصم محلّي، ونحو المجتمع اللبناني في المحصلة)؛ والعجز عن الثأر لمقتل عماد مغنية، في سياق ما أسماه نصر الله "الحرب المفتوحة" على إسرائيل؛ وعدم ترجمة مبادىء الميثاق الجديد، حتى تلك الفضفاضة في مصطلحاتها "الوطنية"، إلى تطبيقات سياسية واجتماعية على الأرض... كلّ هذه كانت عوامل تعيد "حزب الله" إلى صياغات تأسيسه الأولى، وتضعه في قلب ارتباطات أحلاف الخارج، هذه التي لم يسبق له أن انفكّ عنها تماماً في الواقع.
في تلك الحقبة، تحديداً، ويا لمحاسن الصدف التي ليست مصادفات عشوائية أبداً، أجرى وزير خارجية النظام السوري، وليد المعلّم، حواراً مع غابرييلا رفكند، من صحيفة الـ"غارديان" البريطانية، قال فيه: "يمكن للانسحاب من الجولان أن يتمّ على مراحل، تنطوي توقيتاتها على شكل من التطبيع. نصف الجولان يمكن أن يفضي إلى إنهاء العداء. ثلاثة أرباع الجولان، تفتح ممثلية لرعاية المصالح الإسرائيلية في السفارة الأمريكية. الانسحاب الكامل سوف يسمح بسفارة سورية في إسرائيل". وحين سألته رفكند عن العلاقات مع إيران و"حزب الله"، لم يقل المعلّم إنها "خطّ أحمر"، جرياً على الموضة الشائعة، بل أجاب ببساطة: نتولى أمرها بعد الانسحاب!

فإذا صحّ، في العودة إلى استهلال هذه السطور، أنّ "داعش" قدّمت في عرسال هدايا ثمينة إلى "حزب الله"، وخاصة لجهة اعتصار تسويغات جديدة لقتال الحزب إلى جانب الأسد في سورية؛ فهل يصحّ أن تكون عرسال الراهنة واقعة منقطعة عن سياقاتها اللبنانية ـ اللبنانية، وخاصة تلك المتصلة بمعادلات سلاح "حزب الله"؟ أم أنّ عرسال الراهنة، ضمن استطرادات منطقية بسيطة وتبسيطية، ليست أقلّ من تنويع جديد لتلك المحاصصات الفاسدة، السياسية والطائفية والمالية، التي عاثت فساداً بحياة لبنان واللبنانيين، طيلة عقود، وشارك في صناعتها جميع الساسة والأحزب والقوى والفئات؛ بلا استثناء تقريباً، وفي الطليعة "حزب الله"، الشيعي، والإمامي، والإثنا عشري... من غير أهلّة اقتباس هذه المرّة؟

في صياغة أخرى، حين تفشل قوى 14 آذار، أو ما تبقى من ركام تكوينها السياسي، في التمييز بين ثلاثة مستويات للنقاش حول عرسال (حقّ أهل عرسال في طرد "داعش" من البلدة، ثمّ واجب الحكومة اللبنانية في الإبقاء على سلاح واحد شرعي في البلدة، هو سلاح الجيش؛ وأخيراً، ردّ واقعة حضور "داعش" في عرسال إلى جذورها، أي تدخّل "حزب الله" عسكرياً في سورية لصالح نظام الأسد)؛ فإنّ مآلات هذا الفشل سوف تنتهي إلى اختزال عرسال لا كما يعلن الجيش اللبناني، أو يتشدّق الساسة الحريصون على قدسية "الخطّ الأحمر"؛ بل على النحو الذي يشتهيه "حزب الله" وحلفاؤه (لبنان إثنا عشري أمس، وطني اليوم، وغداً... لكلّ حادث حديث)، وبالتالي تسفر عن، وتفسح المجال كلّه أمام، تعبيرات عنصرية ومشاعر كراهية وحقد ضدّ السوريين.

أسئلة متروكة لإجابات اللبنانيين، ليس على مبدأ أنهم أدرى بشعابهم، فحسب؛ بل، كذلك، لأنّ الليالي من الزمان حبالى... مثقلات يلدن كلّ عجيب!
7/8/2014

الخميس، 7 أغسطس 2014

في ذكرى علي الجندي

 انقضت خمس سنوات على رحيل الشاعر السوري علي الجندي (1928 ـ 2009)، وتوجّب اليوم أن أستعيد، مجدداً، ذكرى مواطن استجمع، في نصف قرن من عقود عمره، قسطاً وافراً من العناصر السياسية والثقافية والنفسية والإبداعية التي ميّزت شخصية سورية محددة ومعيارية: المثقف، البرجوازي الصغير، حامل مصائر، ثمّ جراحات وانكسارات وهزائم، طبقة توهمّت أنّ عقيدتها (التي بدأت كمزيج قومي ـ ميتافيزيقي، يستلهم المثالي الفيختوي والسوبرمان النيتشوي، ليُسقط على العربي صفة "سيّد القدر")؛ جديرة باحتكار تمثيل الوجدان السوري، والنيابة عن الاجتماع الوطني بأسره، وليس الطبقة وحدها.

والجندي كان شاعراً رائداً، بحقّ، رغم انتمائه ـ من حيث النشر والحضور الثقافي، وصدور مجموعته الأولى "الراية المنكسة" سنة 1962، بعد سنوات أعقبت نشر قصائده في دوريات أدبية سورية ولبنانية ـ إلى مجموعة شعراء الستينيات (علي كنعان، ممدوح عدوان، محمد عمران، فايز خضور، محمود السيد، أحمد سليمان الأحمد، خالد محي الدين البرادعي، وسواهم). وفي ظنّي أن مكمن ريادته يبدأ، أوّلاً، من حقيقة إقامة الصلة الحداثية، والتجديد المعمّق في الشكل مثل الموضوعات، بين حلقة عبد الباسط الصوفي وسليمان العيسى وشوقي بغدادي، حيث هيمن شكل "الشعر الحرّ" أو التفعيلي، وإنْ اختلفت الأساليب وتباعدت التجارب؛ وحلقة الثلاثي علي الناصر وأورخان ميسر وخير الدين الأسدي، حيث النماذج الأبكر من قصيدة النثر السورية، ذات الميول السوريالية؛ والحلقات المنفردة الكبرى كما مثّلتها تجارب نزار قباني ومحمد الماغوط، إضافة إلى أدونيس حين نحتسبه على مشهد الشعر السوري، وليس اللبناني.

جانب آخر هامّ، في تشخيص هذه الريادة الحداثية، كانت قد جسّدته مبادرة الجندي إلى إقامة تلك الصلات، وبالتالي نشر قصائده الحداثية الأولى، وهو على وعي تامّ بمقدار الضغوطات التي كانت القصيدة العمودية السورية تمارسها على الذائقة العامة؛ سواء على يد مجايلين، أمثال وصفي القرنفلي وحامد حسن وسعيد قندقجي وعبد الرحيم الحصني؛ أو تأثيرات السطوة الكلاسيكية المتجذرة لقصيدة عمر أبو ريشة وبدوي الجبل ونديم محمد وعبد المعين الملوحي، من جيل الكبار السابق. وهكذا، فإنّ مكمن ريادته، في المقام الثاني، كان اختراق تلك الغابة المتشابكة من الأشكال والأساليب والموضوعات واللغات والتجارب، والاستئناس الحيوي بمنجز الشاعر العراقي الكبير بدر شاكر السياب (وكانا على صلة صداقة)، في ما يخصّ سيولة التفاعيل ومعالجات موضوعة الموت؛ والنجاح في النأي بذاته عن موجة الشعر التموزي، موضة العصر الحداثية آنذاك؛ والإفلات، التامّ والمدهش في الواقع، من طوق أدب الالتزام، في صياغاته القومية والبعثية تحديداً، رغم أنّ الجندي كان قريباً من سلطة البعث حتى أواسط السبعينيات.

وكانت مجموعته/ قصيدته الطويلة "طرفة في مدار السرطان"، 1975، بمثابة كشف حساب مفصّل، جارح وحادّ وتراجيدي، عن حال انكسار الشاعر الرائي، والشاعر العرّاف، والشاعر البطل، والشاعر المثخن بالجراح النرجسية، والشاعر الرجيم... خلاصة صفات الممثّل الحقّ للخريطة الشعورية التي رسمت تضاريس البرجوازية الصغير السورية في تلك الأحقاب. الأرجح أنّ هذه العناصر، متشابكة متلاطمة في عباب عقيدة وجودية، فضلاً عن طراز حياة صاخبة وأبيقورية... جعلت الجندي قليل الاكتراث بتطوير قصيدته وترقية أدواته، فظلّ أسير نبرة واحدة، ولغة مقتصدة، وإيقاعات متماثلة، مع استثناءات محدودة في الواقع، كانت على الدوام تؤكد شاعريته الدافقة ومراسه العالي.

لكنّ هذا المزيج، المصطخب المتصارع، لم يمنع الجندي من التوقيع على "بيان الـ99"، الذي أصدرته نخبة من المثقفين السوريين، ونُشر في أواخر أيلول (سبتمبر) 2000، وتضمّن المطالبة بإلغاء الأحكام العرفية، وإصدار عفو عام، وإرساء دولة القانون وإطلاق الحريات العامة والمدنية. ولقد قاطع الجندي المهرجانات الثقافية في السلمية (بلدته التي سبق لها أن تابعته ينخرط في بكاء مرير وهو يلقي قصيدته "السيول تجتاح سلمية"، حتى صعد ممدوح عدوان إلى المنبر، وأتمّ القصيدة بالنيابة عنه)؛ احتجاجاً على اعتقال صديقه عبد الكريم الضحاك، مدير المركز الثقافي الأسبق، وعضو مجلس أمانة "إعلان دمشق".

ذلك لأنّ الأنموذج الأوّل في تكوين شخصية الجندي كان الشاعر الجاهلي طرفة بن العبد ("أرى العيش كنزاً ناقصاً كل ليلة/ وما تَنقُصِ الأيامُ والدهرُ يَنفدِ")؛ وأمّا أنموذجه الثاني فقد كان الشاعر الأموي قطري بن الفجاءة، فارس الأزارقة الذي قال لنفسه وقد طارت شعاعاً: "وما للمرء خير في حياة/ إذا ما عُدّ من سقط المتاع".

الأحد، 3 أغسطس 2014

"عيدية" أحمد معاذ الخطيب: لقد أسمعتَ لو ناديتَ حياً!

 في ختام مبادرة حوار جديدة، شاء هذه المرّة أن يطلق عليها صفة "عيدية" إلى الشعب السوري، بمناسبة الفطر وانقضاء شهر رمضان؛ توجه أحمد معاذ الخطيب الحسني، الرئيس الأسبق لـ"الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية"، بمناشدة إلى النظام السوري كي "يرسل أحد ذو صلاحية"، والخطأ اللغوي من الشيخ، الذي كان يتحدّث بمزيج من الفصحى والعامية. وهذا الـ"أحد"، إذا جاء، فسيلاقي "مجموعة من خيرة القيادات السورية، مستعدة أن تتفاوض مع النظام من أجل وطن حر وكريم"؛ وهي "لا تبحث عن منصب ولا موقع"، وغايتها "أن نتناقش في هذا الموضوع، قبل أن تقتلنا المشاريع الإقليمية والدولية"...

قبل هذه الخاتمة، كان نصّ "العيدية" قد اتخذ صفة المبادرة بالفعل، حتى إذا عفّ الشيخ عن تسميتها هكذا؛ قائمة على خمسة مطالب، تحمل نبرة المناشدة العاطفية، يتساوى النظام مع الشعب السوري (بعد أن اخرج الخطيب "المعارضة المرتهنة" من المعادلة) في تحمّل مسؤولية الاضطلاع بها: 1) الحيلولة دون تقسيم سوريا؛ 2) استقلال القرار السياسي السوري (إزاء ثلاثة مشاريع هدّامة: إيران، وبعض دول الخليج، و"القاعدة")؛ 3) تنحّي النظام والمعارضة (لصالح "كثيرين من أبناء البلد يمكن أن يحملوها)؛ 4) وقف القتل والدماء والخراب؛ 5) حلّ سياسي تفاوضي يُلزم النظام والمعارضة، ويتضمن العدالة الانتقالية.

لافت، بادىء ذي بدء، أنّ تشخيص الخطيب لـ"معارضة مرتهنة" ليس صائباً وسليماً وصادقاً، فحسب؛ بل هو هو متأخر كثيراً، أيضاً، بالنسبة إلى رجل كان على رأس ذلك الارتهان قبل أشهر معدودات فقط، وتلمّسه وعايشه وعاينه، ساعة بساعة، ومؤتمراً بعد آخر، وعاصمة أثر أخرى... لكنه لم يشر إليه على النحو النقدي الصريح الذي ينتهجه اليوم، بل لعله غاص فيه حتى أخمص القدمين، وارتهن له ومعه، وتستر عليه أيضاً. هذا تفصيل أخلاقي، وسلوكي، يجرّد نقد الخطيب الراهن من حدود دنيا في المصداقية، تسري أوّلاً على زاعم مدوّنة وطنية وتصالحية، طوباوية وفروسية، لكنها في الآن ذاته ترتكز على مرجعية دينية تنهى عن الغشّ والخداع والتقلّب، وتفرض على الرائد ألاّ يكذب أهله.

مدهش، ثانياً، أن يكون الخطيب، خلال رئاسته للائتلاف، قد صال وجال وأقام في غالبية العواصم الخليجية التي يصنّفها اليوم (دون أن يسمّي، كعادته أبداً!) ضمن المشروع الإقليمي التخريبي الثاني؛ ولا يكتفي الآن بالغمز من أجنداتها في سوريا (وهذه كلمة حقّ، بالطبع، حتى إذا أُريد منها الباطل)، بل يساويها بالمشروع الإيراني، القائم على "أحلام إمبراطورية"، لا نفهم من الشيخ طبيعتها: فارسية، أم شيعية، أم أيّ مزيج منهما ينتهي إلى التوسع الإقليمي والسيطرة على شعوب المنطقة. هنا، أيضاً، يبدو الخطيب وكأنه ليس ذاك المعارض الهمام الذي منحته تلك العواصم الخليجية (راغباً سعيداً، وليس كارهاً متمنعاً) مقام الصدارة في القمم والمؤتمرات والاجتماعات، كي تدجّنه صحبة رفاقه ورفيقاته في "القيادة"؛ أو كأنه طمس ذلك الماضي من ذاكرته الشخصية، ظاناً أنّ المنصتين إلى "العيدية" قد اقتفوا أثره في الطمس وتفريغ الذاكرة!

مثير للشفقة، ثالثاً، أن يواصل الشيخ إنتاج، وإعادة إنتاج، وطرح مبادرات لا تبلغ أسماع أيّ "ذي صلاحية" في نظام بشار الأسد، ولا حتى في صفوف "المعارضة المرتهنة"؛ حتى كأنّ الخطيب استهوى الوقوف على أطلال حوارات وهمية واستيهامية، وامتهن إطلاق الصرخات التي لم تعد قادرة حتى على ترجيع الصدى. ففي 23 أيار (مايو) 2013 طرح الشيخ مبادرة (لم تكن، البتة، "عيدية"!)، شعارها الآية القرآنية: "ومَنْ أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً"؛ بدأت، بدورها، من نبرة بكائية رثائية تقول: "منعاً لاضمحلال سورية شعباً وأرضاً واقتصاداً وتفكيكِها إنسانياً واجتماعياً نتقدم بهذه المبادرة حقاً لبلدنا وأهلنا علينا، واستجابةً عمليةً لحلّ سياسي يضمن انتقالاً سلمياً للسلطة". أحلام تلك الساعة ذهبت بالمبادِر إلى درجة إعطاء "رئيس الجمهورية الحالي" مهلة لا تتجاوز 20 يوماً، كي يعلن "قبوله لانتقال سلمي للسلطة، وتسليم صلاحياته كاملة إلى نائبه السيد فاروق الشرع أو رئيس الوزراء الحالي السيد وائل الحلقي". البنود الأخرى تضمنت حلّ مجلس الشعب، وتسليم "رئيس الجمهورية" كامل صلاحياته خلال شهر بعد قبول الانتقال السلمي، وتكليف الحكومة (بصفتها المؤقتة وخلال 100 يوم) بإعادة هيكلة الأجهزة الأمنية والعسكرية، إطلاق سراح جميع المعتقلين السياسيين، ومغادرة "الرئيس الحالي" البلاد ومعه 500 ممّن يختارهم مع عائلاتهم وأطفالهم، دون تقديم ضمانات قانونية للمغادرين، والتزام جميع الاطراف بوقف استخدام الأسلحة الثقيلة...

لقد أسمع الشيخ لو نادى حيّاً، لأنّ لائحة ردود الأسد على تلك المبادرة تنوّعت، ميدانياً، بين قصف الغوطة بالأسلحة الكيماوية، ومسرحية مؤتمر جنيف، ومهزلة الانتخابات الرئاسية، وإلقاء فاروق الشرع إلى سلّة المهملات؛ وفي غضون ذلك، وسواه: سفك دماء الآلاف من السوريين، وإلقاء مئات بعد مئات من براميل الموت، والإيغال أكثر فأكثر في الشحن الطائفي... في المقابل، لا أحد من أهل النظام، حتى إذا كان مستوى مسؤوليته لا يتجاوز الدرجة العاشرة، اكترث بالتعليق على مبادرة الخطيب، أو السخرية منها والتهكم عليها في الأقلّ.

فاجع، رابعاً، أن يجهل الشيخ طبائع النظام بعد كلّ ما جرى ويجري، وهرمية الحلقة الأعلى، الأضيق، في معمار السلطة؛ حيث يتربع الأسد نفسه (في شخصيته الأمنية والعنفية الأقصى اعتمالاً، واكتمالاً، منذ توريثه صيف 2000). مَن هو الشخص "ذو الصلاحية"، الذي سيبادر إلى ملاقاة "عيدية" الخطيب؟ العميد ماهر الأسد (الشقيق، والقائد الفعلي للفرقة الرابعة والحرس الجمهوري، والمنفِّذ الثاني للحلّ الأمني، بعد شقيقه الكبير)؟ أم يفكّر الشيخ الخطيب في أمثال العميد ذو الهمة شاليش (ابن عمّة الأسد، ورئيس حرسه الشخصي، والمشرف الفعلي على جهاز أمن الرئاسة، وصاحب الصلاحيات الأمنية والعسكرية والمالية الواسعة التي تتجاوز بكثير رتبته العسكرية أو موقعه الوظيفي)؟ أو اللواء علي مملوك، أحد كبار مهندسي الفاشية القصوى في البلد؟ أو اللواء جميل حسن، مدير إدارة المخابرات الجوية، صاحب المزاج الدموي الشهير؟

هل يعقل أنه يقصد الدكتورة نجاح العطار، نائبة الأسد؟ أو أيّ من الإمعات، أعضاء القيادة القطرية لحزب البعث؟ أم هو رامي مخلوف، صيرفي النظام وتمساح الفساد؟ أم الفئة العليا من التجار ورجال الأعمال، شركاء وخدم النظام، أمثال الأخرس والغريواتي والشهابي وحمشو...؟ ومن جانب آخر، مَنْ هي تلك الـ"مجموعة من خيرة القيادات السورية" التي ستجلس على الطرف المقابل من طاولة الحوار مع النظام؟ أهم بشر لهم وجوه وأسماء، أم أشباح هائمون في السديم؟ 

مهين، خامساً، وفي خلاصة القول، أن يتوجه الخطيب إلى الأسد ـ قاتل الأطفال، وفق تصنيفات جنائية وقانوية دولية، ورأس نظام لم يتوقف عن ارتكاب جرائم الحرب والجرائم بحقّ الإنسانية منذ آذار/ مارس 2011 ـ بهذه النبرة الاستعطافية؛ المضحكة من باب المرارة، قبل أن تكون مبكية من باب المأساة. أهذا، الأسد، هو الذي يُسأل: "هل ترى الأطفال الصغار تتقطع أيديهم وأرجلهم؟"؛ أو: "لماذا التضييق على الناس؟"؛ أو: "لماذا الحصار؟"؛ أو: "لماذا تقصف المدنيين بالليل والنهار؟"؛ أو: "لماذا تمنع الناس من جوازات السفر؟"...


أين يعيش الشيخ، في نهاية المطاف: على هذه البسيطة، التي لم يشهد تاريخها، بأسره، همجية تعادل ما يرتكبه الأسد وبهائمه؛ أم هو منزوٍ في كوكب استيهاماته، يجترّ المبادرات الخرساء، ويطلق الصرخات البكماء؟