وعزّ الشرق أوّله دمشق

الخميس، 9 أغسطس 2018

لماذا الاستماتة الإسرائيلية في الإبقاء على الأسد؟

تولى رئيس وزراء دولة الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ثمّ وزير دفاعه أفيغدور ليبرمان، تذكير الغافلين (ومعظمهم لا يتغافل إلا عن سابق قصد) بأنّ العلاقات مع النظام السوري، أو آل الأسد على وجه التحديد، كانت وتظل على ما يرام: "لم تكن لدينا مشكلة مع نظام عائلة الأسد، فطوال 40 عاماً لم تطلق رصاصة في هضبة الجولان. والأمر المهم هو الحفاظ على حريتنا في العمل ضد أية جهة تعمل ضدنا"، قال نتنياهو، أواسط تموز (يوليو) الماضي، في اختتام زيارة حافلة إلى موسكو. ليبرمان، من جانبه، لم يغلق الباب أمام علاقات مستقبلية مع النظام، كمَنْ يتمنى لآل الأسد عمراً مديداً؛ مشدداً على أنّ "الجبهة السورية ستكون هادئة" مع استعادة الأسد "للحكم الكامل" في سوريا.
كان أمثال نتنياهو وليبرمان (أو الإعلامي والأكاديمي إيدي كوهين، الذي أعلن أنه "لا توجد أي دولة تريد إسقاط الأسد، حتى إسرائيل لن تسمح بإسقاطه لأنه يحمي حدودنا منذ 1967 ولن نجد أفضل منه في كل سوريا. سقوطه يهدد أمن إسرائيل القومي"؛ أو الصحافي الإسرائيلي المعروف زفي برعيل، الذي سار عنوان مقالته هكذا، ببساطة بليغة: "كيف أصبح الأسد حليف إسرائيل")؛ يعيدون التشديد على حقيقة ظلت مرئية منذ 51 سنة في الواقع، وليس 40 سنة كما احتسب نتنياهو: أنّ الناظم لعلاقات القوّة بين سوريا حزب البعث، بعد 1967، ودولة الاحتلال، كان حالة العداء في اللفظ والجعجعة فقط، مقابل والاستسلام الفعلي على الأرض؛ ولم يكن حالة اللاسلم واللاحرب كما شاع، بل حالة سلم الأمر الواقع؛ الذي حالت أسباب مركبة، داخلية وتخصّ نظام "الحركة التصحيحية"، دون التعاقد عليه في اتفاقيات علنية.
هنا وقائع التاريخ التي تشهد على تلك الحال:
ــ في 1967 أعلن الفريق حافظ الأسد، وزير الدفاع، سقوط مدينة القنيطرة، وعدد من أبرز مرتفعات الجولان، حتى قبل أن تطأها قدم جندي إسرائيلي محتل.
ــ 1973، وافق النظام على قرار مجلس الأمن الدولي رقم 338، وكان بذلك يعترف عملياً وحقوقياً بأنّ دولة الاحتلال جزء لا يتجزأ من تكوين المنطقة ومن نظام الشرق الأوسط السياسي والجغرافي.
ــ 1974، في أعقاب توقيع "اتفاقية سعسع" وإدخال النظام الأممي حول الفصل بين القوات، لم تُطلق في هضبة الجولان طلقة واحدة تهدد صيغة "السلام التعاقدي" المبرمة تحت الخيمة الشهيرة.
ــ بعد 1976 أيّد النظام قرار مجلس الأمن الدولي الذي يدعو إلى "ضمانات حول سيادة، ووحدة أراضي، واستقلال جميع الدول في المنطقة"، و"الاعتراف بحقّ هذه الدول في العيش بسلام داخل حدود آمنة معترف بها".
ــ 1982، وافق النظام على مبادرة الملك فهد وخطّة الجامعة العربية التي اعترفت عملياً بحقّ إسرائيل في الوجود (مع الإشارة إلى أنّ ذلك الاعتراف لم يرضِ دولة الاحتلال آنذاك).
ــ 1991 أرسل النظام مندوباً إلى مؤتمر مدريد.
ــ 1994، أقامت واشنطن "قناة السفراء" بين سفير النظام وليد المعلم، والسفير الإسرائيلي إيتمار رابينوفتش. في السنة ذاتها عُقدت اجتماعات بين رئيس أركان جيش النظام، حكمت الشهابي؛ ورئيس أركان جيش الاحتلال، إيهود باراك. في ما بعد سوف يقوم الدبلوماسيان الأمريكيان دنيس روس ومارتن إنديك بجولات مكوكية بين دمشق والقدس المحتلة، لمتابعة تفاهمات واشنطن.
ــ 1999، مفاوضات شبردزتاون، بين وزير خارجية النظام فاروق الشرع ورئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود باراك، برعاية أمريكية؛ في غمرة تركيز من النظام على ما سُمّي بـ"وديعة رابين".
ــ آذار (مارس) 2000، قبيل وفاته بنحو ثلاثة أشهر، اجتماع الأسد الأب مع الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلنتون في جنيف.
ــ 2004، تقارير عن مفاوضات سرية، غير مباشرة، يتولاها الدبلوماسي الأمريكي جيفري أهرونسون ورجل الأعمال السوري إبراهيم سليمان.
ــ 2008، سلسلة من جولات التفاوض السرية، برعاية تركية.
لماذا، والحال هذه، فشل الطرفان في التوصل إلى اتفاقية سلام؟
بعض الإجابة يرتد إلى سبب جوهري حكم تفكير الأسد الأب منذ مقتل باسل، ابنه والوريث المفضّل غير المتوّج، واضطراره إلى تعديل برنامج التوريث ونقله إلى بشار، وسط سباق محموم مع الزمن انطوى على عامل الصراع ضد سلسلة أمراض فتاكة لم تكن تمهل الأسد الأب وقتاً كافياً للطبخ على نيران هادئة. وهكذا توجّب الحسم حول واحد من خيارين، كلاهما حمّال مجازفات ومخاطر: 1) عقد اتفاقية سلام مستعجلة مع دولة الاحتلال، في حياة الأسد الأب، لن تجلب للنظام ما يحتاجه من مكاسب وضمانات لقاء هكذا خيار ستراتيجي؛ و2) التفرّغ، بدل ذلك، للمهمة الأكثر إلحاحاً وضرورة، أي ترتيب البيت الداخلي على أفضل وجه ممكن يتيح وراثة سلسة أمام فتى غير مجرّب، وسط غابة من ذئاب النظام وضباعه.
في الإطار الأعرض، الذي اتضح أكثر في ناظر الأسد الأب بعد لقاء جنيف مع كلنتون، بدا أنّ "وديعة رابين" ليست سوى رسالة غير مكتوبة حملها وزير الخارجية الأمريكي وارن كريستوفر، غير مُلزمة للجانب الإسرائيلي؛ ولكنّ الأسد الأب تلكأ في اغتنام تلك الفرصة، ثمّ عاد إلى التشبث بها بعد أن حمّلها أكثر مما تحتمل من أثر في أقنية التفاوض. كذلك لوّح الإسرائيليون بنفض الغبار عن خرائط ما قبل عام 1949، للمساجلة بأنّ القوّات السورية احتلت بالقوّة أجزاء واسعة من الأراضي الفلسطينية، واحتفظت بها حتى العام 1967 حين "حرّرتها" القوّات الإسرائيلية. وإذا كانت سورية تزعم شرعية سيادتها على هذه الأراضي لأنها احتفظت بها طيلة 18 عاماً، فلماذا لا يحقّ لدولة الاحتلال أن تزعم شرعية السيادة على الأراضي ذاتها التي احتفظـــت بها طيلة 32 سنة، أي منذ عام 1967؟
وفي خلاصة القول، ما الذي يجبر دولة الاحتلال على عقد أية اتفاقية سلام مع آل الأسد، والنظام في وضعه الراهن محض تابعية متشرذمة بين موسكو وطهران، وسلاح الجوّ الإسرائيلي يسرح ويمرح متى شاء وحيثما شاء في عمق الأراضي السورية، والرئيس الروسي فلاديمير بوتين بات الضامن شخصياً لأمن الاحتلال الإسرائيلي في الجولان، وعناصر الجيش الروسي شاركت في إعادة إحياء اتفاقية فصل القوات في الجولان بالرغم من وضوح بنود الاتفاقية التي تحظر على جيوش الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن المشاركة في أية مهامّ هناك...؟ لا شيء، بالطبع، بل لعلّ من الحماقة الطوعية أن يفكر أيّ مسؤول إسرائيلي في إقامة أيّ تعاقد مع هكذا نظام، ما دام تعاقد الأمر الواقع هو السيد والفاعل.
هذا إذا وضع المرء جانباً حقائق علاقة الإدارات الأمريكية المتعاقبة مع نظام "الحركة التصحيحية"، في سياقات عربية عريضة أولاً (مثل انضمام جيش النظام إلى تحالف "عاصفة الصحراء"، أو تطويع الحركة الوطنية اللبنانية والمقاومة الفلسطينية)؛ أو في سياق الموقف من دولة الاحتلال والحقوق الفلسطينية. وبهذا المعنى فإنّ لجوء الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى قرص أذني الأسد، أو حتى وصفه بـ"الحيوان"، ليس سوى سمة السطح في تراث طويل من الرضا الأمريكي عن النظام، والتصديق على خيار آخر ثمين لدى إدارات البيت الأبيض هو الرضا الإسرائيلي عن النظام.
فأيّ عجب في أن تستميت دولة الاحتلال دفاعاً عن آل الأسد، وأن تجد في نظامهم الراهن الحارس الأشدّ يقظة على مصالحها في الجولان المحتل، وفي... سائر سوريا؟

غموض محمود درويش

في مستهل كتابه "لماذا الشعر"، الذي صدر مؤخراً بالإنكليزية عن منشورات هاربر كولنز في نيويورك، يلجأ الشاعر وأستاذ الأدب الأمريكي ماثيو زابرودر إلى تدوين ثلاثة اقتباسات: من والت ويتمان ("مُرّ بي هذا النهار وهذه الليلة، ولسوف تستحوذ على أصل جميع القصائد")؛ ومحمود درويش ("أقصى الوضوح هو الغموض")؛ وفرجينيا وولف ("الشاعر معاصرنا دائماً"). ولسوف يعود، على امتداد فصول الكتاب الـ13، إلى الأسباب التي جعلته يختار آراء شاعر أمريكي وشاعر فلسطيني وروائية بريطانية لتصدير كتاب يساجل، في مقولته المركزية، حول سلسلة العناصر الفنية والاجتماعية والسياسية المقترنة بالشعر، والتي لا تجعل منه فناً ضرورياً فحسب؛ بل تشكّل، في الآن ذاته، ولدى شرائح واسعة من القرّاء، عائقاً أمام حُسن استقباله وتذوّقه.
لا يشير زابرودر إلى المصدر الأصلي لعبارة درويش، وما إذا كانت شعراً في قصيدة أم نثراً في مقالة أو حوار؛ ولهذا فمن الخير الإيضاح هنا أنّ الاقتباس يعود إلى قصيدة "مأساة النرجس ملهاة الفضة"، في مجموعة "أرى ما أريد"، 1990؛ وهي قصيدة طويلة متصلة، تستعيد أطوار تاريخية متشابكة تتقاطع خلالها رموز روما وصور وقرطاج وطروادة وسومر ودمشق والأندلس والساحل السوري؛ كما تتباين أطوال سطورها بين القصير والمتوسط والفقرة المدوّرة، وتتنوّع تشكيلاتها الإيقاعية أسوة بأنظمة التقفية المألوفة والداخلية. وقرابة نهاية الثلث الأوّل من القصيدة، يقول درويش:

هل نستطيع تناسخ الإبداع من جلجامش المحروم من عشب الخلودِ
ومن أثينا بعد ذلك؟ أين نحن الآن! للرومان أن يجدوا وجودي
في الرخامِ، وأن يعيدوا نقطة الدنيا إلى روما، وأن يلدوا جدودي
من تفوُّقِ سيفهم.
لكنّ فينا من أثينا
ما يجعل البحر القديم نشيدَنا
ونشيدُنا حجر يحكّ الشمس فينا
حجر يشعّ غموضَنا. أقصى الوضوح هو الغموضُ،
فكيف ندرك ما نسينا؟

وفي فصل بعنوان "معنى الحلم" يعود زابرودر إلى التعليق على عبارة درويش، ضمن سياق الحديث عن "الوضوح" بصفته صانع عناصر القصيدة؛ أي "تلك الأشياء التي تربطنا كقرّاء مع القصيدة. غموض القصيدة هو سبيل تلك الأشياء في التحوّل إلى تجربة لم تُعرف بعد، وإلى امتداد للوعي، في قلب الأسرار والتناقضات التي تتكاثر دائماً في حيواتنا".  وهو قرأ القصيدة، بترجمة فادي جودة إلى الإنكليزية، والأرجح أنه انشدّ إلى هذا الجانب الخاصّ، الطاغي عليها مع ذلك: الغموض الذي تستولده مستويات وضوح قصوى، وتشترك في تجسيده (أو إغماض معانيه، عن سابق قصد دلالي وفنّي، إذا جاز التعبير) مهارات تسخير اللغة والرمز والأسطورة، ابتداءً من عنوان القصيدة ذاته في الواقع.
هذه خلاصاتي الشخصية، كي لا تُنسب إلى زابرودر، الذي يكتفي باقتباس عبارة درويش من باب تمكين فكرته المركزية عن الغموض، وكذلك على سبيل بلوغ درجة عليا من التكامل بين ويتمان ودرويش وولف. وأجدني هنا أعود إلى فقرة ثمينة حول الغموض، جاءت في مقدّمة الراحل للمختارات الشعرية التي صدرت سنة 2000 بالفرنسية تحت عنوان La terre nous est étroite et autres poèmes، "تضيق بنا الأرض". كتب درويش: "ليس الغموض هدف الشاعر. لكنه ينتج عن التوتر بين حركة القصيدة وما يحركها من فكر، وعن التوتر بين حالتها النثرية وحالتها الإيقاعية. وهذا الغموض الشبيه بإيماءات الظلال، هو أحد أشكال صراع اللغة الشعرية مع الواقع الذي لم يعد الشعر مشغولاً بوصفه، بل بالنفاذ إلى جوهره، وبصراع اللغة مع مرجعياتها. ولعلّ هذا النوع من الغموض هو الفضاء المفتوح لدور القارئ في منح القصيدة حياةً ثانية، إذْ يوفّر لها دوراً إبداعياً في القراءة والتأويل، بدلاً من تلقي الرسالة كاملة نهائية. فليس هذا الغموض نقيض الوضوح، بل نقيض الوضوح التعليمي الذي يترك القارئ عاطلاً عن العمل".
والراحل، الذي امتلك معارف نقدية عميقة وترك تنظيرات رفيعة حول الشعر والشعرية، أوجز في هذه الفقرة ــ على مألوف عادته، ونثره المثقف الفريد، حين يجنح إلى التأمل النقدي ــ جوهر ذلك الوضوح الأقصى الذي يُنتج الغموض في القصيدة؛ خاصة وأنّ درويش رأى، منذ "ورد أقلّ" على نحو خاصّ، أنّ "اللغة في الشعر ليست وسيلة أو أداة فقط لنقل المعنى، والمعنى في الشعر ليس سابقاً لبنية القصيدة".
وعلى أعتاب الذكرى العاشرة لرحيله، ثمة الكثير الذي يتوجب تلمّسه في إيماءات الظلال، خلف تجربة شعرية فذّة ظلّ صاحبها يتعلم "المشي العسير على الطريق الطويل إلى قصيدتي التي لم أكتبها بعد". 
5/8/2018

غسان كنفاني وسجالات الستينيات

في أواخر الخمسينيات ومطالع الستينيات من القرن الماضي، كان غسان كنفاني (1936 ـ 1972)، الروائي والقاصّ والصحافي والناشط السياسي الفلسطيني التي تحلّ ذكرى استشهاده هذه الأيام، يغطي من دمشق وبيروت أنشطة ثقافية مختلفة، ينشرها في دوريات سورية ولبنانية. كما شارك في نقاشات نظرية تحت عناوين مثل "الحرب الطبقية والتقدم الاشتراكي"، و"السلوك العقائدي والقضية العربية"، و"قوى الثورة العربية"... من موقعه العقائدي في حركة القوميين العرب.
ولعلّ المثال الصالح لإلقاء الضوء على ذلك المسار، تحديداً، كان ردّ كنفاني على رئيف خوري؛ بصدد قضية بوريس باسترناك وفوزه بجائزة نوبل للأدب، عام 1958، على خلفية روايته الإشكالية "دكتور جيفاغو". ففي مجلة "الآداب" اللبنانية، العدد 2، شباط (فبراير) 1959، كتب خوري مقالة بعنوان "في قضية الدكتور جيفاغو"؛ اعترف فيها، أوّلاً، أنه لم يقرأ الرواية ولكن قرأ شعر باسترناك مترجماً إلى الإنكليزية، ورأى أنه "شعر لا يوحي بأنّ باسترناك أديب في مستوى جائزة نوبل على نحو ما نتصور مستوى هذه الجائزة. وقد يكون أنّ الترجمة نالت من روعة شعره. وقد يكون أنّ باسترناك كاتب روائي أكبر منه شاعراً". لهذا يميل خوري إلى الاعتقاد بأنّ الكتاب "لم يمنح الجائزة إلا للون من ألوان الدعاوة السياسية"، ويعتبر أنّ "من حقّ أي أديب سوفياتي، أو غير سوفياتي، أن يناقش باسترناك ويأخذ عليه المآخذ فيما يتعلق بمسؤولية الأديب". لكنه، في المقابل، يسجّل هذا الموقف: "أمّا أن يطلب الأدباء السوفياتيون من الدولة أن تجرد باسترناك من جنسيته وتخرجه من وطنه، فهذا ما لم نفهمه ولم نقرّه! ففي ميدان الخلاف الأدبي تتصادم الأفكار، وتعترك الأقلام، وهذا من الحرية في الصميم، بل هو شرط أساسي لجلاء الحقيقة".
في العدد الثالث من المجلة، ردّ على خوري كلّ من عبد الله عبد الدايم ومحمد كشلي وباسم عبد الحميد حمودي؛ وفي العدد الخامس دخل كنفاني على خطّ النقاش، مبتدئاً من اتهام قاسٍ: "إنني مضطر للقول إنّ رئيف الخوري قد اتخذ موقفه من الدكتور جيفاغو سلفاً، ويستطيع أي قارئ أن يحس جهد الأستاذ الخوري في البحث عن نقاط الضعف لمجرد أنه يريد إهانة القصة (...) ولو كان مقال الأستاذ الخوري أطول قليلاً لقادنا في أغلب الظن لانتقاد حياة باسترناك العائلية وعلاقته مع زوجته ـ كما فعل بعض من عالج مستوى القصة الفني ـ في سبيل أن يقول إن الدكتور جيفاغو قصة فاشلة!". ويمضي كنفاني أبعد، فيضيف: "إن القارئ يستنتج من مقال الأستاذ الخوري أنه يريد من باسترناك أن يكون صورة طبق الأصل عن كافة الأدباء الذين مجدوا النظام ومثلوا دور الطائع النموذجي ويستنكر هذا النشاز في السيمفونية الاشتراكية الكبرى".
واضح، بالطبع، أنّ كنفاني (وكان يومئذ في الثالثة والعشرين من عمره، للتذكير) يمزج في هذا الردّ بين ثلاثة عناصر: إعلان الاختلاف، والتهكم (وله الحقّ في الخيارين)، وتقويل خوري ما لم يقله البتة (وذاك منزلق في السجال غير مستحبّ). الواضح أكثر، وليس بين السطور فقط، أنّ كنفاني يسلّح خلافه (الأدبي) مع رأي خوري في أدب باسترناك، بخلاف آخر (سياسي وعقائدي) مع ناقد "كاد يطلب من باسترناك أن يتبنى نظرة الحزب الشيوعي لثورة أكتوبر، ويؤلف قصته الدكتور جيفاغو حسب العمود الماركسي المقرر". لم يكن خوري قد ذهب هذا المذهب، غنيّ عن القول، ورغم انحيازه الصريح إلى "ثورة أكتوبر الاشتراكية الكبرى"، فقد كتب بجلاء أنّ ثورة كهذه "لن يضيرها أن يستعمل أديب كباسترناك أو غيره، حرّيته الجزئية، ليعرّض بثورة أكتوبر، مخطئاً أو مصيباً، في رواية يكتبها".
في ميدان ثقافي آخر، نشرت شهرية "المعرفة" السورية، في العدد 8، آب (أغسطس) 1962، تعليقاً من كنفاني على مسرحية الرحابنة "جسر القمر"؛ كان إيجابياً بصفة عامة، لكنه انتهى بملاحظات ناقدة، سوف تبدو مفاجئة من أديب سيتخذ مسارات تجديدية وحداثية لا تخفى، خاصة في قراءته لمشهد الشعر في الداخل الفلسطيني. على سبيل المثال، اعتبر كنفاني أنّ في بعض مقاطع المسرحية "مسحة من النثر، ومن الطبيعي أنّ ذلك يتضح بعنف في مهرجان فولكلوري مثل مهرجان بعلبك، فمن المعروف أنّ الوزن والإيقاع الغنائي هما كنز فولكلوري كبير، وأنه من الصعب أن نخلق فولكلوراً دون الاهتمام بالإيقاع التاريخي الذي يعطيه هذه الصفة". المدهش أنّ "النثرية" التي أشار إليها كنفاني كانت هذه: "يا شيخ المشايخ/ رح قلك هالكلمي/ صوت المعول أحلى/ من رنين السيف/ والرضى أحلى من الزعل/ والكلام كنز الكنوز"!
وهكذا فإنّ تلك الحقبة من حياة كنفاني جديرة بدراسة معمقة، لا تضع في الحسبان تطوّر مهاراته النقدية، وميادين إنضاج ذائقته الجمالية، فحسب؛ بل تُدرج، كذلك، المسار الفكري والإيديولوجي الذي سوف يقرّبه أكثر من يسار ستعتمده "الجبهة الشعبية" لاحقاً، بتأثيرات جورج حبش أوّلاً، وهو اليسار ذاته الذي سوف يبعده منطقياً عن الانحيازات القومية التي طبعت أفكاره وتأملاته المبكرة. والتعمق يليق، دائماً، بالنقلات الفريدة التي اتخذتها مسارات حياة الشهيد الكبير.
15/7/2018