وعزّ الشرق أوّله دمشق

الجمعة، 11 مايو 2018

طهران وتل أبيب حول إنقاذ الجندي الأسد: شقاق بعد اتفاق



أصاب المؤرخ الفرنسي جان ـ بيير فيليو حين اعتبر أنّ رئيس وزراء دولة الاحتلال الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، "يواجه صعوبة في التكيّف مع واقع أنّ القوة الإيرانية باتت على مقربة من حدود إسرائيل أكثر من أي وقت مضى، نتيجة لسياسته التي اتسمت بقصر النظر والتي تمثلت في اعتبار نظام الأسد أهون الشرّين، لا بل حتى أحد الحصون الضامنة للاستقرار". وبالفعل، في مناخات المنازلة العسكرية الراهنة بين طهران وتل أبيب على أرض سوريا، والتي تنطوي على احتمالات الانقلاب إلى حرب مفتوحة يمكن أن تشمل لبنان، وقد تنتقل إلى إيران ودولة الاحتلال؛ يسدد نتنياهو، والغالبية الساحقة من جنرالاته ومدراء أجهزته الاستخبارية، أثمان خيار مبكر فاضل بين آل الأسد وأيّ بديل آخر، فاستقرّ على "الشيطان الذي نعرف"، الذي يظلّ أكثر ضماناً من أيّ "شيطان" لا نعرف بعد.
والحال أنّ أهل هذا الخيار، وهم كثر بالطبع، خاصة في الولايات المتحدة وأوروبا، سبق أن سددوا بعض الأثمان في صعود "داعش"، وفي امتداد توحشها إلى قلب عواصمهم؛ وها أنهم اليوم يستعدون لتسديد المزيد مع "صحوة" نتنياهو على مدى التوغل الإيراني في عمق ما تبقى من بنية عسكرية وأمنية تابعة لآل الأسد؛ وقرار الرئيس الأمريكي بالانسحاب من الاتفاق النووي الإيراني مع الغرب وما سوف يقترن بالقرار من خسائر فادحة لعشرات الشركات الأوروبية العملاقة التي استأنفت التعامل مع الاقتصاد الإيراني؛ ثمّ ما يُنتظر من "فيلق القدس" على صعيد التسخين العسكري ضدّ المحور الأمريكي ـ الإسرائيلي، ليس في سوريا وحدها بل في العراق ولبنان أيضاً، وجبهات أخرى تبدو ساكنة لكنها قابلة للإشعال والاشتعال عندما تقتضي الحاجة. وليست مفارقة، إلا عند السذّج بالطبع، أنّ رامي مخلوف، ابن خال الأسد وصيرفي العائلة وتمساح الفساد الأشرس والأقذع، كان أوّل من أنبأ العالم، منذ أيار (مايو) 2011، بأنّ استقرار إسرائيل مرتبط باستقرار النظام السوري.
مفارقة مضحكة، في المقابل، أن يصرّح وزير الطاقة الإسرائيلي، يوفال شتاينتز، أنه "لو سمح الأسد لإيران بأن تحيل سوريا إلى قاعدة عسكرية ضدنا وتهاجمنا من الأراضي السورية، فإن عليه أن يعلم أنّ هذه نهايته ونهاية نظامه ولن يبقى حاكماً لسوريا أو رئيساً لسوريا". ذلك لأنّ دولة الاحتلال ذاتها، وليس الأسد وحده، سمحت بتحويل سوريا إلى قاعدة إيرانية غير مباشرة عبر "حزب الله"، ثمّ قاعدة إيرانية مباشرة عبر الجنرال قاسم سليماني، ثمّ قاعدة روسية منذ أيلول (سبتمبر) 2015؛ من منطلق النظرية إياها: أنّ نظام آل الأسد هو الشيطان الذي عرفناه واختبرناه منذ سقوط الجولان، حين كان الأسد الأب وزير الدفاع؛ مروراً باتفاقية فكّ الاشتباك، 1974، التي حالت دون إطلاق بندقية صيد في طول الجولان المحتلّ وعرضه؛ وصولاً إلى سحب وحدات النظام من مواقع انتشارها على خطوط الجبهة مع الاحتلال، وتوجيهها إلى الداخل السوري لقمع التظاهرات السلمية وقصف القرى والبلدات والمدن.
كذلك يتجاهل شتاينتز (إذْ لا يعقل أنه يجهل، وهو العضو في الحكومة الأمنية المصغرة، وشغل في الماضي وزارات حساسة مثل الاستخبارات، والعلاقات الدولية، والشؤون الستراتيجية...)؛ أنّ الأسد لم يختر طائعاً تحويل الوجود العسكري الإيراني إلى قاعدة آخذة في الاتساع والتضخم، بل كان في هذا مرغماً، غير كارهٍ بالطبع؛ تماماً كما كانت عليه حاله حين اقتيد إلى موسكو للتسليم بكلّ ما اشترطه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قبيل التدخل العسكري الروسي المباشر. ومثلنا نحن السوريين، ومثل العالم بأسره، لا بدّ أنّ شتاينتز قرأ تصريح علي أكبر ولايتي، مستشار المرشد الأعلى علي خامنئي، أنه "لولا الدعم الايراني لسقط نظام بشار الأسد خلال أسابيع"؛ أو تصريح وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، بأنّ "دمشق كانت ستسقط خلال أسبوعين لولا تدخلنا". فإذا كانت إيران عامل إنقاذ لنظام "أهون الشرّين"، الذي تحرص إسرائيل أيضاً على إنقاذه، وعلى بقائه؛ فإنّ شتاينتز يُغفل هنا هذه الحقيقة البسيطة: لقد تطابقت أغراض طهران وتل أبيب، يومئذ، حول إنقاذ الجندي الأسد!
.. ثمّ تقاطعت الأغراض، بعدئذ، أو تناقضت في قليل أو كثير، حين مارست طهران حقها في البناء على كلّ قطرة دم خسرتها دفاعاً عن نظام الأسد، وحين تمسكت بكلّ مكسب جنته أو يتوجب أن تجنيه لقاء الجهود العسكرية والمالية الهائلة التي بذلتها في سوريا منذ عام 2012 على وجه التحديد، حين تلقى حسن نصر الله التكليف الشرعي من وليّه الفقيه بنقل "بندقية المقاومة" من الجبهة ضدّ إسرائيل إلى الجبهة ضدّ انتفاضة الشعب السوري. فهل توقع نتنياهو أن تلتزم طهران بما جمعها مع إسرائيل من توازن، خفيّ في معظم بنوده ومعلَن في قليل منها، منذ فضيحة "إيران ـ كونترا"، 1985؛ حين عقدت إيران اتفاقاً مع إدارة الرئيس الأمريكي رونالد ريغان (أو "الشيطان الأكبر" دون سواه!)، لتزويدها بأسلحة متطورة في حربها مع العراق، لقاء إطلاق سراح رهائن أمريكيين كانوا محتجزين في لبنان. يومها كان أري بن ميناش، المندوب عن المخابرات الإسرائيلية، حاضراً في جلسات التفاوض الأمريكية ـ الإيرانية التي شهدتها العاصمة الفرنسية باريس، لأنّ دولة الاحتلال كانت هي المكلفة بنقل شحنات الأسلحة؛ ويومها، أيضاً، كان تطابق المصالح بين طهران وتل أبيب هو سيد اللعبة.
اتفاق، إذن، توجّب أن يعقبه شقاق تلقائي حين أخذت برامج إيران تتجاوز إنقاذ نظام الأسد، إلى بناء منظومة جنينية مرشحة للتطوّر إلى ما يشبه سيرورة هيمنة "حزب الله" على الحياة السياسية والاجتماعية والعسكرية والأمنية في لبنان. وهذا في ذاته تطوّر جدير بإثارة قلق نتنياهو وجنرالاته في الجيش والاستخبارات، فكيف إذا اقترن بخطوات ملموسة على درب تطوير الصناعة البالستية الإيرانية إلى مستويات أرقى ليست بالغة الخطورة على جميع أراضي دولة الاحتلال فحسب، إذْ كان هذا الخطر ماثلاً أصلاً في كثير أو قليل؛ بل كذلك في ارتقاء التصنيع الصاروخي إلى مستوى حمل رؤوس نووية، قد تطيح في أية لحظة بالدرجة صفر من التوازن، المعيار الذي حكم التسابق الذرّي منذ هيروشيما وناغازاكي. وكيف إذا كان النظام، الذي ضمن صمت المدافع المطبق في الجولان المحتل منذ 1973، لم يعد هو الناظم الأول للسلطة في سوريا، فتبعثرت هذه بين طهران وموسكو وما هبّ ودبّ من ميليشيات جهادية ومذهبية.
جدير بالانتباه، أخيراً، أنّ الجولة الأحدث من عمليات القصف الكثيفة التي نفذها الطيران الحربي الإسرائيلي ضدّ مواقع إيرانية في سوريا، تمّت بعلم موسكو كما أعلن مسؤولون في دولة الاحتلال. وليس في هذا أيّ جديد، بالطبع، إذْ ظلت الرادارات الروسية صمّاء عمياء أثناء عمليات إسرائيلية مماثلة؛ ما خلا أنّ نتنياهو كان في موسكو، كتفاً إلى كتف مع بوتين، أثناء تنفيذ الضربات الأوسع. في عبارة أخرى، ليس منافياً للمنطق أن يكون الكرملين سعيداً بالضربات الإسرائيلية التي تستهدف تهميش الوجود العسكري الإيراني في سوريا، فهذا مآل يخدم الاستثمار الروسي هنا، على المدى القريب والبعيد معاً؛ خاصة في ضوء التقارير المتزايدة التي تتحدث عن منافسة شرسة بين موسكو وطهران على اكتساب، أو تجنيد، الميليشيات المنتشرة كالسرطان في الساحل السوري.
وما دامت فواتير مبدأ "الشيطان الذي نعرف" مستحقة الدفعة، فلا غرابة أن تسير المقايضات على هذه الشاكلة المتشابكة، الشعواء.
 10/5/2018

أيار 68 في سنّ الخمسين



ليس دون مغزى تاريخي خاصّ، ثمّ اجتماعي وسياسي وثقافي أيضاً، أنّ احتفالات فرنسا بعيد العمل والعمال اقترنت هذه السنة بأعمال احتجاج عنيفة، قادتها فئات شابة جامعية غالباً، ويسارية متشددة إجمالاً. ذلك لأنّ الشهر يدشن الذكرى الخمسين لانتفاضة 1968، التي بدأت طلابية محضة يوم 3 أيار (مايو) وانطلقت من جامعة نانتير إحدى ضواحي العاصمة باريس، ثم عمّت جميع فروع السوربون وكلياتها؛ وتطوّرت، في نقلة حاسمة يوم 13، مع إضراب عمالي غير مسبوق شلّ الحياة اليومية؛ وفي نقلة أخرى، سياسية هذه المرّة، ابتداءً من 27 حين أخذ الجنرال شارل دوغول يمزج بين الرضوخ والمقاومة، وصولاً إلى حلّ الجمعية الوطنية وتنظيم انتخابات تشريعية.
ولأنّ الانتفاضة استقطبت حركات وتيارات ومدارس شتى في السياسة والاجتماع وعلم النفس والتربية والدراسات الثقافية، فإنّ المناخات الفكرية والفنية التي اقترنت بها (بتأثير جان ـ بول سارتر بصفة خاصة، ثمّ أمثال بول ريكور،  ميشيل فوكو، جيل دولوز، آلان باديو، ناتالي ساروت، مرغريت دوراس، ميشيل بوتور، جان ـ فرنسوا ليوتار، هنري لوفيفر، غي دوبور... بالإضافة إلى فرنسوا مورياك وأندريه مالرو في الصفّ المقابل)، لم تكن تناقش اللحظة الفارقة تلك، فحسب؛ بل تؤسس أيضاً لسجالات مستقبلية، أكثر تعقيداً واتساعاً، حول سلسلة متشابكة من الظواهر، وحول واقع أوروبا الرأسمالية في أطوار متأرجحة بين رواسب ما بعد الحرب العالمية، وتباشير العولمة الأبكر.
عشرات الأعمال صدرت، وتواصل الصدور، إحياء لهذه الذكرى الخمسين؛ ونطاقاتها، كما للمرء أن يتوقع، تشمل كلّ تفصيل اقترن بوقائع تلك الانتفاضة، سواء من باب التعاطف والتأييد، أو الاتكاء على الذكرى للتحذير من أنها متواصلة ومستدامة بسبب جذورها الاجتماعية، أو انتقادها بشدّة إلى درجة إنكار أنها حركة اجتماعية أصلاً (كتاب دوني تيلينياك "أيار 68 خدعة القرن"، على سبيل المثال). هنالك، أيضاً، عمل جماعي مصوّر بعنوان "أيار 68"، لخمسة من كبار رسامي الكاريكاتور ــ ولينسكي، كابو، سينيه، جيب، ري ــ الذين عاصروا أو رسموا أحداث الانتفاضة؛ وكتاب آخر، "ألف شاعر من أجل قصيدة واحدة"، يتضمن قصائد لشعراء من أربع رياح الأرض حول أيار 68. هذا فضلاً عن أعمال تتناول، على نحو فكري ونقدي، معضلة الحزب الشيوعي الفرنسي واليسار التقليدي بصفة عامة، مثل كتاب آلان تورين "حركة أيار والشيوعية الطوباوية""؛ أو روجيه مارتيللي، "الشيوعيون في 1968، سوء الفهم الهائل".
في الفنون، وكما هو معروف، كان محتوماً أن تترك الانتفاضة بصمات عميقة على السينما بصفة خاصة، بالنظر إلى صعود "الموجة الجديدة" الفرنسية آنذاك؛ فانعكست روحية أيار 68 في أفلام جان ـ لوك غودار وفرنسوا تروفو وأندريه كايات وكلود شابرول وجان أوستاش؛ بل انتقلت أيضاً إلى الإيطالي برناردو برتولوتشي، في شريطه "الحالمون"، الذي يتناول انخراط طالب جامعي أمريكي في تظاهرات باريس 1968. في التشكيل كانت حركة "الرسام الشاب"، المؤلفة من دانييل بورين وأوليفييه موسيه وميشيل بارمنتييه ونيل توروني، قد أعلنت في بيان صاخب خلال معرض مشترك، عشرة أسباب تنزع عن الرسام صفته هذه (رغم أنهم عرضوا بالفعل، وأثاروا اهتماماً وصخباً!).
إلى هذا كله، هنالك كرّاس طريف يتجاوز الذكرى الخمسين في الواقع، لإنّ فكرته تقوم على إعادة إنتاج، فوتوغرافية توثيقية، لبعض شعارات لانتفاضة؛ خصوصاً تلك التي اعتمدت الصدمة الدلالية (كما في: "كونوا واقعيين، واطلبوا المستحيل")؛ أو السخرية اللاذعة ("فلندعِ الخوف من الأحمر للحيوانات ذوات القرون")؛ أو التورية عن طريق المفارقة ("أركضْ أيها الرفيق، فالعالم القديم وراءك"). كتاب آخر طريف، مصوّر، عنوانه "500 ملصق من 68"، يكرّم ذلك الانفجار الغرافيكي الذي اقترن بيوميات أيار 68، ولم يجد أفضل من جدران باريس معرضاً له؛ أعدّه الفنّان التشكيلي والممثل المسرحي فاسكو غاسكيه، أحد أبرز رسّامي تلك الملصقات التحريضية النارية.
غير أني لا أخفي انحيازي، مجدداً، إلى كتاب أساسي وتأسيسي أيضاً، لم يقترن بالذكرى، ولم يُكتب بالفرنسية بل بالإنكليزية، ولم يقتصر على انتفاضة السوربون بل رصد الصورة الأعرض لنشوء "اليسار الجديد"، من وارسو إلى براغ، ومن باريس إلى لندن ومدريد، قبل بلوغ أمريكا الشمالية واليابان. ذلك الكتاب عنوانه "68: سنة المتاريس"، للروائي والمؤرخ البريطاني دافيد كوت، الذي يستجمع قسطاً كبيراً من أفضل مزايا المؤلف في التحليل والتفكيك والتركيب، ومنهجيته الصارمة في اقتفاء أثر الوقائع، ولغته الأدبية الرشيقة التي تخفف من مشاقّ المتابعة الرتيبة لأحداث معروفة، وانحيازه المعلن إلى الماركسية في غمرة النقد الشديد لأصنامها
يبقى ما يتردد عن عزم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إحياء الذكرى الخمسين، رغم أنه ولد بعد
تسع سنوات على اندلاع وقائعها، ورغم إشكالية قرار كهذا. وكان سلفه فرنسوا هولاند قد اعتنق مبادئ الانتفاضة، ردّاً يومذاك على رغبة الرئيس الأسبق نيكولا ساركوزي في "تصفية إرث أيار 68" بسبب ما خلّفه من "نسبوية فكرية وأخلاقية". في عبارة أخرى، ثمة هوّة عميقة تقسم الفرنسيين حول الذكرى، بين رغبة في الإحياء مقابل أخرى موازية تدعو إلى الدفن! 
 6/5/2018

محمود عباس والهولوكوست: جاء يكحّل فأصاب بالعمى!

مساء الإثنين الماضي، خلال أحد اجتماعات المجلس الوطني الفلسطيني في رام الله، نطق الرئيس الفلسطيني محمود عباس بهذه العبارة اليتيمة: "ليس العداء لليهودية بسبب دينهم وإنما بسبب وظيفتهم الاجتماعية، هذه قضية مختلفة. إذن المسألة اليهودية التي كانت منتشرة في كل دول أوروبا ضد اليهود ليست بسبب دينهم وإنما بسبب وظيفتهم الاجتماعية، وما يتعلق بالربا والبنوك و... و... و... إلخ". لكنّ التعقيب الأشدّ نذالة على العبارة لم يأتِ من رئيس وزراء دولة الاحتلال بنيامين نتنياهو، كما يحثّ المنطق البسيط، بل من سفير الولايات المتحدة لدى الكيان، دافيد م. فريدمان. السلوك النذل لم يقتصر، هنا، على تشويه محتوى العبارة، أو تعمّد إساءة ترجمة هذه المفردة أو تلك، أو تجريد عباس من صفته الرئاسية وتسميته بـ"أبو مازن"؛ بل في أنّ ديبلوماسياً يمثّل القوّة الكونية الأعظم لا يتدخل في الأمر بصفته هذه، بل في أنه يهودي قبل أن يكون أمريكياً، أو سفيراً!
دبلوماسي آخر هو البلغاري نيكولاي ملادينوف، الرئيس السابق لبعثة الأمم المتحدة للمساعدة في العراق (يونامي)، والمنسق الخاص لعملية السلام في الشرق الأوسط؛ الذي تفاصح على عباس هكذا: "الهولوكوست لم يقع في فراغ، بل كان نتيجة آلاف من سنوات الاضطهاد"؛ ولهذا السبب فإنّ "من الخطر محاولات إعادة كتابته، أو التقليل من شأنه، أو إنكاره". ولم يتوقف ملادينوف عند هذا، بل ذهب أبعد: لقد اختار عباس "أن يكرر بعض الافتراءات الأكثر جدارة بالازدراء، بما في ذلك الإيحاء بأنّ السلوك الاجتماعي لليهود كان السبب وراء الهولوكوست". ولكي يكون ختام تصريحاته مسكاً، وبرداً وسلاماً على قلوب اليهود، قال ملادينوف: "إنكار الرابط التاريخي والديني لليهود في الأرض وأماكنهم المقدسة في القدس يتناقض مع الواقع".
دبلوماسي ثالث هو جون كيري، وزير الخارجية الأسبق في رئاسة باراك أوباما، ثارت ثائرته أيضاً: أقوال عباس "خاطئة، قبيحة، وغير مقبولة، كائناً مَنْ كان قائلها، ولكن خاصة من أيّ شخص يقول إنه يريد أن يكون صانع سلام. لا أعذار للعداء للسامية، وهذه الأقوال تجب إدانتها، لا التخفيف منها عبر تفسيرها". زميله وزير الخارجية الألماني هايكو ماس غرّد أنّ ألمانيا، لا اليهود (وليس حتى ألمانيا النازية!)، هي المسؤولة عن الهولوكوست: "نحن نرفض أي إسباغ للنسبية على الهولوكوست، وألمانيا تتحمل المسؤولية عن الجريمة الأفظع في التاريخ البشري". وأمّا الاتحاد الأوروبي، فهيهات أن يتخلّف عن الركب: "العداء للسامية ليس تهديداً لليهود وحدهم بل هو نذير خطر لمجتمعاتنا المفتوحة والحرّة. إنّ الاتحاد الأوروبي يظلّ ملتزماً بمكافحة أيّ شكل من أشكال العداء للسامية واية محاولة للتغاضي أو التبرير أو تتفيه الهولوكوست".
والحال أنّ عباس لم يتلفظ بمفردة الهولوكوست، أو ما يشابهها ويدانيها من مرادفات ومترادفات؛ كما أنه لم يتطرق إلى اضطهاد اليهود في أوروبا إلا لكي يستخلص أنهم لم يُضطهدوا على نحو مماثل في العالم العربي، ولا في فلسطين؛ ولم يشكك في ارتباطهم بمقدساتهم في فلسطين التاريخية. صحيح أنّ عبارة عباس عاثرة، بل هي خاطئة تاريخياً بمعنى اعتمادها على تفسير واحد أحادي للمسألة اليهودية في أوروبا، بحيث بدا وكأنّ عباس جاء ليكحّلها فأصابها بالعمى؛ إلا أنّ هذا الرجل، تحديداً، هو آخر مَنْ يمكن أن تنطبق عليه صفة العداء للسامية ضمن الجيل الراهن من مسؤولي السلطة الوطنية الفلسطينية. أكثر من هذا، ورغم ما يرتكب من كوارث كلما تذكّر أنه دكتور في التاريخ (خريج "جامعة الصداقة بين الشعوب" السوفييتية، عن أطروحة حول العلاقات النازية ـ الصهيونية خلال أعوام 1933 ـ 1945)؛ فهو أصدق أصدقاء السردية الصهيونية (واستطراداً: اليهودية) حول السلام، في صفوف المؤرّخين الفلسطينيين المعاصرين!
وفي عام 2003، عندما كان يترأس الحكومة الفلسطينية، ذكر التالي في مقابلة مع الصحافي الإسرائيلي عكيفا إلدار: "كتبت بشكل مفصل عن الهولوكوست، وأشرت أنني لا أريد الدخول بالأرقام والأعداد، واقتبست جدالاً بين مؤرخين حيث قال أحدهم إن العدد 12 مليون ضحية وقال آخر إن العدد وصل الى 800 ألف. لا توجد لدي رغبة في نقاش الأعداد، هذه جريمة لا تغتفر ضد الشعب اليهودي وضد الإنسانية. الهولوكوست أمر فظيع، ولا يستطيع أحد القول إنني أنكرت الهولوكوست". بعد 11 سنة، وهو رئيس السلطة هذه المرّة، وافق عباس على إصدار بيان مع الحاخام مارك شنير، رئيس مؤسسة "التفاهم العرقي" في نيويورك؛ تضامناً مع الإحياء الإسرائيلي لذكرى الهولوكوست، ينصّ على أنّ ما شهده اليهود من اضطهاد هو "أبشع جريمة عرفتها البشرية في العصر الحديث".
وهذا هو عباس نفسه الذي، قبل عقد ونيف، خلال خطاب ناري أمام المجلس المركزي لمنظمة التحرير الفلسطينية (الذي، للإيضاح المفيد، لم يكن قد اجتمع منذ سنوات!)، وصف حركة "حماس" بأنها "إرهابية" و"انقلابية" و"تكفيرية"؛ الأمر الذي عنى أنّ ناخبي "حماس" الذين صوّتوا لها بتلك الأغلبية الكاسحة الشهيرة هم، بدورهم، "إرهابيون" و"انقلابيون" و"تكفيريون" و"خونة"؟ وكيف صحا عبّاس، يومذاك فقط، على هذه الصفات الإرهابية لحركة كلّفها بتشكيل حكومتين؟ وكيف وقّع معها اتفاقاً ذهبياً مقدّساً في رحاب مكة المكرّمة، برعاية سعودية، وفي غمرة إغداق للمديح المتبادل وإهراق للنوايا الطيبة؟ وكيف يُنسى حكمه على السفن الأجنبية الساعية إلى كسر الحصار على غزّة، والتي كان يتواجد على متنها عدد من خيرة أصدقاء القضية الفلسطينية في العالم، بأنها "لعبة سخيفة"؟ ألم تكن "قبلة الموت" هي التسمية التي شاء يوري أفنيري اختيارها لتوصيف ما طبعه رئيس وزراء دولة الاحتلال الأسبق، إيهود أولمرت، على خدّي عباس، أثناء استقبال الأخير مطلع العام 2007، فكتب: "منذ أن بادر يهوذا الإسخريوطي إلى عناق يسوع المسيح، لم تشهد أورشليم القدس مثل هذه القبلة"! وكيف تناسوا موقفه في تأجيل التصويت على تقرير القاضي ريشارد غولدستون، حول جرائم الحرب في العدوان الإسرائيلي الهمجي على غزّة؟
وأيضاً، كيف لم يغفروا له هذه العبارة اليتيمة، العاثرة حقاً، وهو الذي تناسى، في الخطاب إياه، تساوى معهم في تجاهل ما يتعرض له أبناء جلدته من مجازر ودمار منظّم في مخيم اليرموك، قرب دمشق؛ فاعتبر أنّ سلطته غير معنية بما يجري في ليبيا وسوريا والعراق واليمن: "على هذه الدول والشعوب أن تحل مشاكلها بنفسها، على كل واحد أن يحل مشاكله بالطرق السلمية لذلك نحن لسنا مع أي خلاف عربي ولن نكون مع هذه الدولة أو تلك، ولن نكون في الخلافات الداخلية مع هذه الجهة أو تلك، وإنما نقول عليهم أن يحلوا مشاكلهم بأنفسهم"؟ ألم يفرحهم، قليلاً، أنه قال علناً ما ظلّ يردده في السرّ: "من المعروف أنّ الربيع العربي أو ما يسمى بالربيع العربي أكذوبة اخترعتها أمريكا"؟ ألم يبهجهم أنه يشتم "صفقة القرن" تارة، وتارة أخرى يقرّها ضمنياً حين ينزّه المملكة العربية السعودية عن أيّ تغيير في الموقف من القضية الفلسطينية، وكأنّ تصريحات محمد بن سلمان (شريك مهندس الصفقة) لا تمثّل إلا شخص وليّ العهد؟
ومع ذلك، وحتى إذا كان عباس قد جاء ليكحّلها فأصابها بالعمى، فإنّ شهية الدوائر الصهيونية العالمية إلى إلصاق تهمة العداء للسامية بكلّ مَنْ هبّ ودبّ على غير هوى تلك الدوائر، وبينهم يهود أحفاد ناجين من الهولوكوست، لا تتوقف عند أية ضحية؛ فكيف إذا كان المسمّى "رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية"؟ وكيف إذا كان السياق اجتماعات "المجلس الوطني الفلسطيني"!
 3/5/2018

"دمشق الحرائق" تواصل الاشتعال



في سنة 1973 أصدر زكريا تامر، القاصّ السوري الكبير الرائد، مجموعته "دمشق الحرائق"؛ التي كانت الثالثة بعد "صهيل الجواد الأبيض"، 1960؛ و"الرعد"، 1970. احتوت المجموعة على 30 قصة قصيرة، متوسطة الطول إجمالاً، وتواصل ما كان تامر قد اختطه لنفسه من أسلوبيات خاصة في كتابة هذا الفنّ الشاقّ؛ ابتداءً من العناوين التي بدت لافتة في زمنها ("يا أيها الكرز المنسي"، "التراب لنا وللطيور السماء"، "أرض صلبة صغيرة"، "موت الشعر الأسود"، "شمس للصغار"... على سبيل الأمثلة). خصائص أخرى تمثلت في شحن البرهة البشرية، أكانت واقعية أم رمزية أم سوريالية، بمزيج من الكابوس المألوف أو العجائبي، وموضوعات العيش الفعلي والوجود المتخيَّل، على نحو يدحر خطوط الفصل بين التوثيق والتخييل؛ كما تمثلت في استخدام لغة عالية المزاج، شعرية وشاعرية تدني السرد من روحية قصيدة النثر، لكنها لا تتنازل عن حرارة القاموس اليوميّ، بل تُحسن توظيفه أو تسخيره حين تقتضي المعادلة الفنية.
وفي مناسبات سابقة، كان آخرها نصّ باللغة الإنكليزية ضمن دراسات العدد الخاصّ الذي كرّسته "بانيبال" لتكريم تامر؛ أشرت إلى أنّ هذه الحصيلة الأسلوبية ميّزت تامر عن أساتذة كبار من كتّاب القصة القصيرة السورية، أواخر الخمسينيات وحتى منتصف السبعينيات؛ أمثال عبد السلام العجيلي، ألفت الإدلبي، عبد الله عبد، جورج سالم، سعيد حورانية، حسيب كيالي... الجدير بالإشارة، في هذا السياق تحديداً، أنّ قصة تامر كانت ــ في مستوى النثر، كوسيط تعبيري حداثي ــ خير حليف لقصيدة النثر العربية يومذاك، ضمن تيارات مجلة "شعر" خاصة (ولم يكن غريباً أن تبادر المجلة إلى نشر مجموعة تامر الأولى، بحماس بالغ من يوسف الخال)، ثمّ قصيدة محمد الماغوط على وجه أخصّ. كذلك، من جانب آخر، توجّب أن ينشقّ تامر عن المواضعات الراسخة في فنون كتابة القصة القصيرة العربية، كما وضعها كبار من أمثال نجيب محفوظ ويحيى حقي ويوسف إدريس وتوفيق يوسف عواد؛ في الخصائص الأسلوبية سالفة الذكر أوّلاً، ثمّ في المزج بين الواقعية والرمزية في استعادة التاريخ والتراث ثانياً.
وفي قصة بعنوان "البدوي"، من مجموعة "دمشق الحرائق" يقرر يوسف السير وراء جنازة عابرة لا يعرف عنها شيئاً، إذْ "لم يكن لديه ما يفعله". غير أنّ مشاركته، العبثية في دافعها الأوّل، سرعان ما تتفرع إلى سلسلة من الدوافع المركزية، الممتدة كشريط طويل يلتف حول المحاور الأساسية لحركة القصة، لينتهي إلى إشكالية إنسانية مركزية تتجمع عندها الأفعال والاحلام والتداعيات والمصاحبات. إنها تبدأ بوقوف يوسف بين الأضرحة البيضاء، تحت شمس صفراء وسماء زرقاء، بمتابعته المحايدة لدفن الميتة (ونعرف من صيحات النساء أنها ليلى)، التي "وافتها المنية، وهي لا تزال في مقتبل العمر، وتوارت قبل أن تعرف مسرات الدنيا"؛ لينتهي الموقف المحايد بانتهاء مراسم الدفن، ويبدأ الطور الأول من تماس يوسف مع تنويعات متخيّلة لموت داخلي "أبصره، وحملق إليه بشراهة وغيظ".
في المدينة، لاحقاً، تنتظره الحياة بكائناتها وأماكنها، فيستلقي قرب النهر متثائباً ومنتظراً أن يهرم ويموت؛ ثمّ يعود إلى مسكنه، حيث يتخيّل القبو قبراً، فيغازل سميرة بنت مالك البناية، وتراوده الأحلام، ويحقد على الآلات في العمل. وحين يخرج مجدداً إلى العراء، في الشارع ونحو المقهى العمالي، يستيقظ في أعماقه "بدوي جلف، مشعث الشعر، يملك خنجراً مقوس النصل، ويملك خيمة في صحراء مجدبة، ولا يملك امرأة، وها هو ذا الآن ينحدر إلى المدينة تقوده رغبة هوجاء في بيع عينيه من أجل ضحكة امرأة"... وفي الختام، وبعد تطواف حافل بين طبقات شتى في باطن المدينة، يمشي يوسف بين البيوت الطينية، فيداهمه إحساس بأنه "يستنشق بعد مرض طويل هواءً حقيقياً ممتزجاً بضياء الشمس، وبدا الأمس مجرد حلم أسود بدّده الصباح". وهكذا يترك البدوي تمثالاً جاثماً في القبو، ويقرر العودة إلى بيت أهله القديم حيث ولد.
يبقى العالم الخارجي بالطبع، أو يُبقيه تامر، نابضاً بالحياة والموت معاً، حافلاً بطبقات ونماذج بشرية ومشكلات عيش ومآزق وجود، وفي حال اشتباك دائم بين المأساة والملهاة. وإذْ يلتقط تامر هذه المشهدية الزاخرة بأدوات القاصّ المعلّم، فإنه يلجأ إلى توزيع محمولات القول، وبعضها إيديولوجي الدلالة بالطبع، على وحدات الحركة في القصة، فيقيم توازناً كميّاً في عدد كلمات مشاهد السرد، هو أقرب إلى التوازن الخفي الذي يتقاسم الاستحواذ على حساسية القارئ مع العمليات الفنية الأخرى: مشهد الجنازة، 426 كلمة؛ الشوارع، 120، القبو، 2900؛ الحوار المباشر، 335، الحلم الأول، 150؛ الشوارع، 115؛ القبو، مجدداً، 265؛ المقهى العمالي، 324، الشوارع، مجدداً، 228؛ القبو ثالثاً (وضمنه الحلم الثاني)، 340؛ الفندق (وضمنه الحلم الثالث)، 358...
وهذه، إذن، واحدة من ذرى "دمشق الحرائق"، المجموعة التي بلغت سنّ الخامسة والأربعين هذا العام، والنيران التي أشعلتها 30 قصة على مستوى التخيّل يتواصل أوارها فيجبّ الواقعُ الخيالَ. وهكذا، لا يعدم المرء يوسف العظمة، بطل قصة "الاستغاثة"، تائهاً في شوارع دمشق، ذاهلاً ومغترباً وملاحَقاً من أجهزة النظام؛ أو... شهيداً، مجدداً! 
29.4.2018 



"حزب الله": اندماج المخفر الإيراني في الحوزة الشيعية



 لكي يبدأ المرء من معطيات بسيطة حول حقيقة تحوّل "حزب الله" اللبناني إلى دولة داخل الدولة، يكفي التذكير بأنّ الحزب هو ثاني مُشغِّل/ مانح للرواتب في مختلف الوظائف، بعد الجيش اللبناني العتيد؛ كما أنه يأتي في الترتيب الأول للجهات التي تتولى تقديم مختلف أنماط المعونات الاجتماعية. صحيح، قد يقول قائل، إنّ هذين الامتيازين يقتصران ديمغرافياً على أبناء الشيعة في الأغلبية الساحقة، وفي مناطقهم الفقيرة حيث مستوى المعيشة المتدني غالباً؛ إلا أنّ هذا التفصيل يشكل، في ذاته، رافعة كبرى لتثبيت صعود الحزب إلى مصافّ الدولة، التي لا ينقصها جيش ضارب عالي التسليح، وحكومة فعلية، وخزينة لا تنضب، وعَلَم، و... مرجعية عليا قوامها الوليّ الفقيه!
ولقد مضى زمن شهد "تواضع" قيادة الحزب، والقصد هنا مرحلة ارتقاء حسن نصر الله سدّة القيادة، من حيث مغازلة الدولة اللبنانية والاعتراف بسلطتها وسلطاتها ومرجعياتها؛ بل إطراء الجيش اللبناني على وجه التحديد، وتنزيهه عن الصراعات والاختلافات، بوصفه مؤسسة تحظى بالإجماع الوطني. ذلك لأنّ هذا الخيار، اللفظي أوّلاً وأخيراً، والذي لم تكن مضامين النفاق فيه خافية إلا على الحمقى؛ لم يكن يكلّف الحزب البتة، لا في كثير ولا في قليل، وكان في المقابل يُكسبه ــ لدى شرائح أخرى من الحمقى ــ صورة الحزب المنضوي تحت الراية اللبنانية الوطنية، وتحت الدستور والرئاسات الثلاث. كان الحزب يعلم، ويُعلِم الجميع كلما اقتضت الحاجة، أنه دولة فوق الدولة وليس ضمن الدولة فقط، وأنه جيش أقوى عدّة وعدداً من الجيش اللبناني، وأنّ خزينته أغنى ويمكن لها أن تطفح في كلّ حين بمليارات "المال الطاهر". إنه، باختصار بليغ، مخفر أمامي للوالي الفقيه في طهران، والنقطة بعد هذا السطر تجبّ كلّ سؤال وتساؤل.
فهل صار حوزة شيعية أيضاً، بمعنى التجنيد العسكري والعقائدي للطائفة الشيعية في لبنان، ثمّ ما أمكن ذلك في الإطار المشرقي، ونحو سوريا أيضاً؟ نعم، وتدريجياً في واقع الأمر، رغم أسباب جوهرية ثلاثة، بين أخرى أقلّ مغزى ربما، كانت تحول دون ذلك التحوّل:
1 ـ أنّ حافظ الأسد، الذي ساهم في وضع التصاميم الأولى لصيغة الحزب، بالتوافق مع الإمام الخميني مباشرة كما تشير مصادر عديدة، سعى جاهداً لإبعاد التبشير الشيعي عن صفوف الطائفة العلوية؛ لأنّ أيّ تشيّع (من الطراز الذي تطوّر بعد الثورة الإسلامية في إيران) كان يهدد سيطرة النظام على مفاصل أساسية في قلب الطائفة العلوية، ويقترح بديلاً عن التوازنات العشائرية وشبكات الولاء الوظيفية التي شيّدها الأسد في قرى جبال الساحل السوري تحديداً.
2 ـ وأنّ التشيّع اللبناني، ثمّ في إطار أوسع: التشيّع العربي خارج مرجعيات قُم، لم يكن متجانساً على مستويات ديمغرافية وفقهية وتاريخية، ولم يكن واقعياً استطراداً ــ ولا مستحباً أصلاً ــ فرض شرائع ولاية الفقيه على الفقه النصيري في سوريا، والجعفري في لبنان، والزيدي في اليمن، كأمثلة؛ بصرف النظر عن نقاط الاختلاف والتشابه بينها وبين مرجعية قم.
3 ـ أنّ جمهور الشيعة في لبنان، مثله مثل أي جمهور ديني أو مذهبي أو طائفي، كان شرائح في مجتمع أوّلاً، وكان طبقات وفئات تتحكم في سلوكها عوامل اجتماعية واقتصادية وسياسية وثقافية متباينة، ومتناحرة استطراداً؛ فلم يخلُ جمهور الشيعة اللبناني من معارضات مختلفة، علمانية وتقدمية رافضة للانتماء المذهبي؛ وأخرى إقطاعية وإقليمية تنضوي تحت ولاءات أخرى أبعد من حسّ التشيّع المحض.
وفي صيف 2013، للمرة الأولى منذ انتخابه أميناً عاماً للحزب، صارح حسن نصر الله جماهير الحزب هكذا: "نريد أن نقول لكلّ عدو ولكلّ صديق، نحن شيعة علي بن أبي طالب في العالم"، وأيضاً: "نحن حزب الله. الحزب الإسلامي الشيعي الإمامي الإثنا عشري". كانت عوامل كثيرة قد دفعت نصر الله إلى هذا المستوى من الوضوح، أبرزها أنّ الحزب كان قد أعلن رسمياً انخراطه في القتال إلى جانب النظام السوري، وانفكاكه بالتالي عن ركيزة وجوده الكبرى والتأسيسية، أي "المقاومة" ضدّ إسرائيل. العامل الثاني نجم عن الأوّل بالضرورة، وهو التآكل المضطرد لجماهيرية الحزب في أوساط جماهير السنّة على امتداد العالم العربي والمسلم؛ الأمر الذي دفع نصر الله إلى التمترس المذهبي أكثر من ذي قبل، وإلى كشف طوية حرص عقوداً على تعميتها تحت ستار تمثيل جبهة المقاومة. قبل صيف 2013 هذا، في مطلع شبابه، وداخل اجتماع مغلق، سُجّل على شريط؛ كانت مصارحة نصر الله أكثر وضوحاً حول مشروع الحزب: "أن يكون لبنان ليس جمهورية إسلامية واحدة، وإنما جزء من الجمهورية الإسلامية الكبرى التي يحكمها صاحب الزمان، ونائبه بالحقّ الوليّ الفقيه الإمام الخميني".
بذلك فإنّ صيغة "حزب الله" التكوينية خضعت لتجاذبات ثلاثة، ذات عناوين مكشوفة وأخرى مضمرة: جبهة مقاومة ضدّ إسرائيل (مخفر لبناني للولي الفقيه)، حاضنة اجتماعية للفئات الأفقر في صفوف شيعة لبنان (حوزة تبشير مذهبية، وحزب إسلامي شيعي إمامي إثنا عشري)؛ ودولة فوق الدولة (على الصعيد الرسمي، وقياساً على الحال الراهنة: وزيران في الحكومة، 14 نائباً، هيمنة على إدارات كبرى، بلديات ومناصب وفضائيات وصحف...). وتلك تجاذبات لم تبدّل خيار الحزب الجوهري في عدم إلزام المنتسبين إلى صفوفه بأية قواعد تنظيمية، لكنّ تقاليد العمل الداخلية كانت لها اليد العليا في تحويل الحزب إلى ميليشيا عسكرية تذهب بالمنتسبين إلى القتال مع نظام استبداد وجرائم حرب وفساد؛ تحت ذريعة (كاذبة) توفّرها الحوزة الدينية، أي الدفاع عن مراقد الشيعة في سوريا، ضدّ "التكفيريين".
لكن "غزوة بيروت"، في أيار (مايو) 2008، حين نزل الحزب بسلاحه الثقيل إلى قلب بيروت لترويض خصوم سياسيين، وأطلق نصر الله على تلك الواقعة صفة "اليوم المجيد"؛ نقلت حزب "المستضعفين" و"فقراء الكرنتينا" خطوة كبرى حاسمة بعيداً عن خطاب مغازلة المؤسسات الشرعية اللبنانية، فكشّر "حزب الله" عن أنياب لا تُخفي شراستها، بل تقصد إعلانها والتخويف بها. التطورات اللاحقة، بعد التعثر في انتخابات 2009 وعدم الوفاء بعهد الثأر لاغتيال عماد مغنية ومباركة قمع الإصلاحيين في إيران وتعطيل انتخاب رئيس للجمهورية والتخبط في أداء وزراء الحزب ضمن حكومة ميقاتي، كلها كانت مقدمات منطقية لكي يدير الحزب ظهره لإسرائيل، ويتفرغ لمقارعة أبناء الشعب السوري في أربع رياح سوريا.
.. ليس دون الاستدارة ضدّ بعض أبناء الطائفة الشيعية، ممّن اتخذوا موقف المعارضة لسياسات الحزب، أو لقتاله على جانب النظام السوري تحديداً. في الماضي أشارت أصابع الاتهام إلى خلايا الحزب في تصفية أمثال حسين مروة ومهدي عامل، واليوم لا يتردد الصحافي والمرشح النيابي علي الأمين في اتهام عشرات من أنصار الحزب اعتدوا عليه في وضح النهار. إعلام الحزب لا يتورع، من جانبه، عن اختراع فئة خاصة اسمها "شيعة السفارة"؛ أنت، كما يكتب علي الرز، عضو فيها حتماً، إذا كنتَ: "شيعياً لبنانياً ولم تسلّم عقلَك لآيات الله ووكلائهم المحليين"، أو "تتجنّب رفْع الأيادي تلقائياً والهتاف “لبّيك” من دون أن تفكّر لماذا رَفَعْتَ قبْضتكَ وهَتَفتَ"، أو "رافضاً للدم السوري على يديْك"، أو "رافضاً أن تصبح “برميلاً” محمَّلاً بالمتفجرات يلقيه الديكتاتور المدعوم من محور الممانعة على آلاف الأبرياء"، أو "رافضاً توزيع الحلويات والغناء والدبكة على أنغام السارين والكلور"؛ أو... أو... أو...
مخفر حوزة، وحوزة مخفر، إذن؛ ولا فارق، ولا افترق!
 26/4/2018

قباني وطنطاوي: الشاعر والشيخ



في مجلة "الرسالة"، العدد 661، 4 آذار (مارس) 1946، كتب الشيخ علي الطنطاوي هجاء مقذعاً بحقّ "أدب الشهوة" كما أسماه؛ متسائلاً عن العناء في كتابته وطباعته ما دام الأمر لا يحتاج إلا "سهرة في الخمارة، أو ليلة في المرقص"، حتى تُستجمع أسباب هذا الأدب ومقوماته. ثمّ ذهب الشيخ إلى مربط الفرس: "طُبع في دمشق منذ سنة كتاب صغير، زاهي الغلاف ناعمه ملفوف بالورق الشفاف الذي تلفّ به علب (الشيكولاته) في الأعراس، معقود عليه شريط أحمر كالذي أوجب الفرنسيون أول العهد باحتلالهم الشام وضعه في خصور (بعضهن) ليمرقن به، في كلام مطبوع على صفة الشعر، فيه أشطار طولها واحد، إذا قستها بالسنتمترات... يشتمل على وصف ما يكون بين الفاسق القارح، والبغي المتمرسة المتوقحة وصفاً واقعياً، لا خيال فيه، لأنّ صاحبه ليس بالأديب الواسع الخيال، بل هو مدلل، غني، عزيز على أبويه، وهو طالب في مدرسة... وقد قرأ كتابه الطلاب في مدارسهم، والطالبات".
كان الشيخ يقصد الشاعر الشاب نزار قباني (1923 ـ 1998)، وكانت المجموعة هي "قالت لي السمراء" التي صدرت في عام 1944؛ ملفوفة، بالفعل، بورق السيلوفان، تماماً مثل زجاجة عطر أو علبة "شيكولاته" كما كتب الشيخ. موضوعات المجموعة كانت قصائد حبّ وغزليات حسّية، وفي الأسلوب اقترحت القصائد رشاقة مباغتة في تطويع المعجم، وأناقة جلية في اختيار المفردات، وشجاعة عالية في المجاورة بين الفصحى والعامية، وجسارة في تنويع التفاعيل. أكثر من هذا، كانت سوريا يومذاك تغلي بالشعر الوطني، وكان صاعقاً ــ وجديداً طارئاً، أيضاً ــ أن تصدر مجموعة شعرية خالية تماماً من أية قصيدة وطنية. لكنها، على النقيض، طافحة بنصوص على هذا المنوال: "سيري، ففي ساقيك نهرا أغاني/ أطرى من الحجاز والأصبهاني/ بكاء سيمفونية حلوة/ يغزلها هناك قوسا كمان/ لا تقطعي الإيقاع لا تقطعي/ ودمّري حولي حدود الثوان/ وأبحري في جرح جرحي أنا/ لشهوتي صوت... لجوعي يدان".
لكنّ الشيخ لم يتوقف عند المحتوى، بل شملت غضبته البحور والنحو أيضاً: "وفي الكتاب مع ذلك تجديد في بحور العروض، يختلط فيه البحر البسيط بالبحر الأبيض المتوسط، وتجديد في قواعد النحو لأنّ الناس قد ملّوا رفع الفاعل، ونصب المفعول، ومضى عليهم ثلاثة آلاف سنة وهم مقيمون عليه، فلم يكن بدّ من هذا التجديد". وفي هذا غبن كبير للمجموعة، غنيّ عن القول، لأنّ قصائدها تلتزم بقواعد النحو والصرف، بل تشفّ عن فصاحة عالية وبلاغة بديعة؛ على طريقة الشاعر بالطبع، وضمن خياراته في التجديد والتحديث. وليس مستبعداً، في المقابل، أن يكون الطنطاوي قد استنكر ــ في هذا البيت: "كأنما عينك وسط الضيا/ صفصافة تحت الضحى الزنبقي" ــ استخدام مفردة "الضيا" بدل الضياء.
وفي القرار الأعمق من موقف الطنطاوي استقرّ ذلك الصدام بين موقفين من حرّية التعبير، وذائقتين، ومفهومين عن الشعر والأدب عموماً، ومقاربتين فكريتين ومعرفيتين لا تخفى جذورهما الإيديولوجية المتناحرة. ذلك أنّ قباني سوف يردّ، بعد سنوات، حين يروي قصته مع الشعر، فيكتب: "لقد كان (قالت لي السمراء) في الأربعينات زهرة من (أزهار الشر). وإذا كانت باريس قد تسامحت مع بودلير حين أهداها أزهاره السوداء، وسلط الضوء على المغائر السفلية، والدهاليز الفرويدية في داخل الإنسان، فإنّ دمشق الأربعينات لم تكن مستعدة أن تتخلى عن حبّة واحدة من مسبحتها لأحد. لذلك جاءت ردود الفعل جارحة... وذابحة. وكلام الشيخ علي الطنطاوي، عن شعري، لم يكن نقداً بالمعنى الحضاري للنقد، وإنما صراخ رجل اشتعلت في ثيابه النار"!
بعد سنوات قليلة سوف يغضب إسلامي آخر، قيادي في جماعة "الإخوان المسلمين" السورية، هو مصطفى الزرقا؛ الذي اعترض على قصيدة قباني "خبز وحشيش وقمر"، معتبراً أنها "داعرة فاجرة انحلالية". ولأنه كان عضواً في البرلمان يومذاك، طلب الزرقا عقد جلسة لاستجواب الحكومة، بالنظر إلى أنّ الشاعر كان أيضاً موظفاً في السلك الدبلوماسي. ولقد فشلت كتلة الإخوان في الحصول من المجلس على توصية ضدّ قباني؛ ولكنّ التاريخ البرلماني السوري كسب واقعة ثمينة في صيانة حقّ التعبير، إذْ قال وزير الخارجية خالد العظم (على ما يروي شمس الدين العجلاني): "يا حضرات النوّاب الأعزاء، أحبّ أن أصارحكم بأنّ وزارة الخارجية السورية فيها نزاران: نزار قباني الموظف، ونزار قباني الشاعر. أمّا نزار قباني الموظف، فملفّه أمامي، وهو ملفّ جيد ويثبت أنه من خيرة موظفي هذه الوزارة. أمّا نزار قباني الشاعر، فقد خلقه الله شاعراً، وأنا كوزير للخارجية لا سلطة لي عليه، ولا على شعره. فإذا كنتم تقولون إنه هجاكم بقصيدة، فيمكنكم أن تهجوه بقصيدة مضادة، وكفى الله المؤمنين شرّ القتال"!
ولم يكن بغير مغزى أنّ قباني، الذي تمرّ ذكرى رحيله العشرون هذه الأيام، ساجل مراراً بأنّ "الخروج على القانون هو قَدَر القصيدة الجيدة"؛ و"ليس ثمة قصيدة ذات مستوى، لا تتناقض مع عصرها ولا تتصادم معه"؛ ما دامت القصيدة "محاولة لإعادة هندسة النفس الإنسانية"، و"إعادة صياغة العالم"!
22/4/2018 


غروسمان ونقائض إمساك العصا الصهيونية من المنتصف




على أعتاب الذكرى السبعين لتأسيس دولة الاحتلال، وكذلك في مناسبة فوزه بجائزة إسرائيل للأدب؛ ألقى الروائي الإسرائيلي دافيد غروسمان (64 سنة) خطبة لا تكتنفها مشاعر البهجة والاحتفال، كما يُنتظر من سياقات إلقائها، بل طفحت بأحاسيس المرارة والحزن والفقد، ونقد سياسات حكومة الاحتلال أيضاً؛ ويصحّ، بالفعل، عنونتها على غرار ما فعلت "هآرتز" عند نشر الترجمة الإنكليزية للخطبة: "إسرائيل حصن، لكنها ليست وطناً بعد"! لكنّ الصحيفة لم تترجم فقرة استهلالية ألقاها غروسمان باللغة العربية، وتضمنت ترحيباً بـ"الضيوف العرب، شركائنا في الأمل والألم".
خطبة جديدة، إذن، سجالية وإشكالية وحمّالة أوجه وتأويلات، على النحو الذي اتصفت به مواقف غروسمان وكتاباته؛ منذ كتابه "الريح الصفراء"، 1987 (الذي يظلّ العمل الإسرائيلي الأبكر والأشجع في تسليط الضوء على حياة الفلسطينيين في الضفة الغربية والقطاع، تحت الاحتلال)؛ مروراً بالخطبة العصماء ساعة اغتيال إسحق رابين، وليس انتهاء برثاء ابنه أوري الذي قُتل خلال العدوان الإسرائيلي على لبنان سنة 2006. وهي مادّة جديدة، استطراداً، من أحد أبرز الأصوات في صفّ "يسار" إسرائيلي يؤيد السلام وحلّ الدولتين وإقامة دولة فلسطينية مستقلة، وينتقد بشدّة سياسات الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، وينظر خلفه بغضب إلى الإرث الصهيوني، كما يعيش حالة فصام مستفحلة مع أطوار "ما بعد الصهيونية" إذا صحّ وجود هذا المصطلح على أرض الواقع. لكنه، في المقابل، "يسار" يحتاج دائماً إلى تذكير الآخرين بأنه "يحمل لهذه الأرض محبّة هائلة وطاغية ومركبة"؛ وأنه علماني التفكير، ولكنه مؤمن بأنّ قيام دولة إسرائيل كان "معجزة من نوع ما، سياسية ووطنية وإنسانية، وقعت لنا كأمّة".
الوطن، كما عرّفته خطبة غروسمان الأخيرة، هو "مكان جدرانه ـ حدوده ـ واضحة ومقبولة؛ وجوده مستقر، متين، ومرتاح؛ سكانه يعرفون شفراته الحميمة؛ وعلاقاته مع جيرانه ترسخت. إنه يعكس حسّاً بالمستقبل". و"نحن الإسرائيليين"، يتابع غروسمان، "حتى بعد 70 سنة ـ وبغض النظر عن عدد الكلمات التي تقطر عسلاً وطنياً وستُنطق خلال الأيام المقبلة ـ لسنا في هذا الوارد". في صياغة أخرى أوضح، اختصرها عنوان الخطبة أيضاً: لسنا وطناً بعد! أكثر من هذا، يعود غروسمان إلى التشديد على معادلته المأثورة بصدد حكاية الوطن: "إذا لم يكن للفلسطينيين وطن، فلن يكون للإسرائيليين وطن أيضاً"؛ واستطراداً: "إذا لم تكن إسرائيل وطناً، فلن تكون فلسطين وطناً كذلك".
فهل، في المقابل، يستوي الفلسطينيون والإسرائيليون تحت اشتراطات منطق التشابك الجدلي الوثيق الذي يقترحه غروسمان؟ أي: هل تستوي دولة احتلال، مع مشروع دولة للشعب الذي تحتل أرضه؟ وكيف يمكن لمبدأ التعالق، بين وطن إسرائيلي وآخر فلسطيني، أن يفرز شروطاً متكافئة في الحدّ الأدنى، بين 70 سنة هي عمر دولة الاحتلال، ضمنها 51 سنة من احتلال أرض الشعب الآخر، "شركائنا في الأمل والألم"؟ وكيف يمكن إقامة العلاقة، أو بالأحرى فضّ الاشتباك، إذا كانت دولة الاحتلال تدير نظام تمييز عنصري (لا يتردد غروسمان في توصيفه بـ"الأبارتيد")، أو، كما يسرد غروسمان أيضاً: 1) حين يمنع وزير الدفاع الفلسطينيين المحبين للسلام من حضور هذا الحفل؛ و2) حين يطلق قناصة إسرائيل النار على متظاهرين عزّل، مدنيين غالباً؛ و3) وحين تعقد دولة إسرائيل اتفاقيات مريبة مع أوغندا ورواندا، تهدد حياة الآلاف من طالبي اللجوء؛ و4) حين يشهّر رئيس الوزراء بمنظمات حقوق الإنسان، ويلتفّ على المحكمة العليا؛ و5) حين تهمل إسرائيل، وتنبذ، حتى مواطنيها البؤساء في ضواحي تل أبيب وعلى هوامش المجتمع...
ثمة، إلى هذا كله، سلسلة مفارقات اقترنت على الدوام بهذه "الفلسفة" الإجمالية التي يعتمدها غروسمان في قراءة المشهد الفلسطيني ـ الإسرائيلي؛ وكانت، وتظلّ، من طراز يسبغ الإشكالية على مواقفه الأكثر أخلاقية في تأييد الحقوق الفلسطينية، ويستدعي السجال والمساءلة، والتناقض التأسيسي كذلك. ففي التعليق على القرصنة الإسرائيلية ضدّ السفينة السويدية ماريان، أولى السفن في إطار حملة "أسطول الحرية 3"، صيف 2015؛ اعتبر غروسمان أنه "لا ذريعة تمحو الأعمال الغبية للحكومة والجيش" في إسرائيل. لكنه، إذْ انتهج منطق تثبيت "الغباء" كسبب وحيد للجريمة، سارع في الجملة التالية إلى الجزم بأنّ "إسرائيل لم ترسل جنودها لقتل المدنيين بالدم البارد، فهذا آخر ما كانت تريده"؛ وأنها استُدرجت إلى فخّ، نصبه الذين كانوا على ثقة بأنّ إسرائيل سوف تتصرّف على هذا النحو! كذلك تذكّر غروسمان أنّ الذين أتوا على ظهر السفينة ليسوا جميعهم من دعاة السلام ونشطاء العمل الإنساني، وكان بينهم أناس يحملون "آراء إجرامية" تحضّ على تدمير إسرائيل.
مفارقة أخرى أنّ غروسمان كان في البدء مؤيداً للعدوان الإسرائيلي على لبنان، 2006، ولم يبدّل موقفه فيطالب بإنهاء الحرب إلا بعد أن طالت أكثر ممّا ينبغي. ولقد عجز عن إبصار صفة الغازي في ابنه القتيل، وقال في كلمة رثائه: "لقد كان أوري يمثّل جوهر الصفة الإسرائيلية كما أودّ لها أن تكون. صفة إسرائيلية يكاد يطويها النسيان، حتى صارت أمراً مثيراً للفضول. وكان إسرائيلياً طافحاً بالقِيَم، وهي كلمة تآكلت فباتت مضحكة في السنوات الأخيرة. ففي عالمنا المجنون العابث القاسي، ليس رائجاً أن تكون حامل قِيَم، أو إنسانيّ النزعة". وبالطبع، يصعب على المرء أن يستوعب طبيعة "القِيَم" التي جاء أوري غروسمان ليبشّر بها في مارون الراس وبنت جبيل وعيتا الشعب، من على ظهر دبابة الـ"ميركافا". واستطراداً، إذا كان الفتى يمثّل تلك الجوهرانية الإسرائيلية التي يحلم بها غروسمان، فما الذي منعه من العصيان ورفض التجنّد، كما فعل العشرات من الإسرائيليين الرافضين للخدمة الإلزامية، أو الخدمة في الضفة والقطاع على الأقلّ؟
مفارقة ثالثة تمثلت في موقف غروسمان من قرار ليا رابين، أرملة إسحق رابين، مغادرة "إسرائيل، هذا البلد المجنون"؛ صبيحة تقدّم بنيامين نتنياهو على شمعون بيريس في انتخابات 1996. لقد تساءل آنذاك: "سوف تمكث ليا، وسنمكث جميعاً، إذْ ليس لنا من وطن آخر، ولأنّ اسرائيل بحاجة إلينا في هذا الزمن". ورغم أنه أقرّ بواحد من أسوأ التوصيفات التي يمكن أن يطلقها إسرائيلي على إسرائيل، إذ اعتبرها "دولة وحشية ضاجّة صاخبة، أكثر نزوعاً نحو التديّن والأصولية والطائفية والعنصرية"؛ فقد امتدح في الآن ذاته شخص بيريس، الذي لم يكن آنذاك قد غسل يديه من دماء ضحايا مذبحة قانا ـ 1: "حاول رابين وبيريس أن يقترحا علينا درب حياة جديداً، ومفهوماً جديداً عن العالم. وأَمِلا أنهما، في حال النجاح، سوف يخلّصان مواطنيهما من بضعة فخاخ تراجيدية تستولي على تاريخهم". لافت أنه، يومذاك، استخدم مفردة "وطن"، بل حضّ على البقاء فيه، فلا وطن للإسرائيلي سواه!
هي، في الخلاصة، نقائض إمساك العصا الصهيونية من المنتصف: غروسمان، من جانب أوّل، أحد أبرز النماذج ضمن ما يُسمّى "معسكر السلام" الإسرائيلي؛ وهو، من جهة ثانية، يظلّ إسرائيلياً معيارياً في المقام الأوّل، وربما في المقام الثاني والمقام الثالث أيضاً. تلك المعيارية، التي قد تكون بعض مقدّمات ما يحلم به من جوهرانية إسرائيلية، ترتقي بأمن دولة الاحتلال إلى مصافّ مقدّسة ميتافيزيقية مطلقة؛ ليست سوى الوجهة الأخرى للتيار المتشدد الذي يعتبر أنّ أمن إسرائيل في يهودا والسامرة، والجغرافيا التوراتية بأسرها، ليس معركة بقاء أو فناء، فحسب؛ بل مسألة وجود، أو عدم، الهوية اليهودية: ديانة أو كناية أو كياناً.
 19/4/2018

ميلوش فورمان: صدام السينما والرواية



 رحل المخرج السينمائي التشيكي ـ الأمريكي ميلوش فورمان (1932 ـ 2018) بعد أن خلّف سلسلة أعمال رفيعة الشأن في الفنّ السابع؛ بعضها يرقى إلى مستوى القفزات النوعية الكبرى في الشكل والمحتوى ("طيران فوق عش الوقواق"، "أماديوس"، "راغتايم")؛ وبعضها الآخر يقارب الواقعية الاجتماعية من منظورات الرمز الكوميدي المبطن، الذي لا يفضح عناصره إلا بعد اختمار بطيء في الوجدان الشعبي العمومي ("غراميات شقراء"، "حفلة رجال الإطفاء"، "إقلاع"). ولقد كان، على غرار أسماء أخرى كبيرة في سينمات "المعسكر الاشتراكي" سابقاً، طريد المؤسسة الرسمية التي لم تقبل به إلا اضطراراً، وانحناءً أمام نجاحات خارجية في مهرجانات دولية.
لكنّ فورمان يظلّ نموذجاً استثنائياً في ميدان دراسي ونقدي شائك، هو العلاقة بين النصّ الروائي والفيلم؛ وكيف للأوّل أن يُسلم القياد للثاني على أيّ نحو متكافئ، أو ينقلب إلى ضحية للاعتبارات الفنية المختلفة التي تحكم إنتاج الثاني. والمثال الأبرز، في تقديري شخصياً، ولكن استناداً إلى وقائع فعلية أيضاً، هو ذلك التنازع بين الروائي الأمريكي كين كيسي (1935 ـ 2001)، مؤلف "طيران فوق عشّ الوقواق"، من جهة؛ وكلّ من فورمان، مخرج الفيلم الشهير، ولورنس هوبن وبو غولدمان كاتبَيْ السيناريو، من جهة ثانية. لقد رفض كيسي النصّ السينمائي، وانتقده بشدة في حوار شهير نشرته "رولنغ ستون"، بل ذهب إلى حدّ الدخول في معركة قضائية مع جهة الإنتاج، ثمّ أعلن أنه لن يشاهد الفيلم أبداً، وقيل بالفعل إنه رحل متمسكاً بهذا القرار.
عناد كيسي كان لافتاً، ومثيراً لاستغراب الكثيرين، بالنظر إلى النجاح الهائل الذي حققه الفيلم عند إنجازه في سنة 1975؛ إذْ حصد خمسة أوسكارات دفعة واحدة: الفيلم، الإخراج، الممثل الأول (جاك نكلسن)، الممثلة الأولى (لويز فلتشر، في دور الممرضة راتشت)، الاقتباس (هوبن وغولدمان). لكنّ كثيرين أيضاً ناصروا كيسي، على قاعدة ما لحق بعمله من اختزال للرسالة الرمزية حول مصائر الحلم الأمريكي، وإساءة تفسير لمفهوم الهيمنة المؤسساتية، وتطويع كوميدي لشخصية راندل ماكمرفي المركزية؛ فانحازوا بالتالي إلى الرواية (التي تشرفت بنقلها إلى اللغة العربية، وصدرت سنة 1981 في طبعة أولى عن المؤسسة العربية للأبحاث ضمن سلسلة "من ذاكرة الشعوب" التي أشرف على تحريرها آنذاك الصديق الروائي والناقد اللبناني الياس خوري، وفي طبعة ثانية عن "الأهلية" سنة 2016). كذلك أشار بعضهم إلى نجاح الاقتباس المسرحي للرواية ذاتها، في سنة 1963، على يد ديل فاسرمان؛ وفيه لعب كيرك دوغلاس دور ماكمرفي.
وجهة نظر كيسي تبدأ من معمار السرد في الرواية، الذي يتولاه الزعيم برومدن، "الهندي الأحمر" الذي يواجه أنساق اغترابه عن عوالم المصحّ النفسي الخارجية، ثمّ عوامل أمريكا استطراداً؛ بأنساق اتصال مع عالم داخلي مركّب، قناعه الأوّل هو ادعاء الصمم والبكم، والبقاء على هذه الحال حتى لحظة مفصلية من إيمانه بصديقه ماكمرفي، فينطق معه فقط وليس أمام أحد سواه. وكان كيسي قد كتب مقاطع عديدة من روايته تحت تأثير عقار الـ LSD المهلوِس؛ وأخضع نفسه لعلاج بالصدمة الكهربائية لكي يتمثّل حال "الزعيم" ساعة إدخاله إلى غرفة العلاج بالصدمة، وما يجول في أذهان المرضى عند خضوعهم لأنماط علاج مماثلة. وهذا تفصيل كان له آثار بالغة على معمار الرواية اللغوي.
هل كان فورمان قادراً على بلوغ أية درجة سينمائية من تلك التقنيات السردية الروائية؛ خاصة حين تكون المفردات عند "الزعيم" أوعية تصوير سوريالية، وليست وسائل اتصال؟ وكيف للسينمائي أن يجاري الروائي في رسم شخصية بالغة التعقيد والتنوّع، مثل هذه؟ سؤال عويص بالطبع، لكنه بعض جوهر الصدام بين الفنّ الروائي والفنّ السابع. ففي وسع أنصار الرواية التذكير بالذروة الفريدة في المشهد الختامي، حين يخنق برومدن صديقه ماكمرفي كي لا يصبح الأخير أمثولة لانتصار الممرضة/ المؤسسة على التمرّد والتحرر، والمساجلة بأنّ فورمان عجز عن، أو حتى تعمد عدم، تجسيد تلك البرهة. في المقابل، يساجل أنصار السينما بأنّ المشهد الأخير في الفيلم انسجم مع الخطّ الدرامي العامّ، واشتغل بصرياً على ما أنجزته الرواية نصّياً.
هيهات، مع ذلك، أن يفلح أيّ مخرج في إنجاز تمثيل سينمائي لهذه العبارة الأخاذة التي يهجس بها برومدن وهو يُحكم إطباق الوسادة على رأس صديقه الذي صيّرته صدمات الممرضة كتلة لحم كسيرة: "كان الجسد الهائل الصلب يتمسك بالحياة. لقد صارع زمناً طويلاً ليُبقي على رعشة الحياة في جسده، فتقلّب وانتفض وتدفق بكلّ جوارحه وأعضائه. وكان عليّ أخيراً أن أجثم بكلّ ثقلي فوقه وألوي ساقيه المتدافعتين بساقي، وأحشر الوسادة في الوجه. جثمتُ فوق الجسد فترة خُيّل إليّ أنها دهر طويل، حتى سلّم الجسد النابض، حتى هدأ تماماً وارتعش الرعشة الأخيرة". ويكسر برومدن السجن الرمزي الذي يمثّله المصحّ، بعد تحطيم الحاجز الشبكي الذي حاول ماكمرفي تحطيمه ذات يوم، ويغادر إلى موطن قبيلته ليعانق في ذاكرته رماد التلال والغابات والطيور والشلالات، وليسترجع شجرة الصنوبر الأكثر شموخاً فوق الجبل، ويردد: "لقد غبتُ طويلاً!".
15/4/2018