وعزّ الشرق أوّله دمشق

الاثنين، 6 نوفمبر 2017

"الواقعية الاشتراكية": ما تبقى من سقاية الفولاذ


في إحياء الذكرى المئوية للثورة الروسية، ثمة ملفات كثيرة جديرة بإعادة الفتح، تخصّ التاريخ والاجتماع والاقتصاد والسياسة والإيديولوجيا، ثمّ الثقافة والآداب والفنون أيضاً. وهنا، لا مهرب من العودة إلى المصطلح الأبرز، والأكثر إشكالية ربما، ضمن كامل مفاهيم التراث الإبداعي والتنظيري الذي دشنته تلك الثورة، وشهد مقادير متضاربة من البهاء أو الامّحاء؛ أي مصطلح "الواقعية الاشتراكية".
وعلى نقيض م هو شائع، من أنّ محاق هذه "الواقعية" صار أمراً واقعاً، على أرض واقع النتاجات الإبداعية ذاتها، وبالنظر إلى انحسار ــ والبعض لا يتردد في الحديث عن اندحار، ليس أقلّ ـ مفهوم "الاشتراكية" ذاته؛ فإنّ السجال حول مآلات هذه "المدرسة" ما يزال حيّاً، وحيوياً، ومفاجئاً في ما يتخذه من أَوْجُهٍ متعددة. بادئ ذي بدء، لا علاقة مباشرة بين هذه الحال، في ميادين الآداب والفنون والنظرية النقدية؛ وحال الماركسية، الكلاسيكية أو تياراتها اللاحقة المختلفة، بما في ذلك "الماركسية السوفياتية" حسب تعبير المفكر السوري الراحل الياس مرقص.
لافت أكثر أنّ غالبية السجالات الراهنة حول "الواقعية الاشتراكية" ليست امتداداً، وليس مباشرة هنا أيضاً، لأيّ صخب سجالي حول فلسفات معاصرة مثل التفكيكية أو التاريخانية الجديدة أو ما بعد الحداثة أو ما بعد البنيوية. كأنّ أولئك الذين يواصلون الاشتغال على المصطلح يبدأون من مسلّمة مشتركة، أو من إجماع مبدئي متفق عليه، مفاده أنّ تلك "الواقعية" تنتمي إلى طراز تاريخي من علم الجمال الحديث، أو حتى المعاصر؛ لا يصحّ، وربما لا يجوز، تشييعه إلى المدافن لمجرد أنّ الحزب السياسي الذي أطلق المصطلح قد دُفن على نحو أو آخر؛ أو لمجرد أنّ الحرب الباردة، التي أذكت الكثير من لهيب المصطلح، انطوت أو طويت.
خذوا، على سبيل الأمثلة فقط، هذه المباحث حول "الواقعية الاشتراكية"، والتي لا تحتضنها جامعات أو معاهد أو دوريات متخصصة روسية، أو أوروبية شرقية تذكّر بـ"المعسكر الاشتراكي" سالف الذكر؛ بل هي تُنشر في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية على وجه التحديد: وليام تاي، من جامعة كاليفورنيا ـ سان دييغو، يناقش العلاقة بين الواقعية الاشتراكية والحداثة؛ سيغريد هوفر، أستاذ الدراسات الألمانية وتاريخ الفنّ في جامعة ماربورغ الألمانية، يكتب عن أعمال ألبريخت دورر في ضوء "الواقعية الاشتراكية"؛ أويكان أوومويلا، من جامعة إنديانا الأمريكية، يعقد مقارنات مثيرة بين "الواقعية الاشتراكية" و"الواقعية الأفريقية"؛ جان مونتيفيوري، أستاذة آداب القرن العشرين في جامعة كنت البريطانية، تبحث الجسد المؤنث في "الواقعية الاشتراكية"؛ دافيد تومبكنز، من جامعة كارلتون الأمريكية، يرصد صعود وأفول موسيقى "الواقعية الاشتراكية"؛ ولكي لا تغيب دراسات الهولوكوست عن المشهد، يكتب غاري روزنشيلد، من جامعة وسكنسن الأمريكية، عن العلاقة بين المحرقة و"الواقعية الاشتراكية"...
الأطرف، ولكنها ليست أقلّ عمقاً ورصانة، دراسة تريستان لاندري، بعنوان "الواقعية الاشتراكية بوصفها ستراتيجية نجاة"، التي تقرأ فيها دلالات رسائل القراء حول رواية نيكولاي أوستروفسكي الشهيرة "كيف سقينا الفولاذ"، 1936. وبصرف النظر عن اختلاف الرأي حول القيمة الفنية للرواية (ترجمها إلى العربية الروائي العراقي الراحل غائب طعمة فرمان)، فإنها تظلّ واحدة من أيقونات أدب "الواقعية الاشتراكية" خلال أطوار التبشير الرسمي بالمصطلح، وفي أوج عبودية الفرد الستالينية وحملات التطهير. تنقسم الرسائل إلى مجموعتين، الأولى كُتبت وأُرسلت إلى أوستروفسكي مباشرة، والثانية توجهت إليه عبر دوريتَيْ "زناميا" و"ليتراتورنايا غازيتا"؛ وأمّا لاندري فإنه يلجأ إلى استقراء مضامينها عبر معايير متنوعة، أبرزها علاقة القراء بـ"مهندسي الروح الإنسانية" كما كان الرأي العام يصف الأدباء والفنانين ممتهني المدرسة الواقعية، ثمّ تلك الواقعية الاشتراكية استطراداً.
معايير أخرى كانت تقود إلى استشفاف أنماط استجابة القارىء السوفييتي إزاء أفعال اشتراكية إعجازية، لا تليق بها إلا استعارة سقاية الفولاذ؛ وطبائع الذائقة العامة، أو التذوّق النصّي على وجه التحديد (وفي هذا كانت "بساطة لغة" أوستروفسكي مثقالاً وازناً وحاسماً)؛ والموقف من أساليب العصر، وتيارات التعبير المختلفة (على نحو كان، أحياناً، يضع مكسيم غوركي في موقع "الكاتب الصعب"!)؛ وصولاً، بالطبع، إلى أمزجة القراء حول المدرسة ذاتها، وكم تعكس من واقعية، وأية اشتراكية تخدم... ولم يكن مدهشاً أن يتلقى أوستروفسكي رسائل من أطفال، ومن عشاق خائبين، وأناس على وشك الانتحار، ومرضى  مصابين بالسلّ الرئوي؛ يجمعهم الإحساس بأنّ الرواية تسقي عندهم فولاذ البقاء على قيد الحياة، وتعلّم اليائس أن يستردّ الأمل، ويرعى قوّة البقاء!
في جانب آخر من المسألة، ورغم محاكم التفتيش الستالينية، أنتجت "الواقعية الاشتراكية" مليارات الصفحات المطبوعة، في الشعر والسرد والمسرح والنقد؛ و"كيلومترات طويلة من الأفلام وقماش اللوحات"، كما عبّر أندريه سينيافسكي. إبداع متعدد ومعقد، ما يزال يدهشنا حتى اليوم، ليس في قيمته الفنية العالية المرشحة لقرون من الخلود، فحسب؛ بل، أيضاً، في حقيقة أنه رأى النور تحت نير عبادة الفرد والبيروقراطية والجهاز الحزبي والجمود العقائدي والضحالة والانحطاط ومختلف الإملاءات السياسية والاقتصادية.
ذلك فولاذ سُقي، حقاً، ولا احتفاء بالثورة الروسية دون تثمينه عالياً؛ ما تبقى منه في ذمة التاريخ، على أقلّ تقدير.

نزار قباني: مباغتة القطيع الشعري


"قصتي مع الشعر"، 1982، هو العمل الذي شاء نزار قباني (1923 ـ 1998) أن يدوّن بين دفتيه ما يشبه السيرة الذاتية والشعرية في آن معاً؛ حتى إذا كانت الفصول المكرسة للسنوات الأولى في حياة الشاعر (الولادة والأسرة والطفولة والدار الدمشقية والمدرسة الأولى...)، أقلّ في الحجم والتفاصيل من الفصول اللاحقة المكرّسة لمسارات التجربة الشعرية. ومؤخراً، صدرت ترجمة للكتاب إلى الإنكليزية، أنجزها جورج نيكولاس الحاج، الذي سبق له أن ترجم "يوميات امرأة لامبالية"، ونصوصاً من ابن الفارض وأمين الريحاني وبدر شاكر السياب وخليل حاوي، فضلاً عن دراسات حول العصر العباسي وجبران خليل جبران ومي زيادة وغادة السمان.
وفي "قصتي مع الشعر" يعثر قارئ قباني، ثمّ دارسه من باب أَولى، على آراء بالغة الثراء حول الشعر بصفة عامة، ومشهد الشعر السوري خلال أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي خصوصاً؛ إلى جانب دور قباني الشخصي في مواكبة التجارب الكبرى لتلك العقود، أو الانشقاق عنها في ميادين كثيرة. على سبيل المثال، ثمة هذا التصريح: "إني أدين لخليل مردم بك بهذا المخزون الشعري الراقي الذي تركه على طبقات عقلي الباطن. وإذا كان الذوق الشعري عجينة تتشكل بما نراه، نسمعه، ونقرأه في طفولتنا، فإن خليل مردم كان له الفضل العظيم في زرع وردة الشعر تحت جلدي، وفي تهيئة الخمائر التي كوّنت خلاياي وأنسجتي الشعرية". أو هذا: "كنت أرفض أن أكون نسخة بالكاربون لأي شاعر آخر. ففي العالم متنبي واحد، ووردثوورث واحد، وفاليري واحد، وبابلو نيرودا واحد... وكل نسخة أخرى تظهر في السوق لهؤلاء المبدعين، هي نسخة مزورة".
و"قصتي مع الشعر" يتوّج سلسلة تنظيرات قباني حول مفهوم الشعر، والسمات التي اعتقد أنها تمثّل هذا الفنّ. سمة أولى هي أنّ الشعر "مخطّط ثوري"، من نوع يرسمه وينفّذه إنسان "غاضب"، بهدف "تغيير صورة الكون". ولقد ذهب الحماس بالراحل إلى درجة القول: "لا قيمة لشعرٍ لا يُحدث ارتجاجاً في قشرة الكرة الأرضية، ولا يحدث شرخاً في خريطة الدنيا، وخريطة الإنسان"! سمة ثانية ترى أنّ "الخروج على القانون هو قَدَر القصيدة الجيدة"، وما دام هذا أشبه بالشرط الشارط، فإنّ قباني يستمدّ منه حكم القيمة التالي: "ليس ثمة قصيدة ذات مستوى، لا تتناقض مع عصرها، ولا تتصادم معه". ولقد جهد الراحل، والحقّ يُقال، لكي تتصادم قصيدته مع عصره، وكان له ذلك على مستويات عديدة؛ وإنْ كان قد تصالح مع أعراف عصره، في مستويات عديدة أخرى أيضاً.
كذلك فإنّ كلّ قصيدة، وأيّاً كان الشاعر والعصر، هي "محاولة لإعادة هندسة النفس الإنسانية"، و"إعادة صياغة العالم". وهذه السمة الرابعة تعكس تشخيصاً متقدّماً للموقف الحداثي من ملفّات النفس الإنسانية، وملفّات العالم أيضاً؛ الأمر الذي لم ينسحب بالضرورة على التوجيه الداخلي، الشعوري والحدسي والحلمي، للقصيدة القبّانية ذاتها. وباستثناء الانزياحات الرعوية هنا وهناك في قصائده، حين يبدو أقرب ما يكون إلي سعيد عقل (الذي يقرّ بفضله، مراراً)؛ لا تنفتح ملفّات النفس الإنسانية في قصيدة قباني إلا عبر استبصارات حواسّية محضة، مرهفة تارة وعجلى طوراً، "تشمّ" و"تسمع" و"تتذوّق" النفس، أكثر مما تتأمّل فيها وعَبْرها.
السمة الرابعة ترى أنّ الشعر رقص باللغة، ولهذا فالقصيدة تُحدث "عشرات الانفجارات الصغيرة داخل اللغة، فتنكسر العلاقات المنطقية بين الكلمات، ويتغيّر مفهومها القاموسيّ، والاصطلاحي". وحسب الاستعارة التي يستخدمها قباني في وصف تلك الانفجارات والانكسارات، تصبح مفردات القصيدة "مضيئة كأرقام ساعات فوسفورية". وبالفعل، أليست هكذا حال المفردات في هذه الرباعيات الفاتنة: "للمآزرْ/ حينما تنشال بَحّهْ/ إنّ للمخمل صيحهْ/ في الخواصرْ/ واختفينا/ أنتِ.. في قرميد نجمهْ/ وأنا.. في قطن غيمهْ/ ما علينا؟/ لو رقصنا/ ليلنا.. حتى التلاشي/ وحُملنا/ كجنازات الفراشِ"؟ سمة خامسة تصف الشعر بـ"ابن الطفولة الجميل، والمشاغب، والشيطان، والأزعر". والحال أنّ قباني بدأ هذا الطفل بالذات حين أصدر مجموعاته الأربع الأولى، قبل أن تهدأ ثائرته قليلاً في "قصائد"، 1956؛ و"حبيبتي"، 1961؛ فيلتفت إلى السياسة، وإلى تجديد عماراته الإيقاعية، وارتقاء درجة أعلى في تناوله لموضوعة المرأة.
أخيراً، وليس آخر السمات في الواقع، أنّ الشعر "اغتصاب العالم بالكلمات". هكذا كان المتنبي وأبو نواس وعروة بن الورد وديك الجنّ الحمصي، وكذلك كان رامبو وفيرلين ولوركا وبابلو نيرودا. وفي التقيّد بدالّة مبشرة أولى هي "الاغتصاب"، ودالّة ثانية غير مباشرة هي طرائق ذلك الاغتصاب كما سجّلها التاريخ الأدبي للشعراء الذين يذكرهم قبّاني، وللخصائص المشتركة بينهم؛ في وسع المرء أن يخلص إلى أنّ فكرة مباغتة العالم في أوج أمانه اللغوي والدلالي والبلاغي، هي التي كانت "المعيار" الذي لازم ذهن قبّاني منذ قصائده الأولى.
ذلك لأنه خرج عن القطيع الشعري الضيّق (الشعراء والتقاليد الشعرية والمملكة الأوتوقراطية) إلى فضاء "العامّة" المفتوح، "حيث اللفظة نديّة مغسولة بالماء، وحيث الكتابة الشعرية جمهورية"؛ فكان كمن يباغت العالم القديم بعالم طارئ، لم يكن جديداً تماماً بالضرورة، ولكنه أفلح في اختراق المشهد على نحو عميق جارف، ولهذا فقد تكفّل باجتثاث الكثير من طبائع غريزة القطيع... الشعري!
29/10/2017

سركون بولص: عقد على الغياب


في فصلية "شعر"، العدد 29 ــ 30، السنة الثامنة، نيسان (أبريل) 1964؛ كان الشاعر العراقي الراحل سركون بولص (1944 ــ 2007)، الذي مرّت يوم أمس الذكرى العاشرة لرحيله، قد نشر أولى قصائده في الدورية التي مثّلت تيارات قصيدة النثر العربية. كان بولص قد وصل إلى بيروت، قادماً من كركوك، عبر طرق ملتوية ودونما أوراق شخصية أو وثائق دخول شرعية؛ لكنّ احتفاء مجموعة "شعر" بهذا الشاعر العراقي الشاب كان مشهوداً، في المقابل، فأخذ يرتاد مجالسهم، وكتب مقالات في صحيفة "النهار"؛ قبل أن يغادر إلى الولايات المتحدة، ويقيم في سان فرنسيسكو.
تلك القصائد الستّ، الأولى، شغلت الصفحات 9 ــ 24 من المجلة، والقصيدة السادسة كانت طويلة، بعنوان "قصائد للصيف"، وتألفت من سبع قصائد فرعية. المفاجئ ــ ضمن قراءة راهنة، ارتجاعية وإجمالية تُدرج المآلات الحداثية التي ستطبع مسيرة بولص ــ أنّ النصوص لم تكن قصائد نثر، بل اعتمدت شكل "الشعر الحرّ" الموزون، حسب اصطلاح تلك الأيام، بتفاعيل متغايرة بين قصيدة وأخرى، واستخدام مكثف للقافية أيضاً. على سبيل المثال، يسير مطلع القصيدة الأولى، "إلى المسيح، سطور في الرمال"، هكذا: "آخذُ منه يديه وأعطيه صمت الحياة الطويله/ أقول له أيها الشبح الضائعُ/ أقول له أيها الضائعُ/ أجيء إليك بثوب المنافي، أجيء وأفتح كفّي الهزيله/ وأعطيك صمت الحياة الطويله".
صحيح أنّ "شعر"، منذ أعدادها الأولى وحتى توقيفها، واظبت على نشر قصيدة التفعيلة (لأمثال بدر شاكر السياب، نازك الملائكة، نزار قباني، فدوى طوقان، بلند الحيدري، سلمى الخضراء الجيوسي، سعدي يوسف، أدونيس...)؛ كما نشرت قصائد عمودية (بدوي الجبل، بين أبرز الأمثلة)؛ إلى جانب قصيدة النثر (يوسف الخال، أنسي الحاج، ألبير أديب، ثريا ملحس، صلاح ستيتية، أدونيس...). ولكنّ قبول قصيدة تفعيلة من شاعر شاب لا يتجاوز العشرين، مغمور تماماً في ذلك الطور من حياته الشعرية، كان تفصيلاً له دلالاته الخاصة؛ بصدد سياسة "شعر" تجاه تعايش الأشكال الشعرية المختلفة أوّلاً، ولكن أيضاً بصدد حسن وفادة الأصوات الشعرية الشابة والوليدة، إذْ يُفهم من تبيان المكان أسفل القصيدة (كركوك ــ العراق) أنها قد تكون وصلت إلى المجلة بالبريد.
بيد أنّ الدلالة الأهمّ، حول الملامح الأبكر في شخصية بولص الشاعر الشاب، كانت في يقيني مسعاه الحثيث لردم، أو بالأحرى هدم، الهوّة الكاذبة بين "الشعر الحرّ" و"قصيدة النثر"، أي بين الشعر وأشباهه في عبارة أخرى. ذاك، إذن، دأب عتيق وعنيد قاد بولص إلى البحث عن عشرات الحلول الفنية الكفيلة باستيلاد عمارات إيقاعية رفيعة، متغايرة على نحو مَرِن، وعن طريق استغلال عشرات الديناميات الناجمة عن تطويع العناصر الطباعية والصرفية والصوتية والشعورية. وهذه، وسواها، خيارات وتقنيات ومهارات ينبغي أن يجترحها الشاعر ــ عن سابق قصد وتصميم، كما أرى ــ إذا لم تكن القصيدة ذاتها هي التي تستحثّ عليها، في المستوى التمهيدي من انكباب الشاعر على كتابة نص شعري جديد.
ولستُ أرتاب في أنّ بولص أدرك جيداً ــ ومبكراً، قبل أن يتسلّح بعدّة نظرية عميقة تسعف خياراته الكتابية ــ أنّ القصيدة الجيدة هي تلك التي تستحثّ الشعر وحده، وليس أيّ جنس أدبي سواه، بصرف النظر تماماً عمّا إذا كانت تعتمد أيّ وزن أو تتحرّر من أيّ وزن. ولهذا فإن تلك القصيدة الجيّدة، إياها، لا يمكن أن تكون متحرّرة من نظام إيقاعي ما، أو من ذلك النظام الإيقاعي المحدد الذي اختطه الشاعر هنا في هذه القصيدة، وقد يختطّ سواه في قصائد جيدة أخرى. ما من شعر عظيم دونما عمارة إيقاعية رفيعة تحمل قسطاً وافراً من أعباء الإعراب عن عظمة النصّ الشعري، وما من شاعر جيّد يعطي نفسه حقّ نبذ هذه الأعراف الإيقاعية أو تلك؛ لا لشيء إلا لكي يتحرر من واجب اجتراح واقتراح عماراته الإيقاعية الخاصة، ربما لكي ينبذ كلّ إيقاع!
وبعد 37 سنة أعقبت قصائد "شعر"، نشر بولص في فصلية "الكرمل"، العدد 69، تشرين الأول (أكتوبر) 2001، مجموعة قصائد جديدة، تختلط فيها التفعيلة بقصيدة النثر. كتب، مثلاً: "شمسٌ على هذا/ المشمّع فوق مائدتي:/ نهارٌ لا يضاهيه نهارْ. كوجه الله/ تبقى تحت عينيّ انعكاستُها. وتخرقني/ إلى قاعي كرمحٍ/ إنها شمسي/ وملأى غرفتي، بيتي، كقارب رَعْ/ تسافر في المتاهة/ بالهدايا". كما كتب، في قصيدة نثر: "ربما هي الريح يا سيدي لي دونغ/ جاءت لتسرد علينا مرة أخرى، قصة الطوفان/ قبيلتي تعرفها جيداً، جيلاً بعد جيل/ تعرف مَنْ سيّدُها ومن راويها. تعرف/ أنّ أبطالها أطيافُ طواحين/ حاربها دون كيخوته بضراوة ذات يوم/ اليوم تكفي سعلة طفل خلف جدران الحصار لتنهار/ قبيلتي: هذه الصفحة. هذا القلم. هذا الجدار".
وهكذا فإنّ شعر بولص يعلّمنا نفي الحاجة إلى السؤال، في الشعر العظيم، عن الوزن واللاوزن، الإيقاع المسموع أو الإيقاع الداخلي... وبمثل شعره نفلح في التفريق بين قراءة للشعر تبدأ من معطيات القصيدة ذاتها، وقراءة أخرى تبدأ مما ليس في القصيدة؛ أي، ببساطة، بين الشعر وشبيهه!
22/10/2017