وعزّ الشرق أوّله دمشق

الجمعة، 29 يونيو 2018

الضحية في جبهة حوران: اتفاق الراعي مع الذئب


 كانت هدنة جنوبي غرب سوريا، في محافظات درعا والسويداء والقنيطرة، التي اتُفق عليها في تموز (يوليو) 2017 بين الولايات المتحدة وروسيا والأردن؛ هي الأولى التي تمّ التوصل إليها في عهد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وذلك بعد اللقاء الأول وجهاً لوجه مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. وكانت الأولى، أيضاً، على صعيد التوافق الروسي ـ الأمريكي حول مصطلح "خفض التصعيد". ويومذاك، تبادل وزير الخارجية الأمريكي السابق، ريك تيلرسون مع زميله وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، الأدوار في شرح إمكانية التعاون بين البلدين حول الملفّ السوري، كما تقاسما مهمة شرح محاسن خطة الهدنة؛ وذلك رغم اختلافهما في تفسير الحضور الروسي (من خلال الشرطة العسكرية الروسية)، أو التزام النظام السوري والميليشيات الإيرانية بالهدنة، ثمّ دور الرقابة الموكل إلى العناصر الأمريكية والأردنية.
في العمق والخلفية كانت مصالح دولة الاحتلال الإسرائيلي في صلب هذه الهدنة، على ثلاثة أصعدة ظاهرة (بين أخرى خافية وغير معلنة، معتادة تماماً في حالات مثل هذه). الأول هو الاشتراط الإسرائيلي بأن تكون الدول الثلاث ضامنة لخطوط فصل القوات مع النظام السوري، وحدود الانتشار العسكري الإسرائيلي في الجولان المحتل؛ وهذه الضمانة تشمل، أولاً، عدم اقتراب الميليشيات الإيرانية، بما في ذلك "حزب الله"، من تلك الخطوط والحدود. الصعيد الثاني هو إعادة الوضع العسكري الميداني في هذه المحافظات الثلاث إلى ما قبل آذار (مارس) 2011، حين انطلقت الانتفاضة الشعبية وخرجت المظاهرات الأبكر في مدينة درعا وبلداتها وقراها؛ أي: طرد كلّ القوى العسكرية "الغريبة"، سواء انتمت إلى الموالاة أم المعارضة، وإعادة جيش النظام وحده على المنطقة. وأما الصعيد الثالث فقد كان يخفي استبطاناً إسرائيلياً للترابط الطبيعي بين مواطني سوريا الدروز في السويداء والجولان المحتل، من جهة أولى؛ ودروز 1948 في فلسطين، من جهة ثانية؛ على خلفية كبرى، من جهة ثالثة، هي اتساع رقعة الانتفاضة، واستمرار حكومة بنيامين نتنياهو في دعم بقاء بشار الأسد، ولكن ليس دون استغلاله في الضغط على النظام لجهة تقييد الوجود العسكري الإيراني أو حتى البدء تدريجياً في سحبه من سوريا.
خلال التوافق الأمريكي ـ الروسي، ثمّ الأردني استطراداً، كانت فصائل المعارضة المسلحة خارج السياق عملياً، لا هي في العير ولا في النفير! وتستوي في هذا تلك التي تطلق على نفسها صفة "الجيش الحر"، وارتباطها الفعلي تقيده أوامر غرفة الـMOC، أي مقر القيادة والتنسيق الذي تديره الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا والأردن منذ عام 2013؛ أو "جيش خالد بن الوليد" الداعشي، وكتائب "النصرة" التي سبق أن قايضت النظام على ترحيل عناصرها إلى إدلب. وهذه الفصائل لا تسدد اليوم ثمناً متأخراً لارتهانها أو اتكائها على الحل العسكري، أو تراخيها عن القتال حين اقتضت الحاجة، أو خلافاتها ونزاعاتها وانشقاقاتها وفساد بعض قادتها، فحسب؛ بل تدفع اليوم ضريبة مضاعفة لقاء اطمئنانها إلى مساندة الغرب لها في أحلك الظروف، وتصديقها بأنّ واشنطن تضمن هدنة تموز 2017 وستفرض على النظام وروسيا مواصلة الالتزام بها.
المسلسل بدأ هكذا: قبل شروع النظام في عملية اجتياح ريف درعا، بدعم جوي مكثف من الطيران الحربي الروسي (ومشاركة، ما تزال نشطة، من ميليشيات شيعية مثل "لواء ذو الفقار" في معارك بلدة بصر الحرير)؛ كانت هيذر ناورت، الناطقة باسم الخارجية الأمريكية، قد حذرت نظام الأسد من "إجراءات حازمة ومناسبة" في حال انتهاك وقف إطلاق النار في مناطق خفض التصعيد. الفصل التالي من المسلسل كان إعلان ناورت أن الولايات المتحدة "ما تزال ملتزمة بالحفاظ على استقرار منطقة خفض التصعيد في جنوبي غرب سوريا والهدنة المرتبطة بها". الفصل الثالث، الراهن، كان رسالة السفارة الأمريكية في عمّان إلى الفصائل: "نحن في حكومة الولايات المتحدة نتفهم الظروف الصعبة التي تواجهونها الآن ولا نزال ننصح الروس والنظام السوري بعدم القيام بأي عمل عسكري يخرق منطقة خفض التصعيد في جنوبي غرب سوريا. ولكن لا بد من توضيح موقفنا: نفهم أنكم يجب أن تتخذوا قراركم حسب مصالحكم ومصالح أهاليكم وفصيلكم كما ترونها، ولكن ينبغي ألا تسندوا قراركم على افتراض أو توقع بتدخل عسكري من قبلنا"!
وهذا مسلسل في الحنث بالوعود، والطعن في الظهر، والالتفاف من خلفٍ وأمام وميمنة وميسرة؛ تكرر مراراً منذ أن شرعت غالبية أبناء سوريا في انتفاضة شعبية واسعة النطاق، مشروعة ونبيلة وسلمية، لكنها محطّ عداء من قوى إقليمية ودولية كبرى، ومحطّ تردد أو تخاذل أو مقايضة من أشباه "أصدقاء" و"حلفاء"؛ ثمّ الأهمّ ربما: أنها انتفاضة تسير على نقيض ما أرادته وتريده دولة الاحتلال الإسرائيلي من نظام "الحركة التصحيحية"، الأسد الأب والأسد الوريث، الذي حفظ حال اللاحرب واللاسلم بالمصطلح الأكثر إراحة للاحتلال الإسرائيلي في الجولان، وللعربدة الإسرائيلية في لبنان. وما تفعله إدارة ترامب اليوم ليس سوى إعادة إنتاج، مع اختلاف الظروف والسياقات والشروط، للسياسة المركزية التي انتهجتها الإدارة السابقة في ظلّ رئاسة باراك أوباما. وكما أنّ المرء لم يكن يملك رفاه تقديم العزاء إلى "معارضة" إسطنبول حين لهثت خلف السراب الأمريكي، والغربي عموماً؛ فلا عزاء أيضاً للفصائل المسلحة التي عقدت الآمال على الخبراء العسكريين من أمريكا وبريطانيا وفرنسا، فلم تحصد سوى توافق الرعاة مع الذئب على حُسن اختتام مصير الضحية.
غير أنّ نطاق الضحية ليس مقتصراً على هذه الفصائل التي اطمأنت وانخدعت وخدعت ذاتها وأوغلت في التبعية، إذْ أنّ حكم التاريخ في ما كان لها وما سيكون عليها خلال سنوات العمل العسكري هو الفيصل في نهاية المطاف؛ بل الضحية الأولى الكبرى هي 750 ألف نسمة من المدنيين في هذه المنطقة، يتهددهم التهجير مجدداً، ولكن إلى اللامكان في واقع الأمر، أو بين مطرقة النظام والطيران الحربي الروسي وأشباح المجاز، وسندان الأردن الذي يعلن أنه لن يستطيع استيعاب المزيد من اللاجئين. وفي هذا السياق، لن تعدم فتاوى رهط "الممانعة" في تخوين أية أسرة تجد ذاتها مضطرة إلى اللجوء نحو مناطق الاحتلال الإسرائيلي في الجولان، وكأنّ الخيارات الأنسب و"الأطهر" متاحة وفيرة. كذلك لن تعدم رهط دعاة "الصمود والتصدي" و"القتال حتى آخر قطرة دم"، وكأنّ ما تبقى من قدرات الفصائل العسكرية جديرة بهذا الخيار الشمشوني، على أيّ نحو.
وما جرى قبل أيام، في تنصل واشنطن من التزامها بما اتفق عليه رئيسها مع بوتين حول منطقة خفض التصعيد في جنوبي غرب سوريا، يعيد تذكير المضلَّلين والسذّج بأنّ الأجندة الفعلية لإدارتَي أوباما وترامب، تجاه انتفاضات العرب، ما تزال في الجوهر تحتفظ لأمن دولة الاحتلال الإسرائيلي بأولوية قصوى، لا تدانيها أخرى. كذلك فإنّ النكث بالوعود ليس ممارسة جديدة على الإدارات الأمريكية بأسرها، بل يمكن هنا استعادة المثل الفرنسي الشهير عن وعود لا تُلزم إلا الحمقى الذين يصدقونها! ومنذ انتفاضة تونس، أواخر 2010؛ مروراً بميدان التحرير، والانقلابات فيه وعليه؛ وحتى أيامنا هذه حين توضع الانتفاضة السورية، وحوران رائدتها، على مذبح الاستشهاد؛ كرر أوباما وترامب، أسوة بأمثال هيلاري كلنتون وجون كيري وريك تيلرسون ومايك بومبيو... اللعبة ذاتها، التي انطوت على اتفاق الراعي مع الذئب، حول أفضل طرائق افتراس الضحية.

الجمعة، 22 يونيو 2018

التنافس الإيراني ـ الروسي في سوريا: خرافة أم تحصيل حاصل؟

بصفة رسمية وصريحة وعلنية، لا يخفى فيها الحرص على أن تبدو هكذا تماماً، اتخذت معادلات الوجودين الإيراني والروسي في سوريا وجهة الافتراق، واستطراداً: التمهيد للشقاق، في أواسط أيار (مايو) الماضي؛ حين أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين: "الانتصارات الملموسة للجيش السوري فى محاربة الإرهاب وانطلاق المرحلة النشطة من العملية السياسية سيليها بدء انسحاب القوات الأجنبية من أراضى سوريا". كان بوتين يتحدث وإلى جانبه بشار الأسد، الذي تمّ استدعاؤه ـ كما يتوجب القول، في كلّ زيارة مماثلة ـ كي يصادق على المرحلة المقبلة من خطط الكرملين للمشروع الروسي في سوريا؛ والتي تمثلت، خلال جولة منتجع سوتشي تلك، في ترسيم الحدود القصوى للمواجهة الإيرانية ـ الإسرائيلية على أرض سوريا، وإطلاق سيرورة جديدة في التفاهامات التركية ـ الروسية حول مناطق الشمال.
 لم يتأخر الردّ الإيراني بالطبع، وإنْ كان قد جاء أوّلاً على مستوى منخفض في سلّم التفويض بالتصريح السياسي؛ إذْ قال بهرام قاسمي المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية: "لا يمكن لأحد أن يجبر إيران على فعل أي شيء. ستستمر إيران في المساعدة في سوريا مادام الأمر يتطلب ذلك، وأرادت الحكومة السورية ذلك". ولقد توجب لاحقاً، حين اتسع التعاطي الإعلامي مع تصريح بوتين، أن يتدخل أمين مجلس الأمن القومي الإيراني علي شمخاني، فيعلن أنّ إيران لن تنسحب من سوريا رغم الضغوطات التي تتعرض لها، لأنها إنما تتواجد هناك بناء على طلب نظام الأسد؛ وهذا تفصيل صحيح تماماً، ولم يكن بوتين يشكك فيه أصلاً، كما أنّ دولة الاحتلال الإسرائيلي لم تعترض عليه منذ البدء. الفارق أنّ شمخاني أشار إلى ضغوطات أمريكية (على مَن؟ نظام الأسد، أم طهران؟)، وتفادى الإشارة، أو التلميح، إلى الضغوطات الأولى الفعلية، أي الروسية.
والحال أنّ تعبير "القوات الأجنبية" الذي استخدمه بوتين بالغ الإبهام في الأصل، إذْ أنّ منطوقه اللفظي ينبغي أن يشمل جميع الدول والميليشيات والجماعات والجبهات التي ليست سورية الجنسية؛ وهذا لا يقتصر على إيران وأذرعها المختلفة، ولا على تركيا والولايات المتحدة، ولا على الجهاديين من كلّ حدب وصوب، بل يشمل روسيا أيضاً. وفي المقابل، سوف تزعم كلّ مجموعة أجنبية (موالية للنظام أو متحالفة معه) أنها جاءت بناء على طلب النظام؛ وسيزعم الجهاديون أنهم، أيضاً، لبوا نداء الجهاد وتسابقوا إلى نصرة أهلهم على أرض الشام. فلماذا استشعرت إيران، على الفور، أنها المقصودة أولاً بتصريح بوتين؟ أو الأحرى التساؤل: هل كانت أية "قوة أجنبية" ستدرك انها المقصودة، قبل إيران أو أكثر منها؟
كلا، بالطبع، لأسباب بالغة الوضوح وذات صلة مباشرة بالواقع السياسي والعسكري على الأرض، بصفة عامة؛ لأنّ موسكو ترغب في الذهاب نحو مرحلة ما بعد "القضاء على الإرهاب"، كما تسميها، والتي تعني قطاف استثماراتها المتعددة التي كانت وراء مشروع التدخّل العسكري في سوريا، خريف 2015. وإلى جانب الثمار السياسية التي تكفل للكرملين حقّ التدخل والتسيير والهيمنة في مفاصل نظام الأسد الكبرى، ثمة ثمار اقتصادية محلية ذات صلة بإعادة التعمير المقبلة حيث العقود دسمة أو حتى فلكية؛ وثمة ثمار جيو ـ سياسية تتجاوز المحلي إلى الإقليمي والدولي، إذْ بات الاستثمار في الخراب السوري أعلى مردودية من أيّ استثمار روسي آخر على نطاق عالمي. إيران هنا، في النفوذ المحلي والاقتصاد والجيو ـ سياسة، ليست طرفاً مكمّلاً أو متكاملاً مع الاستثمار الروسي، بل هي طرف منازع ومنافس، أقرب إلى الخصم الشرس في نهاية المطاف.
إنها ليست تركيا، أو إدارة رجب طيب أردوغان تحديداً، في كلّ حال، لأنّ العلاقة التركية ـ الروسية يمكن أن تذهب إلى أقصى الشدّ والجذب (كما وقع خلال الأشهر التي أعقبت نجاح الطائرات الحربية التركية في إسقاط المقاتلة الروسية سوخوي ـ 24، في تشرين الثاني/ نوفمبر 2015)؛ لكي تعود إلى أقصى الوفاق والتوافق (كما في الاتفاق الروسي ـ التركي حول تل رفعت). ولا يقلّ أهمية في هذا الفارق، بين تركيا وإيران، أنّ تعاقدات موسكو مع أنقرة يمكن أن تحظى بغمزة رضا من واشنطن، وهذا عند موسكو مكسب لا بأس به في ظلّ شروط الالتحام الراهنة، من جهة؛ كما يمكن لتلك التعاقدات ذاتها أن تجبر طهران على الانخراط في شراكة من نوع ما، إلى درجة الموافقة على سحب أنصارها من تل رفعت مثلاً، وليس هذا بقليل أيضاً، من جهة ثانية.
بهذا المعنى فإنّ القوات التركية، التي تحتل مساحات باتت واسعة في الشمال السوري، ليست ضمن التصنيف "الأجنبي" الذي نطق به بوتين في سوتشي؛ إذْ لا يعقل أن يطالب الكرملين بإخراجها في شهر أيار (مايو)، ثمّ يوافق على إدخالها (عبر بوابة تل رفعت، مثلاً) في شهر حزيران (يونيو)، بل يساعد أيضاً في إخراج الوحدات الكردية والإيرانية منها. تُضاف إلى هذا حقيقة ذات أهمية خاصة، تتجاوز مسألة التنافس الإيراني ـ الروسي إلى مستقبل علاقات موسكو وأنقرة وطهران مع التشكيلات المسلحة التي أنشأها النظام في عموم سوريا، ولكن على امتداد خطوط التماس والاشتباك بين العواصم الثلاث في مناطق الشمال والساحل السوري. ما يرضي طهران هناك، لا يرضي أنقرة غالباً، ولعله لا يرضي قاعدة حميميم الروسية دائماً؛ فضلاً عن أنه لا يندرج جيداً ضمن التمهيد الروسي لسيرورة "انطلاق المرحلة النشطة من العملية السياسية"، حسب تعبير بوتين.
بين الأسباب الأكثر وضوحاً، أيضاً، وكذلك على نحو خاصّ وحساس وجوهري، أنّ الموقف الإسرائيلي من الوجود العسكري الإيراني على الأرض السورية قد انتقل إلى طور مختلف خلال الأشهر الأخيرة، الأمر الذي اقتضى إرساء قواعد اشتباك جديدة تضع طهران في خطّ الاستهداف الأول. في البدء كانت ستراتيجية دولة الاحتلال الإسرائيلي، وما تزال حتى الساعة في الواقع، تبدأ من خطّ أحمر ناظم هو اعتراض قوافل التسليح الإيرانية القادمة من سوريا إلى لبنان؛ إلى جانب ردع أيّ "انحراف"، مصدره إيران عبر "حزب الله مثلاً، عن الهدوء المستتب في هضبة الجولان المحتلة؛ وأخيراً، استئصال أي جهد يقوم به النظام السوري نحو بناء منشآت نووية (كما في قصف موقع الكبر قرب دير الزور في أيلول/ سبتمبر 2007، واغتيال العميد محمد سليمان المستشار الأمني الخاص للأسد في آب/ أغسطس 2008).
اليوم لا يقبل رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، بأقلّ من سحب الوجود العسكري الإيراني في سوريا، على نحو كامل وشامل لا يستثني شبراً من مساحة سوريا؛ بدليل القصف الأخير الذي طال "هيئة الحشد الشعبي" العراقية في البوكمال، أقصى شرق سوريا، ويُعتقد أنّ الطيران الحربي الإسرائيلي كان وراءه. وليس في وسع طهران، وميليشياتها التابعة في سوريا، أن تنتهج موقفاً وسيطاً بين عدم الردّ على العمليات الإسرائيلية، وعدم الاستجابة إلى ترتيبات الأرض التي تتوافق فيها موسكو مع واشنطن تارة (درعا وجبهة الجنوب عموماً)، أو تركيا طوراً (تل رفعت). أو، على نحو أدقّ: ليس في وسع طهران انتهاج هذا الخيار طويلاً، لأنّ تسارع التطورات على الأرض لم يعد يسمح بالكثير من التكتيك؛ خاصة حين توضح موسكو، أكثر فأكثر ويوماً بعد آخر، أنها لن تقبل بإفساد استثماراتها بعيد المدى في سوريا جراء إصرار إيران على البقاء في سوريا ضمن صيغة مواجهة مفتوحة مع دولة الاحتلال الإسرائيلية.
ليس التنافس الإيراني ـ الروسي في سوريا خرافة، إذا صحّت قراءة السطور السابقة، بل هو أقرب إلى تحصيل حاصل تفرضه شروط يحدث أنها تتجاوز حسابات طهران، سورياً أوّلاً، ثمّ إقليمياً وعالمياً أيضاً.


كرة القدم وتهذيب الحَكَم


في البدء كان حَكَم كرة القدم آدمياً من لحم ودم وأعصاب، ومن صواب تارة وخطأ طوراً، وحسن تقدير هنا أو سوء قرار هناك، فالكمال المطلق ليس من سمات بني البشر. لهذا أفلح الأرجنتيني دييغو مارادونا، قبل 32 سنة، في تسجيل هدف ــ "تاريخي"، والحقّ يُقال! ــ مستخدماً يده، التي تواضع بعدئذ فاعتبر أنها "يد إلهية". يومها كان الحكم التونسي علي بن ناصر قد شاهد الكرة تدخل مرمى بيتر شلتون، حارس منتخب إنكلترا، لكنه لم يشاهد اليد، البشرية أو الإلهية، فاحتسب الهدف وأرسل المنتخب الأرجنتيني إلى نصف النهائي، ثمّ النهائي ضدّ ألمانيا الغربية. ولهذا، أي انتماء الحكم ابن آدم وحواء إلى صفّ الخطّائين، وقع عشرات الحكّام في مئات الأخطاء القاتلة، على امتداد 170 سنة من تاريخ اللعبة الحديث.
اليوم، بفضل تقنية الفيديو كحكم مساعد، لم يعد في وسع أيّ مارادونا جديد أن يستخدم أيّ يد في تمرير الكرة إلى المرمى؛ بل بات شبه مؤكد أنّ الأهداف المسجلة، أو ضربات الجزاء المشكوك في احتسابها أو إغفالها، أو رفع بطاقة حمراء مباشرة، أو الخطأ في هوية اللاعب الذي تمّ توجيه الإنذار أو البطاقة الحمراء إليه؛ كلها خاضعة لقرار شاشة الفيديو. صحيح أنّ المرجع الأول ما يزال الحكم ابن البشر، لكن الحكم ابن التكنولوجيا ليس صاحب القول الفصل إذا ارتاب المرجع في قراره، فحسب؛ بل إنه ببساطة مرجع المرجع أيضاً، وأصلاً!
الفارق بين التونسي بن ناصر، والأوروغوائي أندريس كونها (الذي احتسب ضربة جزاء لفرنسا في مباراتها مع أستراليا مؤخراً بعد العودة إلى الفيدو)، لا يقتصر على تثبيت القفزة الهائلة التي شهدتها اللعبة في جزئها التحكيمي، الحاسم والمركزي بالطبع. ثمة هنا افتراق سيكولوجي وشعوري ودرامي، والبعض يتحدث عن تحوّل جوهري في "فلسفة" اللعبة؛ عماده الانتقال من سطوة القرار الآدمي الخطّاء، إلى سلطة الجزم التكنولوجي الذي لا يأتيه الباطل. كانوا، في الاتحاد الدولي للعبة مثلاً، يقولون إنّ أخطاء الحكام جزء من "آدمية" اللعبة، حتى إذا كان هذا البُعد يتحقق على حساب العدل في القرار. لكنهم اليوم يرجحون إحقاق الحقّ، حتى إذا انتقص من تلقائية اللعبة وحيوية استقبالها في المدرجات.
وضمن صفوف المعترضين على تطبيق تقنية الفيديو في تحكيم كرة القدم، والرياضات المشابهة التي تجتذب الحشود، يسود رأي فيه نظر بالفعل، يساجل بأنّ كرة القدم هي رياضة البرهة الحارّة، المتقدة حماساً وترقباً، فرحاً وسخطاً، مناصرة أو عداءً، اعتدالاً أو غلوّاً... ولذلك فشتان بين أن تقفز المدرجات عندما يصفر الحكم ضربة جزاء، تاييداً للقرار أو اعتراضاً عليه، وبين أن تنتظر الأقدام نصف دقيقة، أو حتى دقيقة كاملة من جمر مشتعل، حتى ينتهي الحكم ابن آدم من الحملقة في شاشة الحكم ابن التكنولوجيا، فيطلق الصفارة المقدسة التي تؤذن باتخاذ القرار النهائي سلباً أو إيجاباً. هذا رأي أحد ثقاة الكرة المعاصرة، المدرب البرتغالي جوزيه مورينيو، الذي لا يعترض على استخدام تقنية الفيديو، بل يطالب بتحسينها على نحو يكرّم حاجة الجمهور إلى الانطلاقة العفوية، سواء في الأفراح أم في الأتراح.
والحال أنّ النفور من تطبيق التقنيات المعلوماتية الأحدث على الرياضة، وبالأحرى على الفنون بصفة عامة، لا يخلو من حسّ الاتباع والتشبث بالتقاليد وتكريس الأعراف السائدة؛ الأمر الذي يسفر عن موقف متزمت، أو حتى رجعي، في تسخير التكنولوجيا لصالح هدي الآدمي إلى سُبُل أفضل لتذوّق الإبداع، والمباهج عموماً. فإذا تأثرت بخدمات الكومبيوتر حقول مثل السينما والمسرح والأوبرا والفنون التشكيلية (مثال المعارض التي تعتمد الرشق الضوئي للأعمال، مصنفة وفق منظومات الموضوع أو الحقبة أو الأسلوبية، بدل عرض الأعمال ذاتها)، فلماذا تحجم رياضة مثل كرة القدم عن سبيل مماثل، طمعاً في تهذيب الحكم وتصويب قراراته، وبالتالي تحكيم التحكيم؟
المرء هنا يتذكر الأكاديمي الألماني ألبريخت سونتاغ، في كتابه "هوية كرة القدم الأوروبية"، الذي نافح بقوّة ضدّ الفكرة القائلة بأنّ اللعبة أفيون الشعوب، ورأى في المقابل أنها ملاط يرصّ حجارة الشعور القومي الجَمْعي في معمار فريد من نوعه، يتجاوز الحساسيات السياسية والاجتماعية والفكرية والطبقية في البلد الواحد. وهو يضرب مثال فوز ألمانيا على إنكلترا في بطولة أوروبا لسنة 1996، فيعتبر أنّ كرة القدم انقلبت إلى بوتقة هائلة صهرت الذات الوطنية الألمانية في وحدة متجانسة، وطوت الكثير من المشاعر التي أعقبت اندحار الفلسفة النازية وانهيار الإجماع الشعبي حول خصوصية "النموذج الألماني". فللمرء أن يتخيّل، في ضوء هذا المثال، ما الذي كانت ستفعله " يد إلهية" إنكليزية ما، إذا حشرت الكرة في الشباك الألمانية وغفل عنها حكم غير أوروبي، أسيوي، أو مسلم، مثلاً!
وإذا آمن المرء ذاته بأنّ كرة القدم، وليس العولمة، هي الظاهرة الأكثر كونية من حيث القدرة على اختراق الحدود وتحطيم الحواجز وعبور الموانع؛ فإنّ الشراكة بين الحكم الآدمي في الساحة، والحكم الافتراضي الجاثم في شاشة الفيديو، تكتسب صفة الضرورة.
شاء من شاء وأبى من أبى، غنيّ عن القول!
 17/6/2018

قمة سنغافورة: هل للبرنامج النووي دين أو قومية؟

 قد يجهل البعض أنّ التعاطي الأمريكي مع ملفّ البرنامج النووي في كوريا الشمالية لم يبدأ مع التحضيرات لقمة سنغافورة "التاريخية"، بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب والزعيم الكوري كيم جونغ أون، التي انعقدت مؤخراً وانتهت إلى توقيع اتفاقية مشتركة، وجيزة وعامّة الصياغة. يذكّرنا الأمريكي جوشوا بولاك، رئيس تحرير The Nonproliferation Review والأخصائي في السلاح النووي وأسلحة التدمير الشامل، أنّ ذلك التاريخ يعود إلى ربع قرن على الأقلّ، وإلى سلسلة اتفاقيات (بعضها أكثر وضوحاً من اتفاقية ترامب ـ جونغ)، حتى إذا لم ينطو إبرامها على قمم عالية المستويات.
على سبيل المثال، البلاغ المشترك بين الولايات المتحدة وكوريا الشمالية، الموقع في 11 حزيران (يونيو) 1993، يؤكد على استمرار المفاوضات بين واشنطن وبيونغ يانغ حول انسحاب الأخيرة من اتفاقية الحدّ من انتشار الأسلحة النووية (وهو الانسحاب الذي وقع في آذار/ مارس من العام ذاته، بسبب ادعاء السلطات الكورية أنّ فرق التفتيش التابعة لوكالة الطاقة تجاوزت حدود صلاحياتها)؛ كما يشدد على "ضمانات بعدم استخدام القوة" و"الالتزام بالسلام والأمن وإخلاء شبه الجزيرة الكورية من السلاح النووي"؛ فضلاً عن "دعم محاولات إعادة توحيد الكوريتين".
قبل هذا كانت المباحثات الكورية ـ الكورية قد انتهت، في 20 كانون الثاني (يناير) 1992، إلى اتفاقية من ثلاثة بنود أساسية: 1) الالتزام بعدم تصنيع أو استقبال أسلحة نووية، في إشارة إلى وجود أسلحة نووية أمريكية في كوريا الجنوبية؛ و2) الالتزام بعدم امتلاك منشآت للإنتاج النووي أو تخصيب اليورانيوم، في وقت شهد تطوير بيونغ يانغ لمنشأة أولى نووية، اعتبرتها الأخيرة مجرد "مخبر راديو ـ كيميائي"؛ و3) الالتزام بإنشاء "هيئة مراقبة نووية مشتركة"، تقوم بالتفتيش في مواقع متفق عليها.
أما اتفاقية تشرين الأول (أكتوبر) 1994، فقد ذهبت أبعد في العلاقات النووية، إذا جاز القول، بين واشنطن وبيونغ يانغ؛ مع التعهد الأمريكي بتزويد كوريا الشمالية بمفاعلات الماء الخفيف لتوليد الكهرباء بدلاً من تكنولوجيا مفاعلات الغاز، وكذلك تزويدها بالوقود الثقيل. في المقابل، وافقت بيونغ يانغ على تجميد مفاعلها والمنشآت المرتبطة به، وإعادة إخضاعها لتفتيش وكالة الطاقة الدولية. أكثر من هذا، نصّ الاتفاق على قيام البلدين بخطوات نحو "التطبيع الكامل للعلاقات السياسية والاقتصادية" بينهما، و"العمل معاً من أجل السلام والأمن في شبه جزيرة كورية خالية من النووي".
الإعلان المشترك الأمريكي ـ الكوري الشمالي، تشرين الأول 2000، كان ثمرة قيام مبعوث كيم جونغ أون بزيارة واشنطن والاجتماع في البيت الأبيض مع الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلنتون؛ حيث تمّ التشديد، هذه المرّة، على التزام كوريا الشمالية بتعليق إطلاق "الصواريخ بعيدة المدى من أيّ نوع، خلال استمرار المباحثات حول مسألة الصواريخ"؛ وهو التأكيد الذي طبقته بيونغ يانغ حتى العام 2006. من جانب آخر، شددت الوثيقة على جهود "خفض التوتر في شبه الجزيرة الكورية، وإنهاء الحرب الكورية رسمياً عن طريق استبدال اتفاقية الهدنة لعام 1953 بترتيبات سلام دائم". وفي تشرين الأول 2002 توصلت واشنطن إلى "اتفاقية إطار" مع كوريا الشمالية، انسحبت منه بعد عام عند اكتشاف عودة بيونغ يانغ إلى تخصيب اليورانيوم، مما أدى إلى انسحاب الأخيرة مجدداً من اتفاقية الحدّ من انتشار الأسلحة النووية.
ما الذي يشير إليه هذا التاريخ، الذي يتوجب أن يُربط بسلسلة اتفاقيات من نوع مماثل، أو متقدم أحياناً، مع كوريا الجنوبية؟ الكثير من الدلالات في الواقع، قد يكون أبرزها أنّ قمّة سنغافورة الأخيرة لا تأتي بجديد دراماتيكي بالقياس إلى ماضي الاتفاقيات والعهود والمواثيق والبيانات المشتركة، وأنّ العبرة استطراداً هي في اعتماد سياسة أمريكية متوازنة في شبه الجزيرة الكورية، لا تفصل بين النووي والسياسي، وبين اليورانيوم والاقتصاد، وبين الحقّ في امتلاك التكنولوجيا مقابل سلطة حصرها أو حجبها وفق كيل بأكثر من مكيال. وقد يكون الدرس الآخر أخلاقياً، وإنْ كانت "السياسة الواقعية" لا تعتدّ بالأخلاق عموماً؛ وهو خرافة أنّ واشنطن تربط انتشار السلاح النووي بمسألة وجود نظام ديمقراطي يتحكم بزرّ الإطلاق (الذريعة الكلاسيكية التي تُساق، في الغرب عموماً، لتبرير السكوت عن البرنامج النووي لدولة الاحتلال الإسرائيلي). لقد تعاملت واشنطن في الماضي، وتواصل التعامل اليوم، مع البرنامج النووي الكوري الشمالي بصرف النظر عن طبيعة نظام كيم جونغ أون الحالي، ونظام ابيه وجدّه من قبله؛ وبصرف النظر عن التشدق المعتاد حول حقوق الإنسان والسلم العالمي.
وهذا يعيد التذكير بحقيقة أخرى ساطعة: أنّ البرنامج النووي الإيراني (الذي يُثار حوله كلّ هذا اللغط الأمريكي والإسرائيلي الراهن)  لم ينطلق في عهد آيات الله، بل قبل ثورة 1979 بما يقارب ربع قرن، أيام الشاه رضا بهلوي؛ وأنّ البرنامج كان، ثانياً، بعض تجليات الحرب الباردة لأنّ الولايات المتحدة هي التي رعته وأشرفت على تنفيذه. كذلك كانت أمريكا هي التي زوّدت إيران بمفاعل نووي طاقته 5 ميغاواط، مع الوقود اللازم، أي اليورانيوم المخصّب (نعم: ذاته الذي يقيم الدنيا ولا يقعدها اليوم)، كما قبلت إقامة منشآت لتخصيب اليورانيوم في إيران. وفي عام 1975 وقّع وزير الخارجية آنذاك، هنري كيسنجر، ما يُعرف باسم "مذكرة القرار الأمني 292"، التي أرست دعائم التعاون النووي الأمريكي ـ الإيراني، بقيمة استثمارية صافية تبلغ ستة مليارات دولار. وبعد سنة فقط، وقّع الرئيس الأمريكي جيرالد فوراً أمراً إدارياً بتمكين إيران من شراء وتشغيل منشأة تتيح فصل البلوتونيوم (أي المرحلة الأعلى على صعيد تصنيع القنبلة النووية!)، بذريعة أنّ هذه التكنولوجيا سوف "تحرّر ما تبقى من احتياطيّ نفطي، وتضعه في التصدير".
وبصرف النظر عن حقّ الشعوب في امتلاك التكنولوجيا النووية لأغراض مدنية، أو حتى حقها في وضع خيار التكنولوجيا النووية العسكرية نصب أعينها؛ فإنّ الانتساب إلى هذا المحفل النخبوي الفائق، نادي السلاح النووي، يتخذ أحياناً صفة الضرورة بالمعنى الستراتيجي، ومن حيث احتواء نزاعات لا يفلح في تطويقها إلا "خيار درجة الصفر". وليس لأحد أن يتكيء على اعتبارات أخلاقية أو سياسية أو اقتصادية، "عقلانية" تارة أو "بيئية" طوراً، صادقة مرّة أو زائفة معظم المرّات، لتوجيه اللوم إلى شعوب بعينها (خارج نطاق النادي النخبوي، حصرياً!) بذريعة أنها أحوج إلى التنمية الإنسانية من التنمية النووية. وحتى يأتي اليوم الذي يُجمع فيه النظام الدولي على تنظيم "ديمقراطي" متكافئ لشروط الانتساب إلى النادي النووي، فإنّ من حقّ الجميع التطلع إلى التكنولوجيا ذاتها، دون الحصول على أذن مسبق من الكبار.
لكنّ توازن الرعب هذا ليس له دين أو هوية ثقافية، كما يحلو للبعض أن يفلسف بين حين وآخر، اتكاءً على تعبير "القنبلة الإسلامية" الذي نحته كيسنجر، دون سواه، في وصف البرنامج النووي الباكستاني؛ واهتداءً، كذلك، برأيه الذي يمكن أن ينتهي إلى تقسيم نوويات العالم على أديان العالم: هذه قنبلة مسيحية في الولايات المتحدة وأوروبا، وتلك بوذية في الصين، وثالثة يهودية في اسرائيل، ورابعة سيخية في الهند، وخامسة مسلمة في الباكستان، وسادسة في الاتحاد السوفييتي... ملحدة! وفي الغضون، على امتداد وقائع التاريخ النووي بين أعضاء النادي والطامحين إليه، ثمة على الدوام ذلك الاختلال الكوني المزمن الذي يتعدى الذرّة إلى جزيئات انشطار لا تعدّ ولا تُحصى. 
 14/6/2018

هل أنقذناهم من الحبّ القاسي؟

في كتابها الجديد "أخوة على حدة: مواطنو إسرائيل الفلسطينيون والعالم العربي"، الذي صدر بالإنكليزية السنة الماضية، عن منشورات جامعة ستانفورد؛ تناقش مها نصار السُبُل التي اعتمدها المنتجون الثقافيون الفلسطينيون خلال خمسينيات وستينيات القرن الماضي في تحديد موقعهم ضمن الميادين الاجتماعية والثقافية والفكرية على امتداد العالم العربي، والعالم الثالث إجمالاً؛ أي خارج النطاق الإسرائيلي. وفي قلب هذه المقاربة العريضة، تتوقف نصار عند قضايا حساسة اكتنفت التاريخ الثقافي الفلسطيني خلال تلك الفترة، وتتلمس طبائع استقبال النقد العربي لكتابات محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد وإميل حبيبي وراشد حسين. كذلك تثمّن، على نحو ملموس وتفصيلي، الدور الحيوي الذي لعبته الدوريات الأدبية والصحف العربية التي كانت تصدر داخل إسرائيل، في تخطي الحواجز وخلق مناخات تضامن عابرة للحدود الجغرافية والقومية.
والمؤلفة أستاذة مساعدة في "مدرسة دراسات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا" في جامعة أريزونا، وفصول كتابها هذا، الهامّ والطليعي في ميدانه، تتناول ستراتيجيات المقاومة، وصراع السرديات، والنقاش حول الاستعمار والتحرر، والنطق باسم القضية الفلسطينة. وفي فصل يحمل عنوان "أبطال معقدون"، تناقش نصار صيغة البطولة المركبة التي وُجد فيها كتّاب فلسطين خلال تلك الحقبة؛ وما أثاره مفهوم "أدب المقاومة"، بصفة خاصة، من سجالات في عالم عربي كان يعيش عصر تحوّلات وهزائم، في ذروة تعطشه إلى الحداثة والمعاصرة. وهذا ملفّ يحيل، تلقائياً، إلى مقالة محمود درويش الشهيرة "أنقذونا من هذا الحبّ القاسي"، التي نشرها في "الجديد"، 16 حزيران (يونيو) 1969؛ وأعادت نشرها مجلة "الطليعة" البيروتية، في أيلول (سبتمبر) من العام ذاته.
والحال أنّ درويش كان يشارك في سجال عربي، شهدته مدينة بيروت عبر مجلة "الطريق" أساساً، حول ما إذا كان شعر الأرض المحتلة يستحق صفة "المقاومة"؛ فأعلن أدونيس، مثلاً، أنه غير مقتنع بالمفهوم لأنّ شعر المقاومة هو ذاك الذي يحمله المواطن على شفتيه وفي قلبه كما يحمل المقاتل بندقيته. وحين نقل غسان كنفاني السجال إلى صفحات مجلة "الهدف"، شارك أدونيس أيضاً، فاعتبر أنّ صفة "الإصلاح" وليس "المقاومة" هي الجديرة بذلك الشعر الذي يكتبه درويش والقاسم وزياد. من جانبها، في التعليق على السجال، اعتبرت نصار أنّ هذا الرأي يتبنى تعريفاً للمقاومة ضيقاً بعض الشيء، يُغفل الطرائق المعقدة التي لجأ إليها المجتمع والثقافة في إسرائيل للتأثير على هؤلاء الشعراء من جهة، وكيف جابهوا تحدي التأطير والقهر.
قبل مقالته الشهيرة، كان درويش قد كتب مقالة أخرى بعنوان "هذا الاهتمام... يهمنا"، جاء فيها: "إن أهمية شعرنا الموضوعية تكمن في التحام هذا الشعر بكل ذرّة من تراب أرضنا الغالية... بصخورها ووديانها وجبالها وأطلالها... وإنسانها الذي يظل مرفوع الراس رغم ما تنوء به كتفاه من أعباء، وما يشدّ يديه وإرادته من قيود... إنسانها الذي قاوم ولا يزال يقاوم الظلم والاضطهاد ومحاولات طمس الكيان والكرامة القومية والإنسانية، وكأني به يقول: اللهم لا أسألك حملاً خفيفاً بل أسألك ظهراً قوياً... ثقيلة هي الأحمال، وقوية هي الظهور". ولا تخفى في هذه الفقرة نبرة التشديد على فكرة المقاومة، بالمعنى الإنساني والسياسي والثقافي الأعرض، وليس على مستوى التعبير الشعري وحده.
أمّا في "أنقذونا من هذا الحبّ القاسي"، فإنّ درويش بدأ من تسجيل امتنان أدباء الأرض المحتلة للاهتمام العربي بنتاجهم الإبداعي، الامر الذي يشرّف، ويحفّز على "تحقيق إنجازات أدبية أكبر"؛ مع تشديد على تفصيل نوعي: "لم يكن أدبنا خارق الموهبة حين عرف كيف يختار مكانه في حركة الصراع. إن المواجهة الحادة واليومية كانت أعنف من أن تتيح لنا فرصة الوقوف طويلاً أمام المدارس الفكرية المختلفة. ولعل هذه الخاصية، بما تفرع عنها من جوانب، هي اللافتة التي استوقفت المراقبين في العالم العربي". ومن هنا ينتقل درويش إلى اهتمام عربي "أضفى على الكثيرين من النقاد والكتّاب ميزات العاشق القديم الذي لا يرى في الحبيبة إلا ما يبرر العبادة". لهذا، تابع درويش، لا يجوز الاستمرار في استقبال مظاهر هذا الحبّ "دون أن نقول: هذا شعر غير منقطع أبداً عن حركة الشعر في البلاد العربية، وإن كان غير مواكب لها مواكبة يومية". وأيضاً: "لقد تربينا على أيدي الشعراء العرب القدامي والمعاصرين، وحاولنا اللحاق بأسلوب الشعر الحديث بعدما تعرفنا على رواد هذا الشعر في العراق ومصر ولبنان وسوريا". وأمّا "ملخّص القول" فهو ضرورة وضع تلك الحركة الشعرية "في مكانها الصحيح، بصفتها جزءاً من حركة الشعر العربي المعاصر عامة".
فهل أنقذناهم، حقاً، من حبّ قاسٍ رأى في نتاجهم إحالة خلاصية تنأى بالوجدان العربي الجريح بعيداً عن حسّ الاندحار الحضاري، الذي كان يفرز في حقول الإبداع مزيجاً من التيه والاغتراب والركود والتجريب المجاني والحداثة الجوفاء؟ لقد احتاج درويش إلى عقود أعقبت صدور مجموعته التاسعة "تلك صورتها وهذا انتحار العاشق"، لإقناع محبّيه بأنّه كي يكتب شعراً جديراً بالمعنى الأنبل للمقاومة، يتوجب عليه أن يكتب شعراً رفيعاً يخاطب الإنساني والكوني. وليست خافية حكايات صراعه مع قارئه، حول هذا التعاقد الشاقّ تحديداً.
 10/6/2018

علم اجتماع زين الدين زيدان



 بين ما قرأت من تعليقات حول استقالة زين الدين زيدان من تدريب فريق "ريال مدريد" (وأعترف أنني لم أقرأ الكثير!)، استوقفتني تغريدة اللاعب المصري الدولي المعتزل محمد أبو تريكة: "زيدان أستاذ الخروج من الباب الكبير... أتعبت من يأتي بعدك يا زيدان. جاء إلى ريال مدريد حينما لم يتوقعه أحد، وذهب من الريال حينما لم يتوقع أحد، وبينهما حقق ما لم يحققه أحد". وأميل شخصياً (وأشدد، مجدداً، أنّ لا خبرة عندي كافية بعلوم كرة القدم وأسرار مؤسساتها العملاقة)، إلى أنّ زيدان اختار التنحي، وليس الاعتزال بالمعنى الكلاسيكي للكلمة، وهو في ذروة أمجاده وأوج التفاف الجماهير حوله. واختار هذه البرهة لأنها، أغلب الظنّ، قد تكون السابقة على برهة أخرى لاحقة تشهد أطوار الهبوط التدريجي من علٍ إلى أدنى؛ حيث عزلة القامة الشامخة بين أضواء العدسات، وصخب المدرجات، وأخلاقيات بورصة وحشية تتداول بمئات ملايين الدولارات مصائر اللاعب والمدرّب.
ذلك لا يعني أنه لن يعود، ذات يوم قريب أو بعيد، مع نادٍ آخر، أو ربما مع هذا الفريق الوطني أو ذاك، بما في ذلك موطنه فرنسا؛ الأمر الذي لن يمسّ معادلة البرهة المدريدية هذه، أي الخروج من الباب الكبير، في هذا السياق تحديداً، وفي هذا الطور من التاريخ الشخصي، الذي ينسحب على العامّ أيضاً، بدليل الموقع الكوني الذي يحظى به زيدان. وهنا، عند هذه النقطة، أستعيد تعليقاً آخر أعجبني، صدر عن اللاعب الفرنسي الدولي ميشيل بلاتيني سنة 2006، في مناسبة اعتزال زيدان بعد البطاقة الحمراء التي أعقبت "النطحة التاريخية" في صدر الإيطالي ماركو ماتيرازي. "قرر [زيدان] أن ينسحب، ولهذا السبب يبدو أنه لم يعد ذاك الرجل الذي يحمل العالم على كتفيه، بل ذاك الذي توجّب على العالم اللهاث خلفه"، قال بلاتيني. وبالفعل، الفصول اللاحقة من عمل زيدان في إسبانيا أثبتت هذه النبوءة، والفصول المقبلة (إذْ الأرجح أنه لا يعتزم اعتزال التدريب نهائياً) سوف تؤكد المزيد في سيرورة الركض خلف الرجل.
وقبل مغادرة حكاية "النطحة"، ولكي أقتبس تعليقاً ثالثاً وأخيراً، كانت السيدة مليكة، والدة زيدان، قد اعتبرت أنّ ابنها قام بما استوجبته تربيتها لها بصدد الدفاع عن شرف العائلة، والأخت بصفة خاصة؛ وأنها فخورة به لأنه لم يقبل الإهانة، ولم يسكت عليها: "لا يهمني إذا كانت مباراة نهائية في كأس العالم، لأنّ ثمة أشياء أكبر بكثير من كرة القدم". ولم نكن وقتئذ بحاجة إلى فرانز فانون، وقراءاته الثاقبة حول ما يترسّب عميقاً في ذهنية المستعمَر من سلوكيات القهر والمهانة التي يمارسها المستعمِر، لكي نستخلص الجذور الحقيقية لذلك الطراز من "علم الاجتماع" الذي تكاثر مثل فطر شيطاني حول تأويل "نطحة" زيدان؛ من زاوية أنها تجسّد بقاء "ابن البلد" أسير تربيته الأصلية، غير "المتمدنة" بالضرورة، مهما بلغ انتماؤه إلى الغرب من حيث الجنسية، ومهما علا شأنه في العلم أو الأدب أو الفن أو الرياضة...
ولأنّ كرة القدم هي كرة القدم التي نعرفها، الساحرة الفريدة القادرة على صناعة هستيريا جَمْعية فائقة وخارقة، محلياً أو وطنياً أو كونياً؛ فإنّ علم الاجتماع ذاك تراجع سريعاً حين اضطر أربابه إلى الانحناء أمام شارع شعبي فرنسي تناسى سريعاً ضياع فرصة الفوز على إيطاليا وإحراز كأس العالم مجدداً، وسامح زيدان بنسبة 61% (وهذا رقم ليس البتة بالضئيل، لمَن يعرف بواطن العنصرية في فرنسا). من جانب آخر، وذاك كان علم اجتماع فعلي جدير باسمه هذه المرّة، استطابت فرنسا العودة إلى تلك المناسبة النوعية الفارقة، صيف 1998 حين فاز البلد بكأس العالم؛ فاحتشدت في جادّة الشانزيليزيه جموع من البشر تجاوزت الأعداد التي تقاطرت إلى الجادة ذاتها في سنة 1944، لتحية الجنرال شارل دوغول وهو يقود تظاهرة الاحتفال بتحرير البلد من الاحتلال النازي.
كانت ألوان الفريق الوطني موزعة على الأبيض والأسمر والأسود، ولكنّ زيدان لم يكن الأيقونة بينهم فقط، بل كان أيضاً جزائري المحتد، ابن المهاجرين الفقراء، الذي ترعرع في أحد أحياء مرسيليا الشعبية، والذي يسير اسمه الأوّل هكذا: زين + الدين! وأيّ دين، غنيّ عن القول، حين كانت فرنسا تصارع صعود تيارات اليمين المتطرف، وتنامي النزعات العنصرية، ليس فقط في صفوف "الجبهة الوطنية" وجان ــ ماري لوبين، بل كذلك ــ وإنْ على نحو أكثر احتشاماً ــ في خطاب زعماء اليمين الديغولي التقليدي أيضاً. يومها كتب جان ــ ماري كولومباني، رئيس تحرير صحيفة "لوموند"، في صدر الصفحة الأولى: "اقتدوا بالمدرّب الفرنسي إيميه جاكيه، وليصنع كلّ منكم مباراته النهائية في ميدانه، لأنّ فرنسا بحاجة إلى أكثر من مباراة نهائية رابحة".
وخلف جنون التغطيات الإعلامية حول زيدان، ثمة خصوصية فرنسية ذات صلة بدائرة تصارع خفية بين شخصيتين: النجم الساطع الذي لا يُذكر اسمه إلا مقترناً بجنسيته الفرنسية (وهنا مصدر فخار وطني)؛ ولكن، الفرنسي المهاجر من أصل جزائري مسلم (وهنا اعتلال الأمّة في علاقتها مع "الآخر"). وأمّا اللهاث، إياه، فليس فيه وقت مستقطع كما يلوح!
 3/6/2018

ميليشيات النظام السوري: سيرورة المحاق بعد الصعود

 إذا صحت الأنباء عن مصادرة أموال أيمن جابر، الرأس الثاني القيادي في ميليشيات "صقور الصحراء" و"مغاوير البحر"، التي ظلت تتبع للنظام السوري (المخابرات العسكرية، الفيلق الخامس، وزارة النفط) حتى تفريقها؛ فإنّ محاق أمير الحرب هذا سوف لن يتجاوز إضافة اسم جديد على لائحة طويلة، طويلة، تشمل المئات ممن سادوا على امتداد 48 سنة من حكم آل الأسد، ثمّ بادوا بحكم سُنن كثيرة؛ بينها انتهاء الصلاحية، أو استنفاد الخدمة، أو الإفراط في الطموح، أو الوقوع في تقاطع نيران بين الرؤوس الأكبر، أو الانقلاب إلى عائق في كثير أو قليل. تلك كانت حال أمثال ناجي جميل، علي حيدر، علي الصالح، شفيق فياض، محمد الخولي، علي دوبا، حكمت الشهابي، عبد الرحكم خليفاوي، عبد الرؤوف الكسم، محمد الزعبي، عبد الحليم خدام، خلال عقود الأسد الأب؛ وحال  آصف شوكت، غازي كنعان، بهجت سليمان، محمد منصورة، حافظ مخلوف، جامع جامع، رستم غزالة، خلال سنوات الأسد الوريث.
الفارق عن هؤلاء، ولكن الشبه الكبير مع عشرات سواهم، أنّ آل جابر لم يترعرعوا في حاضنة السلطة الفعلية، ولم يكونوا ضباط أمن وجيش وقيادات حزبية أو حكومية، بل صعدوا من الحضيض، وارتقوا السلّم اعتماداً على طرائق إثراء متعددة، غير مشروعة، مكّنتهم منها تماسيح النهب في قلب عائلة السلطة، التي حاصصتهم في الملايين والمليارات ضمن ما يشبه صيغة "المرابع" مع صاحب المزرعة؛ ثمّ توجّب أن يخدموا النظام عسكرياً هذه المرّة، عن طريق تشكيل ميليشيات قتالية تخضع لإشراف الأجهزة، وتعوّض بعض الاستنزاف الذي أخذت الوحدات النظامية تعاني منه في جبهات مختلفة. وهكذا، في عام 2013، أطلق محمد وأيمن جابر ميليشيات "صقور الصحراء" لكي تؤدي مهمات محددة؛ مثل حماية آبار النفط في محيط دير الزور، ومرافقة قوافل نقل الخام العراقي والإيراني إلى مصفاة حمص، ثمّ المشاركة في عمليات قتالية خاصة هنا وهناك.
ولقد حققت هذه الميليشيات بعض النجاحات خلال مواكبتها لعمليات جيش النظام في بعض مناطق الساحل السوري، بلدات كسب وسلمى وربيعة بصفة خاصة؛ لكنها، في المقابل، فشلت فشلاً ذريعاً في حماية آبار النفط، التي سرعان ما استولت عليها "داعش"؛ وفي حزيران (يونيو) 2016 تعرضت ـ وشقيقتها الميليشيا الثانية، "مغاوير البحر" ـ إلى هزيمة نكراء في هجوم إثريا ـ الرقة، ومُنيت بخسائر فادحة أثارت سخط الموالين بسبب ما تردد عن مسؤولية الوحدات النظامية في هذه النتيجة. قبل ذلك، في شباط (فبراير) 2015، قُتل العميد الركن محسن سعيد حسين وهو يقود ميليشيات آل جابر في هجوم على حقل الشاعر النفطي، لكي يتضح أن هذا الضابط كان نائباً لرئيس فرع البادية في المخابرات العسكرية، وأحد ضباط الحرس الجمهوري قبلئذ؛ الأمر الذي كشف النقاب عن مدى الارتباط المباشؤ بين ميليشيات آل جابر والأجهزة الأمنية.
لم يكن الأمر خافياً بالطبع، ولم يكن مستغرباً أو غير مألوف، إذْ كان الشقيقان جابر يردّان إلى خزينة النظام بعض ثمار ما كسباه من مليارات طيلة سنوات من "المرابعة" مع عائلة النظام، وفواز الأسد ابن عمّ بشار بصفة خاصة، في اللاذقية؛ وكذلك بعد عام 2005 حين آل إليه خطّ النفط العراقي. لائحة "رجال الأعمال" الذين توجب أن يسددوا ما للنظام بذمتهم، خاصة بعد عام 2012، عن طريق تمويل قطعان "الشبيحة"؛ كانت تشمل أمثال محمد حمشو وجورج حسواني ومجد سليمان، وعلى رأسهم صيرفي النظام رامي مخلوف؛ فشهدت سوريا تشكيل ميليشيات وكيانات مثل "قوات درع القلمون"، "قوات الدفاع الوطني"، "كتائب الجبلاوي"، "فهود حمص"، "درع الوطن"، "فوج مغاوير البادية"، "أسود القائد الخالد"، "أسود الفرات"، "لواء خيبر"، "لواء أسد الحق"، فضلاً عن اثنتين من الميليشيات المسيحية: "قوات الغضب" و"سوتورو".
بعد التدخل الروسي في سوريا، خريف 2015، حظيت ميليشيات آل جابر باهتمام الاستخبارات الروسية، وبدأ قادة عسكريون روس يتعمدون الظهور مع رجال الميليشيا والتجوّل برفقتهم في قرى الساحل والمشاركة في احتفالاتهم ومآدبهم ومآتمهم. وأشارت تقارير متطابقة إلى أنّ الميليشيا حصلت على صواريخ مضادة للدروع من طراز "كونكرس"، ودبابات متقدمة ـ 72 وت ـ 90، خاصة بعد زجها في معركة حلب. الوجه الثاني لهذه العلاقة الخاصة تمثل في سلسلة المصالح المشتركة بين آل جابر والمافيا الروسية، التي كانت أصلاً تعود إلى سنوات خلت وتوطدت أكثر مع استقرار الروس في حميميم وطرطوس. تلك كانت إشارة الإنذار الأولى حول ذهاب الميليشيات أبعد مما يحقّ لها، خاصة وأنها ارتبطت بشخصَي محمد وأيمن جابر اللذين لا يتمتعان في قرى الساحل السوري بسمعة أخرى غير النهب والتسلط، في وقت شهد سعي الأسد المحموم إلى إعادة استرضاء الطائفة العلوية والتغطية على الأثمان الباهظة التي تسددها من دماء أبنائها دفاعاً عن النظام.
ولعلّ القشة التي قصمت ظهر البعير كانت أنباء الصدام بين موكب الأسد وموكب إبراهيم جابر، الشقيق الثالث، على طريق القرداحة دون سواه، وذيوع  الحكاية في طول قرى الساحل وعرضها، وما ألحقته من أذى بسلطة الأسد نفسه من جهة؛ وكذلك ما أشارت إليه من تعاظم نفوذ آل جابر، من جهة ثانية. الأرجح أنّ الواقعة لم تكن متعمدة، فليس لعين آل جابر أن تعلو على حاجب آل الأسد في كلّ حال، ولا مصلحة لهم أساساً في الذهاب إلى حماقة مثل هذه. لكنّ مجرد الاحتكاك بين الموكبين كان كافياً في ذاته لإحداث الصدمة، فضلاً عن التنبيه إلى الخطوط الحمر المتعارف عليها حتى دون اتفاق، وهذا "بروتوكول" يشمل عوائل النظام ـ آل الأسد وآل مخلوف وآل شاليش وآل نجيب... ـ فيما بينهم؛ فكيف بأسرة مغمورة صعدت من الحضيض، بترخيص من ماهر الأسد وفواز الأسد ورامي مخلوف! وهكذا توجب "تأديب" مرتكب الخطيئة، واقتياده إلى سجن القصر الجمهوري، وحلّ مرافقته، وإرسال الرسائل اللازمة حول هوية صاحب اليد العليا في تلك الأعالي...
أمّا في العمق، من جانب آخر مهّد الأرض لمحاق آل جابر، فقد كان التناقض المتزايد بين الرعاية الروسية لهذه الميليشيات، والتنافس مع "لواء سيف الحق أسد الله الغالب"، الذي يحظى برعاية ثلاثية في قرى الساحل السوري: إيران و"حزب الله" والحرس الجمهوري. ورغم أنّ المنطق الطبيعي يشير إلى أنّ الرعايتين يمكن أن تتكاملا، بالنظر إلى التطابق في مصالح الطرفين من حيث خدمة النظام؛ إلا أنّ عوامل أخرى، غير ثانوية في الواقع، كانت تتدخل لتعكير صفو العلاقة. ثمة، أولاً، صراع التبشير داخل صفوف الطائفة العلوية، بين تيار التشيّع الإثني عشري، والتيار المحلي الذي يحرص على "العادات والتقاليد". وثمة، ثانياً، ما تختلف فيه موسكو مع طهران حول اقتسام النفوذ في سوريا، وفي مناطق الساحل السوري تحديداً، وحول طرائق إدارة الحرب والسلام، وكسب الحلفاء أو تقليم أظافر الخصوم في هذا كله.
شتان إذن، وفي الخلاصة، بين محمد جابر الذي أفردت "وول ستريت جورنال" مساحة سخية من صفحاتها لرسم صورة قلمية له، منذ العام 2013، والذي كان "يطير في كل شهر إلى بغداد حاملاً حقائب محشوة بمئات آلاف الدولارات" بالنيابة عن النظام السوري، و"يودع نصف مليون دولار في أحد المصارف العراقية"؛ وبين الرجل إياه في محاقه، وأخيه، ومصادرة أموالهما المنقولة وغير المنقولة، وفق ما تشير التقارير. شتان، مع استذكار القول المأثور: ما طار طير وارتفع!
31/5/2018

أبو خليل القباني في شيكاغو

 أنجز الروائي والمؤرخ الفلسطيني تيسير خلف بحثاً فريداً حول المسرحي والموسيقي السوري الرائد أحمد أبي خليل القباني (1833 ـ 1903)؛ يخصّ رحلته المأثورة إلى أمريكا، وشيكاغو تحديداً، ربيع 1893، للمشاركة في فعاليات "المعرض الكولومبي الدولي"، الذي كان الأضخم في زمانه. وقد وفد القباني على رأس فرقة "مرسح العادات الشرقية"، كما كان المسرح يُسمى يومذاك، والتي أسسها من 50 ممثلاً وعازفاً وراقصاً، غالبيتهم الساحقة من شابات وشباب بيروت وجبل لبنان ودمشق وبيت لحم كما يشير خلف، استجابة لقبول السلطان العثماني عبد الحميد دعوة من الرئيس الأمريكي بنيامين هاريسون للمشاركة في المعرض.
 ولا يفوت خلف التشديد، منذ مدخل تحقيقه الممتاز في رحلة القباني هذه، إلى أنّ المعرض كان "فرصة رائعة لدراسة وفهم واحدة من أندر تجارب التفاعل الثقافي المباشر بين منطقتي شرقي المتوسط، بما تحمله من أبعاد تاريخية ودينية لها تأثيرات عميقة في الوجدان الغربي المسيحي، وبين الولايات المتحدة الأمريكية التي كانت تنظر إلى نفسها، منذ ذلك الوقت، بوصفها قمة هرم الحضارة الغربية". وأضيف، شخصياً، أنه إلى جانب احتضان أنشطة ثقافية وفنية تنتمي إلى عوالم غربية وشرقية مختلفة، ومتباينة؛ كان المعرض مناسبة أولى حاشدة، وكونية كما يتوجب القول، لاحتكاك الحضارات والثقافات، ثمّ الأديان على نحو خاصّ؛ ثمّ الحوار التفاعلي فيما بينها أوّلاً، وكذلك إزاء تيارات علمانية أو لادينية احتدمت حولها نقاشات ساخنة، ومثمرة، في "برلمان الأديان" الذي ضمّ 46 قسماً!
تحقيق خلف، الذي نال جائزة ابن بطوطة لتحقيق المخطوطات، وصدر مؤخراً عن المؤسسة العربية للدراسات ضمن سلسلة "ارتياد الآفاق"؛ يتوزع على ثلاثة أقسام، ثالثها ملحق يتضمن عشرات الصور الفوتوغرافية التي تغطي الرحلة، ومشاهد من العروض المسرحية والفنية، وملصقاتها، وبعض النساء والرجال المشاركين في الأنشطة، فضلاً عن تفاصيل داخلية في السفينة "إس إس ويرا" التي حملت الفرقة إلى أمريكا. وبين أطرف هذه الصور نسخة من "إخبارية" حسني البيروتي، أحد عملاء جهاز "الخفية"، الذي كتب تقريراً كيدياً ضدّ أبي خليل، لأنه "وصف المسلمين بالاستبداد والنصارى بالمظلومين"، وأنه "بصدد أخذ بعض مشايخ العرب وجبل الدروز والنصيريين إلى شيكاغو"، وأنّ "ما يخطط له هذا الخائن جعل الخطب والكلمات باللغة الإنجليزية كي لا يفهم المسلمون ما يقال عنهم"!
القسم الثاني في الكتاب يقترح عدداً وافراً من الوثائق، العثمانية التي تتصل بالمراسلات والتحضيرات للمشاركة في المعرض، ومشروع القرية التركية؛ وتلك الخاصة بالمعرض والعروض والفرق وأسماء المشاركين، إلى جانب الرحلة البحرية وتفاصيل الدخول إلى أمريكا؛ ثمّ أخبار ومقالات الصحف، العربية والأمريكية، في تغطية المعرض إجمالاً والعروض "التركية" بصفة محددة. ويعمد خلف إلى ترجمة معظم هذه الوثائق عن لغات أخرى، كما يُدرج بعض التقارير التي نشرتها جريدة "كوكب أميركا" التي كانت تصدر باللغتين العربية والإنكليزية، في نيويورك.
القسم الأوّل، والأغنى في يقيني، هو الذي يستعرض تاريخ المشاركة وملابساتها، من الفكرة الأولى حين وصلت الدعوة الأمريكية إلى الباب العالي؛ مروراً بالتعقيدات الكثيرة التي اكتنفت اختيار الفرقة والبرنامج (خاصة في ضوء التباينات الإثنية والأنثروبولوجية والدينية، بين عرب وترك من جهة، وعرب/ ترك مسلمين أو مسيحيين شرقيين في مواجهة أمريكا التوراتية حيث ينتمي المشرق كله إلى "الأراضي المقدسة" من جهة ثانية)؛ وليس انتهاءً بالرقابات العديدة التي خضعت لها عروض القباني (مشكلات لباس النساء، الرقص الشرقي، التأويلات الدينية، الضغوط السياسية...). هذا كله في سياق التنوّع الواسع، والمفاجئ حقاً إذْ يُنظر إليه ضمن معطيات تلك الحقبة من تاريخ سوريا، والسلطنة العثمانية إجمالاً.
في إطار "مسرح العادات الشرقية"، قدّم القباني ثمانية عروض: "الدراما الكردية"، "الدراما القلمونية"، "المروءة والوفاء"، "عرس دمشقي"، "عنتر بن شداد"، "هارون الرشيد"، "العروس التركية"، و"الابن الضال". ويشير خلف إلى حُسن استقبال هذه العروض، سواء في الصحافة الأمريكية أو الجمهور العريض وأعضاء الكونغرس؛ وكذلك التمييز لأول مرة بين وظيفة "مدير الفرقة" التي تولاها بطرس أنطونيوس واختص بالشؤون الإدارية والمالية"، مقابل وظيفة "مدير التمثيل" التي تولاها القباني في تبشير بولادة مفهوم المخرج لأوّل مرّة في التراث المسرحي العربي. ويكتب خلف: "تؤكد جميع المقالات التي كتبت حول أعمال الفرقة على فكرة الإبهار البصري متعدد المستويات، فالخشبة لا تكاد تهدأ حتى تعود للامتلاء مرّة أخرى بممثلين يشعون حيوية".
وهذا، في رأي خلف، "يردّ على نقاد الأدب العربي المدرسي من أمثال محمد يوسف نجم وعلي الراعي وشاكر مصطفى وغيرهم، والذين أقاموا أحكامهم القطعية الظالمة حول مسرح القباني بالاعتماد على نصوص المسرحيات المنشورة له. فتجربة شيكاغو والتغطية الصحفية المواكبة لها تؤكد أنّ النصّ كان مجرد عنصر ثانوي في الفرجة المسرحية المبهرة". وليس غريباً، إذن، أن يجمع "كلّ من كتبوا عن هذه التجربة على احترافيتها العالية، وامتلاك القائمين عليها لأدواتهم الفنية"؛ إلى جانب "تقنيات التمثيل والأداء، وعلاقة الخشبة بالصالة، وتوظيف الموسيقى درامياً".
عمل تيسير خلف نموذج رفيع على الجهد البحثي المتمق الذي يستحقه القباني، رائداً مسرحياً وحامل رسائل ثقافية إنسانية وكونية أيضاً.
27/5/2018

استشراق لويس: ثمانون حولاً من التغطرس والتصَهْيُن

لجأ بعض العرب المدافعين عن برنارد لويس (1916 ــ 2018) إلى تكتيك كسيح، في المنهج كما في الحجة، مفاده أنّ "بطريرك الاستشراق"، كما اعتدتُ وأفضّل تسميته، لم يكن معادياً للإسلام؛ بدليل أنه من "أعظم المتبحرين في تراثنا الإسلامي الكبير"، وأنه كان "يعرفه أكثر مما نعرفه نحن"! وبصرف النظر عمّن تمثّل هذه الـ"نحن"، التعميمية والغائمة والركيكة، فإنّ التبحّر والمعرفة في ميدان ما، ليسا ضمانة لغياب العداء؛ بل يمكن أن يشكّلا في ذاتهما أفضل أدوات صياغة العداء، وربما أكثرها مضاء في ترويج أطروحات المعادي. ثمة فارق، وبون شاسع، بين المعرفة وتسخيرها، وبين الخطاب والمخاطَب، ومادّة التاريخ الفعلي الملموس في غمرة هذا التكوين الجدلي كلّه. 
ذلك، أغلب الظنّ، ما يتعامى عنه العربي المدافع عن لويس، أو يتقصد عدم الوقوف عنده، رغم أنّ إجراء كهذا ينبثق من أولى درجات المنطق، والمنهج الأوّلي؛ ورغم أنّ المدافع إياه قد يزعم التتلمذ على أفكار ميشيل فوكو دون سواه، حول تاريخية الخطاب تحديداً! وأن يبدأ مؤرخ شاب مثل لويس حياته الأكاديمية في رفوف الأرشيف الغنيّ للإمبراطورية العثمانية، منذ العام 1950، وكان أوّل غربي يحظى بهذا الامتياز؛ أمر مختلف عن الاطوار اللاحقة التي جعلت المؤرّخ ذاته يقدّم لأمثال جورج بوش الابن ونائبه ديك شيني ووزير دفاعد دونالد رمسفيلد نصيحة صريحة بغزو العراق، لأنّ العراقيين سيستقبلون الغزاة بالأهازيج والأزهار، ولأنّ هذا هو الدرب إلى الديمقراطية.
 أمر مختلف، أيضاً، أن يتبحر لويس في التاريخ الإسلامي، من جهة أولى؛ وأن يوظّف هذا التبحّر في خدمة مشروع استعماري استيطاني عنصري مثل الكيان الصهيوني في فلسطين، من جهة ثانية. الرجل ولد في بريطانيا، ثمّ عاش في الولايات المتحدة واكتسب جنسيتها، وفيها توفي مؤخراً؛ لكنه أوصى أن يُدفن في تل أبيب، وليس في أيّ مكان آخر. كما قام ذات يوم، سنة 1971 (من موقع الأكاديمي المحبّ للسلام، كما قد يقول المدافع العربي الركيك!) بحمل رسالة سرّية من الرئيس المصري أنور السادات إلى رئيسة وزراء دولة الاحتلال غولدا مائير. وهو الذي سوف يساجل بأنّ بيان أسامة بن لادن، الداعي إلى إعلان الجهاد ضد القوّات الأمريكية المتواجدة في الجزيرة العربية، يثبت أنّ دوافع "الإرهاب الإسلامي" إنما ترتد إلى أصول تاريخية وفقهية في قلب الإسلام ذاته. ولم يطل الوقت حتى ربط بين ذلك البيان، ولجوء الخليفة عمر بن الخطاب إلى طرد يهود خيبر ومسيحيي نجران من جزيرة العرب، تنفيذاً لوصيّة النبيّ محمد كما كتب!
ثمة، هنا، امتزاج دائم بين التغطرس الاستشراقي (بمعنى الانطلاق من أنّ معضلة الإسلام لا تُحلّ إلا بخضوعه، أو حتى إخضاعه، إلى القِيَم الغربية، والثقافة اليهودية ــ المسيحية تحديداً)؛ وبين تصَهْيُنٍ يُدرج الصهيونية لا كفلسفة سياسية واستيطانية (وعنصرية، بالضرورة)، بل يلقي على عاتقها مهمة تمدينية على غرار ما زعمت المشاريع الاستعمارية أنه واجبها إزاء الشعوب المستعمَرة. طرد 850 ألف فلسطيني خلال سنوات قليلة أعقبت تأسيس الكيان الصهيوني قبل وبعد 1948 لم يكن سوى عاقبة لتخلّف الشعب الفلسطيني، وللفشل السياسي الذي عانت منه المنطقة؛ وهذا، أيضاً، كان تفسيره للمشاريع الاستعمارية والإمبريالية، وواحدة من أبرز نقاط النقد المعمق الذي جوبه به لدى عدد من كبار مؤرّخي الغرب المختصين بدراسة الإسلام.
طريف، هنا، أن يتذكر المرء واقعة توضح طبائع استثمار لويس لما يتبحر فيه ويعرفه من تاريخ الإسلام والمسلمين. ففي 8 آب (أغسطس) 2006 نشر مقالة أثارت ضجة عالمية، لأنه تنبأ بأنّ إيران سوف تشنّ هجوماً نووياً على إسرائيل، وربما بعض البلدان الأخرى في الغرب، يوم 22 آب تحديداً. لماذا؟ لأنّ ذلك اليوم يصادف 27 من رجب، سنة 1427 للهجرة، أي يوم الإسراء والمعراج، الذي قد يكون مناسباً أيضاً لعودة الإمام الشيعي الثاني عشر من غيبته، حسب تأويل الرئيس الإيراني يومذاك، محمود أحمدي نجاد. صدّقوا أنّ هذا ما تنبأ به "بطريرك الاستشراق"، ولم تُنشر النبوءة في مطبوعة صفراء أو موقع تنجيم وتخريف، بل في صحيفة "وول ستريت جورنال" دون سواها!
وفي الاحتفاء بالعيد المئة لميلاد لويس، تساءل إيتمار رابينوفتش، رئيس "معهد إسرائيل" وسفير دولة الاحتلال الأسبق لدى أمريكا: "هل يمكن للمرء أن يكون، في آن معاً، صهيونياً ومؤرخاً كبيراً للإسلام؟". إجابته كانت الـ"نعم"، بالطبع، ولسبب كان في نظره طافحاً بالمنطق: "لا أحد، عادة، يسأل ما إذا كان في وسع باحث أمريكي بروتستانتي، يعيش في أمريكا خلال زمن الحرب الباردة، أن يكون مؤرخاً كبيراً لروسيا وخبيراً بالسياسة الخارجية السوفييتية"! هكذا ببساطة، إذن: الصهيونية نظيرة البروتستانتية، والإسلام نظير القضية الفلسطينية، وبالتالي في وسع لويس أن يؤرّخ للملفّين معاً، بلا أيّ حرج أو طعن في المصداقية. "إنه أولاً وأساساً باحث، ومؤرّخ قدّس المعايير المهنية. وهو شديد الاهتمام بالسياسة، وقد أسهم كمثقف عمومي في كثير من النقاشات حول الشرق الأوسط. كما أنه يهودي فخور، وداعم ملتزم للدولة اليهودية"، تابع رابينوفتش.
والحال أنّ لويس رأى، على الدوام في الواقع، أنّ الشرق الأوسط سرمدي جامد ثابت، ولن يتغيّر إلا على نحو أسوأ، على يد الأصوليات والأصوليين؛ "حين تدخل الثورة الإسلامية طورها النابوليوني أو الستاليني فتتمتع، مثل أسلافها اليعاقبة والبلاشفة، بفضيلة وجود طوابير خامسة في كل بلد وجماعة على صلة بخطابها الكوني العام"! وهو لا يعيد استظهار الكليشيهات القديمة، التي كرّرها وأعاد تكرارها، فحسب؛ بل يذهب أبعد حين يردّ البغض العربي والإسلامي للولايات المتحدة إلى عنصر "الحسد" من قوّة عظمى مهيمنة غنيّة متقدّمة، لم تخسر أيّ حرب منذ تأسيسها! نعم، الحسد فقط، وليس سياسات الولايات المتحدة في الانحياز الأقصى لدولة الاحتلال، وغزو الشعوب، ومساندة طغاة العرب وناهبي الثروات ومبدّدي المليارات على عقود الأسلحة الفلكية...
 أيضاً، واستطراداً، يساجل لويس بأنه لا فائدة تُرجى من محاولات إصلاح العرب والمسلمين، لأنه ما من أمل في مصالحتهم مع قِيَم الغرب؛ هذه التي يحدث الآن أنها تُفرض على الجميع، بالترغيب أو بالترهيب، بوصفها قِيَم العالم بأسره. ونبوءته الرهيبة للأقدار التي ستواجه المسلمين، والعرب خصوصاً، تسير هكذا: "إذا واصلت شعوب الشرق الأوسط السير علي طريقها الراهن، فإنّ صورة الانتحاري الفلسطيني يمكن أن تصبح استعارة تمثّل المنطقة بأسرها، ولن يكون هنالك مفرّ من الانحدار نحو الكراهية والحقد، والغضب وكره الذات، والفقر والقمع". هكذا، دون أيّ تأصيل اجتماعي أو سياسي أو تاريخي أو استعماري لجذور صعود الإسلام الجهادي، الضاربة في تاريخ المنطقة وعقائدها.
تبقى حكاية أخيرة، لا تختصر جوهر ثمانين حولاً من اشتغال لويس على شؤون الإسلام وشجون المسلمين، فقط؛ بل لعلها الكاشف الأوضح على الباطن الذكوري في استشراقه، وأنه لم يخرج كثيراً عن عقلية إدوارد لين، سلفه البريطاني الذي ترجم "ألف ليلة وليلة" وكأنها أولاً كتاب في الفنون الإباحية. سُئل لويس، خلال ندوة مع محرري مجلة "أتلانتيك" الأمريكية، عن انطباعه حين زار الشرق الأوسط للمرة الأولى، فقال: "كنت طافحاً بالعاطفة، مثل عريس شرقي يوشك على رفع الخمار عن عروسه التي لم يقع بصره عليها من قبل". فأيّ "تبحّر" أكثر غطرسة في ملاقاة الشرق، وأشدّ تحقيراً لأهله وثقافته، وأوضح نزوعاً إلى انتهاك الآخر!
24/5/2018

أحلاف الاستشراق


كانت الألمانية هيدفيغ كلاين (1911 ـ 1942) مولعة باللغة العربية، فقهاً وأدباً وتاريخاً؛ وفي سنة 1937 أنجزت أطروحة دكتوراه متميزة، قوامها تحقيق فصل "أخبار أهل عُمان من أوّل إسلامهم إلى اختلاف كلمتهم"، من كتاب الشيخ العلامة سعيد الأزكوي "كشف الغمة الجامع لأخبار الأمّة"؛ الذي يُعدّ أحد أفضل المراجع عن التاريخ الإباضي. لكنّ أقدار ولادة كلاين لأسرة يهودية انعكست على الأطروحة، التي لقيت إطراء شديداً من أستاذها المشرف أرتور شاده، إذْ امتنعت إدارة الجامعة عن تثبيت الدرجة، لأنّ الدكتوراه لم تعد تُمنح لليهود في تلك الحقبة من تاريخ ألمانيا الأكاديمي.
كذلك أنقذتها من التسفير إلى معسكرات الاعتقال شهادةٌ من اللغوي المستعرب هانز فير، صاحب القاموس الشهير، الذي كان قد انتسب إلى الحزب النازي (كما يكتب شتيفان بوخن في مقالة نشرتها مجلة "قنطرة" مؤخراً)، وكُلّف بترجمة كتاب أدولف هتلر "كفاحي" إلى اللغة العربية، وكان بحاجة إلى مختصين في اللغة العربية. لم يكن هذا كافياً، في الواقع، وتوجب أن تغادر كلاين ألمانيا حين توفرت لها تأشيرة إلى الهند؛ حيث عاكستها الأقدار مجدداً، فتوقفت رحلة الباخرة حين شنّت ألمانيا الهجوم على بولندا، وانتهت رحلة كلاين بالتسفير إلى أوشفتز، حيث قضت هناك.
تنتمي هذه السيدة، والعشرات سواها من السيدات والسادة، إلى تلك الفئة التي صُنفت في التاريخ الاستعماري تحت مسمّى "المستعرب" Arabist، إذا شاء المرء إقامة تناظر اشتقاقي مع المسمى الآخر الأشهر، أي "المستشرق"  Orientalist. قاموس أكسفورد الشهير يعرّفه هكذا: "أجنبي متخصص في اللغة العربية"؛ وقاموس وبستر الجامعي يصفه بـ"مختص باللغة العربية والثقافة العربية أو طالب يدرسها"، أو "مساند للمصالح العربية"؛
وقاموس التراث الأمريكي يقتفي أثر وبستر في إدراج دراسة اللغة والثقافة، لكنه يطوّر العنصر الثاني هكذا: الذي "يميل إيجاباً إلى الاهتمامات والسياسات العربية".
والمستعربون هؤلاء متعددو المنابع والأهواء والمواهب، فمنهم الأكاديمي أو السفير، ومنهم الأديب أو ضابط الإستخبارات، ومنهم المعلّق السياسي أو عالم الآثار. ويكفي، لتبيان "تعددية" تكوينهم، أن يسرد المرء لائحة محدودة للغاية من أسماء كبارهم: ريشارد برتون، الليدي هستر ستانهوب (أو "ملكة البدو" في اللقب الظريف!)، توماس إدوارد لورانس (العرب)، جرترود بيل، هاري «عبد الله» فيلبي، دانييل بليس (مؤسس «الكلية البروتستانتية السورية» التي ستتحوّل إلى الجامعة الأمريكية في بيروت). ثمّ، في لائحة أخرى معاصرة، ريشارد مورفي، هيرمان إيلتس، روبرت بلليترو، دافيد نيوتن (السفير ما قبل الأخير للولايات المتحدة في عراق صدّام حسين)، والسفيرة الشهيرة أبريل غلاسبي، صاحبة الرسالة الشفهية الشهيرة بأنّ الولايات المتحدة ليس لها رأي في نزاع العراق الحدودي مع الكويت.
والحال أنّ هذه الفئة انقرضت، أو تكاد، بعد أن تكفلت عوامل عديدة بإسباغ شخصية مرذولة على حامل الصفة، خاصة بعد إقامة دولة الاحتلال الإسرائيلي، والانحياز المطلق الذي طبع السياسات الخارجية للولايات المتحدة والغرب إجمالاً لصالح أمن الكيان الصهيوني. وهكذا اتُّهم المستعرب بالانحياز إلى العرب (!)؛ أو الخلط بين عشق اللغة العربية، وبين الحماس للقضايا العربية؛ أو السعي إلى تفهّم السخط العربي تجاه الغرب عموماً، وأمريكا خاصة. وهذه حال أجاد مورفي تلخيصها ذات يوم، حين هتف بمرارة: "أصبحت كلمة مستعرب ترادف مواقعة العرب فكرياً ودبلوماسياً"!
والإنصاف يقتضي القول إنّ الاستعراب لم يكن حميداً دائماً في المعسكر الآخر، الاشتراكي، وخاصة الاتحاد السوفييتي؛ لسبب مبدئي أوّل هو أنّ الدراسات التاريخية خضعت لاشتراطات إيديولوجية مسبقة ذات صلة بالجمود العقائدي (موقف إرينا ميخايلوفنا سميليانسكايا من الطبقة العاملة المصرية مثلاً، أو آراء استاذها فلاديمير بوريسوفتش لوتسكي حول سوريا ولبنان)؛ وكذلك لأنّ مؤسسة الاستعراب الاهمّ، معهد الاستشراق، كان اسماً على مسمى. وفي سنة 1989، بتأثير مناخات الشفافية التي أشاعها ميخائيل غورباتشيف، علّق أساتذة معهد لينينغراد للدراسات الشرقية، صور 300 من كوادر المعهد الذين تعرضوا للتنكيل بين 1918 و1972.
من جانبه يميل وليام كواندت، الباحث والمؤرّخ المعروف المختصّ بالدبلوماسية الأمريكية في الشرق الأوسط، إلى إنصاف المستعربين عن طريق وضع تصنيفاتهم التنميطية في سياق سياسي ملموس: "المستعربون لا يشبهون أمثالهم من أخصائيي المناطق، في المخيّلة الشعبية على الأقلّ. فإذا أشار المرء إلى أفريقاني، مثلاً، فإنّ الصورة الناجمة سوف تصف شخصاً مختصاً بتاريخ ولغات وثقافات أفريقيا، ممّن قضى في القارة ردحاً من الزمن، ولن تتبادر إلى الذهن تداعيات تدعو إلى ذمّ الرجل. لكنّ صفة المستعرب تستدعي، على الفور، دلالة سيئة: هو ذاك الذي صرف الوقت في تعلّم اللغة العربية، أو عاش زمناً طويلاً في العالم العربي، وهو معادٍ لإسرائيل بالضرورة"!
يبقى أن أعيد التشديد على قناعة شخصية بأنّ انطواء صفحة الاستعراب لا يستدعي الأسف، أياً كانت الإيجابيات التي اقترنت بتراثه؛ بل لعل الواجب يقتضي اليوم، في ضوء كشوفات إدوارد سعيد حول مؤسسة الاستشراق تحديداً، وضع المستعرب المرتبط على المحكّ ذاته الذي استحقه المستشرق، من حيث الصلة مع عقائد مثل الفاشية والنازية والستالينية، أو توفير خدمات مباشرة للمشاريع الاستعمارية الأوربية. وقد تحتاج المعادلة إلى ميزان ذهب بين تحقيق فصل حول الإباضية في عُمان، وترجمة "كفاحي" إلى اللغة العربية برعاية نازية!
20/5/2018

إدوارد سعيد والسماء الأخيرة

في لائحة أعمال إدوارد سعيد ثمة كتاب بعنوان "بعد السماء الأخيرة: حيوات فلسطينية"، غير معروف نسبياً على نطاق العالم العربي، يتسم بسلسلة خصائص في الموضوع واللغة والأسلوبية العامة تُفرده عن مجمل نتاج الراحل. بدأت فكرة هذا الكتاب من ظروف غريبة جمعت سعيد مع جان موهر، المصوّر الفوتوغرافي السويسري من أصل ألماني، الذي سبق أن تعاون مع الروائي والناقد الفني البريطاني جون بيرغر في ثلاثة أعمال، كما أصدر مجموعة ألبومات تتناول الفنون والثورات والحروب وموجات النزوح والهجرة.
ففي عام 1983 كان سعيد يتعاون مع هيئة الأمم المتحدة في تنظيم "المؤتمر الدولي حول قضية فلسطين"، وارتأى تكليف موهر بالتقاط صور فوتوغرافية تُعلّق في مدخل المؤتمر، وتعبّر عن حيوات الفلسطينيين في مختلف مناطق إقامتهم، داخل فلسطين وخارجها. المفاجأة الغريبة كانت موافقة إدارة المؤتمر على الفكرة، شرط أن تخلو الصور من أيّ تعليقات تشرحها؛ وبعد أخذ وردّ تمّ التوصل إلى تسوية تتضمن ذكر اسم البلد الذي التُقطت فيه الصورة فقط (الأردن، سورية، لبنان، الضفة الغربية، قطاع غزة).
وهكذا قرّر سعيد وموهر وضع كتاب يحتوي على غالبية تلك الصور، ليس مع شروحاتها كما سجّلها المصوّر ساعة التقاطها، فحسب؛ بل مع نصوص مطوّلة كتبها سعيد خصيصاً، وامتدت على مقدّمة وخمسة فصول. 
ويحلو لي، شخصياً، الافتراض بأنّ هذا الكتاب، صوراً وليس نصوصاً فقط، هو الأقرب إلى التعبير التطبيقي عن تفضيل سعيد لمدرسة "دراسات التابع" الهندية الشهيرة، التي أطلقتها في مطلع ثمانينات القرن الماضي كتابات رانجيت غوها وإريك ستوكي حول تاريخ الهند بصفة خاصة. وهذا التيار استلهم توصيف المفكر الإيطالي أنتونيو غرامشي لشخصية "التابع"، المهمش والمستبعَد والمستعبَد والمقموع. وهكذا، في "بعد السماء الأخيرة"، قرأ سعيد التاريخ الفعلي، البشري المادي القائم في الزمان والمكان، لسلسلة نماذج فلسطينية؛ مبتدئاً من افتراض طريف، لكنه عميق الدلالة: رغم وجود أدبيات كثيرة تصف فلسطين والفلسطينيين، خاصة تلك التي سطرها الفلسطينيون أنفسهم، فإنّ الفلسطيني يظل مجهولاً نسبياً، بمعنى أنه لا ينتمي إلى شعب بقدر تمثيله لذريعة حرب وصراع ونزاع. يكتب سعيد: "منذ 1948 كان وجودنا من طراز أقلّ. عشنا الكثير الذي لم يُسجّل. قُتل منا الكثيرون، وأصابتنا ندوب، وأُخرسنا، دون أن نترك أثراً. والصورة التي تُستخدم في تمثيلنا لا تقوم إلا بإنقاص حقيقتنا الفعلية أكثر. وعند الكثيرين لا يُرى الفلسطيني أساساً إلا في هيئة المقاتل أو الإرهابي أو المطارَد".
هذه، استطراداً، قراءة شخصية وذاتية للفلسطينيين كجماعة وطنية مشتتة؛ "فاعلة، مفعول بها، فخورة، رقيقة، بائسة، طريفة، لا تُقهر، ساخرة، ارتيابية، دفاعية، واثقة، جذابة، آسرة...". لكنها، في غمرة هذا كله، أسيرة السؤال الجاثم في قصيدة محمود درويش، والذي يستمدّ الكتاب عنوانه منها: "إلى أين نذهبُ بعد الحدود الأخيرة؟/ أين تطير العصافير بعد السماء الأخيرة؟/ أين تنام النباتات بعد الهواء الأخير؟"... بذلك فإنّ الكتاب لا يندرج في أعمال سعيد النقدية، من حيث الشكل والمحتوى بالطبع، بل يراوح ــ ببراعة قصدية ملحوظة، وفي إطار نقلات أسلوبية لا تخفى ــ بين الموضوع الفلسطيني السياسي الذي بات سعيد ناطقاً بليغاً بملفاته المختلفة المعقدة؛ وبين نزعة تأريخ القضية الفلسطينية والشخصية الفلسطينية عبر تقنيات السرد والسردية؛ فضلاً عن تقنيات استكشاف التاريخ الباطن، كما اقترحتها دراسات التابع.
ورغم ذلك فإنّ الأدب، ثمّ النقد الأدبي استطراداً، لا يغيب نهائياً عن الكتاب، بل لعل حضوره من خلال أسماء غسان كنفاني وإميل حبيبي ومحمود درويش وتوفيق زياد وجبرا إبراهيم جبرا ومعين بسيسو وهشام شرابي يذهب بالأدب نحو أقصى ما تتيحه المخيلة الإبداعية عند تمثيل الشخصية الجَمْعية التي، في ذروة انفرادها كما شدد سعيد، لا تملك إلا تمثيل هذه أو تلك من السمات الأعمق للاجتماع الفلسطيني. والحال أنه يصعب أن نعثر في أيّ عمل من أعمال سعيد على لغة بهذه البلاغة العالية، وعلى انسراح المفردة نحو مناخات تصويرية أخاذة، وارتقاء النثر إلى سوية قصوى من التمثيل والتصوير والتجسيد والتشبيه، أو توظيف العبارة على النحو الأعلى إيعازاً دون خطابية، والأبرع توصيفاً دون تهويل ميلودرامي.
وبين الخيارات الشعبية الشائعة التي لفتت انتباه سعيد، ثمة نزوع الفلسطينيين الشباب إلى رياضات كمال الأجسام، والمصارعة، والملاكمة، والكاراتيه؛ الأمر الذي لا يقتصر تفسيره على هدف اكتساب القوّة، بقدر ما هو أيضاً رغبة عارمة في تأكيد الذات، و"الإلحاح على تفاصيل لا صلة تجمعها بالغرض العقلاني". هنالك أيضاً ذلك التشابه العجيب في عادات تأثيث البيوت، الثرية أو المتواضعة على حدّ سواء، وفي عادات المأكل والمشرب (وموهر يرصد، ببراعة وجماليات آسرة، أثاث البيت الفلسطيني وموقع الطعام فيه، بين المآدب الفخمة والسُفرة على الأرض، في مدن فلسطين وبلداتها، وفي المخيمات والمنافي).
والذكرى السبعون للنكبة لا تعيد التذكير بهذا الكتاب البديع، فقط؛ بل تستعيد فلسطين التي إذا غُطيت خريطتها بالأساطير والرموز والأيقونات والدروب التي طرقتها كلّ الشعوب التي عاشت هنا... فلن يتبقى فضاء للأرض ذاتها، يفترض سعيد!
13/5/2018

ميلوش فورمان: صدام السينما والرواية


رحل المخرج السينمائي التشيكي ـ الأمريكي ميلوش فورمان (1932 ـ 2018) بعد أن خلّف سلسلة أعمال رفيعة الشأن في الفنّ السابع؛ بعضها يرقى إلى مستوى القفزات النوعية الكبرى في الشكل والمحتوى ("طيران فوق عش الوقواق"، "أماديوس"، "راغتايم")؛ وبعضها الآخر يقارب الواقعية الاجتماعية من منظورات الرمز الكوميدي المبطن، الذي لا يفضح عناصره إلا بعد اختمار بطيء في الوجدان الشعبي العمومي ("غراميات شقراء"، "حفلة رجال الإطفاء"، "إقلاع"). ولقد كان، على غرار أسماء أخرى كبيرة في سينمات "المعسكر الاشتراكي" سابقاً، طريد المؤسسة الرسمية التي لم تقبل به إلا اضطراراً، وانحناءً أمام نجاحات خارجية في مهرجانات دولية.
لكنّ فورمان يظلّ نموذجاً استثنائياً في ميدان دراسي ونقدي شائك، هو العلاقة بين النصّ الروائي والفيلم؛ وكيف للأوّل أن يُسلم القياد للثاني على أيّ نحو متكافئ، أو ينقلب إلى ضحية للاعتبارات الفنية المختلفة التي تحكم إنتاج الثاني. والمثال الأبرز، في تقديري شخصياً، ولكن استناداً إلى وقائع فعلية أيضاً، هو ذلك التنازع بين الروائي الأمريكي كين كيسي (1935 ـ 2001)، مؤلف "طيران فوق عشّ الوقواق"، من جهة؛ وكلّ من فورمان، مخرج الفيلم الشهير، ولورنس هوبن وبو غولدمان كاتبَيْ السيناريو، من جهة ثانية. لقد رفض كيسي النصّ السينمائي، وانتقده بشدة في حوار شهير نشرته "رولنغ ستون"، بل ذهب إلى حدّ الدخول في معركة قضائية مع جهة الإنتاج، ثمّ أعلن أنه لن يشاهد الفيلم أبداً، وقيل بالفعل إنه رحل متمسكاً بهذا القرار.
عناد كيسي كان لافتاً، ومثيراً لاستغراب الكثيرين، بالنظر إلى النجاح الهائل الذي حققه الفيلم عند إنجازه في سنة 1975؛ إذْ حصد خمسة أوسكارات دفعة واحدة: الفيلم، الإخراج، الممثل الأول (جاك نكلسن)، الممثلة الأولى (لويز فلتشر، في دور الممرضة راتشت)، الاقتباس (هوبن وغولدمان). لكنّ كثيرين أيضاً ناصروا كيسي، على قاعدة ما لحق بعمله من اختزال للرسالة الرمزية حول مصائر الحلم الأمريكي، وإساءة تفسير لمفهوم الهيمنة المؤسساتية، وتطويع كوميدي لشخصية راندل ماكمرفي المركزية؛ فانحازوا بالتالي إلى الرواية (التي تشرفت بنقلها إلى اللغة العربية، وصدرت سنة 1981 في طبعة أولى عن المؤسسة العربية للأبحاث ضمن سلسلة "من ذاكرة الشعوب" التي أشرف على تحريرها آنذاك الصديق الروائي والناقد اللبناني الياس خوري، وفي طبعة ثانية عن "الأهلية" سنة 2016). كذلك أشار بعضهم إلى نجاح الاقتباس المسرحي للرواية ذاتها، في سنة 1963، على يد ديل فاسرمان؛ وفيه لعب كيرك دوغلاس دور ماكمرفي.
وجهة نظر كيسي تبدأ من معمار السرد في الرواية، الذي يتولاه الزعيم برومدن، "الهندي الأحمر" الذي يواجه أنساق اغترابه عن عوالم المصحّ النفسي الخارجية، ثمّ عوامل أمريكا استطراداً؛ بأنساق اتصال مع عالم داخلي مركّب، قناعه الأوّل هو ادعاء الصمم والبكم، والبقاء على هذه الحال حتى لحظة مفصلية من إيمانه بصديقه ماكمرفي، فينطق معه فقط وليس أمام أحد سواه. وكان كيسي قد كتب مقاطع عديدة من روايته تحت تأثير عقار الـ LSD المهلوِس؛ وأخضع نفسه لعلاج بالصدمة الكهربائية لكي يتمثّل حال "الزعيم" ساعة إدخاله إلى غرفة العلاج بالصدمة، وما يجول في أذهان المرضى عند خضوعهم لأنماط علاج مماثلة. وهذا تفصيل كان له آثار بالغة على معمار الرواية اللغوي.
هل كان فورمان قادراً على بلوغ أية درجة سينمائية من تلك التقنيات السردية الروائية؛ خاصة حين تكون المفردات عند "الزعيم" أوعية تصوير سوريالية، وليست وسائل اتصال؟ وكيف للسينمائي أن يجاري الروائي في رسم شخصية بالغة التعقيد والتنوّع، مثل هذه؟ سؤال عويص بالطبع، لكنه بعض جوهر الصدام بين الفنّ الروائي والفنّ السابع. ففي وسع أنصار الرواية التذكير بالذروة الفريدة في المشهد الختامي، حين يخنق برومدن صديقه ماكمرفي كي لا يصبح الأخير أمثولة لانتصار الممرضة/ المؤسسة على التمرّد والتحرر، والمساجلة بأنّ فورمان عجز عن، أو حتى تعمد عدم، تجسيد تلك البرهة. في المقابل، يساجل أنصار السينما بأنّ المشهد الأخير في الفيلم انسجم مع الخطّ الدرامي العامّ، واشتغل بصرياً على ما أنجزته الرواية نصّياً.
هيهات، مع ذلك، أن يفلح أيّ مخرج في إنجاز تمثيل سينمائي لهذه العبارة الأخاذة التي يهجس بها برومدن وهو يُحكم إطباق الوسادة على رأس صديقه الذي صيّرته صدمات الممرضة كتلة لحم كسيرة: "كان الجسد الهائل الصلب يتمسك بالحياة. لقد صارع زمناً طويلاً ليُبقي على رعشة الحياة في جسده، فتقلّب وانتفض وتدفق بكلّ جوارحه وأعضائه. وكان عليّ أخيراً أن أجثم بكلّ ثقلي فوقه وألوي ساقيه المتدافعتين بساقي، وأحشر الوسادة في الوجه. جثمتُ فوق الجسد فترة خُيّل إليّ أنها دهر طويل، حتى سلّم الجسد النابض، حتى هدأ تماماً وارتعش الرعشة الأخيرة". ويكسر برومدن السجن الرمزي الذي يمثّله المصحّ، بعد تحطيم الحاجز الشبكي الذي حاول ماكمرفي تحطيمه ذات يوم، ويغادر إلى موطن قبيلته ليعانق في ذاكرته رماد التلال والغابات والطيور والشلالات، وليسترجع شجرة الصنوبر الأكثر شموخاً فوق الجبل، ويردد: "لقد غبتُ طويلاً!".
 12/5/2018