وعزّ الشرق أوّله دمشق

الجمعة، 13 أبريل 2018

إسرائيل وإيران في سوريا: منظومة ميزان الذهب

بين كانون الثاني (يناير) 2013 وكانون الأول (ديسمبر) 2017، قام طيران جيش الاحتلال الإسرائيلي بأكثر من 50 عملية قصف مختلفة النيران ضد مواقع عسكرية في قلب سوريا؛ بعضها تابع مباشرة لجيش النظام، وبعضها الآخر تديره إيران أو يشكل نقاط انطلاق قوافل أسلحة إلى "حزب الله" في لبنان. هنا أبرز الاعتداءات في سنة 2013، وبذريعة تدمير شحنات أسلحة كانت معدّة للإرسال إلى "حزب الله": في جمرايا، 30 كانون الثاني (يناير)، تدمير شحنات صواريخ SA-17 أرض ـ جو متوسطة المدى؛ وقصف مستودع في مطار دمشق الدولي، ليل 2/3 أيار (مايو)، يحتوي صواريخ "فاتح" إيرانية الصنع وصواريخ Scud-D أرض ـ أرض؛ واستهداف مستودع في ميناء اللاذقية، 5 تموز (يوليو)، يخزّن صواريخ Yakhnot P-800 مضادة للزوارق؛ وكذلك، في 30 تشرين الأول (أكتوبر) في بلدة عين شقاق الساحلية، تدمير بطارية صواريخ ستراتيجية كانت تؤوي شحنة صواريخ روسية S-8 أرض ـ جو؛ وبعد يوم واحد، في مدينة جبلة الساحلية، قصف معدات صاروخية متقدمة قيل إنّ بينها صواريخ SA-3 أرض ـ جو...
عمليات السنوات اللاحقة تضمنت قصف مواقع مختلفة للحرس الجمهوري والوحدات الخاصة في النبي شيت، يبرود، الزبداني، القنيطرة، الديماس، الكسوة، خان الشيح، القطيفة، قارة، راس المعرة، عسال الورد، الجبة، جرمانا، جبل المانع، شنشار، الصبورة، مطار المزة، تدمر، خان أرنبة، مدينة البعث... الأهداف المباشرة تراوحت بين مخازن أسلحة وبطاريات صواريخ وقيادات أركان مشتركة مع "فيلق القدس" أو "حزب الله"، حيث التركيز الأشدّ؛ بالإضافة إلى حالة منفردة استهدفت مبنى في بلدة جرمانا، في ظاهر العاصمة دمشق، كان يقيم فيه سمير قنطار وتسعة من مسؤولي منظمة وليدة حملت اسم "المقاومة السورية لتحرير الجولان". كذلك تضمنت العمليات استهداف مجموعات "حزب الله" في الجولان المحتل بصفة خاصة (والواقعة الأبرز جرت بتاريخ 18/1/2015 في مزرعة الأمل، حيث قصفت إسرائيل سيارتين كانتا تقلان ستة من كبار ضباط "حزب الله" بينهم ابن عماد مغنية، والجنرال الإيراني في "الحرس الثوري" محمد علي الله دادي).
وبمعزل عن اعتداءات إسرائيل السابقة، الشهيرة، مثل قصف موقع "الكبر" في ريف دير الزور، أيلول (سبتمبر) 2007؛ والأقلّ شهرة، مثل التحليق فوق قصر استراحة بشار الأسد في اللاذقية صيف 2006، أو اغتيال العميد محمد سليمان (الذي كُشف النقاب بعدئذ، في أحد الكتب عن عمليات الموساد، أنه كان المسؤول عن البرنامج النووي للنظام السوري)، صيف 2008؛ يشير سجلّ هذه الاعتداءات، ما بعد الانتفاضة السورية في ربيع 2011 تحديداً، إلى منظومة واضحة ومنهجية. العنصر الأوّل في هذه المنظومة هو أنّ إسرائيل لا تضرب بهدف النيل من جيش النظام مباشرة، بمعنى إضعافه أو الحدّ من قدراته الهجومية أو حتى تحطيم معنويات أفراده. السبب الأبرز في هذا منطقي وبديهي، مفاده أنّ قواعد الاشتباك المباشر بين جيش النظام السوري وجيش الاحتلال الإسرائيلي تجمدت منذ 1973، بعد اتفاقية سعسع حول فصل القوات، ولم تعد تُطلق في سهول الجولان وهضابه طلقة واحدة من جانب النظام، حتى من بندقية صيد. وفي كلّ اشتباك لاحق على 1973، في لبنان تحديداً وخلال الغزو الإسرائيلي لعام 1982، كانت وحدات النظام تستقبل الهجمات الإسرائيلية دون ردّ عسكري لائق، رغم استشهاد عدد من الضباط ذوي الاحتراف، في سلاحَي المدفعية والدفاع الجوي تحديداً.
العنصر الثاني في المنظومة هو تنويع تلقائي للعنصر الأوّل، ويتمثل في حقيقة أنّ جيش النظام استدار نحو جماهير الشعب السوري المنتفضة في طول سوريا وعرضها، وانشغل تماماً بقمع التظاهرات وقصف القرى والبلدات والمدن بالأسلحة كافة، أرضاً وبرّاً وبحراً وجوّاً. ولقد انسحب تدريجياً من مواقع انتشاره الروتينية على الحدود مع الاحتلال، أو اكتفى بالتعامل (ليس دون سكوت إسرائيلي، أقرب إلى الإذن والترخيص) مع الفصائل الجهادية التي اتخذت من بعض بلدات الجولان منطلقاً لعملياتها. وهنا كانت المنهجية الإسرائيلية ثلاثية الأبعاد: 1) ضرب أيّ تجاوزات ضد جيش الاحتلال الإسرائيلي يسمح بها نظام الأسد من باب المناورة والتلويح باحتمال إثارة الشغب في الهضبة المحتلة (واقعة استهداف سيارتَيْ "حزب الله"، وقبلها سماح السلطات الأمنية السورية لعدد من الفلسطينيين باقتحام حدود الاحتلال الإسرائيلي في محاذاة بلدة مجدل شمس، على السفح الجنوبي لجبل حرمون)؛ و2) التوافق مع جيش النظام في حالات محددة، أبرزها الحيلولة دون تمركز "جبهة النصرة" في مواقع حساسة يمكن أن تهدد أمن جيش الاحتلال، هنا وهناك في الجولان المحتلّ؛ و3) ممارسة التخابث الدعائي عبر مفارقة إخلاء جرحى الجهاديين من مواقع الاشتباك ومعالجتهم في مستشفيات إسرائيلية من باب إبراز الصورة الإنسانية لدولة الاحتلال.
العنصر الثالث، والأهمّ بالطبع، هو أنّ دولة الاحتلال ـ وخلفها الولايات المتحدة، أياً كانت عقيدة شاغل البيت الأبيض ـ تعتبر توسيع النفوذ العسكري الإيراني في سوريا أكثر من مجرد خطّ أحمر أمني يخصّ الملفّ السوري؛ لأنه، في المنطق العياني الأبسط، يشمل حدود إسرائيل مع لبنان، وأمن السواحل الشرقية من البحر الأبيض المتوسط، فضلاً عن العراق والأردن والضفة الغربية وقطاع غزّة. ولس الأمر أنّ خشية إسرائيل من إيران مردّها أية درجة من العداء المستحكم، أو "حرب الوجود" كما يُقال، بين طهران وتل أبيب، إذْ برهنت تجارب الماضي على أنّ مصالح الدولتين يمكن أن تتلاقى في مناطق أكثر حيوية وإلحاحاً من حكاية تطوير برنامج نووي هنا، أو تسليح حليف هناك (يمكن، في هذا، الرجوع إلى حماس صهاينة أمريكيين من أمثال دانييل بايبس لإقامة حلف ستراتيجي بعيد المدى بين إسرائيل و"الفرس"، ضدّ "العرب"). الأمر، من جانب آخر، مدى استعداد إيران لاقتسام نفوذها في سوريا ولبنان والعراق مع أيّ طرف آخر، على غرار روسيا مثلاً، فكيف بإسرائيل؛ أو تسخير بعض ذلك النفوذ بما يخدم تقاسم منطقة أمن متوسطية وشرق ـ أوسطية عريضة، تنطوي على تنازل طهران عن بعض مطامح "الهلال الإيراني" الموعود، دون سواه.
العنصر الرابع يتخذ صفة ثقافية ـ تاريخية، إذا جاز القول، وهو أنّ العداء بين إسرائيل والعرب أقلّ من العداء بين إسرائيل وإيران، بل لعله من حيث القيمة والسجلّ التاريخي يُفقد مفردة "العداء" الكثير من دلالاتها العدوانية؛ وبالتالي فإنّ التحفظ الإسرائيلي حول البرنامج النووي الإيراني مسألة فيها نظر، وليست البتة محور صراع وجودي عميق الجذور، كما هي حال إسرائيل مع العرب والفلسطينيين. لهذا توفّر، منذ أواسط العام 2012، رأي ثقافي ـ تاريخي أدلى به ألكسندر آدلر، المؤرّخ والصحافي الفرنسي اليهودي، خلال حوار مع "المركز الملّي العلماني اليهودي" في باريس؛ قال فيه: "لا أعتقد أنّ الإيرانيين أرادوا في أي يوم امتلاك القنبلة النووية لتهديدنا، نحن اليهود؛ وأنّ الهدف في الحقيقة كان بلوغ التفوّق على العالم العربي، والعالم العربي السنّي، في موازاة تجربة الباكستان النووية". ثمّ ربط هذا التقدير بواقع انتفاضات العرب: "إذا سألتني عن جوهر موقفي، أرى أنّ الشعب الإيراني هو الأقرب إلى الشعب اليهودي، وإذا كان ثمة بلد محصّن ضدّ العداء للسامية، فهو إيران (...) واليوم أعتقد أنّ العدو الرئيسي هو تجمّع المتشددين المسلمين السنّة، العرب، القائم على خليط من الناصرية وعقيدة الإخوان المسلمين".
هذه، إذن، أربعة عناصر، بين أخرى بالطبع، تحكم المواجهة بين إسرائيل وإيران في سوريا. ولعلّ مقدار تكاملها، وترابط أغراضها، يجعلها تُقاس بميزان الذهب؛ رغم كلّ الضجيج والصخب والعجيج!
 13/4/2018

كويتزي وفنّ المراجعة الصحفية

بين مراجعة أو مقدّمة لطبعة خاصة أو ترجمة، جمع الروائي الجنوب ـ أفريقي ج. م. كويتزي 23 مادّة سبق أن نشرها في دوريات مختلفة، خلال سنوات 2006 و2017، وصدرت مؤخراً تحت عنوان "مقالات متأخرة"، عن Viking، في 304 صفحات. هنالك، بين رواية وشعر، قراءات في أعمال الإنكليزيَيْن دانييل ديفو وفورد مادوكس فورد، والأستراليين ليس موراي وباتريك وايت وجيرالد مورناين، والأمريكيَيْن فيليب روث وناثنييل هوثورن، والألمان يوهان فون غوته وفردريش هولدرلن وهنريش فون كلايست، والسويسري روبرت فالزر، والفرنسي غوستاف فلوبير، والأوكرانية إيرين نيمروفسكي، والأرجنتيني أنتونيو دي بنديتو، والروسي ليو تولستوي، والإسباني خوان رامون خيمينيث، والبولندي زبغنيو هربرت، والإرلندي صمويل بيكيت، ثمّ الزعيم والبطل الشعبي الناميبي هندريك ويتبوي.
والحال أنّ ممارسة المراجعة الصحفية للأعمال الأدبية تظلّ واحدة من أفضل عادات كويتزي، أو أيّ روائي أو شاعر متقدّم التجربة، لا تُغني حياة العمل وتلعب دور الوسيط مع القارئ، كما تقترح قراءة أخرى غير تلك التي تصدر عن الناقد المتمرس، فحسب؛ بل هي ثمينة على نحو خاصّ، لأنها تصدر عن "خبير" في خفايا إنتاج الأدب، من حيث المحتوى والشكل ونطاق القراءة. ومع الاحتفاظ بحقّ كويتزي في تقدير أسباب اختيار هذه المادّة أو إغفال تلك، فإني شخصياً أفتقد في "مقالات متأخرة" تلك المراجعة المعمقة التي كتبها حول نجيب محفوظ، سنة 1994 في "نيويورك ريفيو أوف بوكس"، وشملت قراءة روايات "الحرافيش"، "زقاق المدق"، "بين القصرين"، "قصر الشوق"، "السكرية"، "بداية ونهاية"، "أولاد حارتنا"، "اللص والكلاب"، "ثرثرة فوق النيل"، و"رحلة ابن فطومة".
في كلّ حال، وسواء اتخذت المادة صيغة قراءة للعمل أو مقدّمة له، فإنّ فنّ المراجعة الصحفية هو الذي يهيمن على روحية الكتابة؛ فلا يقود كويتزي قارئه إلى اشتباك تحليلي أو تنظيري نقدي معقد، فما بالك بأطروحات أكاديمية، بل يمارس حقّه كمؤلف/ قارئ (أو العكس، سيّان)، يعرب عن رأي بسيط هنا، صريح هناك، تلقيني أحياناً، متعطش إلى التعلّم من الكبار غالباً. وأن تراجع عملاً أدبياً ما، ثمّ أن تراجعه من خارج اشتراطات الدرس النقدي تحديداً، أمر يعني مقاربة العمل من موقع التذوّق الذاتي والتثمين الشخصي، بما يتيح هوامش تقدير مفتوحة لا يحدّها محظور أسلوبي هنا، أو قاعدة أجناسية هناك...
ليس مفاجئاً، والحال هذه، أن تنمّ اختياراته في "مقالات متأخرة" عن نزوعاته، هو نفسه، في كتابة الرواية؛ وكذلك عن العنصر الأهمّ في منجزه السردي، أي العلاقة مع التاريخ. ومنذ روايته الأولى "بلاد الغسق"، 1974، والتي صدرت قبل سنتين من تمرّد سويتو الذي آذن باقتراب الثورة في جنوب أفريقيا؛ أقرّ كويتزي بواجب التعليق على تاريخ البلد، وبالحقّ في تفسيره أيضاً. عند مواطنته نادين غورديمر كانت الواقعية صريحة وصارخة، وكان التاريخ يدخل في نسيج العمل ويصنع عمقه مثل سطحه؛ وأمّا عند كويتزي فقد اختلف الخيار في جانب جوهري حاسم، هو "ذلك الميل القويّ، والميل الطاغي أيضاً، إلى تضمين الرواية في التاريخ، وقراءة الروايات بوصفها استقصاءات تخييلية في القوى التاريخية الحقيقية والظروف التاريخية الحقيقية؛ ثمّ بالعكس، اعتبار الروايات التي لا تؤدّي هذا الاستقصاء حول ما يُعدّ قوى وسياقات تاريخية حقيقية، بمثابة روايات تفتقر إلى الجدية"، كما كتب في مقالة بعنوان "الرواية اليوم".
ولا يخفي كويتزي انحيازه إلى تلك الرواية التي تشغل موقعاً مستقلاً، وتطوّر مثالها الخاصّ وأساطيرها في سيرورة قد تبلغ درجة فضح "الموقع الأسطوري" للتاريخ، أي تجريد التاريخ من أَسْطَرته في عبارة أخرى. ذلك يتبدى في مقدماته لـ"روكسانا" و"الحرف القرمزي" و"مدام بوفاري" و"موت إيفان إيليتش" و"الجندي الطيب" و"المساعد" و"المركيزة أو." و"واط"؛ أعمال ديفو وهوثورن وفلوبير وتولستوي وفورد وفون كلايست وبيكيت، على التوالي. وهذه سيرورة بالغة الأهمية عند كويتزي لأنّ الكثير من تاريخ الإنسانية كُتب على نحو متحزّب للأقوى وللسلطة، وثمة ضرورة لكشف النقاب عن سردياته العليا التي تقوم على التشويه والتزييف.
كذلك يشفّ فنّ المراجعة عند كويتزي عن ميله إلى المونولوغ السردي، الذي يصنعه "صوت" واحد يحكي حكاية الناطق؛ ويتميّز تماماً عن السرد بضمير المتكلّم في أنه صوت لا ينقطع، على نحو معقّد ومتشابك. وهذه تقنية تسعف في تبديد مقدار إضافي من شراك "الواقعية" القسرية، التي يلوح أحياناً أنها أمر لا مفرّ منه إذا توجّب إشباع الخلفيات التاريخية للأحداث أو الشخصيات. في عبارة أخرى، ينبغي أن يكون هذا الصوت "لاواقعياً" بعض الشيء، ولكن بمقدار محسوب تماماً، لكي يفلح في النأي عن السارد، وبناء الحوار الداخلي؛ بما يراكم رابطة بين ناطقَيْن، جدلية وحيوية لهما معاً، في نهاية المطاف.
ويبقى، بالطبع، أنّ موادّ "مقالات متأخرة" لا تتخلف عن أداء الدور الأهمّ في المراجعة الصحفية، أي تحريض القارئ على صياغة قراءته الخاصة للعمل، سواء عبر الاستهداء بما يقترحه المراجِع الوسيط، أو الاختلاف مع خلاصاته والذهاب إلى أخرى قد لا تُقارب البتة ما انتهت إليه المراجعة. وتلك، غنيّ عن القول، في رأس فضائل التوسط التي يعتمدها كويتزي.
 8/4/2018

إذا كانت للجوائز الأدبية العربية أية دلالة خاصة في تثمين الفائزات أو الفائزين بها، فإنّ طريق جائزة العويس إلى الروائية اللبنانية هدى بركات قد تعرّج كثيراً قبل أن يبلغها، في يقيني الشخصي؛ ولستُ هنا أقصد إقامة مفاضلات أو أحكام قيمة مع اللواتي والذين فازوا بالجائزة، إذْ أنّ معظمهم يستحقها غنيّ عن القول. وصلت الجائزة، إذن، وقالت لجنة التحكيم إنّ أعمال بركات "طافحة بالفقد والخسران والتيه والعنف والبحث عن معنى في الفوضى العارمة حولها، حيث تكتب بلغة عالية عن الشخصيات والتواريخ، وتنوع في رواياتها بين فنون الكتابة الذاتية والسردية".
وإذا كانت روايتها الأخيرة "بريد الليل" مغامرة جسورة، في معمار الشكل وتجزئة الأصوات الساردة وتقاطع الشخوص والمصائر؛ وكانت "ملكوت هذه الأرض"، 2012، ذروة عالية في تسخير فنّ الرواية لتكثيف معضلات الوجود البشري تحت وطأة زمان حاشد ومكان طاحن وتاريخ كابوسي؛ فإنّ "أهل الهوى"، 1993، هي الرواية التي شهدت أقصى البراعة في ممارسة ألعاب الرواية، الحديثة والحداثية، من خلال الموت بوصفه خطّ اللعب الموازي. وعلى سبيل تهنئة الروائية الكبيرة، أجدني أعود إلى "أهل الهوى" تحديداً، ليس دون إعراب عن انحيازي إلى كتلة أعمال تميزت على الفور، منذ عام 1985، فوضعت بركات في مصافّ أفضل ما ارتقت إليه الرواية العربية المعاصرة.
ولقد سبق لي، في تعليق على هذه الرواية البديعة، أن افترضت بأننا لم نعد في حاجة إلى إقلاق عظام منظّر فذّ مثل جورج لوكاش، لكي نتيقن من أنّ مسقط رأس الرواية هو الفرد الأعزل، المعزول عن أيّ عزاء، والعاجز عن تقديم العزاء للآخرين. أو، في صدد ما تتناوله هذه السطور، لكي نباغت بركات (الروائية من رأسها حتى أخمص قدميها) متلبسةً بألعاب العزلة إياها، حيث صناعة المعنى بوسيلة الفخاخ اللغوية هو التعويض الوحيد عن "القصّ" و"سرد الحكاية" و"رسم الشخصية" و"بناء الحبكة"... تلك الأقانيم الجليلة، التي شهدت سقوطاً تاريخياً مدوياً في النماذج المعاصرة من نوع أدبي بدأ على هيئة "ملحمة البرجوازية"، ويستوطن اليوم مجاهل "نثر الروح" في سرديات قصيدة النثر.
أولى الألعاب أنّ الرواية لا تدور حول الهوى، رغم أنها تسرّبه ابتداءً من الصفحة الثانية: "إنّ من لم يعرف الهوى، والغرام مكتملاً كشمس، لا يعرف مكتملاً الغرام كفطر نووي عملاق لانفجار واحد وأبدي وثابت، لا يعرف. لا يعرف أن بذرة الموت تنزل في رطوبة الظلمة الملائمة، حين نوقن من اللمسة الأولى أنه هو نفسه، ذلك الجلد بحرارته الملائمة المضبوطة استثنائياً ونهائياً من أجل حرارة جلدنا، بذرة القتل"؛ ورغم ما تعلنه في آخر سطر: "... أتأمل في فراغي منها، قبل الفجر بقليل، ككلّ أهل الهوى. يا ليل". ولكنّ الهوى وأهله أجزاء متقطعة مبعثرة، رُشقت على مساحة أخرى هي النسيج المحوري الأسفل الذي يشدّ عوامل المقولة المركزية (الفرد الأعزل)، ويغلّف تلك العوالم لكي يتمزق تحت ثقلها، وينفجر بها ويفجرها، مثل... فطر نووي عملاق!
اللعبة الثانية هي أنّ تلك المساحة ليست سوى الذاكرة، المفتوحة مع ذلك على "نسيانات" بطل بركات وليس على استذكاراته؛ وعلى انخراط القارئ في لعبة الواقعة التي وقعت/ لم تقع (القتل، الهوى، الخطف، الجنون...). وكذلك على قوانين اللعبة الأمّ الأخطر، في تحويل العمل الروائي إلى أحجية ذهنية، ومتاهة رغبات غير قابلة للتحقق؛ وحين ينقلب نظيرُه، اللعب اللغوي ـ على يد ناثرة ذكية مثل بركات ـ إلى ما يسمّيه جاك دريدا "حقل الإبدالات اللانهائية"، المفتوحة أبداً على احتمالات جديدة.
لعبة ثالثة تتمثل في أنّ المساحة إياها ــ التي تنبسط على امتداد ذاكرة مفتوحة، قوامها نسيانات متكررة، على خلفية امتزاج ذكريات الحرب الأهلية اللبنانية مع هلوسات غرام جامح مثقل بويلات وطن ــ إنما تعيد، من النافذة الضيقة، إدخال حسّ الملحمة إلى عمل روائي حداثي يُفترض أنه طرد الملحمية من البوابة العريضة! لهذا فإنّ سرد بركات لا يبدو حكائياً صرفاً، بل هو متحالف مع القصة القصيرة، والشريط السينمائي، ومجاميع المسرح (الذي تمرست فيه بركات، كما يتوجب التذكير)، والمشهد التشكيلي، والمعطى الإخباري... وعند خلائط مثل هذه تنشطر "الوحدة العضوية" و"الموضوع" و"صوت السرد" وسواها من قواعد التدوين الروائي، إلى قطبين اثنين لا يلوح أنّ ثالثاً يتدخل بينهما: التذكّر، وهو سمة الرواية بامتياز؛ والاسترجاع، وهو سمة القصّ بامتياز مماثل.
فهل تباغت بركات استرسال قارئها في هذه الألعاب، كلها أو بعضها (وثمة في النصّ ما يدعو، حقاً، إلى الانشداد والانجرار والاستغراق)؟ أم أنه هو الذي يباغتها، حين يكون استقباله لتلك الألعاب بمثابة تعاقد مع الفنّ الروائي، ذاته؟ في عبارة أخرى، أليست غاية بركات من اجتراح هذه الألعاب، وسواها، هي اجتذاب القارئ إلى مساحة مشتركة بين مؤلف مرسِل بارع يتعمد التركيب، وقارئ مستقبِل متدرب يستطيب التورط في تفكيك التركيب؟ أليس بين أفضل عناصر الإمتاع، في الأدب الحداثي تحديداً، ذاك الذي يقيم علاقة تبادلية وتفاعلية بين مؤلف تخفى في إهاب قارئ، وقارئ فضح التخفي فاستولى على موقع المؤلف؟
1.4.2018

مجتمع الغوطة الشرقية: بين الشيخ العميل والثائرة المحجبة

ليست آخر أحزان أهل الغوطة الشرقية حكايةُ الشيخ بسام ضفدع، العضو السابق في المكتب الشرعي لـ"فيلق الرحمن" الجهادي، والذي اتضح أنه كان عميلاً للنظام السوري منذ 2011، وأسهمت مجموعته المقاتلة ("لجان المصالحة" في تسمية الشيخ العميل لها، و"الضفادع" حسب التسمية الشعبية) في مساعدة قوات النظام على اقتحام كفربطنا والسيطرة عليها. وكان إجراءً مفروغاً منه أن يسجّل ضفدع، فور خروجه، شريطاً خاطب فيه بشار الأسد هكذا: "سيدي الرئيس المناضل الكبير"، و"كنّا نعرف أنكم على الحق، وأنّ النصر سيكون حليفكم"، ومثلكم يا سيدي يكون درع الأمّة وحصناً لها وقائداً ومرشداً وموجهاً وحامياً".
أم لعلّ حكاية هذا العميل الشيخ ليست البتة ضمن أحزان أهل الغوطة الشرقية، أو لا يتوجب أن تكون؛ بالنظر، أوّلاَ، إلى الأهوال الكبرى الأعظم التي حاقت بهم طوال سبع سنوات، نصفها على الأقلّ تحت وطأة أمثال ضفدع من الجهاديين والشرعيين، الذين تباروا مع النظام في ممارسة العسف والتسلط والقمع والقهر والاختطاف. وبالنظر، ثانياً وتالياً، إلى صَغار نفوس هؤلاء "المشايخ" العملاء، ومقدار ما ينطوي عليه سلوكهم من دناءة وخسة وغدر، وتلاعب بمشاعر بسطاء المؤمنين تحت ستار الإسلام والجهاد؟ ثمّ بالنظر، ثالثاً، إلى حقيقة أنّ عمالة غالبية الجهاديين في الغوطة الشرقية كانت قائمة في كلّ حال؛ إنْ لم يكن لصالح الأسد وأجهزته على مستوى الأفراد، فإنها على مستوى المجموعات لصالح هذا الجهاز الخارجي أو ذاك، وهذه العاصمة أو تلك، ولا اختلاف في جوهر التبعية وطبائع الولاء.
في الغوطة الشرقية مئات الحكايات الأخرى، الملحمية بامتياز، والتي واصلت صناعة الحياة في قلب الأنواء المفتوحة على كلّ الويلات، من حصار التجويع والدواء إلى القصف بالأسلحة الكيميائية، ومن طائرات فلاديمير بوتين إلى قذائف علي خامنئي وتابعه حسن نصر الله؛ فضلاً، بالطبع، عن تصارع زعامات الجهاديين والسلفيين، وبينهما تجّار التحكم بحليب الطفل والخبز كفاف اليوم، ورجالات السمسرة والتهريب والتحكم بالأسعار وفرض الأتاوات. سبع سنوات لم يكنّ عجافاً بأي معنى يخص البقاء البشري البسيط، في وجه وحوش الخارج واستطالاتها في الداخل؛ وذلك رغم الأثمان الفادحة التي توجّب أن تسددها مدن الغوطة الشرقية وبلداتها وقراها، شجرها وزرعها وضرعها، وحقولها التي زنّرت بالخضرة تاريخ دمشق العتيقة مثل جغرافيتها.
صحيفة الـ"غارديان" االبريطانية استطابت اقتباس شريط بالعربية، متوفر على "يوتيوب"، لا تتحدث فيه طبيبة الأطفال أماني بلور، مديرة مشفى الغوطة الشرقية، عن المشاق الهائلة التي تواجهها في عملها كطبيبة، فحسب؛ بل تروي، أيضاً، معاناتها مع مواقف اجتماعية ذات صلة بمكانة المرأة في شرط الحصار. تقول بلور (وننقل بالفصحى ما أوردته بالعامية في الشريط): "أنا أسمع الكثير من الأصوات الناقدة، التي تتساءل مثلاً لماذا لا يكون أطباء رجال هم الذين يستلمون إدارة المشفى. ويحدث أحياناً أن يرفض البعض الكلام معي، كوني مديرة أنثى. نحن النساء في الغوطة أكثر عدداً من الرجال بكثير، وقدّمنا تضحيات من أجل الثورة، وأكثر مما قدّم الرجال. حين بدأ العنف ضد الغوطة وضد الناس، القصف والقتل اليومي، اخترت أن أبقى في الغوطة، كان هناك جرحى كثر ومصابين دائماً، ومرضى بحاجة إلى أطباء. هنالك مجتمع لديه نظرة معينة، وسوف يبقى هكذا إذا بقينا خائفين وملتزمين ببيوتنا ونخضع لقرارات المجتمع التي ليست منطقية غالبية الأحيان. ينبغي على المرأة المشاركة في كل هذه المجالات، وأرى أننا نحن اللواتي نستطيع تغيير هذا الواقع".
للمرء أن يرجّح، بادئ ذي بدء، أنّ تحرير الـ"غارديان" وقع تحت جاذبية مفردات الصمود الإنساني والأخلاقي، ثمّ المهني بالطبع، التي ينطوي عليها خطاب طبيبة الأطفال؛ التي تتحدث من قلب الحصار، تحت القصف ساعة بساعة، وفي ظلّ أخطار موت محدقة من كلّ حدب وصوب. ليس للمرء ذاته أن يستبعد احتمال جاذبية أخرى، تنطلق من نبرة التحرر النسوي، الاجتماعي ـ السياسي على نحو أو آخر، التي يتصف بها حديث الطبيبة عن تمكين المرأة؛ وتنطلق كذلك من روحية استنهاض الثورة على المواقف الاجتماعية غير المنطقية، والتشديد على مفاضلة موقع المرأة في سلّم التضحية مع الرجال، بل أكثر منهم أيضاً. ويبقى احتمال ثالث، لعلّ الطبيبة ـ التي ترتدي غطاء الرأس، أو المحجبة بالأحرى ـ قد استثارته في ذهنية تحرير الـ"غارديان"؛ من زوايا لا تنأى كثيراً عن تنميطات الاستشراق الغائرة في الضمائر، ودهشة/ بهجة الغرب في أن تظهر على الملأ، عبر "يوتيوب"، امرأة سورية محجبة، في قلب الغوطة المحاصرة، على هذا القدر من الحسّ الثوري والتفاني الميداني.
وكما كان الشيخ العميل، ضفدع، يدرك أنه سوف يلاقي رؤساءه في أجهزة النظام ذات يوم، وسيلقى من إعلام النظام عبارات الترحيب والتهنئة بالسلامة؛ كذلك كانت الطبيبة المحجبة تدرك أنها تخوض معركة يومية ضدّ أشكال الموت المختلفة، وأنّ سلوكها وأعمالها وتصريحاتها سوف تُخزّن لدى أجهزة الرصد التابعة للنظام، وقد تدفع باهظاً ثمن شجاعتها الثورية في أيّ يوم، وشيك أو بعيد. وتلك حال تتجاوز مستوى تحصيل الحاصل المنطقي، في أنها تكشف، أو تساعد على استكشاف، أنماط العلاقة الاجتماعية مع مقدّرات الانتفاضة الشعبية ومتغيراتها وأقدارها؛ ليس قياساً على الموقع المهني (بين الطبيبة الميدانية والشيخ عضو "المكتب الشرعي") فقط، بل قياساً أيضاً على البُعد الأخلاقي من مسائل الدين والتديّن. وليست مبالغة، كما يقول المنطق البسيط، أن يكون الشيخ في طليعة أولئك الذين اعترضوا على تسليم مشفى الغوطة الشرقية إلى طبيبة أنثى، إذْ أنّ هذه وظيفة معلنة مناطة به كـ"شرعيّ" يزعم العلم بالشريعة والفتوى فيها؛ كما أنها وظيفة مضمرة يتوجب أن يمارسها من موقعه كعميل، يتوجب أن يخدم أغراض النظام في افتعال كلّ شقاق كفيل بتأزيم المجتمع.
هي كذلك حال تتجاوز تحصيل الحاصل في أنها تعيد التذكير بالمعضلات الخَلْقية والتكوينية التي اقترنت بصعود التيارات الجهادية، وسيطرتها العسكرية على مناطق واسعة في ريف دمشق، وأشكال الهيمنة السياسية والاجتماعية والأمنية التي مارستها ضدّ مواطني تلك المناطق؛ وصولاً، بالطبع، إلى انهياراتها العسكرية المتعاقبة، وما ترافق معها من صراعات داخلية ومواجهات عسكرية، كان معظمها ينقل المياه إلى طواحين النظام. وإذا كان من نافل القول التشديد على أنّ أرجحية النظام العسكرية صنعها التدخل العسكري الروسي في مستوى عمليات القصف الوحشية غير المسبوقة، وأسهمت فيها كتائب "حزب الله" والميليشيات المذهبية العديدة، دون نكران الدور الخاصّ الذي لعبته "داعش" في اهتزاز الكفّة مراراً؛ فإنّ من نافل القول، على قدم المساواة، تحميل تنظيمات سلفية مثل "جيش الإسلام" و"جبهة النصرة" و"أحرار الشام" و"فيلق الرحمن" و"سرايا الجهاد" وسواها، مسؤولية مباشرة عن المآلات الكارثية التي انتهت إليها خياراتها العسكرية والجهادية ذاتها، إذا وضع المرء جانباً خياراتها الأمنية والبوليسية البغيضة في إدارة ما سًمّي بـ"المناطق المحررة".
وإذْ يُهجّر أمثال الطبيبة المحجبة ضمن حشود أبناء الغوطة الشرقية إلى عراء سوري مفتوح على كلّ المخاطر، طال الزمن أم قصر؛ ويعود أمثال الشيخ العميل إلى أحضان سادته في أجهزة النظام، ضحايا المخاطر ذاتها، شاؤوا أم أبوا؛ فإنّ مجتمع الغوطة الشرقية كان، وهكذا يظلّ، صورة واحدة من عشرات الصور التي تشكّل بانوراما اجتماع سوريا الذي انتفض ضدّ نظام الاستبداد والفساد والوراثة والتبعية؛ والذي لن يرتدّ البتة إلى وراء، وباتت إعادة إنتاجه إلى ما قبل 2011 ضرباً من محال مطلق.
29.3.2018

هنديّ محمود درويش

بتعاون بين موسيقى الثلاثي جبران، وإلقاء البريطاني روجر وترز العضو المؤسس لفرقة "بينك فلويد" الشهيرة؛ صدر مؤخراً شريط يحتوي مقاطع بالإنكليزية (ترجمة فادي جودة ووترز نفسه)، من قصيدة محمود درويش "خطبة الهندي الأحمر ـ ما قبل الأخيرة ـ أمام الرجل الأبيض".
وقد سبقت لي الإشارة إلى أنّ درويش عكف، خلال الشهور الأخيرة من العام 1991، على قراءات مكثفة تخصّ الأقوام الأصلية في أمريكا الشمالية (أو "الهنود الحمر"، كما في التسمية الشائعة، الإشكالية بالطبع)؛ ضمن مراحل التحضير لكتابة تلك القصيدة المطوّلة. لقد شاهد عدداً كبيراً من الأفلام الوثائقية والروائية، وتفحّص مجموعة متنوعة من الصور الفوتوغرافية القديمة، واستمع إلى أشرطة صوتية تضمنت مقطوعات موسيقية وتراتيل ومؤثرات صوتية طبيعية وتمثيلات أدائية طقسية. كذلك قرأ عشرات النصوص من تراث الهنود الحمر، خاصة تلك التي تصف وقائع اللقاء مع الأبيض، والاقتلاع من الأرض، والإبادة الجماعية، والشعائر، وأنماط العبادة، والمقدّس البيئي مثل المقدّس الروحي. وكان، على نحو خاصّ، شديد الافتتان بتلك الخطبة الشهيرة التي تُنسب (على سبيل الخطأ، كما يساجل البعض) إلى الزعيم سياتل، سيّد قبيلة الـ "دواميش"، في سنة 1854.
كان درويش يكتب على نحو مفرط في التمهل، وكنت من جانبي أظنه يتباطأ في الكتابة عن سابق قصد وتصميم، لسبب جوهري أوّل هو أنّ تجربة الزعيم سياتل كانت تتصادى في نفس درويش مع مفاوضات أوسلو السرّية. ولم يكن الشاعر سعيداً بهذا الطراز من التصادي، لاعتبارات وطنية فلسطينية (قادته، بعدئذ، إلى الاستقالة من اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية)؛ ولكن، أيضاً، لأنّ أبحاثه أثناء الإعداد للقصيدة زرعت في وجدانه مشاعر احترام عميق لتراث الأقوام الأصلية، ورسخت عنده مستوى من التماهي مع القضية الفلسطينية ظلّ يتنامى طيلة أشهر سبقت نشر "خطبة..." سنة 1992، في مجموعة "أحد عشر كوكباً".
ومنذ السطور الأولى تفصح القصيدة عن جملة ستراتيجيات اعتمدها درويش في تحقيق غرضَيْن حاسمين: تقويض التنميط المسبَق للهندي الأحمر، ضمن سياقاته الروحية والفلسفية والطبيعية؛ ثم الانطلاق من ذلك إلى استجلاء فضاء المواجهة بين أهل الأرض (أينما كانوا، ولكن في المسيسيبي وفلسطين على وجه التخصيص)، والآخر القادم، الذي اجتاح واستوطن. التراجيدي هنا يلتحم في فضاءات المقدّس الأعرض والأكثر تعبيراً عن البشر والطبيعة؛ بحيث تتحوّل الذاكرة المنتهَكة (بعناصرها وشعائرها وطقوسها وحركتها في التاريخ) إلى إرث منتهَك تفقده ضحية فيزيائية ومجازية محدَّدة، مُجتاحَة ومنفية ومهزومة ربما، ولكنها متجذرة في الأرض، وقائمة، ومقاوِمة.
والحال أنّ القصيدة كانت اشبه بترجمة شعرية وجمالية مذهلة لكثير مما جاء في "الصوت الآخر"، مقالة الشاعر المكسيكي أوكتافيو باث البديعة، حيث الشعر "صوت الآخر. وصوته آخر لأنه صوت المشاعر وصوت الرؤى. إنه صوت العالم الآخر وصوت العالم الراهن، صوت أيّامٍ عفا عليها الزمان مثل أيّام نعيشها الآن. هَرْطوقيّ وإيماني، بريء ومنحرف، رائق وعَكِر، فضائيّ وتحت ــ أرضيّ، يخصّ الصومعة مثل ركن الحانة، وفي متناول اليد لكنه دائماً في المنأى". ويذهب باث أبعد، أو بالأحرى يتوغل أعمق في دخيلة الشاعر أمام "برهة الشعر"؛ هذه التي "طالت أم قصرت، فإنّ جميع الشعراء ــ إذا كانوا شعراء ــ يصغون فيها إلى الصوت الآخر (...) يصبحون هم الآخر".
وهذا نصّ يلخّص، على النحو التأمّلي المعمّق والمشبوب الذي ميّز تنظيرات باث لمسائل الشعر، جملة المعضلات العديدة التي تكتنف مسألة حضور الآخر وصورة ذلك الآخر في آداب الأمم عموماً، وفي نتاجها الشعري بصفة خاصة. ذلك لأنّ الإشكالية تتجاوز بكثير حدود النشاط الذي يكتفي برصد أو إحصاء صُوَر الآخر في موروث شعري ما، ثمّ استخلاص مؤثراته ومحاسنه ومساوئه، خصائصه ودينامياته وتفاعلاته وفاعليته. هذه الرياضة النقدية، على طرافتها وأهميتها المدرسية، لا تنصف جوهر الإشكالية في أبعادها الإبداعية والجمالية والفنّية من جانب أوّل، ثمّ في أبعادها الثقافية والحضارية المقارنة من جانب ثان.
إنها، في كلّ حال، لم ترضِ شاعراً كبيراً ومنظّراً للشعر رفيع الثقافة مثل باث! فهو، في مقاطع أخرى أكثر حرارة، يعتبر أنّ فرادة الشعر الحديث لا تتأتى من أفكار الشاعر أو مواقفه، بل من صوته: "الشعر ذاكرة تنقلب إلى صورة، وصورة تنقلب إلى صوت. الصوت الآخر ليس الصوت المنبعث من القبر، بل هو صوت الإنسان الراقد عميقاً في قلب قلوب الإنسانية". وهذا هو مبتدأ انتقال القصيدة من النطاق المحلي إلى الرحابة الكونية، ونحن نواصل شغفنا بقراءة المعلقات، وإلياذة هوميروس، ومسرحيات شكسبير، وقصائد بابلو نيرودا ورابندرانات طاغور... لأنها إنما تواصل اقتيادنا إلى عوالم كونية أوسع بكثير من صحراء الشاعر الجاهلي، وحصار طروادة، وقلعة هاملت، ومناخات تشيلي أو الهند.
وبهذا المعنى، فإنه لو بقي درويش شاعراً ناطقاً بالحقّ الفلسطيني وحده، فلم يرتقِ بالهوية الفلسطينية، شعباً وثقافة وتاريخاً، إلى مصافّ كونية تمسّ شغاف البشر في كلّ مكان وزمان؛ لبقي شاعراً محلياً، أسوة بعشرات الشعراء الذين عرفتهم ثقافات الأمم، فأبدعوا واشتهروا في حقبة محددة، ثمّ طواهم النسيان، وغمرتهم سنّة الأكوان!
25/3/2018

أدب المخابرات ومسلسل التنفيس في سوريا

  خلال السنوات السبع التي انقضت من عمر الانتفاضة الشعبية السورية، صدرت ـ في لغات شتى، عربية وأجنبية ـ عشرات الأعمال التي تناولت جوانبها المختلفة؛ وإنْ كان الاهتمام الأشدّ قد تركز على الجوانب الاجتماعية والسياسية والإنسانية الداخلية، وكذلك الأبعاد الخارجية الإقليمية والدولية. الثقافة، من جانبها، لم تحظ إلا بمتابعات محدودة؛ ذهب الكثير منها صوب استقراء المعطيات الإثنية والطائفية، وكان مسُّ الآداب والفنون عابراً غالباً.
وبين النماذج النادرة، على الالتفات المعمق إلى الثقافة، هذا المؤلف الجماعي الذي صدر بالإنكليزية سنة 2015، عن جامعة سيراكيوز ـ نيويورك، بعنوان "سوريا من الإصلاح إلى الثورة: الثقافة، المجتمع، والدين"؛ بتحرير مشترك من كريستا سالامندرا وليف ستينبرغ. تضمن الكتاب مساهمات من ماكس فايس: "ما يكمن في الأسفل: النقد السياسي في القصة السورية الراهنة"؛ سالامندرا: "انهمار الدراما السورية، بين التواطؤ والنقد"؛ دوناتيلا ديلا راتا: "’ستراتيجية الهمس’: كيف يصوغ صنّاع الدراما السورية القصةَ المتلفزة في سياق التسلط والتسليع"؛ شاينا سيلفرستين: "اللبرلة الثقافية أم التهميش؟ ثقافة السياسة في الرقص الشعبي السوري خلال إصلاح السوق الاجتماعي"؛ لورا رويز دي ألفيرا: "جمعيات الإحسان المسيحية ونظام البعث في سوريا بشار الأسد: تحليل مقارن"؛ أندريا بندك: "أداء الأمّة: المسيحيون السوريون على خشبة المسرح"؛ توما بييريه: "خلفية التاجر، أخلاق البرجوازي: علماء سوريا واللبرلة الاقتصادية"؛ وستينبرغ: "المنظمات الإسلامية في سوريا بشار: تحوّل مؤسسة الشيخ أحمد كفتارو".
ليس هنا المقام المناسب لمراجعة الكتاب على أيّ نحو تفصيلي، حتى بإيجاز شديد؛ لأنّ كثافة المادة وتشعّب الموضوعات وتعدد المقاربات، فضلاً عن تفاصيل منهجية وبحثية أخرى عديدة، تقتضي قراءة مفصلة، إذا شاء المرء إنصاف العمل، بما له وما عليه بالطبع. غاية هذه السطور، إذن، هي التنويه بالكتاب في الذكرى السابعة للانتفاضة، من جهة أولى؛ والإشارة إلى أطروحتين على وجه التحديد، من جهة ثانية: "رواية المخابرات"، التي يناقشها فايس؛ ومسلسل "التنفيس"، كما تشخصه سالامندرا؛ وكلا الفصلين ينطلقان، في يقيني، من مسلّمة مشتركة مفادها أنّ ممارسة النقد السياسي عبر السرد القصصي أو الدراما لا تتمّ إلا في باطن الموضوعات، وفي الدلالة المستترة رغم وضوح الترميز فيها.
فايس، الذي يستعير تعبير "رواية المخابرات" من تعليق للشاعر اللبناني عباس بيضون، يختار نموذجين: فواز حداد، في روايته "عزف منفرد على البيانو"، 2009؛ ونهاد سيريس، في "الصمت والصخب"، 2004؛ مع إشارات متفرقة إلى مصطفى خليفة، في "القوقعة"، 2008؛ وسمر يزبك، في "لها مرايا"، 2010؛ وروزة ياسين حسن، في "بروفة"، 2011. ولعلّ لائحة الأعمال هذه هي المشكلة الأولى، المنهجية، في أطروحة فايس: أنه يبدأ الفصل من شرط "الانتفاضة الراهنة"، أي ما بعد آذار (مارس) 2011، ولكنه يبلغ خلاصات (عريضة تماماً في الواقع، رغم أنها سليمة) مستمدة من رواية صدرت قبل سنتين، وأخرى قبل وسبع سنوات؛ ثمّ يقرّ بأنّ الخلاصات ذاتها ليست جديدة، لأنّ الموضوعة السياسية تهيمن على الرواية السورية منذ عقود. كذلك فإنّ من الإجحاف الشديد أن يقتصر التحليل على هذه الأسماء، وتُهمل أسماء أخرى ذات أهمية حاسمة، في المرحلة ذاتها قبل الانتفاضة؛ ثمّ يتواصل القصور من خلال تجاهل التحولات الكبرى التي شهدتها الرواية السورية، في طبيعة مضامين الموضوع السياسي تحديداً، على نحو إيجابي أو سلبي، خلال سبع سنوات من عمر الانتفاضة، سواء عند الأسماء التي اختارها فايس أو تلك التي لم يتناولها.
سالامندرا تساجل بأنّ مسلسل "بقعة ضوء" كان عتبة تعبيرية عن أطوار "الانفتاح" التي شهدتها سوريا خلال سنوات الأسد الابن الأولى؛ مذكّرة بأنّ فريق العمل، في اعتماد السخرية والكوميديا والترميز، استلهم أعمال دريد لحام، وجماعة "مسرح الشوك"، و"مرايا" ياسر العظمة. ورغم إقرارها بأنّ "بقعة ضوء" يندرج في سياق "التنفيس"، تستنتج أنه ساعد في توسيع هوامش النقاش العام. مشكلة سالامندرا منهجية، هنا أيضاً، في أنها تقبل بالدور الذي لعبه مخرجون كبار مؤسسون (أمثال هيثم حقي وعلاء الدين كوكش وغسان جبري)، في نقل الخبرة والمهارة وأفق التطوير إلى الأجيال اللاحقة من المخرجين؛ لكنها لا تضع هذه الخلاصة في سياق سوسيولوجي فنّي أعمق، مفاده أنّ المؤسسين (ومعظمهم من خريجي الاتحاد السوفييتي وأوربا الشرقية) رسخوا أيضاً مدرسة واقعية اجتماعية في المسلسل السوري، فبات السقف مسيّساً بالضرورة. بهذا المعنى، فإنّ "التنفيس" لم يكن بدافع دغدغة حسّ الاحتجاج لدى الجموع، فحسب؛ بل كان استجابة لذلك السقف الذي ترسّخ واستقرّ حتى بات مطلباً جماهيرياً يصعب إغفاله، بالمعنى التسويقي الصرف. أمزجة الاستقبال الجَمْعية هنا تختلف، أغلب الظنّ، عنها في ثلاثية نجدت أنزور الشهيرة، "الحور العين"، المارقون"، و"سقف العالم"، على سبيل الأمثلة.
ويبقى أنّ هيمنة السياسة على الرواية السورية المعاصرة جزء من عطش السوري إلى التاريخ، أو تعطشه إلى صناعة التاريخ، في موازاة الحال العالقة التي يظلّ يصنعها نظام سياسي يحظر أيّ تاريخ شعبي خارج منظومة الاستبداد. حتمية الانتفاضة كانت، من جانبها، مبتدأ سردية كبرى تتابع ريّ ذلك الظمأ، وروايته.
18/3/2018

هايدن وايت وجماليات التاريخ

 رحل، قبل أيام، المؤرّخ والمفكر الأمريكي هايدن وايت (1928 ـ 2018)، أحد كبار فلاسفة التاريخ في النصف الثاني من القرن العشرين، وبين الأبرز في مقاربة قراءة التاريخ من منظور الناقد الأدبي، وعلم الجمال، وفنون الخطاب. وليس هنا المقام المناسب لاستعراض منصف، أياً كانت مقادير إيجازه، لسلسلة معقدة من الأفكار التي صاغها وايت حول استدراك الدلالات الأعمق ـ التي يصحّ الافتراض، أيضاً، أنها "مستترة" على نحو أو آخر ـ خلف حوادث التاريخ وحولياته ورواياته؛ أو بالأحرى: سردياته، كما كان وايت يفضّل القول. أعماله عديدة، بينها "مدارات الخطاب: مقالات في النقد الثقافي"، "محتوى الشكل" الخطاب السردي والتمثيل التاريخي"، "واقعية بلاغية: دراسات في تأثير المحاكاة"، "قَصَص السردية: مقالات حول التاريخ والأدب والنظرية"، و"الماضي العملي". وأمّا كتابه الاهمّ، في يقيني، فهو "ميتا ـ تاريخ: المخيّلة التاريخية في أوربا القرن التاسع عشر"، الذي صدر سنة 1973.
ولعلي أبدأ من حكاية قانونية، لا تشير إلى شجاعة وايت الشخصية، وموقفه النقدي العميق من المؤسسة الرسمية الأمريكية، والحرّية الأكاديمية وحرمة الحرم الجامعي، فحسب؛ بل هي إشارة عملية إلى طبيعة الحسّ بالتاريخ الفعلي، على نقيض ما اتُهم به وايت من تفضيل القراءة البلاغية لما هو فوق التاريخ (بمعنى بادئة الـ Meta كما استخدمها في عنوان كتابه الأشهر). ففي عام 1972، وكان يومذاك أستاذاً في جامعة كاليفورنيا ـ لوس أنجليس، رفع وايت شكوى ضدّ إدوارد م. دافيز رئيس الشرطة، بتهمة الإنفاق غير الشرعي للأموال العامة عن طريق زرع مخبرين في أقسام الجامعة، سجلوا أنفسهم كطلاب وكانت مهامهم الحقيقية هي كتابة تقارير عمّا يدور من مناقشات في قاعات التدريس. وقد صعدت الشكوى إلى المحكمة العليا في كاليفورنيا، وصدر حكم بالإجماع لصالح وايت، الأمر الذي سجّل سابقة قانونية تحظر على الشرطة أيّ انخراط في المراقبة خارج التفويض السليم على أساس الاشتباه بالجريمة.
أنوّه، كذلك، بأسف، إلى أنّ وايت ليس معروفاً في العالم العربي كما يليق بمفكّر كبير وفيلسوف في التاريخ من طرازه. وتقتضي الإشارة، دون إبطاء، إلى مبادرة حميدة لهيئة البحرين للثقافة والآثار، التي أصدرت أوّل كتاب مترجم (في حدود ما أعلم) من تأليف وايت؛ هو "محتوى الشكل: الخطاب السردي والتمثيل التاريخي"، نقله إلى العربية نايف ياسين وراجعه فتحي المسكيني. هنالك، بالطبع، إشارات متفرقة إلى أعمال وايت ونظريته حول السردية والميتا ـ تاريخ؛ بينها فصل فرعي في كتاب "المعرفة التاريخية في الغرب: مقاربات فلسفية وعلمية وأدبية"، للمؤرخ اللبناني قيس ماضي فرّو. كذلك كان لي شرف التنويه بتنظيراته حول العلاقة بين التاريخ والسرد، ضمن دراسة مطوّلة عن نظريات ما بعد الاستعمار، نُشرت في فصلية "الكرمل"، العدد 47، 1993.
أعود إلى كتاب وايت حول الميتا ـ تاريخ، متوقفاً أوّلاً عند ذلك الاقتباس المحيّر ــ من غاستون باشلار، في "التحليل النفسي للنار" ــ الذي يضعه وايت في مستهلّ الكتاب: "ليس في وسع المرء أن يدرس إلا ما حلم به أوّلاً"! مصدر الحيرة أن تتخيّل مؤرخاً أوربياً، ما دام كتاب وايت يتناول ما وراء المخيلة التاريخية في أوربا القرن التاسع عشر، لا يفلح في دراسة أحقاب الثورة الفرنسية، أو الحرب الأهلية الأمريكية، أو الثورة الروسية، إلا إذا حلم بها! ليس هذا هو المقصود، بالطبع، ولكنّ تبسيط المعادلة، عن سابق قصد هنا، يمكن أن يفضي إلى إدراك التعقيد الداخلي الذي تنطوي عليه فرضيات وايت حول كتابة التاريخ من موقع الخطاب؛ بما فيه من رومانس في الواقعية (الفرنسي جول ميشليه، مثلاً)؛ أو الكوميديا (الألماني ليوبولد فون رانكه)؛ أو التراجيديا في الواقعية (توكفيل)، أو السخرية (يوهان لودفيك بوركارت)... أو، بصدد فلسفة التاريخ، "الدفاع الفلسفي عن التاريخ في صيغة الكناية (عند ماركس)، والاستعارة (نيتشه)، والمفارقة (بنديتو كروتشه)...
ولعلّ التلخيص الأفضل لمقاربة وايت هو، في هذه العجالة، ما يكتبه في الفقرة الثانية من مقدّمة كتابه: "في هذه النظرية أتناول العمل التاريخي بوصفه ما يظهر عليه غالباً: بنية لفظية تأخذ شكل خطاب نثري سردي. التواريخ (وفلسفات التاريخ أيضاً) تضمّ مقداراً معيناً من المعطيات، والمفاهيم النظرية لـشرح تلك المعطيات، وبنية سردية لتقديمها كأيقونة لمجموعة من الحوادث يُفترض أنها وقعت في أزمنة ماضية. بالإضافة إلى هذا، أزعم أنها تحتوي على محتوى بنيوي عميق هو شعري عموماً، وألسني على نحو محدد، في طبيعته، يخدم كنموذج أمّ، مقبول في إطار نقدي مسبق، لما يتوجب أن يكون عليه الشرح التاريخي".  في صياغة أخرى، يؤمن وايت أنّ المؤرّخ يمارس فعلاً شعرياً في جوهره، لأنه يستبطن الحقل التاريخي ويقوم بإنشائه كميدان يُسقط عليه نظريات محددة سوف يستخدمها لتفسير "ما يحدث حقاً" في قلب ذلك الميدان. وبهذا المعنى يلجأ وايت إلى أربعة من عناصر البلاغة: الاستعارة، الكناية، المجاز المرسل، والمفارقة.
التاريخ عبء على كاهل البشر، لا ريب، وجهود وايت لم تستهدف تخفيف أثقاله، بل استرداد كرامة دراسته كخطاب إنساني بلاغي، يقيم شعرية القول في قلب خشونة الحادث الجلل.
11/3/2018

أوجلان والأسد كتفاً إلى كتف؟

أصدر فرات خليل، القائد العام لـ"وحدات حماية الشعب" في حلب، بياناً إلى الرأي العام يشرح فيه السبب وراء دخول قوات النظام السوري إلى أحياء حلب الشرقية، خاصة الشيخ مقصود. وقال خليل: "لأنّ كل العالم التزم الصمت حيال الهجمات الإرهابية [ويقصد عملية "غصن الزيتون" التركية]، نحن كوحدات حماية الشعب والمرأة في حلب توجهنا إلى إقليم عفرين، لذلك وقعت الأحياء الشرقية من مدينة حلب تحت سيطرة النظام السوري".
هذا نموذج يوضح مقدار اختلاط الحسابات والأوراق لدى القوى الكردية، "حزب العمال الكردستاني" و"حزب الاتحاد الديمقراطي" و"وحدات حماية الشعب" و"قوات سوريا الديمقراطية" على حدّ سواء، في سلوكها العام إزاء مختلف الملفات التي تشكّل عصب الحياة في حضور العامل الكردي ضمن المعادلة السورية العامة الراهنة: مناطق الجزيرة السورية، محيط دير الزور وشرق الفرات، أحياء حلب الشرقية، منبج، ثمّ عفرين.
هي شرق الفرات، في مثال أول، تواجه تحالف النظام السوري وميليشيات الجنرال الإيراني قاسم سليماني ومتعاقدي "فاغنر" الروس، وتقاتل هؤلاء بالتنسيق مع القوات الأمريكية التي لم تتردد في توجيه الضربة الأقسى لهذا التحالف منذ أن دخلت واشنطن طرفاً عسكرياً في نزاعات الأرض المعقدة على امتداد ريف دير الزور وشرق الفرات. لكنها، في مثال ثانٍ، تنسحب في الشيخ مقصود لصالح النظام السوري، مبررة ذلك بضرورات الدفاع عن عفرين؛ وفي الآن ذاته تسمح لميليشيات النظام/ سليماني بالدخول إلى المدينة. وهي، في مثال ثالث، تتلاقى مع جهود موسكو الساعية إلى إقامة حوار كردي مع النظام السوري، حول ترتيبات حكم ذاتي كردي ذي صيغة ملموسة تحت سقف النظام، ثم تفترق عنها فتفضّل البقاء تحت المظلة الأمريكية حتى إذا أسفر ذلك عن موافقة موسكو على "غصن الزيتون"...
ولعلّ الاتفاق الأخير مع النظام السوري، حول دخول قوات موالية إلى قلب مدينة عفرين، هو آخر تجليات هذا الاختلاط/ الاختلال في الحسابات. ذلك لأنّ بشار الأسد لم يرسل وحدات عسكرية نظامية، بل عشرات من عناصر ميليشيا تمّ تأسيسها خصيصاً لهذه المهمة. هذا في ضوء تفصيل أقرب إلى السرّ المفضوح، مفاده أنّ مخطط "غصن الزيتون" لم يكن أصلاً يستهدف احتلال عفرين ذاتها، بل تطويقها من جهات ثلاث، وترك خاصرتها الجنوبية مفتوحة على جيش النظام وحده؛ أيّ مقيدة ومحاصرة، من هذه الجهة الرابعة أيضاً!
الوقائع على الأرض تؤكد عواقب هذا الاختلاط/ الاختلال، إذْ أنّ رقعة الاحتلال التركي لمحيط عفرين آخذة في التوسع، بل باتت مؤخراً أسرع وتيرة حتى من أفضل تقديرات الخبراء العسكريين. وبعد قرابة شهر على التوغل التركي في محيط الإقليم، تشير التقارير إلى احتلال أكثر من 100 نقطة كانت تحت سيطرة القوى الكردية، بينها 72 قرية، و20 تلّة. هذا فضلاً عن نجاح أنقرة في انتزاع اعتراف رسمي من واشنطن، بلسان وزير الخارجية الأمريكي نفسه، يدرج "غصن الزيتون" من باب تفهّم مخاوف الأمن القومي التركي.
فأيّ تكتيك هذا الذي، بعد إعطاء قيادات قنديل سلطات مطلقة في إدارة عفرين بمنطق الاحتلال، يستنجد بالنظام السوري ويستقبل ميليشياته التي تمارس طرازاً ثانياً من الاحتلال، في أحياء حلب الجنوبية، وتل رفعت شمالها، ثمّ في عفرين المدينة؛ وفي الآن ذاته يواصل الانكسار أمام زحف مفارز الاحتلال التركية؟ وأيّ اتساق منطقي في القتال مع أمريكا شرق الفرات، وابتلاع مهانة سكوت واشنطن عن الغزو التركي في عفرين؟ وأخيراً، أيّ منطق سياسي، وعقائدي وأخلاقي، ذاك الذي يبرر أن تشهد عفرين، المعذبة الصابرة الضحية، رفع صورتَيْ عبد الله أوجلان (قائد حركة تحرر كردية يسارية)، وبشار الأسد (قاتل أطفال فاشي مرتهن)... كتفاً إلى كتف؟
24/2/2018

إدوارد سعيد ونُحاة قرطبة

في كتابه "العالم، النصّ، والناقد"، 1983، يطرح إدوارد سعيد سلسلة من الأسئلة حول إمكانية معالجة النصّ وظروف إنتاجه الواقعية على نحو منصف يتعالق مع مشكلات اللغة الأدبية، دون أن يبترها بعيداً عن مشكلات لا تقلّ إلحاحاً، تخصّ لغة الحياة اليومية، الدنيوية. إجاباته كانت مفاجئة، وثاقبة تماماً، فضلاً عن كونها رائدة ضمن نطاق التنظير النقدي الأمريكي، وربما الأنغلو ـ سكسوني بأسره، خلال تلك الحقبة: العودة إلى النُحاة والفلاسفة واللغويين المسلمين في قرطبة القرن الحادي عشر، ابن حزم وابن جني وابن مضاء القرطبي. ودون إبطاء، يوضح سعيد أنّ الثلاثة انتموا إلى المذهب الظاهري الذي يرى أنّ للكلمات معنى ظاهرياً فقط، مقترناً باستخدام محدد، وظرف، وموقف تاريخي وديني؛ على نقيض المذهب الباطني، الذي اعتبر أنّ المعنى في اللغة خافِ طيّ الكلمات، ولا يُعرف إلا بتأويلها من الداخل.
غرض سعيد الأوّل، من هذه العودة إلى نحاة قرطبة وفلاسفتها، كان ــ في تقديري، شخصياً ــ تثمين الفكر اللغوي العربي الكلاسيكي؛ خاصة في سياق السجالات (الطاحنة، يومذاك) بين النحو البنيوي كما مثّله السويسري فرديناند دو سوسور، والنحو التحويلي التوليدي عند الأمريكي نوام شومسكي. وفي العمق من هذا الغرض يكمن سجال سعيد ضدّ البنيوية وما بعد البنيوية والتفكيكية، وسواها من المدارس النقدية التي استهدفت ترحيل المعنى إلى مناطق تجريد صرفة، حيث يتوجب أن تضمحلّ روابطه مع التاريخ والواقع، ومع دنيوية النصّ على وجه التحديد. يكتب سعيد: "ما يتوجّب أن يشدّ انتباهنا بقوّة في هذه النظرية بأسرها أنها تمثّل أطروحة عالية الإفصاح حول معالجة النصّ كصيغة ذات مغزى ــ حيث دنيويتها وظرفيتها، وحال النصّ كحدث واقع حامل لخصوصية محسوسة واحتمالية تاريخية ــ تُعتبر جميعها داخلة في النصّ وجزءاً لا يتجزأ من طاقته على نقل المعنى وإنتاجه".
الغرض الثاني أوضحه سعيد بنفسه حين شدّد على جذور الخلاف بين النحاة الظاهريين والباطنيين، وعوامل استقرار المذهب الأوّل في قلب فلسفة اللغة عند ابن رشد وابن جنّي وابن مضاء؛ أي قراءة القرآن، وكيفية فهمه وتناقله وتعليمه للأجيال بوصفه نصّاً له صفة الحدث، بل "الحدث الفريد" على غير شاكلة الكتاب المقدس كما يقول سعيد. الظاهريون هاجموا إفراط الباطنيين في التأويل، وساجل ابن مضاء أنه "من العبث ربط النحو بأيّ منطق للفهم، ما دام النحو كعلم يفترض، وغالباً يذهب بعيداً إلى درجة ابتداع، سلسلة أفكار عن استخدام معنى الكلمات، تفترض وجود مستوى خفيّ طيّ الكلمات، لا يدركه إلا العارفون". وفي لغة ابن مضاء نفسه: "حرام الإجماع على أنه لا يُزاد في القرآن لفظ غير المجمع على إثباته، وزيادة المعنى كزيادة اللفظ، بل هي أحرى، لأنّ المعاني هي المقصودة، والألفاظ دلالات عليها، ومن أجلها". جدير بالذكر هنا أنّ سعيد اعتمد على تحقيق شوقي ضيف لكتاب ابن مضاء القرطبي "الردّ على النحاة"، المطبوع في القاهرة سنة 1947؛ وكذلك على كتاب أنيس فريحة "نثريات في اللغة"، 1973.
هذا الغرض الثاني يستكمل انحياز سعيد، القاطع والكفاحي والمشبوب في تلك الفترة من حياته، لصالح مفهوم "النقد العلماني" ضدّ "النقد الديني"؛ وهو النقاش الذي يستغرق جلّ المقدّمة في مقالات "العالم، النصّ، والناقد"، ويؤسس أيضاً للأفكار الجنينية الأولى حول مفهوم سعيد عن "القراءة الطباقية". وفي اقتباس نحاة قرطبة المسلمين يشدد سعيد على إطارَين يتجسد فيهما فعل الكتابة: أنها تنقلب إلى قوّة مادية، ليس اعتماداً على واقعة ولادة الكتابة وانتشارها وتأثيرها وتأثرها وتأويلها، فحسب؛ وليس، أيضاً، لأنها تمثّل عالماً ما وتشتغل فيه عبر وظائفها المختلفة؛ بل لأنها، من جانب ثانٍ، ذات وظيفة مجتمعية، وليس اجتماعية فقط، تقع ضمن سياقات مكانية وزمانية، وتنتمي إلى مؤسسات أيديولوجية وتاريخية مختلفة.
ولعلّ الفقرة/ المفتاح في الدخول إلى عرض سعيد لمفهوم النقد العلماني، هي تلك التي تقيم الصلات بين النصّ والعالم، وتشخّص دنيوية الكتابة أياً كان موقعها أو طرائق استخدامها. يكتب سعيد: "الأمر هو أنّ النصوص لها طرق في الحضور، حتى أنها في أقصى أشكالها تشيّؤاً تظلّ متورطة في ظرف ما، وزمان ومكان ومجتمع، وهي باختصار قائمة في الدنيا، وهي لذلك دنيوية. وسواء حُفظ نصّ ما أو نُحّي جانباً خلال فترة محددة، أو وُضع على رفّ مكتبة أم غاب عنه، واعتُبر خطيراً أم لا؛ فإنّ هذه المسائل ذات صلة بحضور النصّ في العالم، وهذه مسألة أكثر تعقيداً من سيرورة خاصة في القراءة. الإشكاليات ذاتها صحيحة، بلا ريب، حول النقاد في صفاتهم كقرّاء وكتّاب يعيشون في العالم".
وبذلك فإنّ تثمين نحاة قرطبة كان يتوخى التذكير بتراث عريق، استبق محاولات عصر النهضة من حيث عَقْلَنة أنظمة قراءة النصوص، والنأي عن طرائق التركيز على مفردات مفتاحية بعينها تطغى على المعنى أو تصادر دلالاته المتضاعفة. "لقد ذهب ظاهريو قرطبة إلى مدى جدّ بعيد في محاولة توفير نظام للقراءة يمارس أضيق سيطرة ممكنة على القارئ وظروفه. ولقد فعلوا ذلك، أساساً، عن طريق نظرية تتوسل تبيان معنى النصّ"، كتب سعيد.
18/2/2018

هل يخشى الشعر من الموسيقى؟

البريطاني والتر هوريشيو بايتر (1839 ـ 1894)، الناقد ومؤرّخ الأدب وأحد كبار صنّاع الأسلوب في عصره، خلّف لنا عبارة مفعمة بالجاذبية والغموض واستثارة الحيرة؛ حول وئام أو اصطراع، وتكامل أو تنافر، أنماط التعبير الفني المختلفة: "كلّ الفنون تطمح إلى بلوغ شرط الموسيقى". وكان الرجل يدرك أنّ الموسيقى لم تصعد أو تهبط في سلّم الفنون الشقيقة، فحسب؛ بل مضى زمن أُقصيت فيه خارج مضمار الفنّ، نهائياً؛ و"تيتّمت"، كما عبّر الموسيقيّ الألماني روبرت شومان؛ بل لم يكن لها أب أو أمّ أو نسل، كما أكملت ليديا غوير أستاذة الفلسفة في جامعة كولومبيا الأمريكية.
وفي فصل ضمن كتاب بالغ الأهمية، صدر مؤخراً بالإنكليزية تحت عنوان "إلحاح الفنون: الفلسفة وعلم الجمال بعد مطلع الحداثة"، تساجل غوير بأنّ الموسيقى تنازلت للشعر وللرسم عن احتكار المعنى والتمثيل والإشارة؛ أو تخلت عن الانخراط في "حروب العلامة" و"حروب القول" و"حروب الصورة"، لصالح التجريد الأقصى، عبر الصوت بصفة عامة، والوقع والإيقاع بصفة محددة. لكنّ هذه الخلاصة تحيلنا إلى ملفّ العلاقة بين الموسيقى والمطلق، ثمّ الأثر السحري الذي تمارسه الموسيقى على الروح، وبالتالي على الشعر بوصفه أحد أبرز الفنون التي تخاطب الروح.
هنا نموذج من محمود درويش في "فانتازيا الناي"، حيث تتكثف معادلات اللعب بين الإشارات الصوتية والدلالية، واشتباك المعنى بالإيقاع: "النايُ أصواتٌ وراء الباب. أصواتٌ تخافُ من القمرْ/ قمرِ القرى. يا هل ترى وصلَ الخبرْ/ خبرُ انكساري قربَ داري قبل أن يصلَ المطرْ/ مطرُ البعيدِ ولا أُريدُ من السنةْ/ سنةِ الوفاةِ سوى التفاتي نحو وجهي في حجرْ/ حجرٍ رآني خارجاً من كُمِّ أمّي مازجاً قدمي بدمعتها/ فوقعتُ من سنةٍ على سَنَةِ/ ما نفع أُغنيتي؟".
وكان الإغريق قد فسّروا هذه العلاقة على نحو مثير بالفعل، حين اعتبر الفلاسفة والرياضيون الفيثاغوريون أنّ "العماء السديمي" غير المحدود كان يخيّم على الكون بأسره، حتى ولدت هرمونية الموسيقى، فانتصر النظام على العشوائية، والخير على الشر، والمحدود على اللامحدود. ولأنّ الموسيقى تجلّت أولاً في أصوات الطبيعة من خرير وحفيف وتغريد، ثم لأنّ البشر صنعوا موسيقى خاصة بهم حين نجحوا في محاكاة موسيقى الطبيعة؛ فإنّ النقلة "التقنية" الكبرى التالية كانت ابتكار مختلف إيقاعات الشعر وأوزانه.
مثير أيضاً ذلك التباين في تفسير الثقافات لمدى ما يكمن في الموسيقى من خير أو شرّ، طبقاً لفيزيائية تكوّن الصوت أو انطلاقه، الأمر الذي أفضى أيضاً إلى إسناد مقدار من "المعنى" في هذا الشكل أو ذاك من إيقاعات الشعر. ففي الشرق كانت النفخة متنفس الروح ومبتدأ الخلق، واحتلت آلات النفخ مكانتها كأسلحة في أيدي الشخوص الأسطورية الخيّرة؛ أما في اليونان فإنّ آلات النفخ كانت أداة إغواء الروح، واقتيادها إلى عوالم الشرّ السفلية. وليس التباين في التأثيرات الصوتية/ الدلالية لأوزان الشعر، بين ثقافة غربية وأخرى شرقية مثلاً، إلا انعكاس ذلك التضارب روحياً، ثمّ جمالياً بعدئذ.
من هذا كله تتضح علاقة وثيقة بين الموسيقى والروح، ثم بين الروح والشعر باعتباره رديف الموسيقى وتوأمها الفنّي منذ أقدم الحضارات الإنسانية. وحين نتحدث عن العلاقة بين الموسيقى والشعر فإننا غالباً نقصد الأغنية، والمزاج الغنائي، والإنشاد، والترنيم، وما إلى هذا كله. ويجدر التذكير بأنّ العرب كانت تجزم بأنّ "مِقْوَد الشعر الغناء"، وحسّان بن ثابت صاحب بيت شهير يقول: "تغنّ في كل شعر أنت قائلُه/ إنّ الغناءَ لهذا الشعر مضمارُ". ولعلّ أبسط، وربما أدقّ، تعريفات الأغنية هو ذاك الذي يصفها بأنها "قَوْل لفظي يعتمد على الموسيقى للتعبير عن المشاعر"؛ أي التعريف الذي يقرنها بالشعر على وجه التحديد، ويجعلها مزيجاً موفقاً من تأثير الشعر وتأثير الموسيقى.
وهكذا، في مسعى تبديد الخشية (الافتراضية، بالطبع) بين الشعر والموسيقى، هنالك تصنيفان أساسيان: الأوّل شكلي يدور حول الأوزان الشعرية، والإيقاعات، وتقسيم القصيدة إلى مقاطع قصيرة أو طويلة، واستخدام القافية، وما إلى ذلك؛ والثاني دلالي يتعلّق بالموضوع، واللغة المستخدمة، والعاطفة السائدة في القصيدة، وسواها. ويصعب في الواقع فصل هذه الاعتبارات إلا في أغراض التحليل النقدي، لأنها جميعاً بمثابة عوامل متكاملة تتوحّد لتحقيق درجة كافية من الاندماج بين الكلمة والنغمة؛ أو تتفكك فلا تُحقّق الموسيقى، ولا تُبقي الشعر على حاله الأصلية. والتقاء الموسيقى بالشعر يُعدّ الاتصال الأكمل بين قدرة الموسيقى على التعبير الإيحائي عن طريق الأنغام الدالّة المجرّدة، وبين قدرة الشعر على التعبير الإيحائي عن طريق الكلمات الدالّة المحسوسة المعنى.
وقد لا يملّ المرء، هنا، من استعادة تعبير "هيئة الصوت"، الذي أطلقه الشاعر الإنكليزي ديلان توماس ذات يوم، وأعطانا في شرحه هذا النصّ البديع: "لقد رغبتُ في كتابة الشعر لأنني، بادئ ذي بدء، وقعت في غرام الكلمات (...) لقد شدّني صوت الكلمات، ولم أكن أعبأ بما تقوله بقدر حرصي على هيئات الصوت الذي يسمّي، والكلمات التي تصف الأفعال في أذني، والألوان التي ترشق الكلمات على عينيّ".
لماذا، إذن، يُخشى على الشعر من الموسيقى؛ أو العكس؟
 11/2/2018

مَنْ تعمد ابتذال الآخر في سوتشي: بوتين أم الأسد؟


 قد تتطلب الموضوعية التبصّر، قليلاً، قبل اتهام الاستخبارات الروسية بالغباء والحمق وسوء التقدير والتدبير؛ بافتراض أنها كانت شريكاً في إقناع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بجدوى عقد ما سُمّي بـ"مؤتمر الحوار الوطني" السوري في منتجع سوتشي، واتكاءً على مآلات الفشل الكارثية التي أسفر عنها، في نهاية المطاف. للمرء هنا أن يسارع، مطمئناً، إلى استبعاد مقادير مماثلة من الحماقة يمكن أن ينسبها البعض إلى وزارة الخارجية، في شخص الوزير سيرغي لافروف أو نائبه وذراع الخارجية الضارب ميخائيل بوغدانوف؛ لسبب جوهري أوّل هو أنّ إدارة بوتين، وبالنظر إلى تنشئة الرئيس نفسه في جهاز الـKGB، وإلى طبيعة النظام الذي يقوده منذ 1999، تعتمد على جهاز الأمن أكثر بكثير من أيّ جهاز سياسي أو دبلوماسي مدني آخر.
فما الذي أطاش صواب سيرغي ناريشكين، رئيس أجهزة الاستخبارات الروسية والمقرّب جداً من بوتين، حتى نصح رئيسه بعقد هذا المؤتمر، مدركاً ـ كما يقول منطق العقل والتعقل، بالطبع ـ أن دعوة 1600 مندوب، إلى جلسة واحدة تدوم ساعات قليلة؛ يمكن أن يؤول إلى أية نتيجة أخرى سوى الفشل الذريع، بعد المهزلة الفاضحة السقيمة؟ وعلى نطاق أعرض، ينطلق من إنجازات الكرملين ابتداءً من العام 2012، على صعيد السياسة الخارجية عموماً، والخيارات في سوريا بصفة خاصّة؛ أليس من الإنصاف التسليم بأنّ موسكو وجّهت "ضربات معلّم" فائقة البراعة، والجسارة أيضاً (ليس أقلها إعادة إحياء نظام القطبين، والانتشار العسكري خارج روسيا، وتجميل نظام بوتين عن طريق تنمية شعبيته كقائد روسي قومي صاحب سطوة كونية...)؛ بحيث يصعب أن تقترن بتلك الضربات حماقةٌ موصوفة من الطراز الذي كشفت عنه وقائع سوتشي؟
وهكذا، إذا جاز منح أجهزة بوتين فضيلة الشك (في أنها، منطقياً هنا أيضاً، أكثر ذكاء بالقياس إلى سجلها وأفعالها طيلة سبع سنوات من مناصرة نظام بشار الأسد خلال الانتفاضة)؛ فهل يجوز ترجيح تأويل آخر، نابع من خلفيات أخرى، ومسببات مختلفة، سواء خطط لها الكرملين ذاته؛ أم تولاها شريك سوتشي الثاني، في أنقرة؛ أم قفز إليها النظام السوري، بتسهيل من الشريك الثالث في طهران؟ في عبارة أخرى، هل أُريد لمؤتمر سوتشي أن يكون على هذه الشاكلة، الهابطة الهزيلة، التي تعلن الفشل مسبقاً؛ لأنّ هذا بالضبط، وليس أيّ مستوى من النجاح، هو المطلوب عن سابق قصد وتصميم؟ وإذا صحّ ترجيح مثل هذا، فمَن الذي تعمّد ابتذال الآخر في المحصلة كما شهدها العالم، والسوريون على نحو خاصّ: بوتين، أم الأسد؟
موسكو، بادئ ذي بدء، تشتغل اليوم على الملفّ السوري من زاوية أنها أنجزت، أو توشك على إتمام، الشطر العسكري من مشروعها في سوريا؛ والذي اختزله بوتين، خلال زيارته إلى قاعدة حميميم، في حكاية القضاء على "الإرهاب"، وكان يعني "داعش" أساساً، وإن اشتمل التلميح على سواها، و"جبهة النصرة" تحديداً. بذلك فإنّ الشطر التالي هو العملية السياسية، إذْ لن يستقرّ الوجود العسكري الروسي في سوريا على نحو مرضٍ، يوازي الكثير من ذاك الرصيد العسكري والمالي والسياسي الذي استثمره الكرملين، إلا إذا توفر في البلد نظام مستقرّ في الحدود الدنيا. استطراداً، ولأنّ موسكو تعرف أنّ الأسد لم يعد رقماً وارداً يُحتسب في مستقبل سوريا، حتى إذا توجب إعادة تأهيل بعض مفاصل نظامه (الجيش، الأجهزة الأمنية، شرائح الموالاة الاجتماعية المختلفة العابرة للطوائف ولكن داخل الطائفة العلوية أيضاً...)؛ فإنّ الحاجة إلى استدراج المعارضة السورية إلى المعادلة السياسية أمر بات مطلوباً، بل لا غنى عنه أيضاً.
من هنا ولدت صيغة مؤتمرات أستانة، التي تُبقي موسكو في قلب اللعبة التفاوضية دون أن تجعل منها طرفاً راعياً أو محرّكاً أو ضامناً؛ وتُدخل المعارضة السورية ـ وهي هنا، المعارضة الخارجية حصرياً، أياً كانت هيئاتها ـ كندّ مقابل للنظام، بما يكسر عملياً ذلك "التحريم" الذي كان الأسد يفرضه على معارضين ليسوا بالنسبة إليه سوى "إرهابيين". على قدم المساواة، وهذا جزء بالغ البراعة في الروليت الروسية، إذا جازت الاستعارة؛ كانت جولات أستانة تفرغ جولات جنيف/ فيينا من معظم محتواها التطبيقي، ليس لأنّ طاولات التفاوض تعددت وتبعثرت، فحسب؛ بل كذلك لأنّ المرجعيات ضاعت بين الأمم المتحدة وقراراتها، وبين ما يجري تفريخه في أستانة من وثائق ومشاريع دساتير و... تنازلات!
أيضاً، في متابعة الروليت إياه، كان نجاح موسكو في استدراج المعارضة السورية قد اقتضى، كذلك، استمالة حلفاء هذه الأخيرة، ممّن يتولون الجانب العسكري أوّلاً، قبل الجوانب الدبلوماسية أو المالية أو اللوجستية. ذلك دفع موسكو إلى عقد سلسلة تسويات مع حليف المعارضة الراهن الأبرز، أنقرة؛ وذلك بعد طور عاصف تضمّن إسقاط السلاح الجوي التركي طائرة روسية، وفرض موسكو عقوبات اقتصادية على تركيا، وتوتراً لم يشهد له تاريخ العلاقات الثنائية مثيلاً. وفي رأس ذلك الجهد الروسي للانفتاح على أنقرة، توجّب الإذعان لهاجس تركي قديم ومتأصل، هو مناهضة أيّ كيان مستقلّ أو شبه مستقلّ يقيمه الكرد على الحدود السورية ـ التركية. ولم يجد الكرملين عناء في الاستجابة، لأنّ موسكو لن تكون أوّل، ولا آخر، قوّة كونية تغدر بالكرد بعد تحالف؛ كما أنّ أيّ عمل عسكري تركي ضدّ الكرد في سوريا إنما يخدم المصالح الروسية، إذْ يدقّ إسفيناً في علاقات أنقرة مع واشنطن، راعية الكرد في سوريا.
ذلك، أيضاً، كان يردّ بعض الصاع إلى التطورات الأخيرة التي طرأت على الموقف الأمريكي من الملفّ السوري، سواء لجهة مستويات الدعم التسليحي المتزايدة للقوى الكردية، أو المشاركة العسكرية الميدانية الفعلية في توجيه "قوات سوريا الديمقراطية" شرق الفرات، وفي مواقع عديدة على امتداد منطقة الجزيرة؛ أو لجهة الحديث عن تشكيل قوّة كردية، برعاية أمريكية، قوامها 30 ألف جندي على طول الحدود السورية ـ التركية. هذا التصعيد، إذْ يستحق توصيفه هكذا، بدا في ناظر موسكو أشبه بالجزء الثاني المتمم لنظرية الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما، حول ترك الروس يغرقون في المستنقع الروسي؛ أي الجزء الذي يعني استثمار التورّط الروسي على الأرض، دون الاضطرار إلى سداد رأسمال كبير، أو تكبد خسائر باهظة! 
وهكذا، في التأرجح (الإيجابي، الماهر والمرن كما يتوجب القول) بين مرجعيات حميميم وأستانة وجنيف، لعلّ الكرملين اختار أن يُظهر للعالم بأسره ثالثاً، وللجمهور الانتخابي الروسي ثانياً، ثمّ للسوريين أنفسهم أوّلاً؛ مقدار السخف الذي يمكن أن يتصف به أي "حوار وطني" سوري ـ سوري، يكون طرفه الأول "جمهور النظام"، القادم في رحلة سياحية للغناء والرقص والتدافع على الطعام؛ وطرفه الثاني "معارضة" بائسة تابعة، تنطق أنقرة باسمها في قاعة المؤتمر وهي نائمة على بلاط مطار سوتشي! وهذا قد يعني أنّ موسكو تعمدت تذكير الأسد بحقيقة سلطته "الشعبية"، إذا توهّم انتصاراً ما، يسوّل له الخروج من النير الروسي وإفشال مؤتمر سوتشي عن طريق ابتذاله؛ كما تعمدت تذكير المعارضة السورية بأنّ غيابها عن سوتشي ليس أشدّ هزالاً من حضورها في جنيف أو فيينا، فضلاً عن إمكانية اقتياد أفراد من أمثال أحمد طعمة يسهل أن تُلصق بهم صفة "المعارضة"!
ولعلّ خلاصة الرسالة الروسية تبدو هكذا، إذن: الملفّ بات في موسكو، ولها أن تخلط سوتشي بأستانة وجنيف وفيينا؛ إذْ أنّ ما استثمرته في سوريا، قرابة 30 شهراً بصفة خاصة، غير قابل للخسائر، ناهيك عن الأرباح غير المضاعفة!
1/2/2018


أرواح سليم بركات الهندسية


بمبادرة كريمة من الصديق الروائي والمترجم المصري محمود حسني، وحماس مماثل من الصديق الشاعر المصري جرجس شكري؛ صدرت مؤخراً، في القاهرة، عن الهيئة العامة لقصور الثقافة ــ سلسلة روائع الأدب العربي، طبعة ثانية من رواية سليم بركات "أرواح هندسية"؛ وكانت الطبعة الأولى قد صدرت في بيروت، سنة 1987، عن دار الكلمة للنشر.
يومذاك، كان بركات قد أصدر أربعة أعمال خارج نطاق الشعر: يوميات "كنيسة المحارب"، 1976؛ و"الجندب الحديدي"، سيرة الطفولة، 1980؛ و"هاته عالياً؛ هات النفير على آخره"، سيرة الصبا، 1982؛ ورواية "فقهاء الظلام"، 1985. في الشعر، كان قد نشر ستة مجموعات، أوّلها "كلّ داخل سيهتف لأجلي، وكلّ خارج أيضاً"، 1973؛ التي ضمّت قصيدته الفاتنة الرائدة "دينوكا بريفا، تعالي إلى طعنة هادئة"، في مستهلها الصاعق والأخاذ: "عندما تنحدر قطعان الذئاب من الشمال وهي تجرّ مؤخراتها فوق الثلج وتعوي فتشتعل الحظائر المقفلة، وحناجر الكلاب، أسمع حشرجة دينوكا. في حقول البطيخ الأحمر، المحيطة بالقرية، كانت السماء تتناثر كاشفة عن فراغ مسقوف بخيوط العناكب وقبعات الدرك، حيث تخرج دينوكا عارية تسوق قطيعاً من بنات آوى إلى جهة أخرى خالية من الشظايا".
وبافتراض أنّ أعمال اليوميات والسيرة مثّلت مسمياتها الأنواعية، فإنّ "أرواح هندسية" لم تكن الرواية الثانية، فحسب؛ بل لعلها أطلقت ما سأعتبره شخصياً طور الوئام و/ أو الصدام، بين المشروع الشعري والمشروع الروائي. وبركات شاعر أوّلاً، في ظنّي، ولكنّ أعماله الروائية تفوّقت، بالمعنى الكمّي حتى الساعة، على أعماله الشعرية (20 مجموعة شعرية مقابل 22 رواية). وهذا تطوّر بات يستأثر بالكثير من طاقات بركات الإبداعية، ويستحوذ على ترسانة اللغة التي تميّز بها الشاعر على الدوام؛ حتى أنّ روايته الأخيرة، "زئير الظلال في حدائق زنوبيا"، تعكس نزوعاً إلى "ترويض" الفصاحة العالية، الشعرية والشاعرية، لصالح نثر أكثر طواعية أمام مقتضيات السرد والقصّ.
"أرواح هندسية" بدَتْ أقرب إلى "فقهاء الظلام"، من حيث تشييدها لعمارة فانتازية ومنطق خاصّ يسوّغ تأرجح الخيال ضمن صياغات انفلات حرّ (في المظهر فقط، لأنها في العمق مقيّدة بقوانين صارمة في الجوهر) بين المشهد التسجيلي والأجواء السحرية. لكنها امتازت بسمة خاصة، سوف ننتظر طويلاً حتى نشهد انحسارها عن روايات بركات؛ أي الخروج من عوالم منطقة "الجزيرة" السورية، وسرديات وشخوص وطقوس وأساطير الكرد إجمالاً. وبقدر ما يبدو مكان الرواية غير المصرّح به (بيروت)، وزمانها غير المبيّن (الحرب اللبنانية ونهايات الاجتياح الاسرائيلي 1982، وخروج الفصائل الفلسطينية)، مسلّماً بهما معاً، بفضيلة الدلالات العديدة الصريحة؛ فإنّ اقتفاء المطابقات بين شخوص الرواية، وما يمكن أن تمثّله في الواقع الفعلي لن يخرج عن إطار التمرين الذهني الذي لا يجدي كثيراً، خصوصاً إذا ما قُورن بحجم مزالقه؛ وهذا إنجاز يميّز الرواية، في كلّ حال.
الصلات منعقدة، بذكاء سردي بالغ، بين المدينة الكونية، الجاثمة بكلّ ثقلها على مناخات الرواية، حلقة جهنمية تنتظم في سلسلة متتابعة من وقائع خراب شامل قابل للحدوث هنا أو هناك، بمعظم عناصره أو بشرطه العبثي الجوهري أساساً؛ والمدينة إياها، بوصفها مزجاً متأنيّاً لجملة معاني الموت في حاضرة معاصرة واضحة المعالم، ومكسوّة بلحم الحياة اليومية وبساطة/ رهبة الوقائع. بذلك ينجح بركات في إغلاق الهوّة الفاصلة بين مشهد تسجيلي بات مألوفاً، ويرخي ظلاله الثقيلة على وجدان القارئ (بيروت الحرب والخراب)؛ وبين "توليف" فنّي للمشهد التسجيلي ذاته وقد تضاعفت فيه صُوَر المدينة، حتى بات من النافل إعادتها إلى مساحة الواقع الذي انتُزعت منه.
بعض اللعبة الفانتازية يكمن في أنّ بركات يلجأ إلى انتفاء، محسوب، لتناغم كان يجمع عدداً من العناصر غير المتجانسة أصلاً؛ فيقوم بذلك بتفريقها وفق أبجدية تصارع وتنازع، ولكن داخل منظومة الواقعة ذاتها. عمارة "أبي كير"، بيروت كما يُظنّ، انهارت بسبب حيلة في أساساتها أوّلاً؛ غير أن "أ. دهر"، المحارب الذي سيرحل، يستبق الانهيار فيدخل في مرآته ليخرج من مرآة أخرى؛ يرافقه رهط من محاربين/ أرواح لامرئيين/ كائنات هندسية. إلى أين وجهة هؤلاء؟ إلى "مدى حديدي" يقودهم نحو المنفى. ثم ماذا؟ سيستقرّ بهم المقام في عمارة "أبي كير" جديدة/ قديمة، ولسوف تنهار هذه أيضاً لحيلة في أساساتها، ولعلّهم سيخرجون من مرآة ثالثة إلى منفى جديد...
ويكتب بركات، في السطور الأخيرة من الرواية: "وهكذا، أيضاً، في الليل البهيم الذي أقلّ سفن المحاربين إلى الجهة الغربية من البحر، إثر المواثيق الدولية الممتهَنة في تدبير خسارة لمن لا يملكون خسارة أرض أو جديد، كان في مستطاع "أ. دهر" أن يلقي بنظرات، وسط الكثافة الرمادية لفضاء البحر، على السفن الخشبية تلك، بقلوعها العالية، وأشرعتها المنشورة في مهبٍّ رحيم، مبتسماً وهو يشعل لفافة رطبة:
ـ لا بأس. سنصل معاً".
هذا هو صوت السارد الناقل للمشهد، الذي لا يكتفي بدور دور الراوي كلّي الحضور، بل ينازع الكائنات اللامرئية في توكيل كلّ منها بآدمي واحد؛ ويتولى اقتيادنا، نحن القراء، في مجاهيل عمل روائي بديع.
28/1/2018

يوميات كنفاني: انعتاق ضمير المتكلم


الأصل في اليوميات أنها طراز من التدوين الشخصي يستأثر بسمات منفردة، تميزه عن المذكرات والسيرة الذاتية، في مستوى الشكل والمضمون على حدّ سواء. وإذا كان ضمير المتكلم المفرد، حتى إذا نطق بلسان جماعة ما، هو القاسم المشترك بين هذه الأنواع الكتابية الثلاثة؛ فإنه، في حال اليوميات، يتجاوز تسجيل الوقائع الشخصية والانطباعات الذاتية، فيراقب المشهد الخارجي العريض، ويسجّل حركة المجتمع والتاريخ، بعين أحادية الإدراك بالطبع.
يوميات غسان كنفاني (1936 ـ 1972) ــ التي تغطي سنوات 1960 ـ 1965، وكانت قد نُشرت أولاً في فصلية "الكرمل"، العدد 2، تموز (يوليو) 1981؛ وأعادت نشرها مؤخراً، في صيغة كتاب، دار "راية" الحيفاوية ــ تعكس القسط الأعظم من سمات هذا الطراز الكتاب الخاصي. في مطلع تلك السمات عنصر حركية الزمن الحيّ، والراهن، الذي يلازم محتوى اليومية (على نقيض المذكرات أو السيرة الذاتية، التي تعتمد صيغة استرجاعية من الزمن)؛ ويبدو استطراداً أشبه بالاستجابة للحاضر، بدل إعادة استثمار الماضي أو توظيفه. ثمة تفاصيل عامة وخارجية، مثل وفاة ألبير كامو، وحادثة الإغماءة، وولادة فايز طفل كنفاني، وتدشين إذاعة صوت فلسطين؛ وثمة تفاصيل خاصة، وداخلية، مثل مشاريع كتابة قصة قصيرة، أو التفكير في تسطير رسالة غرامية.
سمة ثانية هي البوح، أو الانعتاق من إسار التوثيق كما تقتضيه المذكرات أو السيرة الذاتية؛ خاصة وأنّ اليوميات لم تُكتب بقصد النشر أصلاً، وبالتالي فإنّ حسّ الاعتراف المنعتق من الضوابط لا يطغى على غالبية هذه اليوميات، فحسب؛ بل يبدو وكأنه خيار سلوكي، وميل أسلوبي أيضاً (إذْ يأتي من كاتب وصحافي وقاصّ وروائي). ونحن نعرف، في هذا الصدد، أن اليوميات كُتبت خلال فترة عمل كنفاني في منابر صحفية مثل "الحرية" و"الأنوار" و"الحوادث" و"المحرر"، قبل تأسيس "الهدف". آنذاك، كان كنفاني أقلّ التزاماً بالعمل السياسي المباشر في "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين"، وأكثر استعداداً لإطلاق الذاتيّ في مقابل العامّ. تبدى ذلك في كتابات تلك الفترة، سواء الإبداعية منها ("موت سرير رقم 12"، 1961؛ و"أرض البرتقال الحزين"، 1962؛ حيث تدور القصص القصيرة في المجموعتين حول موضوعات الوجود والعدم والعبث والقلق الميتافيزيقي والتشرد، والتقاط الفلسطيني العادي ضمن هذه الدوائر)؛ أو المتابعات والمقالات الصحفية (خاصة الساخرة منها، والتي كان يوقعها باسم "فارس فارس" تارة، أو "أ. ف."/ أبو فايز طوراُ).
وفي تقديمها لكتاب "رسائل غسان كنفاني إلى غادة السمان"، كتبت السمان: "ثمة ميل دائم في الأدب العربي بالذات لرسم المناضل في صورة السوبرمان، ولتحييده أمام السحر الأنثوي وتنجيته من التجربة. وفي رسائل غسان صورة للمناضل من الداخل قبل أن يدخل في سجن الأسطورة ويتم تحويله من رجل إلى تمثال في الكواليس المسرحية السياسية". والسمان على حقّ، ما خلا أنّ كنفاني كان آخر المكترثين بزجّ شخصه في صورة "المناضل" و"السوبرمان" و"الأسطورة" و"التمثال"؛ بل كان العكس هو الصحيح، قولاً وفعلاً وكتابة. وهذه اليوميات، ثمّ غالبية أعمال كنفاني الإبداعية، هي الدليل النصّي على ذلك العزوف عن الأسطرة، أياً كانت أشكالها ومستوياتها.
سمة ثالثة، أنّ اليوميات، أسوة بالرسائل، والمقالات الموقعة بأسماء مستعارة، تظلّ مادة مرجعية خصبة وثرّة، تتيح نمطاً بالغ الأهمية من "النبش" الإيجابي في منجز كنفاني؛ الإجمالي أولاً، وذاك الإبداعي أيضاً، وفي مقام مكافئ. نحن هنا أمام تسجيل حيّ وفوري، يعتمد التدفق المتسارع، والتدوين الانفعالي، والطلاقة النفسية، والانعتاق من انضباط الترتيب والمراجعة والرقابة الذاتية والتخوّف والتحفظ... ونحن، في غمرة هذا الاضطرام الخلاق، نحتكم إلى هواجس ضمير المتكلم، وانحيازاته، ورغائبه، وأوجاعه، ونقاط قوّته وضعفه؛ أي، في الاختصار الذي قدّمه لنا كنفاني نفسه في يومية 1/1/1960: "هذه اليوميات عمل كريه، ولكنه ضروري كالحياة نفسها"، "يوميات كريهة، لحياة كريهة تنتهي بموت كريه، مستشعراً كم أنا مجبر على أن أكتب، كم أنا مجبر على أن أعيش، كم أنا مجبر على أن أموت".
سمة رابعة، أنّ اليوميات، مثل الرسائل، فرصة وثائقية لا تُعوّض للوقوف على "مزاج" كنفاني، أو بالأحرى تقلبات مزاجه، حين يفرح أو يحزن أو يعشق أو ينكسر أو ينتصر، وحين يسخر من السياسي ويتهكم على الأديب، وحين يعلّق على مجريات عصره دون ضوابط مسبقة. وهي فرصة معرفته كآدمي، من لحم ودم أولاً؛ ثم تلمّس تعبيرات هذه المعرفة في أدبه (وتلك مسألة مشروعة تماماً، بل لعلها ضرورية لتمحيص ما يُعرف في النقد الأدبي بـ"مفارقة القصد" عند الكاتب)؛ وكذلك (حيث لا ضرر البتة في هذا، ولا ضرار!) استنباط سلسلة الآراء والمواقف والأحكام التي أحجم عن قولها من منابر أخرى، لأسباب شتى، لكنه باح بها في اليوميات على نحو صادق ونزيه، تلقائي وبوحي، أو حتى نيّئ وخام!
وفي تقديمه لـمجلّد الأعمال الأدبية الكاملة لغسان كنفاني، أشار محمود درويش إلى معضلة حرف العطف، "الواو"، الذي يفصل بين مفردتَيْ "الكاتب" و"المناضل" في التعريف بشخص كنفاني. واليوميات، هذه وسواها، فرصة ذهبية لردم تلك الهوّة: الافتراضية تارة، المفتعلة تارة أخرى!
21/1.2018