وعزّ الشرق أوّله دمشق

الثلاثاء، 16 يناير 2018

رؤيا محمد خضير الخضراء

"ما يمسك وما لا يمسك: إنشاءات سِيَرية"، منشورات المتوسط، 2017؛ هو الكتاب الرابع غير القصصي للقاصّ العراقي الكبير محمد خضيّر؛ بعد "الحكاية الجديدة"، 1995؛ و"حدائق الوجوه: أقنعة وحكايات"، 2008؛ و"السرد والكتاب: السيرة الذاتية للكتابة"، 2010. وعلى امتداد 33 فصلاً، وشذرات وجيزة هنا وهناك داخل بعض الفصول، يتابع خضير تأملاته في معنى ومستويات "الرؤيا"؛ تلك المفردة التي يحلو له استخدامها على أكثر من وجه، ملموسة مرئية تارة، وغائمة خافية طوراً؛ مسرفاً مرّة في إدراجها ضمن مشروعه السردي الزاخر المتغاير، ودافعاً بها مرّة أخرى إلى عوالم مستقلة عابرة للنوع ومنفتحة على تجارب شتى، ذاتية أو تخصّ سواه.
ليس ثمة سيرة بأيّ معنى تقليدي لرواية التاريخ الشخصي، رغم توفّر عناصر سيرية عديدة، ذات صلة بالمكان والزمان والأمّ والأب والصحبة وأطوار الكتابة وتطوراتها؛ ورغم أنّ حسّ "الإنشاء"، من حول وقائع السيرة، هو الذي يتولى زمام الإيحاء بانسياب المرويات نحو مآلات عرض هذا الطور أو ذاك، في النصّ كما في الحياة، وفي المجاز المنسرح كما في الأحدوثة الصلبة. حتى الفصل الثاني، الذي يسميه "الرؤيا الخضراء" ويعتبره سيرة حياته، فإنه لم يتعدّ ألف كلمة، يعرّفها خضير هكذا: "تصورت حياتي وحياة نصوصي مقاطعَ من رؤيا مشتركة مع سكان بلادي، عمالها وفلاحيها وكسبتها ومثقفيها، مزارعها ومصانعها وأسواقها ومدارسها، وكانت هذه المقاطع تنبثق في صيغة رؤيا، لا أمسك إلا بجزء منها (...) لستُ إذن إلا جزءاً من هذه الرؤيا، مَقطعاً منها، وُلد ونشأ وتعلّم وكتب وقرأ إلى جانب النهر والنخيل".
وكما في كلّ توغّل له في بواطن فنّ السرد، في إطاره المفهومي والفلسفي التأملي، قبل تطبيقاته المختلفة في القصة القصيرة والرواية؛ يجنح خضير إلى رياضة أثيرة لديه، وبهيجة تماماً لدى قارئ مثلي؛ هي استثارة الوشائج القائمة بين القصّ والفنون الأخرى، التشكيلية بصفة خاصة، فيتحدّث باستفاضة عن "المطابقة البصرية" و"السرد التشكيلي"، و"التشكيل السردي"، والاستعاضة عن "لغة الوصف الشيئي" بـ"لغة التوليف البصري"، أو "المونتاج". إنه يحتفي برسوم وشخوص "باقية على سطح اللوحات، وفي زوايا الكتب" و"يتتبع آثارها في خرائب الذاكرة وأطلال الوجدان". يبدأ بملاحظات سيزان عن تفاحاته، فتنقله هذه إلى رواية فؤاد التكرلي "الوجه الآخر" حيث الحصان المحتضر؛ وإذْ يقارنها بلوحة فائق حسن، فلكي يسارع إلى الرسام الأمريكي أندرو وايث في "عالم كريستينا"؛ ومن جيكور بدر شاكر السياب، إلى حانة سركون بولص، ليس دون استرجاع غراب إدغار ألن بو، أو حيرة محمود البريكان أمام أسطوانات سترافنسكي...
مدهش، إلى هذا وذاك، أنّ خضيّر لا يتردد في الإصرار على الانتماء إلى الواقعية، الأمر الذي يعني أيضاً منح مخيّلته "حقّ أن تذهب إلى الحافة الخطرة للواقعية"، وإثقالها بواجبات وأعباء ذلك الحقّ. ولعلّ التجسيد الأمثل لتلك "الحافة الخطرة" هو عمل خضيّر الأشهر "بصرياثا ــ صورة مدينة"، 1993، الذي أعاد تمثيل مدينة البصرة ضمن رؤى استبصارية وتمثيلات حُلمية ومجازات أسطورية استثنائية حقاً، تعيد تذكيرنا ببهجة استحضار الوشائج بين الفنون. ثمة تخييل حرّ، ولكنه يغرف من الواقع والتاريخ والخرافة السائرة على الألسن، كما يعتمد على التسجيل الوثائقي؛ وثمة لغة شعرية عالية، تساهم في بسط أو تكثيف مشهد روائي، تماماً كما تفلح في تجزئة بعض عناصره بهدف صناعة مشهد يوحي بالقصة القصيرة؛ وثمة تقطيع سينمائي، وحصر للحركة في إطارات مسرحية، وتنفيذ بارع لصيغة الرواية داخل الرواية.
وفي رسم المدينة على هيئة صُوَر، يستعيد خضيّر سدوم وعمورة (في باب الانحراف)، وروما (في باب الجبروت)، وطروادة وقرطاجة (في باب الخراب). وهو لا يكفّ عن تقديم الصورة المزدوجة المتواصلة، الناجمة عن المزج بين المدينة الفعلية والمدينة الأسطورية، منطلقاً من مسلّمة مدهشة مفادها أنّ المدينة الحقيقية لا يمكن أن تكون أسطورة في حدّ ذاتها، وإن كانت تستحوذ على عناصر الأسطورة. وأمّا ردّ فعل المخيّلة البشرية على مدينة كونية فعلية ومجازية مثل بصرياثا فهو يتمثّل في أنّ الفنّان لا يحاكي ما يراه في المدينة، ولكنه يجعل ما يراه وسيطاً حوارياً مع طراز من التركيب المجازي قائم في ذهنه.
وفي محاضرة تعود إلى سنة 1987، نُشرت بعدئذ تحت عنوان "ذاكرة العطار"، طالب خضيّر مستمعيه بأن يتأملوا سلسلة مشاهد راكدة: طريق ترابية بين حائطين طينيين يتلويان في أعماق بستان نخيل، جدول ضيّق تزاحم الأعشاب مجراه وتغمره الظلال، جذع شجرة معمّر رُبطت إليه القوارب مراراً فتركت في لحائها جروحاً غائرة، طبل يُقرع طوال الليل في زاوية مجهولة بالمدينة، دكان عطّار مزدحم بالعلب المغبرّة... وعلّق خضيّر على هذه السلسلة: "أضيفوا ما شئتم من مشاهد، أما أنا فقد عثرت على بغيتي في المشهد الأخير لأنه ملائم لوصف الفنّ الصغير القصير. فلا أكبر من دكان عطّار هي ذاكرة القصاص وقد اختلطت فيها روائح الأعشاب والبذور والزيوت".
ولا عجب أن يعلن: "وقعت أسيراً في قبضة الرؤيا الخضراء التي ستشيعني موسيقاها الجنائزية حتى القبر، وتخصّب عظامي بدورها"!
 13/1/2018

إعادة إنتاج السيسي: حفظ النوع في المؤسسة العسكرية

ثمة العديد من الخلاصات التي يُتاح استنتاجها اعتماداً على سلسلة التسريبات الصوتية الأخيرة، بين الضابط في المخابرات الحربية المصرية وعدد من الإعلاميين والفنانات؛ بصدد مسائل متفرقة، تبدأ من تجميل قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب حول القدس، وتمرّ بترهيب الشارع الشعبي المصري من مصير مماثل لواقع اليمن وسوريا، ولا تنتهي عند تأثيم دول أو شعوب بأسرها (كما في التعريض بـ"الخلايجة" مثلاً). وأمّا القاسم المشترك الأعظم، الذي يجمع بين هذه التسريبات على نحو مباشر أو ضمني صريح الصلة، فهو تلميع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، مع دنوّ موعد الانتخابات الرئاسية، أواخر آذار (مارس) المقبل؛ وترويع منافسيه قياساً على نموذج الفريق المتقاعد أحمد شفيق، الذي لم يتأخر بالفعل، فأعلن عدوله عن الترشيح بعد أن كان جزم بهذا في خطاب متلفز.
لعلّ أطرف الخلاصات، بادئ ذي بدء، هي أنّ الضابط في المخابرات الحربية اختار الرجال في صفّ الإعلاميين ومقدّمي برامج الـ"توك شو"؛ واختار النساء حصرياً، في صفّ فنانات السينما والدراما. وإذا كان هذا الخيار محض "ذائقة" شخصية، ذكورية على نحو ما، ترجّح سطوة الرجل في ميدان، مقابل سطوة المرأة في ميدان آخر؛ فإنّ من الجائز الافتراض، أيضاً، بأنّ الضابط يمثّل صوت سيّده كذلك، وأنّ جهاز المخابرات الحربية قد يقدّر في المرأة طاقة حشد وتحريض مختلفة عن تلك التي يقدّرها في الرجل! صحيح أنّ الاستعداد للتعاون متساو في نظر ضابط المخابرات بين الإعلاميين الرجال والفنانات النساء، إلا أنّ تكليف الرجال بدا أكثر ابتذالاً من تكليف النساء، الأمر الذي يشير إلى جانب آخر في الطرافة: نظرة الجهاز إلى فارق فاعلية التأثير على الجماهير، بين برنامج ثرثرة سياسية ومسلسل تلفزيوني!
بعيداً عن الطرافة، وفي مسألة أكثر حساسية ودلالة، ثمة تلك الخلاصة التي تؤشر على طبيعة التنافس بين جهاز المخابرات الحربية، وجهاز المخابرات العامة؛ من وحي الشتائم المقذعة التي استخدمها ضابط المخابرات الحربية في وصف بعض ضباط المخابرات العامة، أثناء واحد من تسجيلاته المسربة. ومن حيث المبدأ، لا يتوجب أن يكون لائقاً بضابط يشتم زملاءه في جهاز استخبارات آخر حين يتحدث إلى إعلامي، حتى إذا كان الأخير عميلاً رخيصاً؛ أو بالأحرى: لا يستقيم الشتم أمام هذا الطراز من العملاء، تحديداً. واضح، استطراداً، أنّ التنافس بين الجهازين ليس أمراً عارضاً، رغم أنه قد لا يرقى إلى مستوى التصارع. ففي نهاية المطاف، ورغم أنّ الجهاز الأوّل هيئة مستقلة، والثاني يتبع وزارة الدفاع؛ فإنّ الجهازَين يتبعان رئاسة الجمهورية، بحكم القانون والواقع الفعلي.
ومع احتساب إمكانية، محدودة وضيقة أغلب الظنّ، للتنافر الشخصي بين اللواء خالد فوزي رئيس المخابرات العامة، واللواء محمد فرج الشحات مدير المخابرات الحربية؛ فإنّ شتائم ضابط الجهاز الأخير بحقّ زملائه في الجهاز الأوّل يمكن أن تشير إلى توازن عالق بين الجهازين، قديم العهد في الواقع، لكنه تجدد بقوّة خلال انتفاضة ميدان التحرير، 2011، وما أعقبها من تحولات سياسية وعسكرية وأمنية عاصفة. وفي أنظمة استبداد من الطراز الذي يقوده السيسي في مصر المعاصرة، ثمة مركز أعلى أوّل ومهيمن، يتملكه نزوع طاغٍ إلى تطويع قطاعات الدولة المختلفة، الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والإعلامية والثقافية؛ لا تُستثنى منه أجهزة الهيمنة الأخرى الأقلّ شأناً، أو الأكثر قدرة على المنافسة. 
وهكذا، عشية إسقاط حسني مبارك، كان عمر سليمان قد تولى رئاسة المخابرات العامة طيلة 18 سنة، فنقل الجهاز إلى مستويات عالية من النفوذ والتحكم والسيطرة داخل مصر، فضلاً عن أداء مهامّ سياسية محورية في الخارج لم تكن معهودة في عمل الجهاز من قبل، رغم تعاقب شخصيات هامة في رئاسته، أمثال زكريا محي الدين وعلي صبري وصلاح نصر. وظلّ الجهاز هو المرجعية لأجهزة البطش الكبرى التابعة لوزارة الداخلية، أي الأمن المركزي ومباحث أمن الدولة وجهاز الشرطة، رغم النفوذ الكبير الذي تمتع به وزراء داخلية مقرّبون من مبارك، وكان آخرهم حبيب العادلي على سبيل المثال. لكنّ انهيار الجهاز، مترافقاً مع انهيار إمبراطورية العادلي القمعية، خلال الأيام التي سبقت تنحي مبارك؛ رجّح الكفة لصالح المخابرات الحربية، خاصة حين انتشرت وحدات الجيش في العاصمة، على نحو كثيف لم يسبق له مثيل من حيث العدد والسلاح منذ توقيع اتفاقية كامب دافيد، في عهد أنور السادات.
بدت المفارقة صارخة في الواقع، إذْ أنّ أعداد أجهزة وزارة الداخلية كانت تقارب المليون عنصر، بين أمن ومباحث وشرطة؛ في مقابل 470 ألف جندي، هي كامل عديد الجيش المصري. لكنّ هذه المفارقة كانت تعكس وجهة أخرى للتوازن العالق بين الجيش/ المخابرات الحربية، والداخلية/ المخابرات العامة، ضمن مبدأ ناظم أوّل وتكويني على نحو ما، هو أنّ المؤسسة العسكرية هي التي هيمنت على موقع رئاسة الجمهورية منذ حركة "الضباط الأحرار"، صيف 1952: محمد نجيب، جمال عبد الناصر، أنور السادات، حسني مبارك، حسين طنطاوي، وعبد الفتاح السيسي. لذلك فإنّ محمد مرسي، الرئيس الوحيد الذي انتُخب ديمقراطياً، كان استثناء القاعدة؛ هذه التي توجّب العودة إلى الالتزام بها عبر انقلاب السيسي العسكري في تموز (يوليو) 2013.
وليس تفصيلاً عابراً أنّ منافسي السيسي في الأشهر القليلة التي أعقبت انقلابه كانوا على رأس مناصب عسكرية عالية، أو تقاعدوا عنها، وبالتالي كانوا أبناء المؤسسة العسكرية ذاتها التي تستولد رؤساء الجمهورية في مصر. هذه، في المثال الأبرز، حال الفريق سامي عنان، رئيس أركان الجيش المصري بين 2005 و2012، والشخصية التي بدت الأقرب إلى تولّي إرث المؤسسة العسكرية بعد انتخاب مرسي؛ الأمر الذي يفسّر لجوء الأخير إلى إقالته، خشية أن يترأس انقلاباً عسكرياً. ومن سخرية الأقدار أنّ مرسي اختار "تفكيك" المؤسسة العسكرية عن طريق استبعاد عنان، ومجموعة المشير طنطاوي، مقابل ترقية ضابط مغمور، "إسلامي الهوى" كما لاح، يدعى... عبد الفتاح السيسي!
هذه، أيضاً، كانت حال الفريق المتقاعد أحمد شفيق، قبل أن يعدل عن الترشيح للانتخابات المقبلة، تحت تهديد التلويح باقتياده إلى المحاكم وفتح ملفات فساد جديدة. ولم يكن تفصيلاً غريباً أن يعطي ضابط التسريبات الصوتية توجيهات بعدم مهاجمة شفيق في المرحلة الراهنة، وقبل أن يعلن عزمه على الترشيح؛ لا لأيّ اعتبار آخر يسبق كونه ابن المؤسسة العسكرية، ولا تجوز إهانته من هذا المنطلق، إلا إذا اختار السباحة عكس التيار الذي تحركه المؤسسة العسكرية. وكما بادر عنان مراراً إلى انتقاد السلطة، رغم عدم تسمية السيسي شخصياً (كما في تصريحه حول سدّ النهضة، والقول بأن "فشل" الحكومة في إدارة الملف "يصل إلى حدّ الخطيئة")؛ كذلك فإنّ شفيق، في بيانه المتلفز من قناة "الجزيرة" قبل أسابيع قليلة، قال بوضوح: "أؤمن إيماناً كاملاً وقوياً بأنّ أي نجاح مأمول صغر أم كبر لن يتحقق في بلادنا ما لم نحظ بنظام للحكم مدني وديمقراطي نموذجي ومستقر قابل للمراجعة والنقد”.
ذلك كله سلوك حمّال دلالات، بالطبع، لكنه على تبايناته ينتهي إلى خلاصة كبرى مركزية مفادها أنّ المؤسسة العسكرية في مصر ما تزال ملتزمة بمبدأ حفظ النوع العسكري، وإعادة إنتاج القاعدة القديمة التي تفترض استئثارها بموقع رئاسة الجمهورية. والسيسي، اليوم، هو رأس المؤسسة ومرشحها، حتى تقضي مخابر الحفظ أمراً سواه، كان أيضاً مفعولا!
 11/1/2018

ماركس بعد 200 سنة

تسجّل سنة 2018 استعادات هامة لولادة أو رحيل عدد من الشخصيات التي ما تزال فاعلة في عصرنا، في ميادين شتى. هنالك، من باب الأمثلة فقط، 200 سنة على ولادة الروائية البريطانية إميلي برونتي، والروائي الروسي إيفان تورغنيف؛ وهناك 100 سنة على ولادة والزعيم الأفريقي نلسون مانديلا، والزعيم المصري جمال عبد الناصر، والمخرج السينمائي السويدي إنغمار بيرغمان، والمغني المصري الشيخ إمام، والروائي السوري عبد السلام العجيلي، والمترجم والموسوعي اللبناني منير البعلبكي...
وهناك، بالطبع، 200 سنة على ولادة الفيلسوف الألماني كارل ماركس (ترير، 5 أيار/ مايو 1818 ـ لندن، 14 آذار/ مارس 1883)؛ صاحب صوى فكرية وفلسفية واقتصادية كبرى مثل "رأس المال"، "نقد فلسفة الحقّ عند هيغل"، "حول المسألة اليهودية"، "العائلة المقدسة"، "الإيديولوجيا الألمانية"، "بؤس الفلسفة"، "الصراع الطبقي في فرنسا"، "18 برومير لوي نابليون"، و"البيان الشيوعي"، بالتعاون مع فردريك إنغلز. وبالطبع، إلى ماركس تُنسب الفلسفة الماركسية، التي كانت وتظلّ واحدة من أعمق فلسفات الأحقاب الحديثة؛ والأكثر مطواعية للتطوير والتعميق؛ وبعض التشويه والتزييف والتجميد أيضاً، في السياسة والاقتصاد والعقيدة بصفة خاصة.
وللمرء أن يبدأ من استذكار بعض أقوال ماركس، التي صارت مأثورة حقاً عند أنصاره ومناهضيه على حدّ سواء؛ مثل "التاريخ يكرر نفسه، في صورة مأساة أوّلاً، ومهزلة ثانياً"؛ أو: "لا شيء يمكن أن يكتسب قيمة دون أن يكون موضوع فائدة"؛ أو: "يمكن قياس التقدم الاجتماعي عن طريق الموقع الاجتماعي للجنس المؤنث"؛ أو: "الدين تنهيدة المخلوق المعذب، وقلب عالم لا قلب له، وروح شروط لا روح فيها. إنه أفيون الشعب"؛ أو: "الفنّ هو، دائماً، اعترف سرّي، وفي الآن ذاته بمثابة حركة أبدية لزمانه"؛ أو: "الثورات قاطرات التاريخ"؛ أو: "أفكار الطبقة الحاكمة هي الأفكار الحاكمة في كلّ حقبة، أي أنّ الطبقة التي تشكل قوّة المجتمع المادية هي في الآن ذاته قوّته الفكرية الحاكمة"؛ أو: "حتى الآن قام الفلاسفة بتأويل العالم فقط، والمطلوب تغييره".
وحين انهار المعسكر الاشتراكي، كان طبيعياً أن ترتفع عقيرة يمينية هنا وأخرى ليبرالية هناك تقول بسقوط الماركسية مع انهيار المعسكر الذي كان يرفع رايتها، أو عند تهديم جدار برلين تحديداً. كان هذا الافتراض قياساً ميكانيكياً، لم يصمد طويلاً أمام سلسلة الاختبارات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، أو حتى تلك الثقافية، التي شهدها العالم بعدئذ؛ في قلب "المعسكر الرأسمالي" إياه، أوّلاً. ولقد اتضح، سريعاً في الواقع، غياب الصلة المباشرة بين مصير الجمود العقائدي السوفييتي، أو "الماركسية السوفييتية" في أفضل تسمية شاملة؛ وبين الماركسية، بوصفها منهج تفكير، وأداة تحليل، وترسانة جدل.
في المقابل، وعلى العكس، اتضح أنّ الجمود العقائدي في صفّ "الماركسية الرسمية"، إذا جاز القول، كان عاملاً معيقاً لجهود عشرات الأحزاب الشيوعية والماركسية في صياغة خطّ وطني وطبقي وديمقراطي مستقلّ وأكثر استجابة للشرط الوطني المحلي، من جهة؛ وحركة التاريخ، وتطوّر المجتمعات والأفكار إجمالاً، من جهة أخرى. كذلك ساجل البعض، ليس دون صواب كبير، أن اضمحلال الجمود العقائدي الرسمي سوف يحرّر الماركسية الحقة من القيود، وسيجعلها فلسفة تحرير ومقاومة في وجه العولمة وتطورات الدولة الرأسمالية.
والمرء اليوم لا يلمس الماركسية بوضوح تامّ في فكر وتفكير شخصيات يسارية مثل المؤرخ الكبير إريك هوبسباوم أو الناقد الأدبي تيري إيغلتون أو المنظّر الإجتماعي إعجاز أحمد، أو الفيلسوف الإيطالي أنتونيو نيغري، أو حتى أعمال الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز، فحسب؛ بل يعثر على ماركس وقد بُعث حيّاً وحيوياً، في أعمال فيلسوف التفكيكية الفرنسي الأبرز جاك دريدا، وذلك في كتابه الهامّ للغاية "أطياف ماركس". إلى هذا، ليست مبالغة أبداً أن يعثر المرء على أفكار ماركس حاضرة في منهجيات علاج مأزق الرأسمالية، كما تلجأ إليها دوريات يمينية عريقة مثل أسبوعية "إيكونوميست" أو يومية فايننشيال تايمز"!
وفي حوار أجريته سنة 1995 مع المفكر والناقد الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد، حرصت على معرفة موقفه من الماركسية المعاصرة تحديداً، فسألته: أنت تمتدح كثيرا عمل ماركسيين من أمثال لوكاش وغرامشي وأدورنو ورايموند وليامز. كيف ترى الماركسية اليوم؟ وأجاب الراحل: "المسألة عندي هي نفخ الحياة في خطاب معارض هام، يقع على عاتقه اليوم واجب العثور على بدائل للوضعية الجديدة كما يمثلها أشخاص من أمثال ريشارد رورتي، وللنظرة القدرية التأملية للعالم، والتي تكتسح العديد من المثقفين هذه الأيام. "وتابع الراحل: "ثمة حاجة ماسة لإحياء الماركسية كمسألة سياسية وأكاديمية ذات صلاحية في الأزمة الراهنة التي تعصف بالتربية والبيئة والقومية والدين وسواها من المسائل. هذا تحدٌ رئيسي كما أعتقد، وهو عندي سؤال مفتوح، وأجد نفسي معنياً به على نحو جدٌي، ومشدوداً للغاية إلى النموذج الذي أرساه أشخاص مثل غرامشي ووليامز. السؤال أيضاً: أما يزال هؤلاء صالحين اليوم؟ وجوابي الحدسي هو: نعم، أكثر من ذي قبل."....
وفي الذكرى الـ200 هذه، لعلّ من الخير استعادة قول أخير مأثور، رفعه ماركس في وجه الجمود وعبادة الفرد وتكريس الأصنام: "إذا كان من أمر مؤكد، فهو أنني لست ماركسياً"!
 7.1.2018

لماذا يتخلف "إصلاحيو" إيران عن مواكبة الاحتجاج؟


"لا ريب في أنّ الشعب الإيراني يواجه صعوبات في حياته اليومية، ومن حقه أن يطالب ويحتج سلمياً. لكن الأحداث الراهنة أظهرت أنّ الانتهازيين والمشاغبين استغلوا الاحتجاجات بهدف خلق المشكلات، وتعكير الأمن، وتخريب الممتلكات العامة، بالترافق مع إهانة القِيَم المقدسة الدينية والوطنية (...) وإنّ أعداء إيران، وفي مقدمتهم الولايات المتحدة وعملائها، شجعوا مثيري الاضطرابات وأعمال العنف".
هذا النصّ لم يصدر عن مكتب المرشد الأعلى علي خامنئي، ولا عن رئاسة أركان "الحرس الثوري"، ولا حتى عن الرئيس حسن روحاني؛ بل هو فقرات من بيان أصدرته "رابطة رجال الدين المحاربين"، التي يتزعمها الرئيس الأسبق محمد خاتمي، وتضمّ في عضويتها عدداً كبيراً من أبرز رجالات الحركة "الإصلاحية" في إيران. وهذا نصّ لا يختلف، إطلاقاً، عن المنطق الذي اعتمدته السلطات الدينية والحكومية الرسمية الإيرانية؛ في أنّ من حقّ الشعب أن يحتج وينتقد، ولكن دون شغب وتخريب، ودون تحريض من أعداء إيران.
وهذا، في أول المطاف ونهايته، هو كلام الحقّ الذي لا يُراد منه إلا الباطل، وإلا تفريغ الحراك الشعبي من مضامينه العميقة وتأطيره في حدود المطالب البسيطة، أو "المصاعب" التي لا يخلو منها مجتمع؛ أو حتى "إفلاس" بعض المصارف كما في التأويل الذي اعتمده حسن نصر الله، الأمين العام لـ"حزب الله". لكنّ النصّ، من وجهة أخرى، هو البيان الأعلى فصاحة في التعبير عن تخلّف "إصلاحيي" إيران عن مواكبة تحرّك الشارع الشعبي، بل مناهضته عملياً، والاصطفاف خلف السلطة الحاكمة، الدينية والسياسية معاً.
ولعلّ هذا الاعتبار الأوّل، أي المساس بـ"القيم المقدسة"، هو الباعث الأبرز خلف عزوف "الإصلاحيين" عن تأييد التظاهرات الشعبية؛ خاصة وأنّ التعبير غائم وعامّ، ويمكن أن تُدرج في عداده أية قيمة ذات قداسة. الأرجح، من حيث المضمون الفعلي هذه المرّة، أنّ القيمة الكبرى التي يخشى "الإصلاحيون" تعريض الشارع الشعبي بها، إلى درجة المطالبة بإسقاطها، هي مبدأ ولاية الفقيه؛ الذي لم يتجاسر أي إصلاحي، بما في ذلك خاتمي نفسه، على الاقتراب منه، حتى في ذروة التناطح الشرس مع "المحافظين" الأكثر تشدداً.
والحال أنّ مواقف "الإصلاحيين" لا تخون الشارع الشعبي وحده، بل ترتكب خيانة مماثلة ضدّ تاريخ مشرّف يُنسب إلى رجال الدين أنفسهم، أمثال محمد الطباطبائي وعبد الله البهبهاني وكاظم الخراساني ومحمد حسين النائيني؛ الذين أسسوا حركة "المشروطة" وقادوا ثورة دستورية ضدّ الشاه مظفر الدين، في سنة 1905. ولم تكن مفارقة أنّ رجال دين آخرين ساندوا الشاه، واستحقوا صفة "أنصار المستبدّة"، ولم يتحرّج النائيني في تصنيفهم ضمن فريق "عَبَدة الظالمين" و"علماء السوء" و"لصوص الدين".
كان النائيني وصحبه يستلهمون جمال الدين الأفغاني وروحية "طبائع الاستبداد"، ولكن في ميدان سياسي فقهي شائك هو الإمامة الغائبة ومدى حقّ الأمّة في ولاية نفسها وتشكيل حكومة زمنية عادلة؛ بدل الركون إلى حكومة لازمنية مطلقة (ومستبدة بالضرورة، لأنها جزء من شعبة "الاستبداد الديني" حسب النائيني أيضاً). وفي أيامهم لم يكن مبدأ ولاية الفقيه قد رأى النور، إذْ ابتدعه الإمام الخميني سنة 1971، حين كان منفياً في النجف؛ وبالتالي فإنّ إقرارهم بحقّ الأمّة في ولاية زمنية، يتناقض تماماً مع صلاحيات الولي الفقيه القصوى.
ليست مفارقة، كذلك، أنّ "إصلاحياً" مثل مصطفى تاجزاده، شارك بحماس في احتجاجات 2009 وسُجن لهذا السبب طيلة سنوات؛ ينأى بنفسه اليوم عن احتجاجات 2018، ويخشى أن تحوّل إيران إلى "سوريا ثانية"! في قلب هذا المنطق ثمة اصطفاف ليس مع "استقرار" إيران تحت راية وليّ فقيه وصفه الشارع بـ"الدكتاتور"، فحسب؛ بل كذلك مع استبداد النظام السوري، ضمناً وقياساً. وهذا، بدوره، ضرب من خيانة أخلاقيات "المشروطة"، ونكران تاريخ إيران الحديث أيضاً.
 6.1.2018

الانتفاضة السورية والاحتجاجات الإيرانية: أي قواسم مشتركة؟

كانت صفات مثل "الزعران" و"الشوارعية" و"الحفيرية"، ثمّ في خيار ثالث أكثر تفذلكاً: "الدهماء"، هي بعض التسميات التي استقر عليها عدد من المثقفين السوريين في توصيف المشاركين في أولى أنشطة الانتفاضة الشعبية السورية؛ ابتداءً من تظاهرة حي الحريقة الدمشقي العريق في 17/2/2011، مروراً بالتظاهرات التي خرجت من المسجد الأموي عصر 15/3، ثم شرارة درعا في "جمعة الكرامة" التي أشعلت الاحتجاجات ونقلتها إلى سائر أرجاء البلد، وليس انتهاءً بتظاهرات ريف دمشق واللاذقية وحمص وحماة ودير الزور والقامشلي. كانت التسميات تلك تلجأ إلى التوصيف السلوكي أو الأخلاقي الغائم والتعميمي، لكي تخفي المحتوى الطبقي تارة (فقراء الهوامش، والشرائح الدنيا من الطبقة الوسطى)، أو تطمس السمة الأجيالية (غالبية ساحقة من الشباب)، أو تتعامى عن غياب النخب (بعض "مشاهير" أولئك المثقفين أنفسهم، من مبتكري التسميات، وبينهم عدد من معارضي النظام المخضرمين أو المتقاعدين).
حال شبيهة، بعض عيناتها تلوح متطابقة تماماً وعلى نحو مذهل، نشهدها اليوم في توصيف احتجاجات الشارع الشعبي الإيراني الراهنة؛ من زاوية أولى مشتركة، هي أنّ غالبية المتظاهرين تنتمي إما إلى الشرائح السفلى من الطبقة الوسطى (بالنظر إلى أنّ الشرائح العليا بقيت، إجمالاً، بعيدة عن المشاركة)، وإما إلى هوامش المدن ومراكز العمران، فضلاً عن هيمنة "أقليات" مثل الأحواز والبلوش والآذريين والبختياريين والقشقائيين والتركمان. وكما كانت التوصيفات السورية تتوخى القدح، وتسفيه الانحدار إلى هذا المستوى "الهابط" من معارضة النظام؛ فإنّ التوصيفات الإيرانية تستهدف الغرض ذاته تقريباً، أي نزع الصفة الطبقية والاجتماعية عن الاحتجاجات، وإلصاقها بنزوعات تمرّد "شارعية" وأعمال شغب وتخريب ونهب ممتلكات. هذا إذا وضع المرء جانباً حقيقة اتفاق المثقف، السوري والإيراني، معارضاً كان أم موالياً، مع السردية الأبكر التي أشاعتها السلطة؛ في أنّ جهات خارجية هي التي تغذي الاحتجاجات.
في المقابل، وكما تمتّع النظام السوري بـ"رصيد" جماهيري لدى فئات اجتماعية وطبقية ليست محدودة، لا تؤيد النظام بالضرورة، لكنها في الآن ذاته ليست متضررة من سياساته، وليست ضحية استبداده أو فساده؛ كذلك فإنّ النظام الإيراني، وهذا يشمل سياسات حكومة هذا الرئيس الإيراني أو ذاك، تمتع بأرصدة جماهيرية مماثلة، لا تمسها مباشرة آلام الغلاء والبطالة والفقر، ولا تؤذي محافظها المالية مغامرات تصدير الثورة والتورّط السياسي والعسكري والمذهبي في لبنان والعراق وسوريا واليمن. لكنها جماهير، على نقيض جماهير النظام السوري هذه المرة، استجابت للحراك الشعبي الهائل في سنة 2009، احتجاجاً على ملابسات انتخاب محمود أحمدي نجاد، وانخراطاً تحت قيادة شخصيات "إصلاحية" من طراز مهدي كروبي ومير حسين موسوي. وهي جماهير قابلة، في كلّ حين أغلب الظن، للمشاركة في تحرّك تقوده تلك الشخصيات، وقد تنضم إليه شخصيات لا تقلّ شعبية مثل الرئيس الأسبق محمد خاتمي، يستهدف إصلاح مبدأ الولي الفقيه، على نحو يحدّ، ضمناً ولكن أساساً، من السلطات القصوى التي يتمتع بها المرشد الأعلى.
لا تسعى هذه المقارنات إلى المساجلة بأنّ حراك الاحتجاجات الراهن في إيران قد انقلب لتوّه، أو يمكن أن يتطور، إلى انتفاضة شعبية على غرار ما شهدته سوريا في ربيع 2011؛ فالمعطيات مختلفة تماماً، وكذلك المشهد الاجتماعي والسياسي والديمغرافي، فضلاً عن طبيعة النظام السياسي. لكن هذه السطور تسعى، في المقابل، إلى تلمّس بعض أواليات تغييب الأبعاد الاجتماعية والطبقية، أو ترحيلها إلى عناصر تعميم إطلاقية عن سابق عمد تارة، أو عن تجاهل وتغافل تارة أخرى. من الصالح، مثلاً، أن يرى المرء بُعد الاستبداد، في معظم تجلياته، خلف الشعارات المطالبة بإسقاط "الدكتاتور" مثلاً، خلال الانتفاضة الشعبية السورية والحراك الشعبي الإيراني الراهن. المستبد الإيراني، شخص علي خامنئي هنا، ليس سليل نظام وراثي عائلي قوامه الاستبداد والفساد والنهب وشبكات الولاء وهيمنة الأجهزة والتمييز والتعبئة الطائفية، على غرار ما انتفض الشعب السوري ضده. لكنه نظام يمنح الولي الفقيه صلاحيات خرافية ترقى إلى مصافّ الاستبداد، وتُفرغ الكثير من مؤسسات الدولة وأحكام الدستور والحقوق العامة من مضامينها.
على سبيل الأمثلة، الأبرز في الواقع لأنها كثيرة ومتشعبة، للولي الفقيه أن يسمّي أعضاء مجلس المرشدين، ومجلس القضاء الأعلى، ورئاسة القيادة العليا للقوات المسلحة (بما في ذلك تعيين أو عزل رئيس الأركان، وقائد "الحرس الثوري"، وأعضاء مجلس الدفاع الأعلى، وقادة صنوف الأسلحة)، وإعلان الحرب والسلام والتعبئة. وله أن يقرّ أسماء المرشحين للانتخابات الرئاسية، وتوقيع مرسوم تسمية رئيس الجمهورية بعد الانتخابات، وإدانة الرئيس وعزله بموجب أسباب تتعلق بالمصلحة الوطنية، وإصدار مختلف أنواع العفو. وقد شهدت إيران اجتهادات عجيبة في تأويل مبدأ ولاية الفقيه، كتلك التي أصدرها أحمد أزاري ـ قمّي، واعتبر بموجبها أنّ للوليّ الفقيه سلطة إصدار "منع مؤقت" من أداء فرائض دينية مثل الحجّ، أو الأمر بهدم بيت مواطن متهم بـ"الشرك"، وإلزامه بتطليق زوجته!
ولقد قيل الكثير عن الوضع المعيشي للمواطن السوري، في نموذجه القياسي الأعرض وليس الاستثنائي، على امتداد 41 سنة من نظام "الحركة التصحيحية" وليس ساعة انتفاضة 2011 فحسب؛ وكيف انحطت طبقات اجتماعية كبرى، الوسطى منها بصفة خاصة، تحت وطأة تسلّط عائلة السلطة، آل الأسد وآل مخلوف في المقام الأوّل، واستنزافها مقدّرات الاقتصاد والثروات الوطنية والمال العام. لكنّ الانتفاضة انطلقت لاعتبارات أبعد من تلك الاجتماعية ـ الاقتصادية، بل لعلّ السياسيّ فيها لم يكن يقتصر على الحريات العامة وسيادة القانون ومساواة المواطن، بل كان يخصّ الكرامة الإنسانية في جوهر أساسي من الوجدان الجَمْعي الذي حرّك الاحتجاجات. وإذا كان هذا العنصر، الكرامة الإنسانية، ليس غائباً عن مطالب الشارع الشعبي الإيراني، اليوم، بدليل مهاجمة مقارّ الاستخبارات الإيرانية والتعريض بالصفة الدكتاتورية لشخص خامنئي؛ فإنّ المحرّك الأبرز هو الوطأة الاجتماعية لنظام مصدّر كبير للنفط، لكنه يرفع أسعار المحروقات والخبز في الداخل، وينفق المليارات على مغامرات تصدير الثورة المذهبية إلى الخارج.
يُشار، أيضاً، إلى أنّ الموقف من الانتفاضة السورية كان قد تباين لدى الأحزاب التقليدية، أي تلك التي كانت قائمة فعلاً في آذار (مارس) 2011، بين التأييد والانخراط المباشر (جميع الأحزاب المعارضة، غير الداخلة في أي تحالف أو تعاون مع السلطة)؛ والرفض الصريح، واعتناق سردية "المؤامرة الخارجية"، وتأييد النظام (وتلك كانت حال الأحزاب المنخرطة في "الجبهة الوطنية التقدمية" والمستوزرة في الحكومة، أو السائرة في أفلاك النظام على نحو أو آخر). لافت، في المقابل، أنّ التيارات الإيرانية التي تُصنّف عادة في الخانة "الإصلاحية" لم تتحمس لتظاهرات الاحتجاج الراهنة، حتى حين امتدت من الهوامش إلى المراكز؛ ولم تُسجّل أمثلة جلية على مقاربة كبار "الإصلاحيين" للحراك، سواء من حيث الانخراط فيه، أو التعليق عليه، أو حتى نقده.
صحيح، أخيراً، أنّ استبصار مآلات الحراك الشعبي الإيراني الراهن ليس بالصعوبة ذاتها التي اتسمت بها قراءات الانتفاضة الشعبية السورية، ساعة انطلاقها وعلى امتداد سنواتها السبع، واليوم أيضاً. صحيح، استطراداً، أنّ نزول "الحرس الثوري" إلى شوارع إيران يعني أنّ البطش الأقصى سوف يكون سيد اللعبة خلال الأيام أو الأسابيع القليلة المقبلة. الأصحّ، بالطبع، أنّ جذور الاحتجاج الشعبي لن تُقتلع بسهولة، بل الأرجح أنها ستضرب عميقاً في تربة خصبة كفيلة باستنبات كلّ عناصر الثورة ضدّ النظام، لأسباب لن تقتصر هذه المرّة على أسعار الخبز المحروقات، أو ولاية الفقيه.
 4/1/2018

سوريا في 2017: الطبل في سوتشي والعرس في حميميم!

في استعراض العام السوري 2017، يقتضي إنصافُ الضحايا الابتداء من المجازر المختلفة، بوصفها أعلى الويلات التي حاقت بالمواطن السوري المدني؛ الذي لا ينتمي إلى أيّ طرف مسلّح، وتُزهق روحه في البيت أو الحقل أو السوق أو المشفى أو المدرسة، ومن هنا سمة جرائم الحرب التي تطبع تلك الأهوال. فإذا وضع المرء جانباً المجازر التي ارتكبتها وحدات النظام السوري، فإنّ القوات الروسية تتحمل مسؤولية لا تقل وحشية، حيث أنّ "الشبكة السورية لحقوق الإنسان" وثّقت، بالأسماء والأمكنة والأزمنة ولغاية تشرين الثاني (نوفمبر) فقط، 325 مجزرة ارتكبها الطيران الحربي الروسي؛ أسفرت عن مقتل 5233 مدنياً، بينهم 1417 طفلاً، و868 سيدة؛ كما سجَّل التقرير ما لا يقلّ عن 707 عمليات استهداف لمراكز حيوية مدنية، منها 109 على مساجد، و143 على مراكز تربوية، و119 على منشآت طبية، أجبرت 2,3 مليون مواطن على النزوح من بيوتهم وقراهم وبلداتهم.
"التحالف الدولي" لم يكن غائباً عن هذا السجلّ الدامي. ففي مساء 16 آذار (مارس) 2017 قصف سرب من المقاتلات الأمريكية مسجد عمر بن الخطاب في قرية الجينة، ريف حلب الغربي، أثناء أداء صلاة العشاء تحديداً، فسقط 46 قتيلاً وعشرات الجرحى من المدنيين. وقد استخدمت الطائرات صواريخ فراغية وقنابل عنقودية محرّمة دولياً، تفسّر هذا العدد من الضحايا، والدمار الهائل الذي لحق بالمسجد. وفي شهر تموز (يوليو) تفوّق "التحالف" على النظام السوري والقوات الروسية في ارتكاب المجازر، إذْ نفّذ 14 مجزرة، في محافظات الرقة ودير الزور والحسكة؛ مقابل 10 مجازر للنظام، و3 لروسيا. وبين أيلول (سبتمبر) 2014، بدء تدخله في سوريا، والشهر ذاته من العام 2017؛ أودت عمليات "التحالف" بحياة 2286 مدنياً، حسب "الشبكة السورية لحقوق الإنسان"، بينهم 674 طفلاً و504 امرأة.
على الصعيد الإنساني أيضاً، كان العام السوري قد افتُتح بتقرير أصدرته منظمة "العفو الدولية"، تحت عنوان "المسلخ البشري: عمليات الشنق الجماعية والإبادة الممنهجة في سجن صيدنايا بسوريا"؛ جاء في مقدمته أنّ "سجن صيدنايا العسكري هو المكان الذي تقوم الدولة السورية فيه بذبح شعبها بهدوء. ويشكل المدنيون، الذين تجرأوا على مجرد التفكير بمعارضة الحكومة، الغالبية الساحقة من الضحايا. وجرى منذ العام 2011 إعدام آلاف الأشخاص خارج نطاق القضاء في عمليات شنق جماعية تُنفذ تحت جنح الظلام، وتُحاط بغلاف من السرية المطلقة". وأضافت المقدمة: "يُدفن قتلى صيدنايا في مقابر جماعية. ولا يمكن لأحد أن يزعم أن مثل هذه الممارسات المنهجية والواسعة النطاق تُرتكب بدون تفويض من الحكومة السورية على أعلى مستوياتها".
لكنّ السنة كانت قد بدأت تشهد المزيد من انحسار اهتمام ما يُسمّى "المجتمع الدولي" بالملفّ السوري، أو بالأحرى تلك الجوانب الإنسانية الكارثية فيه على الأقلّ؛ ولهذا فإنّ تقرير "العفو الدولية"، مرّ مرور الكرام لدى الحكومات التي كانت تحتسب ذاتها في صفّ "أصدقاء الشعب السوري"، فلم تتردد أصداؤه إلا في الأوساط الحقوقية المعتادة، والمعنية بملفات كهذه. كانت عقيدة الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما حول سوريا تستأنف معظم خطوطها العريضة عند الرئيس الجديد المنتخب دونالد ترامب، وذلك رغم القصف الصاروخي الأمريكي الذي استهدف مطار الشعيرات، الذي تردد أنّ طائرات النظام انطلقت منه لتنفيذ مجزرة خان شيخون الكيميائية.
ولن يطول الوقت حتى يجتمع وزير خارجية السعودية، عادل الجبير، مع منسّق هيئة التفاوض في المعارضة السورية، رياض حجاب؛ لإبلاغه بأنّ الرياض، اهتداءً بتوجهات "المجتمع الدولي"، لم تعد تتبنى مطلب رحيل بشار الأسد في المرحلة الانتقالية. وبالفعل، ورغم صفة "الحيوان" التي أطلقها ترامب على الأسد، لم تعد واشنطن تشترط تنحيه مسبقاً عن السلطة؛ خاصة بعد أن توافق ترامب مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على تسليم الملفّ السوري إلى الكرملين، بعد تفاهمات صارمة حول "احترام" موسكو لأمن إسرائيل في قلب هذا الملفّ، وحقّ المقاتلات الإسرائيلية في قصف أهداف للنظام داخل العمق السوري متى رأت ذلك ضرورياً، دون أية إعاقة من الرادارات الروسية.
ومن خلال استدعاء الأسد إلى سوتشي، أواخر تشرين الثاني (نوفمبر)، قبيل ساعات من قمّة ثلاثية جمعت بوتين مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان والرئيس الإيراني حسن روحاني، ضمنت انخراط أنقرة وطهران في جزء من مشروع "التسوية السياسية" الروسي؛ ثمّ مجيء بوتين شخصياً إلى قاعدة حميميم العسكرية، مطالع كانون الأول، في مشهد انطوى عمداً على استعراض القوة الروسية وإذلال رأس النظام شخصياً أمام أنصاره وضباطه؛ استكمل سيد الكرملين الشطر السياسي من مهمة عسكرية اعتبر أنها أُنجزت، أو تكاد. في المقابل، كانت موسكو تترك للمبعوث الأممي ستافان ديمستورا أن يمارس ألعاب الدبلوماسية الكسيحة في جنيف، مقابل طبخ "مؤتمر الشعوب السورية" في سوتشي على نار هادئة لا تستهدف إفراغ جنيف من مضامينها الملموسة، حول المرحلة الانتقالية والدستور، فحسب؛ بل كذلك تفخخ ما تبقى من توافق "المعارضة السورية" الرسمية على ثوابت تلك المضامين، وتطلق "حروب المنصات" بين القاهرة والرياض وموسكو وإسطنبول وحميميم...
على الأرض، في جبهات الاشتباك المتعددة، بدا للوهلة الأولى أنّ التفويض الأمريكي لروسيا يشمل العنصر العسكري أيضاً؛ سواء لجهة استهداف "داعش"، وهذا لم يكن أبرز أهداف التدخل العسكري الروسي في سوريا؛ أو إضعاف الفصائل المسلحة المعارضة للنظام السوري ــ وتستوي في هذا فصائل "الجيش السوري الحرّ" أو المجموعات الإسلامية مثل "هيئة تحرير الشام" و"أحرار الشام" ــ وانتشال النظام من السقوط التدريجي، وهذا كان جوهر المشروع الروسي في سوريا. غير أنّ تطورات معارك الرقة وريف دير الزور والحسكة عموماً، وانقلاب مراكز انتشار الوحدات الأمريكية والروسية إلى قواعد عسكرية مرشحة للبقاء إلى آجال غير مسماة؛ أدخل شهية العسكر على خطّ تفاهمات ترامب ـ بوتين، ولم يعد واضحاً أنّ تقاسم "هزيمة داعش" بين واشنطن وموسكو، سواء في الواقع أم في المجاز، يكفي لإدامة الوئام بين أحفاد جنرالات الحرب الباردة!
وأمّا في قلب جبهة النظام الداخلية، أي حلقة السلطة المالية/ العائلية الأضيق، وكذلك رصيدها الشعبي داخل صفوف الطائفة العلوية؛ فالأرجح أنّ السيرورة اتخذت وجهة التطور الثلاثية هذه: 1) أسئلة القلق، التي تولدت خلال الشهور الأولى من الانتفاضة الشعبية، ربيع 2011؛ 2) تحوّلت في معظمها، إلى حسّ التشبث ببقاء مرتبط بمصير النظام، رغم ما تحمله شرائح واسعة من كراهية لرموز آل الأسد وآل مخلوف، الغارقة في الفساد والنهب والتسلط؛ و3) انقلبت الولاءات طبقاً لتغيّر رعاة حفظ البقاء، إذا جاز القول، بين إيران و"حزب الله" وموجات التشيّع التي مع ذلك كانت تأتي على الكثير من تماسك الطائفة العقائدي والشعائري؛ وبوتين وأمثولة حميميم التي حملت طرازاً من الأمن والاطمئنان، لم ينفصل، كذلك، عن صعود ميليشيات مثل "صقور الصحراء" تحذو حذو آل الأسد وآل مخلوف في العربدة والطغيان.
وهكذا، ينطوي العام السوري على معادلات عسكرية متشابكة تتناهبها واشنطن وموسكو وطهران وأنقرة، بإشراك هذا الذراع المحلي أو ذاك؛ ولا تغيب عنها إسرائيل، بالطبع، حتى إذا كان حضور الكيان الصهيوني بالغ الدقة في انتقاء أهدافه دون تورّط. المعادلات السياسية، من جانبها، لا تنطوي على اشتباك مماثل في تعقيداته، بل لعلها باتت تُختصر في ذلك المثل الشعبي السوري، الذي يتحدث عن طبل في دوما (سوتشي)، وعرس في حرستا (حميميم)!
28.12.2017

المخابرات المركزية وتصنيع الحداثة

يحتضن "بيت ثقافات العالم" في برلين معرضاً متميزاً بعنوان "شِبْه سياسة: الحرية الثقافية والحرب الباردة"، يقول منظموه إنه مكرّس للبعد العالمي للسياسة الثقافية و"المعاني والأغراض المتغيّرة التي اقترنت بالحداثة". ويبدأ مفهوم المعرض من حقيقة أنّ الفنون والثقافة دخلت، بعد الحرب العالمية الثانية، في صميم صراعات المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي، في ما يشبه "سباق تسلّح ثقافي"؛ بدأ، حسب النصّ المثبت في نشرة المعرض، بتأسيس "مؤتمر الحرية الثقافية"، في حزيران (يونيو) 1952، في برلين الغربية، بمبادرة أمريكية. ومن مقرّه الإداري في باريس، موّل المؤتمر برامج ثقافية لا حصر لها، شمل نطاقها الجغرافي بلدان أمريكا اللاتينية وأفريقيا وجنوب آسيا والشرق الأوسط، وانطوت على تطوير شبكة من المجلات والمؤتمرات والمعارض التي رفعت شعار لغة "كونية" للحداثة في الأدب والفنّ والموسيقى. وفي سنة 1967، كُشف النقاب عن هوية المموّل الفعلي للمؤتمر، واتضح أنها المخابرات المركزية الأمريكية.
كانت الفضيحة مدوية، بالطبع، لأنّ عشرات الكتّاب والمفكرين والفنانين والموسيقيين، ممّن ساهموا لتوّهم في أنشطة "المؤتمر" المختلفة، كانوا على جهل تامّ بمصدر التمويل والأهداف البعيدة لما انخرطوا فيه من برامج؛ بل كان بعضهم محسوباً على اليسار، الشيوعي وغير الشيوعي، أو على التيارات الليبرالية، ومدارس الحداثة التعبيرية والتجريدية والدادائية في الفنون، وثورات التجديد في الشعر والرواية والمسرح. على سبيل المثال، يتضمن معرض برلين نماذج من المجلات الثقافية التي أصدرها المؤتمر في بريطانيا وألمانيا ونيجيريا واليابان ولبنان وبلدان أخرى؛ وكانت منابر امتزجت على صفحاتها نزعات التحديث والتجريب والتمرد، إلى جانب الفلسفات المحافظة والرجعية والمتزمتة. ستيفن سبندر، الشاعر والروائي والناقد الإنكليزي الذي كان المحرر الثقافي في "إنكاونتر"، المجلة التي أطلقها المؤتمر سنة 1953 في بريطانيا، استقال على الفور بعد افتضاح أمر التمويل؛ هو الذي انتمى إلى جيل من الكتّاب عُرفوا بالتمرد على المؤسسة، أمثال و. هـ. أودن ولويس ماكنيس وسيسيل داي لويس.
في العالم العربي، كانت "حوار"، المجلة المعروفة التي موّلها المؤتمر وترأس تحريرها توفيق صايغ، وصدرت في بيروت بين سنوات 1962 ـ 1967؛ ضمّت طائفة من الأسماء اللامعة، ولكن غير المتجانسة فكرياً أو جمالياً أو سياسياً، أمثال عبد الرحمن بدوي، بدر شاكر السياب، ألبرت حوراني، جبرا إبراهيم جبرا، سهير القلماوي، علي الجندي، جميل صليبا، محمد الماغوط، أنيس صايغ، غالي شكري، زكريا تامر، نجيب محفوظ، غادة السمان، ياسين رفاعية، ليلى بعلبكي، سنية صالح، مصطفى بدوي، وليد إخلاصي، سلمى الخضراء الجيوسي، صدقي إسماعيل، جواد سليم، مجيد خدوري، ثريا ملحس، رياض نجيب الريس، زكريا إبراهيم، الطيب صالح، صبري حافظ، جورج شحادة، لويس عوض، محمد عفيفي مطر، عبد السلام العجيلي، نزار قباني، عفيف بهنسي، محمد مندور، أنسي الحاج، عبد الله عبد، شاكر حسن آل سعيد، يوسف إدريس، صادق جلال العظم، إبراهيم أصلان، سركون بولص، فؤاد التكرلي...
وبالطبع، المرء هنا يتذكر الكاتبة والمخرجة الوثائقية البريطانية فرنسيس ستونر سوندرز، في كتابها "من الذي دفع للزمّار: الحرب الباردة الثقافية"، الذي نقله إلى العربية طلعت الشايب؛ وفيه رصد مفصّل لبدايات فكرة توظيف الثقافة والفنون في معارك الحرب الباردة، وخاصة من زاوية رعاية تيارات الحداثة والتجارب الثورية. وفي حوار مطوّل مع جورج ميروني، نُشر سنة 2011 في مجلة "بلايبوي"، كان توم برادن، المذيع في "سي إن إن" رسمياً ولكن الموظف السري في المخابرات المركزية الأمريكية ومهندس هذه الحرب الثقافية الباردة، قد سرد تفاصيل المشروع، وكيف راوده أثناء حضور معرض لأعمال بابلو بيكاسو، وكم فوجئ بالنجاحات الباهرة التي لقيتها برامج "مؤتمر الحرية الثقافية". كان في وسعه، بعد أن حظي بثقة رئيس الوكالة ألن دالاس، أن يصرف مكافأة بقيمة 50 ألف دولار، وهذا مبلغ هائل حسب القيمة الشرائية لخمسينيات القرن الماضي، دون أن يسأله أحد، كما قال. كان الهدف "توحيد ما أمكن من الكتّاب، أو الموسقيين، أو الفنانين، وكلّ الناس الذين يتبعونهم، أناس مثلك ومثلي ممّن يذهبون إلى حفلات موسيقية أو يزورون معارض فنية، وإقناعهم بأن أنظمة الغرب والولايات المتحدة هي الأخلص لحرّية التعبير والإنجاز الثقافي".
ومن مفارقات معرض برلين أنّ البيت الذي يحتضنه كان، في الأصل، حجر أساس لإطلاق سباق "التسلّح الثقافي" من ألمانيا؛ حيث شُيّد المبنى/ الصرح بتمويل أمريكي، وبتصميم من المعماري الأمريكي هوغ ستوبينز؛ وافتُتح في خريف 1957 ليكون رمزاً لحرّية التعبير والإبداع والممارسة الثقافية في وظائفه، ولكن أيضاً من حيث طرازه المعماري الذي يتوسل الحداثة. منصف، إذن، أن يقتبس المرء ما تنقله صحيفة الـ"غارديان" البريطانية على لسان بيرند شيرر، مدير "بيت ثقافات العالم"، الذي يخطّيء برنامج المخابرات المركزية الأمريكية من حيث وجهة توظيف مفردة "الحرّية"، وبالتالي إفسادها؛ مشيراً إلى مفارقات الوكالة في سياسات التمويل التمييزية.
ولعلّ معرض برلين يذكّر مجدداً، وكما يفيد عنوانه في الواقع، بأنّ السياسة لا تنهض على أنساق مكشوفة دائماً، والشِبْه المموّه في بعضها قد يكون أفدح عاقبة من الفاقع الجلي!
 17/12/2017

البناء الروسي في سوريا: هل ينهار على رأس البنّاء؟

في السردية الراهنة لما بات يُسمى بـ"الحلّ السياسي للازمة السورية"، ثمة عنصر أوّل يحظى بإجماع مضطرد، من كارهيه والراغبين فيه على حدّ سواء: أنّ موسكو صارت المتعهد الأكبر لذلك "الحلّ"، حتى إذا كانت هي القوة العسكرية الأبرز التي تساند نظام بشار الأسد على الأرض. العناصر الصانعة لهذا الإجماع يمكن أن تبدأ من تفاهمات الرئيسين الأمريكي دونالد ترامب والروسي فلاديمير بوتين على هامش قمة دانانغ، وتمرّ باستدعاء بشار الأسد إلى سوتشي للقاء بوتين، والقمة الثلاثية التي دعا إليها بوتين وضمّت الرئيسين التركي رجب طيب أردوغان والإيراني حسن روحاني، فاجتماع أطراف "المعارضة" السورية في الرياض ــ 2، والجولة الثامنة من مفاوضات جنيف، قبيل اجتماع أستانة 8، وصولاً إلى ما يُسمّى "مؤتمر الشعوب السورية" المرتقب في سوتشي أيضاً.
بيد أنّ هذه هي، على وجه التحديد، العناصر التي يمكن أن تنقلب إلى ضدّها في حسابات السردية الراهنة حول تقليد روسيا مفاتيح الحلّ السياسي في سوريا؛ ليس لأيّ سبب آخر أكثر جوهرية من ذلك الاعتبار الأبرز: أنّ جميع هذه العناصر مفخخة، سواء أُخذت مجتمعة متكاملة أم منفردة متعارضة، وهي أقرب إلى المزيج الانفجاري منها إلى السلّة المتناسقة. ورغم أنها تبدو، من جانب آخر، بمثابة تتويج سياسي لسنتين ونيف من التدخل العسكري والدبلوماسي الروسي غير المسبوق إلى جانب النظام؛ فإنّ معطياتها، العسكرية تحديداً، هي التي تلوّح بأولى نذر انهيار البناء على رأس البنّاء.
ولعلّ من الخير أن يبدأ المرء من التفاهمات الأمريكية ـ الروسية، ومن زاوية تنطلق من طبيعة التواجد الأمريكي العسكري على الأرض السورية، وما إذا كان يسمح حقاً بدرجات متقدمة من التفاهم، فما بالك بالتفاهمات، مع روسيا حول ترتيبات المستقبل القريب. ولقد سبق لجنرال أمريكي واحد، على الأقلّ، هو جيمس جارارد، أن زلّ لسانه فصرّح بأنّ عدد الجنود الأمريكيين في سوريا "أكثر بقليل من أربعة آلاف جندي". فإذا قال المنطق أنّ الجنرال لا يمكن أن يخلط بين 4,000 و503، الرقم الرسمي الذي يعلنه البنتاغون؛ فإنّ نصف الرقم "الخطأ" يكفي للسجال بأنّ الوجود العسكري الأمريكي ليس رمزياً البتة، وأنه استطراداً مرشح لمهامّ مستقبلية أكثر تعقيداً، بافتراض أنّ ذلك الوجود لن يتضاعف عدداً وعدّة.
جغرافية الانتشار الأمريكي، على امتداد محافظات الرقة ودير الزور والحسكة، تؤشر ابتداءً على اختيار مناطق سوريا الغنية بالنفط، شاء المرء أن يجاري ما يُقال عدة عن سيلان اللعاب الأمريكي إزاء منابع النفط ومكامنه، أم أبى المرء ذلك واعتبر الأمر على صلة أكثر بقطع الطريق على أيّ قوس إيراني يمرّ من العراق إلى البحر الأبيض المتوسط عبر البادية السورية. فإذا أُضيف تطورّان شهدتهما الساعات الأخيرة، أي انتشار وحدات عسكرية أمريكية في كركوك، وتصريح وزير الخارجية الأمريكي ريكس تيلرسون الذي اعتبر جنيف "القاعدة الوحيدة الممكنة لإعادة إعمار البلاد، وتطبيق حل سياسي لا يترك أي دور لنظام الأسد أو لعائلته"؛ فإنّ بشائر التشويش الأمريكي على الحلّ الروسي قد تكون بدأت بالفعل.
وأما نتائج استدعاء الأسد إلى سوتشي، وإبلاغه بمسودة ما تعتزم موسكو القيام به سياسياً، الآن وقد أوشكت مهمتها العسكرية على الاكتمال كما صرّح بوتين؛ فإنّ الواقع السوري على الأرض كفيل بتهديد سلاسة ما تراه موسكو قابلاً للتطبيق، بل لعله قمين باستدراج تورّط روسي عسكري أوسع نطاقاً، وأعلى كلفة كذلك. فمن جهة أولى، لم يهدف التدخل الروسي إلى محاربة "داعش"، لكي يُقال بأنّ دحر التنظيم يمكن أن يختم مهمة الجيش الروسي في سوريا؛ وما دام انتشال النظام من السقوط كان هو الهدف الفعلي، فإنّ الأخطار ما تزال محدقة بالنظام، وبالتالي يظلّ المطلوب من موسكو في هذا الصدد متعدد الأبعاد ومعقد المهامّ.
وأما من جهة ثانية، فإنّ الاستخبارات الروسية هي خير من يقدّر مقدار ما يملك الأسد شخصياً من سيطرة فعلية على أجهزته وما تبقى من جيشه، خاصة في الحرس الجمهوري والفرقة الرابعة، فضلاً عن ميليشيات عابرة للسلطة ومستقلة عنها. وكانت سبع سنوات من الاستنفار والقتال الميداني والخسائر الجسيمة قد أناخت بثقلها على وحدات نظامية لم تتعود إلا على الاسترخاء والكسل والفساد، كما خضعت لاختراقات جوهرية من جانب "الحرس الثوري" الإيراني و"حزب الله" والميليشيات المذهبية، شملت العقيدة العسكرية والإيديولوجية، وأسفرت عن انزياحات عميقة بعيداً عن الولاء التقليدي للبيت الأسدي. وحين يملك محمد وإبراهيم جابر، قائدا ميليشيات "صقور الصحراء" و"مغاوير البحر"، دبابات ت ـ 72 روسية الصنع، ويتنقلا في حوامات روسية على طول الساحل السوري؛ فإنّ أعنّة السلطة ليست كاملة في قبضة الأسد، والاختراقات المضادة ممكنة دائماً، ومنطقية أيضاً.
القمة الثلاثية، من جانبها، لا تحتاج إلى تمحيص متأنّ قبل أن تتكشف تناقضاتها الموروثة، بين روسيا وتركيا من جهة (حول الموقف من مستقبل الأسد في التسوية، وملفّ إدلب الشائك، وعلاقة موسكو مع الكرد في سوريا...)؛ وبين روسيا وإيران من جهة ثانية (ملفات إقليمية شتى لا تبدأ من صراع الهيمنة على سوريا، وما يُسمى بـ"سوريا المفيدة" تحديداً، ولا تنتهي عند الملفات الدولية وفي طليعتها الاتفاق النووي مع الغرب)؛ وبين إيران وتركيا (والمرء هنا يمكن أن يحدّث ولا حرج، بصدد المخفيّ المتشعب من عناصر التنافس والنزاع). وبذلك فإنّ ما اتفق عليه بوتين مع أردوغان وروحاني في سوتشي، يمكن أن ينقلب رأساً على عقب، معظمه أو كلّه، عند كل تطوّر طارئ، ضارّ بمصالح أنقرة أو طهران.
في الرياض ـ 2 كانت اللعبة السعودية في تدجين أطراف "المعارضة" السورية أقلّ حتى من مستوى التمرين الناجح على عرض مسرحي يُنتظر أن يديره الموفد الأممي ستافان ديمستورا في جنيف ـ 8. ومنذ آب (أغسطس) الماضي، كان وزير الخارجية السعودي عادل الجبير قد طوى، تحت لسانه الذرب عادة، كلّ ما اعتاد تكراره حول رحيل الأسد؛ فأبلغ رياض حجاب، منسّق الهيئة العليا للمفاوضات، أنّ العكس هو خيار المملكة الراهن. ومن مفارقات الأقدار أنّ حجاب، المنشق عن النظام السوري بصفة رئيس وزراء، هو الذي أُلصقت به صفة "التشدد" وتوجّب أن يستقيل ليفسح المجال أمام استيلاد هيئة تفاوض شائهة التكوين، كسيحة بالولادة، ضالة ومضلِّلة، لا حول لها ولا طول حتى في البصم على أبخس التنازلات!
وتبقى جولة جنيف الثامنة، الضائعة بين القرار الأممي 2254، والبندين العزيزين على قلب ديمستورا (دستور معلّق في الغيب، لا يُعرف له مستنبت سوري أم روسي أم أممي؛ وانتخابات رئاسية، ترعاها الأمم المتحدة "حسب ما هو ممكن"، ولا يُمنع من الترشح فيها المواطن السوري بشار حافظ الأسد!)؛ وبين جولات جنيف الأولى (التي ابتدأت باشتراط أنّ "أي تسوية سياسية" يجب أن تقدّم للشعب السوري "عملية انتقالية تتيح منظوراً مستقبلياً يمكن أن يتشاطره الجميع"). وهكذا فإنّ الإحالة إلى "جنيف"، هكذا دون أرقام أو جولات، يمكن أن تمنح صاحب الإحالة، أياً كان، وكانت مقاصده، تفويضاَ ــ منطقياً وقانونياً، بالمناسبة ــ لتفخيخ أية جولة لاحقة، على قاعدة تلك المرجعية المبهمة الغائمة، دون سواها!
هذه خمسة عناصر راهنة، بين أخرى آتية، قد تتسبب في انهيار سردية الحلّ السياسي الروسي؛ ليس على رأس البنّاء بوتين وحده، غنيّ عن القول.
12/12م2017 

ترامب والقدس: ما الذي أثلج قلوب المسيحيين الصهاينة؟

"ملايين المسيحيين الصهاينة يضرعون إلى الله كي يمنح الرئيس ترامب شجاعة البدء في عملية نقل سفارة الولايات المتحدة إلى القدس، العاصمة التوراتية الأبدية الموحدة لدولة إسرائيل المولودة من جديد"؛ هكذا هتفت لوري كاردوزا مور، مؤسسة ورئيسة منظمة "المطالبة بالعدالة للأمم"، والموفد الخاص عن "المجلس العالمي للكنائس المسيحية المستقلة" إلى الأمم المتحدة، والقيادية البارزة المبجلة في تجمع اسمه "الأصدقاء المسيحيون للجاليات الإسرائيلية". تصريحها هذا يعود إلى شهر حزيران (يونيو) الماضي، حين اقتفى الرئيس الأمريكي أثر ثلاثة من أسلافه، بيل كلنتون وجورج بوش الابن وباراك أوباما، فأرجأ التوقيع على قرار الكونغرس القاضي بنقل سفارة الولايات المتحدة من تل أبيب إلى القدس.
اليوم لا تسع الفرحة قلب كاردوزا مور، ولسانها وقلمها، فلا تجد خيراً من صحيفة "هآرتز" الإسرائيلية للترحيب بقرار ترامب الأخير: "توراتياً، وبوصفنا مسيحيين، سوف نقف أمام الربّ ونُحمّل مسؤولية ما نفعل، أو ما لا نفعل، لخير إسرائيل وأخوتنا اليهود. وكما خاطب الرب النبيّ عوبديا، في آخر الأيام: سوف يمحق نسل إدوم لأنهم وقفوا متفرجين بينما كان أخوهم يعقوب (إسرائيل) واقعاً في الأسر فلم يفعلوا شيئاً" قد نُحاسب على النحو ذاته، تُنذر كاردوزا مور. وفي رأس ما يتوجب على المسيحيين أجمعين، ولكن أولئك الصهاينة بينهم على وجه خاص، يأتي تسريع نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، بوصفها خطوة لا غنى عنها من أجل بناء "الهيكل الثالث" الذي يمهد لمجيء المخلّص...
من جانبه كان جوني مور، الناطق الرسمي (غير المعيّن) باسم مجموعة الإنجيليين مستشاري ترامب وكبار أنصاره، قد قال إنّ وضعية مدينة القدس تظلّ ركناً أساسياً في ما حظي ويحظى به ترامب من تأييد المسيحيين الإنجيليين؛ بل هي، في ناظره، تأتي في المرتبة الثانية بعد الهواجس حول التشريعات التي يمكن ان تمسّ الديانة المسيحية. وإذْ يتصفح المرء خلاصات استبيان رأي أنجزه معهد أبحاث أمريكي تابع لجماعة "الشعب المختار"، فإنّ67% من أهل العقيدة الإنجيلية يحملون رأياً إيجابياً عن إسرائيل، و73% منهم يؤيدون تدعيم أمن إسرائيل بشتى الوسائل، و80% يؤمنون أنّ وعد الربّ إلى إبراهيم ونسله يسري على كلّ عهود التاريخ، و76% منهم يعتقدون بواجب المسيحيين في مساندة إسرائيل، مقابل 19% فقط يؤيدون حقّ الفلسطينيين التاريخي في "أرض إسرائيل" التوراتية.
ومن المعروف أنّ الآداب الأمريكية الكلاسيكية، وخاصة في روايات هرمان ملفيل ومارك توين، توفّر مادّة خصبة حول فلسفة عتيقة تضرب بجذورها في الركائز العقائدية التي قام عليها أحد أبرز المعاني الرمزية لنشوء الولايات المتحدة الأمريكية، أي أنها "صهيون الجديدة"، أو "كنعان الثانية". تلك كانت صيغة ميتافيزيقية ـ أدبية، لا تخلو مع ذلك من روح تبشيرية إمبريالية، تكمل النظرية الشعبية الأعمّ التي سادت منذ القرن الثامن عشر في مختلف المنظمات المسيحية ـ الأصولية الأمريكية، والبروتستانتية الإنجيلية بصفة خاصة.
وكما هو معروف، تقول هذه النظرة بعودة "المخلّص" إلى عالمنا، لتخليصه من الشرور، حين تكتمل جملة شروط: قيام دولة إسرائيل، أوّلاً؛ ونجاحها في احتلال كامل أرض التوراة، أي معظم المشرق؛ وإعادة بناء الهيكل الثالث في موقع، وعلى أنقاض، قبّة الصخرة والمسجد الأقصى؛ وأخيراً، اصطفاف الكفرة أجمعين ضدّ إسرائيل، في موقعة ختامية سوف يشهدها وادي أرماغيدون، حيث سيكون أمام اليهود واحد من خيارين: إمّا الاحتراق والفناء، أو الاهتداء إلى المسيحية، الأمر الذي سيمهّد لعودة المسيح المخلّص.
الإيمان بهذه العقيدة لم يبدأ مع الحلم الصهيوني أو الوعد بدولة لليهود في فلسطين، إذْ تعود الجذور الأولى إلى القرن السابع عشر، في ذروة حركة الإصلاح البروتستانتي؛ ثمّ، في مطالع القرن التاسع عشر، حين روّج أمثال أزا ماكفارلاند لنظرية مفادها أنّ اضمحلال الإمبراطورية العثمانية سوف يمهد لنشوء الدولة اليهودية المنشودة. كذلك فإنّ الإيمان بالمسيحية الصهيونية لم يقتصر على الفئات الشعبية، أو رجال الدين المنتمين إلى التيارات الإنجيلية، أو المبشرين الشعبويين؛ بل نعثر بين أنصارها على أعلام من أمثال جون أدامز (الرئيس الثاني للولايات المتحدة)، وإسحق نيوتن (دون سواه)، واللورد بلفور (صاحب الوعد الشهير)، ومارتن لوثر كنغ (الذي راوده حلم الحرّية الأشهر)، واللائحة تطول؛ ضمن ممثّلي الثقافة ورجال السياسة والدين، على النطاق الأنغلو ـ سكسوني في المقام الأوّل.
كذلك فإنّ تيّارات الأصولية المسيحية (إذْ أنّ التشدد الديني ليس سمة ديانة واحدة منفردة، غنيّ عن القول) لا تكتفي بهذا الطراز من التبشير التوراتي الأقرب إلى الهستيريا، بل تتعداه إلى تشكيل ميليشيات دينية وسياسية مسلحة؛ يتردد أنها اليوم تُعدّ بالملايين، في الولايات المتحدة وحدها. وهي، أيضاً، تنتظم في سلسلة تحالفات عريضة، وتلتقي مثلاً حول مناهضة الصيغة الفيديرالية للحكم في أمريكا، وتدعو إلى (بل هي استخدمت وتستخدم) العنف كوسيلة كفاحية ضدّ الطغيان الفيديرالي. أسماؤها تدلّ عليها: "التحالف المسيحي"، "الأمم الآرية"، "الوطنيون المسيحيون"، "الهوية المسيحية"، "رابطة البندقية الوطنية"...
وفي الولايات التي تُلقّب بـ"حزام التوراة"، نسبة إلى شدّة تديّن أبنائها، عثر ترامب على أخلص أنصاره، وفي طليعتهم ماريون غوردون (بات) روبرتسون، المؤسس والزعيم التاريخي لمنظمة "التحالف المسيحي"، أكثر الحركات الدينية القاعدية نفوذاً وسطوة في السياسة الأمريكية المعاصرة. وكما هو معروف، ذهب روبرتسون إلى درحة وضع ترامب في مصافّ يسوع، وحكى لمئات الآلاف من مريديه هذه "الرؤيا"، في ذروة الحملة الانتخابية: "زارني الله في المنام ليلة أمس وأراني المستقبل. أخذني إلى السماء، وهناك رأيت دونالد ترامب جالساً على يمين الربّ مباشرة". أيضاً، استهجن روبرتسون ما تردد حول فضائح ترامب الجنسية، معتبراً أنّ المرشح الجمهوري "عنقاء سوف تنهض من الرماد"!
وحول عشق إسرائيل، زاود روبرتسون على أعتى عتاة الصهاينة، فاعتبر دخول أرييل شارون في الغيبوبة بمثابة "عقاب إلهي" نزل بحقّ الأخير، لأنه اتخذ "القرار الرجيم" بالانسحاب من غزّة! وخلال العدوان الإسرائيلي على لبنان، سنة 2006، ذهب روبرتسون إلى إسرائيل كي يصلّي مع رئيس وزراء الدولة العبرية إيهود أولمرت، في مكتب الأخير، من أجل انتصار إسرائيل: "أنا هنا لكي أقول إنني أحبّ إسرائيل. أنا هنا لكي أقول إنّ المسيحيين الإنجيليين في أمريكا يقفون مع إسرائيل في كفاحها. ومن أجلنا جميعاً، لا ينبغي لإسرائيل أن تخسر هذا الكفاح. أعتقد أنّ شعب إسرائيل يعرف أصدقاءه، ويعرف أنّ أصدقاء إسرائيل هم المسيحيون الإنجيليون".
فإذا استذكر المرء أنّ الرجل كان مرشّح الحزب الجمهوري في الانتخابات الرئاسية التمهيدية لعام 1988، وحركته تضمّ ما يزيد على 1,2 مليون عضو منتسب، وتُقدّر لائحة بريدها الإلكتروني بنحو 2.8 مليون عنوان، وتدير إمبراطورية هائلة عمادها التبشير الديني المتلفز عبر عشرات الشاشات، التي بينها الشبكة المعروفة CBN، فضلاً عن "قناة الأسرة"، والعديد من الإذاعات، وجامعة معلنة واحدة على الأقل هي جامعة ريجنت... فإنّ القيمة المتبادلة بين المسيحيين الإنجيليين والمسيحيين الصهاينة، من جهة؛ وسياسات ترامب تجاه إسرائيل، ومدينة القدس خاصة، من جهة ثانية؛ لا تترك كبير ارتياب في سبب حبورهم الغامر لقرار نقل السفارة.
.. حتى أنّ المرء قد لا يظلم روائياً كبيراً مثل هرمان ملفيل، إذا تخيّل أنه سيكون في طليعة المبتهجين لمرأى علم الولايات المتحدة يرفرف في سماء القدس، أو أن يبصر في مبنى السفارة هناك أولى مداميك... "كنعان الثانية"!
 7.12.2017

تكعيب ياسوناري كاواباتا

 نشرت صحيفة "جابان تايمز" سلسلة مقالات بعنوان "كيف شكّلت الفنون البصرية أدب اليابان"، وقعها داميان فلاناغان، الناقد البريطاني المختصّ بالأدب الياباني. الحلقة الأخيرة، التي نُشرت قبل أيام، كان عنوانها "نافذة ياسوناري كاواباتا السوريالية على العالم"؛ وفيها يساجل فلاناغان بأنّ "بلد الثلوج"، رواية كاواباتا الشهيرة (نقلها إلى العربية الشاعر اللبناني الراحل بسام حجار)، "محاولة راديكالية" تسعى إلى "تطبيق تقنيات الرسم الغربي الحداثي وما بعد التكعيبي على قماش الأدب الياباني". وهذه قراءة تذهب عكس ما هو شائع في تفسير الرواية، في أنها أقرب إلى مرثية حزينة ــ كعادة غالبية أعمال كاواباتا ــ ترصد محاق التراث الياباني في مختلف ميادينه.
ويتوقف فلاناغان عند الجملة الأولى في الرواية، التي تسير هكذا (في الترجمة الإنكليزية): "عند انبثاقهم من نفق الحدود الطويل، دخلوا بلد الثلوج" (في ترجمة حجار: "نفق طويل بين منطقتين وها قد حللنا في بلد الثلوج")؛ فيعتبرها الأشهر في نماذج السرد الياباني على امتداد القرن العشرين، لكنه يقرأها من زاوية مغايرة، وجديدة حقاً: أنها "تمهيد لما سيكشفه القطار بعد خروجه من العتمة إلى الضياء: أنّ نوافذه ليست ألواح زجاج تشفّ عن عناصر الطبيعة في بلد الثلوج الذي يعبره القطار، بل هي مرايا تكعيبية وسوريالية تزيغ عندها الرؤية، ويضطرب الإدراك، وتتشوّه المعطيات؛ على نحو كثيف سوف يتابعه القارئ في سلسلة من التداعيات المتعاقبة التي تنتاب شيمامورا، بطل الرواية.
والحال أنّ هذا التأويل هو الأحدث عهداً، في نطاق مخزون هائل، زاخر ومتواصل، من شغف (ولعلي أقول: هوس!) إعادة قراءة أعمال كاواباتا، ليس على سبيل إعادة تثمينها عبر تحليلات متنوعة المناهج والمدارس والأدوات، فحسب؛ بل، كذلك، لاسكتشاف واكتشاف أيّ جديد طارئ، ومفاجئ، يمكن أن يخرق، أو حتى يُبطل، المأثور والمألوف والمستقرّ والشائع عن أدب أحد كبار أساتذة الرواية في القرن العشرين. وضمن هذه الروحية وجدتني، شخصياً، أعيد قراءة "بلد الثلوج"، في الترجمتين الإنكليزية والعربية، بحثاً عن المعطيات التي قادت فلاناغان إلى استنتاجاته بصدد السوريالية وما بعد التكعيبية في الرواية. خذوا، مثلاً، هذه الفقرة (بترجمة حجار): "في الخلفية البعيدة جداً كان منظر المساء يرتسم متوالياً كأنه أصبح، على نحو ما، طبقة قصدير متماوجة لهذه المرآة. وكانت الوجوه البشرية التي تعكسها أكثر وضوحاً إذ تتداخل كصور مضاعفة في شريط. لم يكن هناك بالتأكيد أي رابط بين الصور المتوالية في الخلفية المعتمة وتلك، الأكثر وضوحاً، للشخصين الجالسين. ومع ذلك كان الكلّ متناغماً في وحدة رائعة، فكم كانت الشفافية الأثيرية للوجوه تبدو ملائمة وممتزجة بالتشوّش المعتم للمنظر الذي يكتنفه الليل، ليشكلا معاً كوناً واحداً وحيداً، ضرباً من العوالم التي تفوق الطبيعة، العوالم الرمزية التي لا تنتمي إلى هذه الأرض...".
كذلك توجّب أن أستذكر بعض الحقائق التي تحكي سيرة الرواية، والتي تكتسب دلالة خاصة هنا: أنها نُشرت أولاً في صيغة حلقات، بين 1935 و1937، ثمّ عاد كاواباتا واشتغل عليها مجدداً، وأضاف إليها أجزاء جديدة، ثمّ صنع منها نسخة نهائية؛ نُشرت سنة 1948، واتخذت هذه الهيئة التي يعتبر فلاناغان أنها "تركيب تكعيبي". كذلك فإنّ مشهد الفصل الأخير يدور في صالة سينما، الأمر الذي يحيل إلى طور في تاريخ الرواية اليابانية الحديثة شهد تأثر أمثال كاواباتا وجونيشيرو تانيزاكي بتقنيات الفنّ السابع. وأخيراً، أنّ ابن كاواباتا كان رساماً، متمرد المزاج، منحازاً إلى التيارات التشكيلية الحداثية الأكثر جذرية في عصره، مثل التكعيبية والسوريالية والمستقبلية والتعبيرية والدادائية؛ وبالتالي لم يكن الأب بعيداً عن أهواء الابن، كما يذكّرنا فلاناغان أيضاً.
ولعلّ قراءة الناقد البريطاني في "جابان تايمز" تذكّر بقراءة أخرى للأرجنتيني ألبرتو مانغويل، عقد فيها مقارنة حاسمة بين رواية كاواباتا "منزل الجميلات النائمات"، ورواية غابرييل غارسيا ماركيز "ذكريات عن عاهراتي الكئيبات"؛ حيث اعتبر العمل الثاني سطحياً، وباهتاً، وفاقداً لكثير من المهارات الفنّية الفريدة التي ميّزت تراثه الروائي الفذ؛ على نقيض العمل الأوّل، الذي أغدق عليه مانويل آيات المديح، محقاً بالطبع. والإنصاف يقتضي التذكير، هنا، بإقرار ماركيز علانية ـبأنه إنما كتب روايته تحقيقاً لحلم قديم في مجاراة رواية كاواباتا تلك، من جانب أوّل؛ وأنه، من جانب ثانٍ، جسّد حلمه ذاك بعد توقف عن الكتابة الروائية دام قرابة عقد كامل، تفرّغ فيه لإنهاء سيرته الذاتية المعروفة.
ومن جانبي، وإذْ شرّفني أن أنقل اثنتين من روايات كاواباتا إلى العربية، هما "ضجيج الجبل" و"أستاذ الـ غو"؛ أرى أنّ استمرار "النبش" المعمّق في منجز كاواباتا، وإعادة استدراك ما غفل عنه النقد الأدبي من خصائص عبقرية فريدة، هو بعض ردّ الجميل إلى معلّم كبير قدّم للإنسانية اختراقات كبرى في أغوار النفس البشرية، وفي برازخ العشق والاغتراب والشيخوخة والموت. ولم يكن غريباً أن يصبح أوّل أديب ياباني ينال جائزة نوبل للأدب، سنة 1968؛ وأن يُفضي به وعيه المأساوي الحادّ بواقع اليابان الحديث، ومعضلة البطل الملحمي الكسير، إلى الانتحار. فلا ضرر، إذن، في تكعيب روايته، بل ثمة كلّ المغنم والمثوبة.
 3/12/2017

ملاديتش والأسد: مصادفات التاريخ العشوائية

مصادفات التاريخ عشوائية غالباً، رغم أنّ الفرصة متاحة على الدوام لإقامة الروابط بينها، على أساس من مفارقات التاريخ ذاته، ودروسه الماضية. وهكذا، في ظهيرة اليوم الذي شهد الحكم بالسجن المؤبد على مجرم الحرب الصربي راتكو ملاديتش، في لاهاي حيث تنعقد جلسات المحكمة الجنائية الدولية الخاصة بيوغوسلافيا السابقة؛ كان الرؤساء الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيب أردوغان والإيراني حسن روحاني، يشاركون في إصدار حكم لا يغسل يدَي بشار الأسد من جرائم الحرب والإبادة الجماعية واستخدام الأسلحة المحرّمة دولياً، بما فيها الكيميائية، فحسب؛ بل كانوا يحثون السوريين على إعادة توليف الأسد، وغسله وتنظيفه وتنصيبه، لخمس سنوات أخرى، على الأقلّ!
ملاديتش لقي بعض جزائه، وليس كامل ما يستحق حسب سجلات التاريخ التي باتت حقائق ثابتة، بسبب مسؤوليته عن مقتل 8,000 بوسني مسلم خلال مجزرة سربرنيتشا، في تموز (يوليو) 1995، وحصار سراييفو حيث قتل أكثر من 11 ألف مدني على مدى 43 شهراً. الأسد مسؤول عن مقتل 350 ألف مواطن سوري، وتشريد الملايين، وتخريب سوريا دولاً وعرضاً؛ ولكن قمّة سوشي تعيد تثبيته في الموقع ذاته الذي يمكنه من حصد أرواح آلاف جدد، وتدمير المزيد من المدن والبلدات والقرى، وتسليم ما تبقى من البلد رهينة أمام جحافل الميليشيات الغريبة والاحتلالات الأجنبية. وليس عجيباً، بالطبع، أن يكون رعاة توليف مجرم الحرب هذا، هم أنفسهم دعاة "السلم" و"الاستقرار" و"المصالحة الوطنية" و"إعادة الإعمار" في سوريا!
يبقى أنّ الحكم على ملاديتش يرسل إلى أمثاله من الناجين، وخاصة أولئك الخاضعين منهم لعمليات التجميل والتأهيل وغسل الأيدي المضرجة بالدماء، رسالة صريحة تفيد بأنّ حساب التاريخ آت لا محالة، طال الزمان عليه أم قصر. هذا ما قاله الكثيرون اليوم، تعليقاً على قرار قضاة لاهاي، ممّن ذكروا الأسد بالاسم أولاً؛ ثم ذهب بعضهم أبعد، حين ذكّر بأن طلقاء على غرار رئيس الوزراء البريطاني توني بلير والرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن، يستحقون الوقوف في قصف الاتهام، كتفاً إلى كتف مع ملاديتش.
والحكم، من جانب آخر، يرسل رسالة أخرى ذات طراز مختلف، حول مدى قدرة محاكم مثل هذه على بلوغ الحدود الكافية، وليس تلك الدنيا فقط، من واجب إنصاف الضحية. ففي قرار سابق، اعتبرت محكمة العدل الدولية أنّ ذبح آلاف المسلمين البوسنيين في بلدة سربرنيتشا كان إبادة جماعية منظمة، من جانب أوّل؛ وأنّ حكومة صربيا تتحمل مسؤولية الفشل في منع وقوع المجزرة، من جانب ثان. وذاك قرار استحق الترحيب لاعتبارات إنسانية وقانونية وسياسية عديدة، لكنه ظلّ إشكالياً وناقصاً وقاصراً في آن معاً؛ لأنه ببساطة حصر صفة الإبادة الجماعية في مجزرة سربرنيتشا وحدها، وتجاهل أنّ هذه لم تكن سوى مجزرة واحدة ضمن "مشروع صربي متكامل لتدمير المجتمع الصربي المسلم، اعتُمدت في تنفيذه أعمال القتل والاغتصاب والتهجير الوحشي"، كما كتب الأكاديمي البريطاني مارتن شو، صاحب كتاب "ما هي الإبادة الجماعية؟".
كذلك كان مدهشاً أن تقرّ المحكمة الدولية بمسؤولية الحكومة الصربية، وتلك كانت مسؤولية جسيمة لأنها تخصّ جرائم حرب وجرائم بحقّ الإنسانية، بدليل نصّ القرار ذاته (الذي يقول بالحرف إنّ السلطات الصربية وقفت متفرجة حين كان يجري ذبح 8,000 رجل من مسلمي البوسنة)؛ وأن تمتنع، في الآن ذاته، عن إدانة الحكومة الصربية بجريمة الإبادة الجماعية، رغم أنّ هذا بالضبط هو جوهر الدعوى المرفوعة إلى قضاة لاهاي. ما أدهش أكثر أنّ قرار المحكمة الدولية أقرّ، صراحة وبوضوح أقصى، أنّ صربيا انتهكت بنود "ميثاق منع وعقاب جرائم الإبادة"، الذي صدر سنة 1948 للبتّ في قضايا الهولوكوست وإبادة اليهود، ووقّعت عليه يوغوسلافيا في حينه؛ ليس بصدد منع وقوع مذبحة سربرنيتشا، فحسب، بل الفشل في القبض على ملاديتش، المدان غيابياً بتهمة تنفيذ المذبحة، وتسليمه إلى القضاء. وما أدهش، ثالثاً، أنّ المحكمة تجاهلت الدور الأممي إزاء ما جرى، أي مسؤولية قوّات السلام التابعة للأمم المتحدة، وتحديداً القوّات الهولندية دون سواها، في عدم بذل أيّ جهد لوقف المذبحة على الأقلّ، وليس الحيلولة دون وقوعها.
وكالة الصحافة الفرنسية لم تغفل الإشارة إلى صُور فوتوغرافية وأشرطة سينمائية تبرهن على وقوف الهولنديين مكتوفي الأيدي أمام فصول المجزرة، إذا لم يتحدّث المرء (كما يفعل كثيرون من مسلمي البوسنة في الواقع) عن "أعمال تواطؤ على التصفية العرقية" شاركت فيها الوحدات الهولندية. وفي كلّ حال، لا يسع المرء ذاته ــ في قضية بالغة الخطورة، والحساسية، مثل هذه ــ إلا أن يتعامل بجدّية، وبالكثير من المرارة واليقين، مع نتائج تحقيق أجرته الشرطة العسكرية الهولندية في العام 1999، ونشرته تحت ضغط الرأي العام وأحزاب المعارضة؛ يقول بوضوح إنّ "القبعات الزرق كانت لديهم أحكام سلبية ضدّ المسلمين، بينما حملوا آراء إيجابية جداً حول صرب البوسنة".
وسوى ذلك كيف نفسّر تلك الصورة الشهيرة التي تظهر ضابطاً هولندياً، هو العقيد توم كاريمانس، يمازح الجنرال ملاديتش ويتبادل معه الأنخاب والضحكات المجلجلة، في تلك الفترة السوداء الدامية تحديداً؟ وكيف سمكن إغفال أقوال ضابط هولندي ثانٍ، رون روتن، أقرّ بأقصى الوضوح الممكن أنّ عناصر الوحدة الهولندية العاملة تحت راية الأمم المتحدة ساعدوا جنود صرب البوسنة على "جمع المسلمين في مجموعات من 60 إلى 70 شخصاً، وتكديسهم في آليات تحت أنظار الصرب الساخرين"؟ وكيف لا تُضاف إلى بند التواطؤ تلك التقارير التي تحدثت عن وجود أفلام أخرى، بمثابة أدلة دامغة على صمت الهولنديين أو تقصيره أو تواطؤهم؛ وأنها "تعرّضت للتلف أثناء التظهير"، ليس في أي مكان آخر سوى معامل وزارة الدفاع الهولندية ذاتها؟
وفي صيف 2001، حين جرى تسليم الزعيم الصربي سلوبودان ميلوسيفيتش إلى محكمة جرائم الحرب الخاصة بيوغوسلافيا السابقة، كانت الفضيلة الكبرى لذلك الإجراء تتمثل في أنّ هيئة دولية واحدة على الأقل ارتأت التمييز بين الحاكم والمحكوم في تصنيف سلّم المسؤولية، وفصلت المقال الحقوقي بين الصرب كشعب وأمّة، وبين ميلوسيفيتش كحاكم وفرد. وكانت تلك خطوة إلى الأمام، دون ريب، بيد أنها ظلت جزءاً من مسيرة تحكمها القاعدة العتيقة: خطوة إلى الأمام، خطوتان إلى الوراء. وليس أدلّ على ذلك من حقيقة أن ساسة الحلف الأطلسي واصلوا التفاوض مع ميلوسيفيتش، الحاكم والفرد، طيلة سنوات بعد قرار إحالته إلى المحكمة. وليست دبلوماسية صائبة، إذا لم تكن دبلوماسية خرقاء سيئة النيّة، تلك التي تتفاوض مع خصم بعد تجريمه، كما عبّر آنذاك وزير الداخلية الفرنسي الأسبق جان ببير شوفنمان.
على الوتيرة ذاتها، ولكي تتقاطع مصادفات التاريخ العشوائية، كان الرئيس الروسي يطري جنرالات جيشه من آمري آلاف طلعات القصف التي ألحقت الخراب في طول سوريا وعرضها؛ وفي الآن ذاته يبلغ نظيريه، التركي والإيراني، أنّ الأسد ملتزم "بمبادئ الحل السلمي للأزمة السياسية، والاستعداد لتنفيذ الإصلاح الدستوري، وإجراء انتخابات حرّة برعاية الأمم المتحدة". كان القضاة في لاهاي يصدرون الحكم على مجرم حرب، ظنّ أنه نجا من ملاحقة أشباح الماضي وعذابات ضحاياه؛ وكان الساسة في سوتشي يستبقون أي حكم عن طريق استصدار صكّ براءة بحقّ مجرم حرب، ظناً منهم أنّ إعادة إنتاجه هنا، سوف تنجيه من حساب الضحية هناك.
ظناً، أيضاً، أنّ مصادفات التاريخ ليست مثقلات حبالى، يلدن كلّ عجيب!
 23/11م2017

سيلفيا بلاث في طينة البشر

خبر بهيج أن يصدر، في 1424 صفحة، عن هاربر، المجلد الأول من رسائل الشاعرة الأمريكية سيلفيا بلاث (1932 ـ 1963)، وأن يغطي سنوات 1940 ـ 1956، ومراسلات مع أكثر من 120 شخصاً، وعشرات الصور الفوتوغرافية والرسوم التي تُنشر للمرة الأولى. أسباب البهجة عديدة، لا تبدأ مما تحتويه مئات الرسائل من تفاصيل حول حياة واحدة من أكثر شاعرات القرن العشرين إشكالية، فحسب؛ ولا تنتهي عند تسليط المزيد من الأضواء على مناخات الشعر الأمريكي، والبريطاني أيضاً، خلال أحقاب عاصفة. وبالطبع، ثمة الكثير من المعطيات التي تكشف خفايا تجربة بلاث المعقدة مع الشاعر الإنكليزي تيد هيوز (الذي سيصبح زوجها)، وملابسات انتحارها.
ويندر أن تكون وفاة شاعرة قد حظيت باهتمام بالغ يفوق مسارات حياتها ذاتها، أو منجزها الشعري، من حيث مقدار الغموض، وحجم الأسئلة التي تتوالد من سواها؛ وكذلك اكتساب صفة استمرار مضطرد اكتنفت، وما تزال، سيرورة البحث والتنقيب، والكثير من الفضول أيضاً. بعض السبب قد يكون عائداً إلى قسط آخر من الفضول، يخصّ هيوز نفسه، الزوج العاثر الحظّ الذي انتحرت زوجته الأولى، بلاث، لأنه هجرها إلى امرأة أخرى، هي آسيا ويفيل؛ وهذه الأخيرة انتحرت بدورها لأسباب لا أحد يجزم بها على وجه الدقّة.
ولقد جرى العرف على تحميل هيوز مسؤولية الانتحارَين، معاً؛ ولكنّ الرجل التزم الصمت المطبق، وأعطى أذناً صمّاء لعشرات حملات التأثيم التي شنتها ضده الحلقات الأدبية النسوية، وأنصار بلاث في الولايات المتحدة بصفة خاصّة. وفي مطلع العام 1998 قرّر أن يكسر الصمت من خلال "مرافعة" بالغة الخصوصية، فأصدر مجموعة شعرية بعنوان "رسائل عيد الميلاد"، لقيت على الفور ترحاباً واسعاً؛ ليس لأنها كانت تقترح اسلوبية متقدمة في فنّ هيوز الشعري، فحسب، بل كذلك لأنها كانت تُشبع بعض أسئلة الفضوليين أيضاً!
دفاع شعري، إذن، عن "تهمة" جنائية أو تكاد، غائمة التفاصيل وغائبة الأدلة، يسيّجها التعصّب النسوي المغالي، أو التعاطف الوجداني الجارف مع المرأتين المنتحرتين؛ ومع بلاث، الزوجة/ الشاعرة الرقيقة اللامعة، بصفة خاصة. وهو دفاع ينتهج قصيدة الحبّ من جهة، ولكنه من جهة ثانية يعيد كتابة الكثير من فصول حياة هيوز مع بلاث وعشقه لها. والأهمّ أنه يميط اللثام عن أطوار غير عادية في حياة بلاث النفسية والروحية، ويترك للقارئ أن يقدّر بنفسه... إذا بقيت لديه حوافز كافية لإصدار "حكم" بوليسي، بعد كلّ ذلك الشعر الرفيع.
وشخصياً، ودونما إغراق في تفاصيل لا يسمح المقام بها، لا أميل إلى تحميل هيوز المسؤولية الأولى عن وفاة بلاث، لأنّ الأسباب التي دفعتها إلى محاولة الانتحار الأولى (قبل سنوات من تعرّفها على هيوز) ظلّت تتنامى في داخلها؛ وظلّ إحساسها المبكّر بانعدام الأمان يضغط على حياتها العائلية والنفسية والشعرية، إلى أن بلغ ذروته القصوى وقادها إلى تلك الطريقة الفاجعة في الانسحاب من الحياة. وممّا له دلالة خاصّة أنّ قصائدها الأخيرة، فضلاً عن مسرحية إذاعية بعنوان "ثلاث نساء"، كانت تشير إلى تمارين رهيبة في محاولة اعتياد الموت؛ وكانت، في الآن ذاته، تمتدح الحياة الأخرى التي يخبئها "اللقاء الناجح مع الموت" كما ستقول.
ولعلّ أكثر ما يلفت الانتباه أنّ هيوز يوحي، في "رسائل عيد الميلاد"، بأنه لم يكن قادراً على الحيلولة دون انتحار بلاث، وأنه كان شاهداً لا حول له أمام ذلك الاضطرام العارم الذي كان يكتسح أعماقها. كذلك يلمّح إلى أنّ مآلات لقائه مع بلاث كانت مسألة قَدَرية صرفة، سواء رُدّت جذورها إلى ارتطام نفسَيْن خلاّقتَين شاعرتَين؛ أو إلى هوس بلاث المَرَضي بذكرى موت أبيها، وميلها إلى إسقاط شخصيته على هيوز (إذْ كانت ترى في الأخير صفات الأب والحامي والعشيق). وثمة مَنْ يذهب إلى ترجيح أقصى: لقاء بلاث ("مارلين مونرو الشعر"، كما لُقبت)، وهيوز (شبيه ذلك الأرستقراطي غريب الاطوار في حكاية الفرنسي شارل بيرو، الذي اعتاد قتل زوجاته داخل أسوار قصره)، كان محتماً أن ينتهي بالفاجعة.
وفي مقدمة المجلد الأول هذا يشير المحرران، بيتر شتاينبرغ وكارين كوكيل، إلى أنّ بلاث في رسائلها كانت أكثر من شخصية واحدة، تبعاً للناظر إليها: إبنة، طالبة، صحافية، شاعرة، صديقة، فنانة، حبيبة، زوجة، روائية، وأمّ. ولكنها، في المقام الأول، كانت من طينة البشر، ولهذا فإن مراسلاتها تحتوي على كلّ ما يشير إلى تعدد شخصيتها، من الحديث عن القنبلة الذرية وفلسطين، إلى شعر و. ب. ييتس ورواية جيمس جويس؛ ليس دون ارتكاب أخطاء طباعية ونحوية، واستخدام اقتباسات مغلوطة، وتوظيف أضاليل هنا ومبالغات هناك...
وفي رسالة بتاريخ 20 آذار (مارس) 1943، أرسلت بلاث إلى أمّها قصيدة (تُنشر للمرة الأولى في هذا المجلد) تقول: "إغرسي شتلة صغيرة/ اخلطيها بمطر ورذاذ/ حرّكيها بقليل من ضياء الشمس/ ولسوف تنبت بعض الزهور". وكشوفات كهذه هي بعض بهجة الإبحار في مئات الصفحات من مراسلات حارّة، دافقة بالحياة، ومترعة بشجن الشعر وحيرة الوجود، في آن معاً.
19/11/2017