وعزّ الشرق أوّله دمشق

الخميس، 31 يناير 2019

قواعد الاشتباك الإسرائيلية: مقوّمات العربدة

أشارت تقارير صحفية إلى أنّ السفارة الأمريكية في بغداد حذّرت السلطات العراقية من احتمال قيام دولة الاحتلال الإسرائيلي بقصف مواقع داخل الأراضي العراقية، تابعة لـ"الحشد الشعبي" ويديرها "الحرس الثوري" الإيراني بالطبع، تأوي مصانع أسلحة صاروخية مخصصة للتصدير إلى "حزب الله" اللبناني. فإذا صدقت هذه الأنباء، ووضع المرء في الاعتبار حقيقة أنّ واشنطن يندر أن تُفشل مسبقاً عمليات أمنية إسرائيلية حساسة، فإنّ المراد هو متابعة الضغط الأمريكي على الحكومة العراقية بصدد نفوذ إيران، عبر منظمات مثل "الحشد"، وميليشيات أخرى تدور في فلك طهران.
وكان وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو قد ألمح، أثناء اجتماع مع رئيس الوزراء العراقي عادل عبد المهدي في بغداد مطلع الشهر، إلى أنّ واشنطن لن تتدخل ضدّ هجمات كهذه. كما نقل تقديراً إسرائيلياً صريحاً يفيد بأنه من غير المجدي قصف فصائل "الحشد" داخل سوريا (على غرار ما فعل الطيران الحربي الإسرائيلي في حزيران/ يونيو الماضي، شرق دير الزور)؛ لأنها "تعود كلّ مرة إلى تنظيم صفوفها، والانطلاق من العراق مجدداً".
وهكذا، بين عربدة، باتت دائمة ومتواصلة، في أجواء سوريا جنوباً وشرقاً وغرباً؛ وتدمير أنفاق "حزب الله" في الجنوب اللبناني، والانطلاق من الأجواء اللبنانية لقصف سوريا والعراق، الأمر الذي يرقى إلى أعمال الحرب الصريحة؛ ثمّ القصف، أيضاً، في العمق العراقي وليس على الحدود السورية ــ العراقية وحدها... تواصل دولة الاحتلال تثبيت قواعد اشتباك مع إيران، هي بمثابة مقوّمات واضحة المعالم، متماسكة العناصر، عالية الفاعلية، لا رادع لها ولا رقيب أو حسيب!
إنها، بادئ ذي بدء، تحظى بمصادقة واشنطن، وسكوت موسكو، وإغضاء أنقرة؛ بالنظر إلى أنّ الطيران الحربي الإسرائيلي يتفادى، بمهارة واحتراف، ارتكاب "الضرر المجاور" حين يقصف هنا وهناك، فلا يصيب التحالف الدولي ولا الروس ولا الأتراك. وحين يقع المحظور (كما في إسقاط طائرة "إيل ـ 20" الروسية في سماء الساحل السوري، أيلول/ سبتمبر الماضي)، فإنّ الخطأ وقع من جانب بطاريات النظام السوري، والحادثة ذات "أسباب عارضة" حسب تعبير الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
وهي، تالياً، قواعد اشتباك تخدم غرضاً ستراتيجياً تتفق عليه القوى الكبرى الثلاث المنخرطة في الملفّ السوري راهناً، أمريكا وروسيا وتركيا؛ أي تحجيم النفوذ الإيراني، العسكري بصفة خاصة، على الأرض في سوريا؛ وخفض أوراق طهران عندما يحين أوان المحاصصة الفعلية وتقاسم الراهن والمستقبلي في البلد، وربما على نطاق الـLevant بأسره، وفقاً للتعبير العجيب الذي أحياه مؤخراً الرئيس الفرنسي إمانويل ماكرون.
والقواعد، ثالثاً، لا تتوسل إشعال حرب إيرانية ــ إسرائيلية فعلية، شاملة، أو ساحقة ماحقة كما يقول التوصيف الشهير؛ بل هي نزالات مصغّرة تقصّ، ولا تقلّم فقط، أيّ أظافر إيرانية يمكن أن تستطيل أو تتقوى على امتداد كامل النطاق الجيو ــ سياسي الذي يقرّر الكيان الإسرائيلي أنّ خطوطه حمراء بالنسبة إلى أمنها. وبهذا فإنّ الغرض ليس استهداف قاسم سليماني شخصياً، ومثله حسن نصر الله، أو أبو مهدي المهندس قائد "الحشد" الفعلي؛ ولا حتى المقارّ، على الأراضي السورية، التي تختزن رموزاً "سيادية" إيرانية، مذهبية أو استخباراتية. 
والقواعد، رابعاً، تعتمد في العمق السياسي على تبعية أنظمة عربية متهالكة مستبدة، فاسدة وفاشلة، تغدق مئات المليارات على عقود أسلحة لا يلوح أنها سوف تُستخدم في أيّ يوم، إلا ضدّ الشعوب. وتنخرط، سعيدة أو صاغرة، في مشاريع وصفقات تعلن تسوية النزاعات، لكنها تستبطن تصفية القضايا وإهدار الحقوق؛ فضلاً عن تورطها في صراعات عسكرية عربية وإقليمية، غايتها العظمى الأولى هي تهدئة المخاوف الداخلية إزاء آفاق انتفاض الشعوب وثوراتها.
فمنذا الذي يمكن أن يواجه دولة الاحتلال الإسرائيلي اليوم، في سوريا أو في العراق أو في تلك الجثة الهامدة التي سُمّيت ذات يوم بـ"المقاومة اللبنانية"؟ وما الذي ينقص الكيان، أو ينغّص عليه، بعد اعتراف عبد الفتاح السيسي بأنّ الطيران الحربي الإسرائيلي يعمل في سيناء برخصة من... الرئاسة المصرية؟ 
 26/1/2019

بوتين وأردوغان: أبعد من ذرّ الرماد في الأعين

في أوائل كانون الأول (ديسمبر) 2015، كتبتُ التالي في أعمدة هذه الصحيفة، بصدد تسخين التوتر بين الرئيس الروسي (القيصر) فلاديمير بوتين والرئيس التركي (السلطان) رجب طيب أردوغان: "ما خلا الصاروخ التركي الذي أسقط الـسوخوي 24، فإنّ الحرب الراهنة بين السلطان والقيصر لن تتجاوز التراشق باللفظ والاتهامات والعقوبات الاقتصادية الرمزية، التي تهيّج الجموع بهدف التغطية على صراع الأجندات الإقليمي، وعلى الأرض السورية تحديداً". وأضفتُ أنه كان في وسع الرئيس التركي أن يأمر طيّاريه بأنْ يغضوا الطرف عن اختراق القاذفة الروسية للأجواء التركية، والذي لم يستغرق سوى حفنة من الثواني؛ بل كان ممكناً إتمام مطاردة الـ"سوخوي" في الأجواء التركية، وإجبارها على الانسحاب نحو مطار حميميم، مما يحوّل الواقعة إلى انتصار عسكري ودبلوماسي ربما، دون إسقاط الطائرة.
لكنّ أردوغان، وكان هذا أيضاً يقيني الذي سجّلته يومذاك في المقال ذاته، بات طليق اليدين بعد الانتصار الساحق في الانتخابات التشريعية؛ وبالتالي أراد تنبيه الجميع إلى أنّ تركيا تنوي الدخول في "المعمعة" الإقليمية بقوّة، أسوة بإيران وروسيا والولايات المتحدة. ليس هذا فحسب، بل إنّ تقدّم فوج تركي مدرّع إلى عمق الأراضي العراقية، في محيط الموصل، كان يؤكد عزم أنقرة على المضيّ في الهدف الأبرز من اقتحامها للمشهد المعقد: فرض واقع عسكري على الأرض، مباشرة أو عبر حلفاء محليين، يخلق "منطقة عازلة" كفيلة بكسر حلقات اتصال أي كيان كردي مستقلّ، في الشمال السوري أوّلاً؛ كما يضيّق الخناق، استطراداً، على كتائب "حزب العمال الكردستاني" أينما تواجدت في البلدين.
استعيد ذلك التقدير، اليوم، في ضوء اللقاءات المتعاقبة، الناجحة في تسعة أعشارها، بين أردوغان وبوتين؛ وبالنظر إلى أنّ العلاقات التركية ــ الروسية لا تبدو أحسن مما كانت عليه في أيّ يوم مضى، على أصعدة اقتصادية وتجارية وتكنولوجية لا تقلّ أهمية عن الوفاق، والتوافق، حول ملفات متفجرة مثل أوضاع محافظة إدلب، وتفاهمات سوشي وأستانة، والقضية الكردية، و... المنطقة العازلة، على الحدود السورية ــ التركية. مَنْ يتحلى بفهم الحدّ الأدنى لمبدأ الواقعية في السياسة، أو ما يطلق عليه القاموس الدبلوماسي صفة الـRealpolitik في العلاقات الدولية؛ لن تصيبه الحيرة وهو يقارن مناخات أواخر 2015 (حين أعلن بوتين أنّ تركيا ستندم على إسقاط الطائرة الروسية، وأنّ معاقبتها لن تكون فقط بتقليص التبادل التجاري)؛ بمناخات أواخر 2018 (حين صرّح بوتين نفسه، في قمّة بيونس آيريس: "أظهرت تركيا مجدداً أنها تتبع سياسة خارجية مستقلة، وهي حليفنا الموثوق").
والقمة الأخيرة بين الرئيسين، في موسكو هذه المرّة وليس في سوشي على جري العادة، أظهرت عنصراً مدهشاً، إضافياً، في هذا الازدهار المضطرد للعلاقات التركية ــ الروسية: أنهما يمكن أن يتفقا، أو يتوافقا أو يتصالحا، بخصوص أمر يبدو كلّ منهما واقفاً فيه على طرفَيْ نقيض، من حيث المظهر والشكل بادئ ذي بدء؛ ولأنه، تالياً، مقترح أمريكي المنشأ، يتوجب ألا تلتقي حوله موسكو وأنقرة بهذه الدرجة من الصفو والصفاء. ذلك الأمر هو مشروع المنطقة العازلة، الذي طرحه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في واحدة من تغريداته، كمنفذ نجاة لتخليص واشنطن من حرج سحب القوات الأمريكية من سوريا دون ضمانات كافية للحلفاء الكرد في صفوف "وحدات دفاع الشعب" و"قوات سوريا الديمقراطية". أردوغان قفز على المشروع، دون إبطاء، وأعلن أنّ بلاده يمكن أن تنفّذ وتدير منطقة عازلة بعرض 32 كم، تكفل ردّ الفصائل الكردية إلى عمق سوري داخلي، وربما خارج شريط شرقي الفرات، وتبسط الاحتلال التركي للأراضي السورية نحو مساحات أوسع.
لم يكن هذا الاقتناص التركي مدهشاً، بالطبع، ليس لأنه يتماشى مع المصالح التركية ويخدم مشروع تحجيم الكرد في المناطق المحاذية، فحسب؛ بل كذلك لأنه، أغلب الظنّ، كان نتاج تفاهم مباشر بين أردوغان وترامب، حول المنفذ الذي يحفظ ماء وجه قوّات اليانكي المنسحبة من منبج وشرق الفرات ومناطق "الجزيرة" السورية. الجدير بإثارة الدهشة، في المقابل، هو صمت بوتين على هذا التفصيل الحاسم أثناء المؤتمر الصحفي مع أردوغان، مقابل تشديد الأخير على أنّ أنقرة سوف تقيم تلك المنطقة العازلة، وأنّ أعمال إنشائها متواصلة بالفعل، وهي استطراداً ليست مجرّد حبر على ورق أو خزعبلات تغريدة ترامبية! كيف حدث أنّ بوتين تغافل، عامداً بالطبع، عن الخوض في هذا الأمر والموقف الروسي الرسمي لا يزال يتبنى قاعدة بسط النظام السوري نفوذه على كامل التراب الوطني السوري؟ وكيف هذا، إذا كان وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف قد أعاد التأكيد، قبل أيام قليلة فقط، على أنّ "الحلّ الأفضل والوحيد هو نقل هذه الأراضي إلى سيطرة الحكومة السورية وقوات الأمن السورية والهياكل الإدارية"؛ مضيفاً أنّ بلاده ترحب بـ"الاتصالات التي بدأت للتوّ بين الممثلين الكرد والسلطات السورية بحيث يعود هؤلاء إلى حياتهم تحت حكومة واحدة ودون تدخل خارجي"؟
السرّ، المفتضَح تماماً في الواقع، هو أنّ أنقرة باتت اللاعب الأوّل والأكبر اليوم في محافظة إدلب، والشمال الغربي السوري إجمالاً؛ وليس التنازل الروسي لتركيا حول مشروع المنطقة العازلة سوى قسط أوّل من دفعات سوف تتوالى، وتحتاجها موسكو ضمن ترتيبات أبعد أثراً وأطول مدىً، بصدد عشرات الآلاف من مقاتلي "هيئة تحرير الشام" المتكدسين في مختلف أرجاء المحافظة، وكذلك آلاف المقاتلين "المعتدلين" في صفوف بقايا الجيش السوري الحرّ والفصائل الإسلامية. هذا إذا افترض المرء حسن النيّة لدى موسكو، تجاه الكرد أوّلاً، ثمّ تجاه إيران بوصفها الضامن الثالث لتفاهمات أستانة (ولكن أيضاً: الفريق الإقليمي الذي يسلّح ويموّل ويدير الميليشيات الشيعية التي تعكّر صفو ترتيبات موسكو مع قوّات "النمر" والميليشيات المحلية الخاضعة لنفوذ قاعدة حميميم الروسية في محافظة حماة وسهل الغاب). ولم يكن مستغرباً، والحال هذه، أن يتبرع بوتين باستضافة قمة جديدة ثلاثية، تجمعه مع أردوغان والرئيس الإيراني حسن روحاني، " للوصول إلى حل دائم في سوريا"، كما قال؛ ولكن بغية ذرّ المزيد من الرماد في الأعين، كما لم يقلْ.
مَنْ، في ضوء تطورات الموقف التركي من الملفّ السوري منذ انطلاق الانتفاضة الشعبية السورية قبل ثماني سنوات، ثمّ بعد إسقاط طائرة الـ"سوخوي" الروسية قبل أكثر من ثلاث سنوات؛ يمكن أن يرتاب اليوم في أنّ أردوغان أنجز فعلياً ما كان قد طمح إليه، وخطط له بمهارة: أن يُدخل تركيا في "المعمعة" الإقليمية بقوّة، عبر الملفّ السوري، وأن يباري إيران وروسيا والولايات المتحدة، وأن يصبح الاحتلال التركي خامس احتلالات إسرائيلية وإيرانية وروسية وأمريكية؟ وفي غمرة المدّ والجزر على صعيد العلاقات التركية ــ الأمريكية، إذْ تتدهور تارة لتتحسن تارة أخرى، مَنْ كان ينتظر من تركيا امتلاك هذا الهامش الواسع للمناورة بين الأصدقاء والخصوم والحلفاء؟
قبل هذا كلّه، أي قبل اقتناص ما تيسّر من أوراق في ملفّ الشمال السوري، كانت تركيا تغذّ الخطى نحو احتلال موقع بدت معالمه أبعد نطاقاً، وأوسع نفوذاً، من ذاك الذي يمكن أن تطمح إليه قوّة أقليمية. وكان داود أوغلو، حكيم "حزب العدالة والتنمية" الذي غادر المنصب دون أن تغادر فلسفتُه النفوس، يحلم لبلده بموقع القوّة الدولية أوّلاً، السياسية والاقتصادية والعسكرية والثقافية؛ ولا يخاله المرء كان واهماً حين أبصر في شخص أردوغان ذلك السلطان المتربع على سلطنة كونية تجمع صداقة/ خصومة واشنطن وموسكو وحلف الناتو وطهران، معاً؛ فضلاً عن... إغضاء تل أبيب!
 24/1/2019

أربعون الثورة الإيرانية: زراعة بني صدر وحصاد سليماني

في سنة 1979، وتحت عنوان "تحية إلى الثورة الإيرانية"، كتب أدونيس (الشاعر السوري، النصيري بالولادة): "أفقٌ، ثورةٌ، والطغاةُ شَتات/ كيف أروي لإيران حبي/ والذي في زفيري/ والذي في شهيقي/ تعجز عن قوله الكلمات/ سأُغنّي لقُمٍّ لكي تتحول في صبواتي/ نارَ عصفٍ، تطوف حول الخليج/ وأقول المدى والنشيج/ شعب إيران يكتب للشرق فاتحةَ الممكنات/ شعب إيران يكتب للغرب وجهُكُ يا غربُ مات/ شعب إيران شرقٌ تأصلَّ في أرضنا ونبيّ/ إنه رفضنا المؤسِسُ، ميثاقنا العربي".
ولكي لا يبقى أدونيس وحده في الميدان، فيُعزى حماسه المشبوب هذا إلى نوازع مذهبية، كتب نزار قباني (الشاعر السوري، السنّي بالولادة)، ممتدحاً الثورة ذاتها: "زهّر اللوز في حدائق شيراز/ وأنهى المعذبون الصياما/ ها هم الفرس قد أطاحوا بكسرى/ بعد قهر، وزلزلوا الأصناما/ شاهُ مصر يبكي على شاه إيران/ فأسوان ملجأ لليتامى/ والخميني يرفع الله سيفاً/ ويغنّي النبيّ والإسلاما".
على الجبهة السياسية السورية، المعارِضة تحديداً، صدرت صحيفة "نضال الشعب"، المطبوعة السرّية الناطقة بلسان اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوري ـ المكتب السياسي (كما كان يُعرف يومذاك، قبل أن يتبنى الاسم الجديد "حزب الشعب الديمقراطي"، بقرار من المؤتمر السادس، ربيع 2005)؛ وقد حملت على صفحتها الأولى ثلاث موادّ خاصة بانتصار الثورة الإيرانية، ذات نبرة احتفائية عالية. "وجاءت القارعة"، "الثورة الإيرانية المنتصرة تضع إيران على درب الحرية والديمقراطية والتقدم"، و"أصداء أولى للثورة الإيرانية". وإذْ كانت الموادّ تهلل للثورة الإيرانية، من حيث النبرة المعلنة، فإنّ النبرة الضمنية كانت تشير إلى استبداد حافظ الأسد: "الوضع الإيراني مرتب، لا مجال لاختراقه. ومع ذلك تبيّن أنّ هذا البنيان العظيم ضعيف الأساس. لقد تهاوى حجراً إثر حجر، فيا للثورة المظفرة! لقد تفجرت إرادة الملايين من الناس مرّة واحدة ضدّ الظلم والظلام. ملك الملوك أصبح لاجئاً عند أحد الملوك العرب الضالين، ذلك أنّ شبه الشيء منجذب إليه. ينسى الطغاة دائماً وأبداً درس التاريخ البسيط المكرر: العدل أساس الملك"....
اليوم، بعد 40 سنة على ذلك الحماس، حصد نظام آل الأسد، الأب والابن الوريث معاً، ما حصدته غالبية أبناء سوريا من المآلات الراهنة للثورة الإيرانية: التدخل العسكري المباشر لصالح النظام، عبر "الحرس الثوري" وفيالق الجنرال قاسم سليمان، أو عبر عشرات الميليشيات المذهبية التي يتصدرها "حزب الله" اللبناني. واليوم، لأسباب لا صلة لها بموقف إيران من النظام السوري أو انتفاضة آذار (مارس) 2011؛ يصعب أن يتوقف أدونيس عند الذكرى الأربعين للثورة الإيرانية طبقاً لمنطق العام 1979، وبروحية وجه الغرب الذي مات، أو أنّ شعب إيران هو النبيّ والرفض المؤسِّس والميثاق العربي. وأمّا "حزب الشعب الديمقراطي" فلم يعد يرى في تلك الثورة أقلّ من نظام آيات الله الثيوقراطي المذهبي الاستبدادي، المساند لأنظمة الاستبداد والفساد؛ وهذا شبيه بمواقف معظم اليسار السوري المعارض، حتى حين يرى البعض ذريعة ما، تمرّ من ثقوبها خرافات "الممانعة" و"محور المقاومة".
لكنّ الجوهري أكثر هو ما آلت إليه تلك الثورة في حياضها الإيراني تحديداً، وكيف تسارعت انقلاباتها الداخلية على ذاتها فلم تتوقف ــ منذ شباط (فبراير) 1979، حين عاد آيد الله روح الله الخميني من منفاه الفرنسي إلى طهران ــ عن التهام صنّاعها تباعاً، ثمّ الإجهاز على أبنائها المقرّبين، وصولاً إلى خيانة آمال تلك الشرائح الشعبية التي انخرطت فيها وظلت رائدة لها حتى تكفلت بانتصارها. السيرورة ابتدأت من رهط الإصلاحيين الأوائل، رئيس الوزراء الأوّل مهدي بازركان، ورئيس الجمهورية الأول أبو الحسن بني صدر؛ إذْ لم يمض زمن طويل، يُعدّ بالاشهر في الواقع، وليس بالسنوات، حتى كشّر آيات الله عن الأنياب الحقيقية، المحافظة والمتشددة والمستبدة، التي تمقت الحريات العامة وتبغض الحقوق المدنية وتحارب الرأي الآخر وتسعى إلى قتله في المهد.
الأوّل كان ابن تاجر أذربيجاني مرموق، درس الهندسة الحرارية في باريس، وعاد إلى جامعة طهران ليتولى عمادة كلية التكنولوجيا، ويقود سلسلة احتجاجات ضدّ الشاه ودعماً لحركة محمد مصدّق. ورغم سجنه مراراً لم يتوقف بازركان عن ممارسة الأنشطة المعارضة، فأسس "حركة المقاومة الوطنية" سنة 1953، و"حركة التحرر الوطنية" سنة 1961؛ وبالتالي كان في طليعة قادة التظاهرات المبكرة في طهران، التي آذنت بأفول عهد الشاه. وكان أمراً طبيعياً أن يختاره الخميني لرئاسة أوّل حكومة مؤقتة، ثمّ كان أمراً طبيعياً كذلك أن يناهضه المحافظون المتشددون، هاشمي رفسنجاني وعلي خامنئي، على خلفية خططه الاقتصادية، ومعارضته لواقعة رهائن السفارة الأمريكية. وهكذا، بعد تسعة أشهر في المنصب، تقدّم بازركان باستقالته فقبلها الخميني؛ وتابع خصومه التنكيل به إلى درجة منعه من الترشيح لانتخابات الرئاسة في دورة 1985، فكان المنفى السويسري هو الخيار الوحيد المتبقي أمامه، حيث قضى في زيورخ سنة 1995.
الثاني كان أحد أبرز قادة المعارضة الطلابية لنظام الشاه، وقد سُجن مرتين، وجُرح خلال انتفاضة 1963 المجهضة، والذي درس الاقتصاد في جامعة السوربون وآمن بتلك الثنائية العصية التي تجمع الاقتصاد القومي بالإسلامي، وكان في عداد قلّة من العائدين مع الخميني على الطائرة ذاتها. ومن موقعه، الشرعي المنتخَب، كرئيس للجمهورية، ورئيس للمجلس الثوري بقرار من الخميني، توجّب على بني صدر أن يجابه المحافظين إياهم، رفسنجاني وخامنئي؛ فكتب إلى الخميني تلك الرسالة الشهيرة التي تقول إنّ عجز الوزراء المحافظين أشدّ خطورة على الثورة من الحرب مع العراق، كما عارض الإبقاء على رهائن السفارة الأمريكية، فلقي من البرلمان المحافظ المصير الطبيعي: الإدانة بتهمة العجز والتقصير، والإقصاء من الرئاسة، و... الفرار مجدداً إلى فرنسا، تحت جنح الظلام، بعد أقلّ من سنتين على انتخابه.
من الإنصاف الافتراض، إذن، أنّ الزراعة الريادية، التي دشنها أمثال بازركان وبني صدر؛ سوف يؤول حصادها إلى المرشد الأعلى الراهن علي خامنئي، وإلى جنرالات "الحرس الثوري" أمثال قاسم سليماني. هذا على مستوى الأمن والسياسة والأدوار الإقليمية، وأمّا على صعيد الاجتماع البشري والعقيدة، فإنّ مبدأ "الوليّ الفقيه" هو الضمانة العليا لاستمرار آيات الله في الاستئثار بالسلطات، كافة في الواقع. هذا المبدأ/ القانون هو الركيزة الكبرى في صرح المدرسة الخمينية، وخلافتها الخامنئية، وليست مبالغة أن يساجل المرء اليوم أنّ الأمل منعدم في السير خطوات أبعد على الطريق الذي وُعدت به إيران في مثل هذه الأيام من سنة 1979، وتحقيق انفراج داخلي إيراني، سياسي واجتماعي واقتصادي وثقافي؛ ما لم يقف الإيرانيون موقف مراجعة راديكالية شاملة لعلاقة هذا المبدأ بالحياة والحقّ والحقوق.
ففي نهاية المطاف، هذا مبدأ في "الحكم الإسلامي" صاغه الإمام الخميني على عجل سنة 1971، حين كان منفياً في مدينة النجف العراقية، وخضع منذ البدء لأخذ وردّ، واختلف فيه وحوله عدد كبير من فقهاء الشيعة. الثابت، مع ذلك، أنّ خامنئي هو اليوم أشدّ المدافعين عنه، وأبرز المتمسكين بالنصّ عليه في الدستور، بل وتشديد وتوسيع صلاحيات الوليّ الفقيه المنصوص عنها حالياً. الأسباب جلية، لا تخصّ الفقه بقدر ما تُبقي على ميزان القوّة في صفّ السلطة الدينية، على حساب السلطات المدنية؛ الأمر الذي يفسّر الحماس للمبدأ في صفوف "حزب الله"، وحسن نصر الله شخصياً.
ذلك لأنه المبدأ الذي يحيل زراعة الاقتصادي بني صدر، إلى حصاد بمنجل الجنرال سليماني!
 17/1/2019

تركيا في إدلب: لعبة الخصم والحَكَم

ثمة استيهامات عديدة تكتنف حضور "هيئة تحرير الشام"، "هتش" في السطور التالية، على امتداد الشمال الغربي من سوريا، وفي محافظة إدلب وريف حلب الغربي تحديداً؛ في عدادها، أو على رأسها ربما، ما يتردد من أنها اللاعب العسكري الأوّل على الأرض. ذلك صحيح، في كثير أو قليل، ولكنه ليس البتة منفصلاً عن الحقيقة الأكبر على الأرض أيضاً، بل هو مشروط بها وخاضع لها: أنّ تركيا، متمثلة في جيشها النظامي أساساً، ثمّ الفصائل المنضوية تحت سلطة الآمر التركي ثانياً، هي اللاعب الأعلى: عسكرياً وسياسياً واقتصادياً، محلياً وإقليمياً ودولياً.
بهذا المعنى، وطبقاً للحقائق الميدانية الصلبة التي تكشفت خلال عمليات "هتش" العسكرية الأخيرة، يتضح زيف ما قيل عن تعهد أنقرة، ضمن سلسلة تفاهمات سوشي وأستانة مع روسيا وإيران (وبلسان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان شخصياً، كما جزم بعض النطاسيين!) بتحجيم "هتش" عسكرياً في الشمال الغربي، حتى لو اقتضى الأمر توجيه ضربات عسكرية لها، مصغّرة أو وسطى ولكن منهجية ومتلاحقة. فالمنطق يقول إنّ بقاء كتائب الجولاني، في هيئة كابوس فعلي هنا أو متخيَّل هناك، مصلحةٌ تركية مفتوحة لأنها ببساطة مترابطة مع أغراض أنقرة الجيو ــ سياسية والعسكرية الأهمّ في الشمال السوري، أي تصفية نفوذ الـPKK هناك، وإقامة ما يشبه المنطقة العازلة شرق الفرات، وربما على امتداد الحدود السورية ــ التركية، والبقاء مثل حجر ثقيل يتوسط طاولة تقاسمات النفوذ في سوريا.
ويتناسى الكثيرون، والبعض يتغافل عن الأمر عامداً أغلب الظنّ، أنّ تركيا تدير 12 مركز مراقبة (أي: إشراف وتحكّم وسيطرة)، تمتدّ من أطراف حلب وحتى تخوم محافظة اللاذقية، مارّة بشمال محافظة حماة؛ وأنّ هذه تجاوزت، منذ برهة تأسيسها في الواقع، صيغة "النقاط" التي تمّ التفاهم عليها ضمن ترتيبات "مناطق خفض التصعيد"، فباتت أقرب إلى ثكنات ارتكاز وتحصين وانقضاض في آن. ومن الطريف، رغم قتامة دلالاته العسكرية والسياسية ــ أو حتى "العقائدية" لدى فصائل الجهاديين خاصة ــ أنّ عمليات "هتش" الأخيرة التي استهدفت "الزنكي" أو "أحرار الشام"، لم تتقاطع مرّة واحدة مع دروب أيّ من تلك الثكنات التركية، وإلا لانتهى التقاطع إلى صدام وقتال وعواقب...
وليس دون مفارقة صارخة أنّ "الجيش الوطني"، الذي أنشأته تركيا وينتشر في شمال حلب، اكتفى بالجعجعة اللفظية ضدّ "هتش"، والوعد بتشكيل "غرفة عمليات عسكرية" لمواجهة جحافل الجولاني الزاحفة؛ لكنه، في مثال حصار بلدة الأتارب قبيل اجتياحها، لم يحرّك ساكناً سوى ألسنة الناطقين باسمه، مكرراً معزوفة "رفع الجاهزية العسكرية"، ولكن في جبل الزاوية ومعرة النعمان وأريحا! هذه، بدورها، بصمة تركية لا تخفى، وهي تعيد التأكيد على أنّ اللاعب الأعلى هو الجيش التركي، وأنه يدير رقعة شطرنج مركبة يمكن أن تحتدم بين اللاعبين على الطرفين، ولكن بتوجيه من دماغ واحد وحيد.
ولم يكن ينقص هذا المشهد إلا شهادة إثبات، وتثبيت، جاءت من جون بولتون مستشار الأمن القومي الأمريكي، خلال زيارته الأخيرة إلى أنقرة؛ صحبة الجنرال جوزيف دنبر رئيس هيئة الأركان المشتركة، الذي يحدث أيضاً أنه أقرب جنرالات البنتاغون إلى مزاج الرئيس الأمريكي دونالد ترامب. وإذْ تشدّق بولتون بحرص أمريكا على أولئك الذين قاتلوا "داعش" تحت لوائها، وأنّ واشنطن تتفهم مخاوف تركيا الأمنية جراء وجود كرد الـPKK شرق الفرات؛ فإنه، في المقابل، كان صريحاً واضحاً حول انسحاب أمريكي وشيك، مبرمج على مدى زمني لا يتجاوز 120 يوماً.
بذلك، وكما في مناسبات سابقة ذات صلة بالتوسع التركي في عمق الأراضي السورية، لا يصحّ تنزيه اللاعب التركي عن أداء واحد من تلك الأدوار الكلاسيكية المناطة بكلّ احتلال عرفه التاريخ: المناورة عن طريق خصم محلي، فعلي أو افتراضي، "هتش" هنا؛ هو في واقع الأمر أداة مؤقتة، ضمن منظومة أدوات متكاملة الوظائف.    
 12/1/2019

حصيلة 2018 السورية: كوابيس إدلب وروليت موسكو

 افتُتح عام سوريا الجديد، 2019، بجولة جديدة من المواجهات العسكرية بين "جبهة النصرة"، أو "هيئة تحرير الشام" كما صارت تعرّف عن ذاتها في التسمية الراهنة، من جانب؛ وخمسة، على الأقلّ، من فصائل ما باتت تُعرف باسم "الجبهة الوطنية للتحرير". وليست مصادفة محضة أنّ العام المنصرم، 2018، افتُتح أيضاً بجولة أخرى من المواجهات على بطاح محافظة إدلب؛ دارت، يومذاك، بين "الهيئة" وتحالف روسيا وإيران والنظام السوري، وكان الهدف منها إبعاد رجال أبي محمد الجولاني نحو أطراف مدينة إدلب، وإخلاء القرى التي كانت "الهيئة" تحتلها. وكما أنّ تلك الجولة لم تحسم الكثير على الأرض لصالح التحالف الثلاثي، فإنّ الجولة الجديدة مرشحة لإراقة المزيد من دماء الجهاديين دون أن تسفر عن حسم ميداني ملموس أيضاً.
ومنذ أن: 1) تحوّلت المحافظة إلى "إمارة" جهادية، أُقصيت إليها غالبية المجموعات المسلحة الإسلامية التي هُزمت، أو استسلمت، هنا وهناك في جبهات أخرى؛ و2) ظهر الجولاني في ريف اللاذقية الشمالي وأعلن ولادة خمسة "جيوش" دفعة واحدة ("جيش الملاحم، جيش الساحل، جيش البادية، سرايا الساحل، وجند الشريعة)؛ انقلبت المحافظة إلى ميدان منتظَر لاندلاع أمّ المعارك: بين فصائل الجهاديين أنفسهم (حتى إذا تقنع بعضهم بمسمى "الجيش الحرّ")، في صفّ أوّل؛ والقوى الأخرى غير الجهادية في الساحة، من الفصائل الملحقة بالجيش التركي، إلى الميليشيات المذهبية التابعة لطهران، مروراً بتلك الطائفية الحليفة للنظام أو الموالية لموسكو، في صفّ ثانٍ. وأمّا العنوان الأبرز خلف هذا التجاذب الشديد، فهو ذلك الكابوس الذي يرغب الجميع في تفاديه، أو تأجيله، أو تخفيف كوارثه السياسية والعسكرية والديموغرافية: معركة الساحل الكبرى، حين لن يجد عشرات الآلاف من مقاتلي "الهيئة" مخرجاً آخر، أو أفضل، سوى الاستدارة نحو عمق الساحل، وخوض معارك ميدانية مصغّرة على مستوى القرية أو البلدة، واستخدام سلاح المدفعية وصواريخ الـ"غراد"، واعتماد تكتيك التوغل المحدود ذي الاستهداف الثقيل.
وكان الشهر الأوّل من العام المنصرم قد شهد مهزلة الشطر السياسي من مشروع التدخل الروسي في سوريا، حين ضرب الاستيهام دماغ سيرغي ناريشكين، رئيس جهاز الاستخبارات الروسية والمستشار الأوّل للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، فأقنع سيد الكرملين بأنّ مؤتمراً لا يدوم سوى ساعات قليلة، وجلسة واحدة، يُدعى إليه 1600 مندوب سوري؛ يمكن أن تشكّل فارقاً دراماتيكياً في معمار البناء السياسي لما بعد انتصارات موسكو العسكرية في سوريا. وتلك التفاصيل المزرية التي اكتنفت مؤتمر سوتشي، ولم تكن أكثرها إثارة للضحك وللاشمئزاز مشاهد التدافع على منصات الطعام، أشارت بجلاء أقصى إلى أنّ الشراكة الثلاثية، الروسية ــ الإيرانية ــ التركية، الضامنة لمنظومة أستانة (حول "الإصلاح الدستوري" و"الانتخابات الديمقراطية") ليست منعدمة التشارك، قياساً على تأثيرات كلّ دولة في مضمارها، فحسب؛ بل هي حقل التفخيخ الأوّل لكلّ مشروع تسوية أممي يمكن أن يتجاوز الثلاثي إلى ضامنين أوسع، وأغنى مليارات في الواقع، مثل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.
ذلك لم يمنع ناريشكين من مراضاة رئيسه عن طريق االبرهنة على أنّ قاعدة الروليت الروسية قد طُبّقت عبر ذلك المؤتمر المهزلة، من خلال نجاح جولات أستانة في تفريغ جولات جنيف/ فيينا من غالبية عناصرها، خاصة تلك التطبيقية (الحكم الانتقالي، مصير الأسد، إشراك المعارضة...). ليس لأنّ طاولات التفاوض تعددت وتبعثرت، بين موسكو وأستانة وسوتشي وأنقرة، فقط؛ بل أساساً لأنّ المرجعيات تبعثرت معها وتعددت واختلطت، فباتت قرارات الأمم المتحدة (حتى تلك التي سهر على صياغتها وزيرا الخارجية الأمريكي جون كيري ونظيره الروسي سيرغي لافروف) أثراً بعد عين، أو تكاد. وخلال 11 شهراً انقضت من العام 2018، شهدت تلك الشراكة تقلبات عديدة، فتجمدت تارة، أو اتخذت صفة بروتوكولية حصرية تارة أخرى، حتى انتهت إلى تفاهمات ثنائية روسية ــ تركية، أسفرت حتى اليوم عن جولات فوز متلاحقة لمشاريع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان؛ سواء في إطار تقليص نفوذ الكرد والـPKK، أو على صعيد توسيع أوراق اللعب التركية على الأرض السورية، ورفع أرصدة أنقرة في سباق الاقتسام والتقاسم. وإذا نفّذ الرئيس الأمريكي وعده فسحب القوات من مناطق انتشار "قوات سوريا الديمقراطية"، وعموم بؤر النفوذ الكردي، فإنّ منظومة أستانة ستلتحق بمنظومات جنيف وفيينا، انحناءً أمام قواعد الروليت الروسية إياها!
وفي ربيع العام المنصرم كانت عودة النظام إلى الغوطة الشرقية بمثابة تذكرة مأساوية بالعوائق التأسيسية، الخَلْقية على وجه التحديد، التي لازمت التيارات الجهادية منذ ابتداء صعودها؛ وربما باقتران مباشر مع استجابة رأس النظام السوري، بشار الأسد، إلى نصيحة الاستخبارات الروسية حول إطلاق سراح 1500 من معتقلي التيارات الإسلامية المختلفة. وكان طبيعياً أن يلجأ زهران علوش إلى تأسيس "جيش الإسلام"، ويحذو حذوه حسان عبود فيطلق "أحرار الشام"، ويقتدي بهما أحمد عيسى الشيخ في إنشاء "صقور الشام" ثمّ تولية الجولاني على رأس "جبهة النصرة"؛ فتكون العاقبة الأولى هي استبدال التظاهرة السلمية بالبندقية (المأجورة لأنظمة وأجهزة خارجية)، وإزاحة شعارات التغيير ومطالب الحرية والكرامة والعدالة لصالح الأسلمة والشريعة والجهاد. العاقبة التالية كانت فرض أنماط الهيمنة السياسية والاجتماعية والأمنية الجهادية على مجتمعات الغوطة، ثمّ الانخراط في صراعات داخلية دامية، وانهيارات عسكرية متلاحقة؛ حتى إذا كانت الهزيمة الختامية نتاج تدخل عسكري روسي وحشي غير مسبوق، ساندته مجموعات "حزب الله" والميليشيات المذهبية، ولم تغب عنه الأدوار المزدوجة التي لعبتها "داعش".
وفي نيسان (أبريل) نفّذت الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا ضربة جوية ضدّ منشآت الأسلحة الكيميائية للنظام السوري، كما قالت بيانات الدول الثلاث؛ وكانت، في الشكل كما في المضمون، "خبطة" علاقات عامة أُريد منها حفظ ماء وجه زعماء الدول الثلاث، إزاء محظور واحد هو استخدام الأسلحة الكيميائية ضدّ المدنيين. في المقابل، حظي نظام الأسد، من جانب تلك القوى وسواها، بأشكال شتى من الصمت، أو الإدانة اللفظية، أو التواطؤ المباشر، أو التذرّع بأولوية محاربة الإرهاب. وخلال ثماني سنوات من عمر الانتفاضة الشعبية السورية، وهي كذلك ثماني سنوات من مأساة مفتوحة على سفك الدماء وممارسة أنساق التوحش البربرية كافة؛ كانت قوى من كلّ حدب وصوب ــ بينها إيران وميليشياتها المذهبية، "داعش" والجهاديون، موسكو وواشنطن وأنقرة... ــ تتولى الإجهاز على الشعب السوري، فتنتهك  أرضه وسماءه، وتحوّل سوريا إلى محميات واحتلالات. ولم يكن ثمة مفارقة في أن القاذفات والصواريخ الإسرائيلية التي استهدفت عشرات المواقع داخل سوريا، هي السابقة على صواريخ أمريكية وفرنسية وبريطانية لاحقة. لافت، إلى هذا، أنّ ذلك العقاب المسرحي أفرز توازياً كاريكاتورياً بين مؤيدي الضربة (لأنها تؤذي النظام!)، ورافضيها (لأنها تؤذي السلام!)؛ وكأنّ الضارب لا يتساوى مع المضروب في الشراكة عن صناعة المأساة الأمّ، وإدامتها.
ولا يصحّ اختتام هذه الحصيلة السورية دون استذكار التفاهم اللافت، الصامت ولكن رفيع السوية، بين بوتين ورئيس وزراء دولة الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، بصدد إسقاط الطائرة الروسية "إيل ـ 20" في سماء اللاذقية. لقد تركا التراشق اللفظي لرجال الصفّ الثاني في موسكو وتل أبيب، وتفرغا إلى ما يتوجب أن يجمعهما ويذهب أبعد بكثير من مجرد واقعة واحدة تكدست فيها "سلسلة حوادث مأساوية وقعت بالصدفة"، حسب تعبير بوتين. الدليل أنّ موسكو نشرت منظومة الصواريخ المتقدمة، وجيش الاحتلال واصل عمليات القصف، فلا ضرر هنا ولا ضرار هناك!
 3/1/2019

انسحاب أمريكا من سوريا: نقصت الاحتلالات وتضاربت المصالح

 إذا صدقت تغريدات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب حول اعتزامه سحب القوات الأمريكية من سوريا، ثمّ بادر البنتاغون إلى وضع ذلك العزم موضع التنفيذ الفعلي وباشر عمليات الانسحاب، خلال آماد قصيرة كما يُقال لنا؛ فإنّ المتضرر الأول، داخل وزارة الخارجية الامريكية بادئ ذي بدء، سوف يكون جيمس جيفري، السفير الأمريكي السابق لدى العراق ثمّ تركيا ثمّ ألبانيا، ولكن الذي يعمل اليوم تحت مسمى "المبعوث الأمريكي الخاص إلى سوريا". الرجل سوف يخسر وظيفته، منطقياً، إذا أتمت الولايات المتحدة تصفية وجودها العسكري والمدني والدبلوماسي على الأرض السورية؛ أو ستنحصر وظيفته في التثاؤب من مكتبه في واشنطن، خلال مرحلة انتقالية تطول أو تقصر، يتحول بعدها إلى عمل آخر ومسمّى جديد.
لكنّ خيبة أمل جيفري لن تقتصر على خسران وظيفة، كانت أصلاً بلا معنى ولا محتوى في واقع الأمر، بل ثمة ما هو أبعد أثراً على أصعدة  شخصية تخص عقل الرجل ومعتقداته ومَلَكاته الستراتيجية والتكتيكية؛ ليس حول المشهد السوري، ميدان عمله واختصاصه الراهن، فحسب؛ بل كذلك على مستوى موقع الولايات المتحدة الكوني كقوّة عظمى أولى، ومكانتها بالقياس إلى كبار منافسيها (روسيا والصين، على وجه التحديد)، ومصداقيتها مع حلفائها الصغار والكبار معاً. قبل أيام قليلة، هذا الشهر تحديداً، ألقى جيفري كلمة في محفل حول سوريا نظمه "المجلس الأطلسي"، جزم فيه أنّ أمريكا باقية في سوريا ليس لأسباب تتصل بالقضاء على الإرهاب أو هزيمة "داعش"، فهذه أهداف قريبة المدى؛ بل لأنّ مضامين الملف السوري المتفجرة لم تعد منحصرة في مصائر نظام قتل نصف مليون مواطن سوري وشرّد 11 مليوناً ("أكثر من مجموع سكّان مدينة نيويورك وشيكاغو" كما قال، من باب تقريب الفاجعة إلى أذهان مستمعيه!)؛ بل باتت مسألة صراع وتصارع بين قوى إقليمية ودولية كبرى، هي أمريكا وروسيا وإيران وتركيا وإسرائيل، وفق إحصائه.
وإذا كان جيفري على وشك خسران وظيفته، لأنها باتت بلا معنى، فإنّ وظيفة وزير الدفاع الأمريكي جيمس ماتيس يمكن أن تصبح اسماً على غير مسمى في ضوء رضوخ البنتاغون لما أعلنه رئيسه المباشر، القائد الأعلى للقوات المساحة، من عزم على الانسحاب من سوريا. ففي مطلع هذا العام، وخلال خطبة عصماء بدورها، ألقاها في جامعة جونز هوبكنز لكي تكتسي بطابع فكري وليس عسكرياً فقط؛ كشف ماتيس النقاب عن الانعطافة الكبرى في الستراتيجية الدفاعية الأمريكية: بدل الحرب على الإرهاب، ديدن أمريكا خلال العقدين المنصرمين، تنتقل الأولوية الآن إلى مجابهة الجبروت العسكري لكلّ من روسيا والصين. وإذ أعلن، قبل عام من إعلان رئيسه، أنّ الولايات المتحدة تمكنت من هزيمة "داعش"، شدّد ماتيس على "حال التقلّب وانعدام الوثوق، وحقيقة عودة التنافس بين القوى العظمى"، وأنّ هذا التنافس "وليس الإرهاب، هو التركيز الرئيسي للأمن القومي الامريكي". لكنه اليوم، في ضوء تغريدات ترامب حول الانسحاب، مجبر على ابتلاع لسانه تماماً، والبحث في المقابل عن أسس "فكرية" جديدة، لهذه الستراتيجية العجيبة المتمثلة في مجابهة التهديد الروسي عن طريق... الانسحاب منه، وأمامه!
ولا يصحّ، من جانب آخر، إغفال حسّ الإحباط الذي انتاب صحيفة "نيويورك تايمز"، بما تمثله من قيمة وتأثير في قلب مؤسسات القرار السياسية والإعلامية والفكرية الأمريكية. وهو إحباط يبدأ من التحسر على رئيس أمريكي لم يتعلم أية حكمة من دروس ما بعد 9/11، خاصة هذه القاعدة الكبرى: نشر القوّات الأمريكية خارج الولايات المتحدة هو "المفتاح لوقف الإرهابيين، قبل أن يصلوا إلى الشواطئ الأمريكية"، وهو "حيوي للحفاظ على التحالفات التي تُبقي العالم آمناً". وأمّا هذا الرئيس، يندب دافيد سانغر موقّع المقال، فإنه يفضّل "فكرة استخدام الجيش لضمان أمن الحدود المكسيكية، على مجابهة روسيا وإيران وكوريا الشمالية والصين". لكنّ سانغر يتذكر ــ لحسن الحظّ! ــ أنّ ترامب لا يقوم بما هو أكثر من إعادة استنساخ نظرية سلفه باراك أوباما؛ الذي دشن نظرية أبسط في الواقع: نعتمد على شركاء محليين، ونستخدم القوّة الجوية الأمريكية إذا اقتضت ضرورة الدفاع عن المصالح الأمريكية، ثمّ نحتفل بإعادة القوّات الأمريكية إلى الوطن خلال الأعياد. وهكذا، أعاد الرئيسان الـ44 والـ45 النظر في انتشار الجيش الأمريكي ما وراء المحيط (170 ألفاً في العراق، و100 ألف في أفغانستان، خلا 17 سنة)؛ وليس غريباً، بالتالي، أن يغصّ ترامب بوجود 2000 من فتيان أمريكا على أرض سوريا!
إلى هذا، يتردد أنّ عدداً من معاوني ترامب المقرّبين كادوا أن يشدّوا الشعور رعباً، قبل السخط، إزاء قرار يحمل كلّ أوجه السوء، في أبعاده جمعاء (ما خلا إعادة "فتياننا" إلى أمريكا خلال الأعياد)، على الأصدقاء والحلفاء، قبل الخصوم والأعداء. والمرء، بالطبع، ليس بحاجة إلى عناء من أيّ نوع لكي يعدد الخاسرين من قرار الانسحاب (دولة الاحتلال الإسرائيلي أولاً، ثمّ الفصائل الكردية التي رهنت مصيرها بالقرار الأمريكي شرق الفرات وفي منبج و20 انتشاراً عسكرياً أمريكياً على الأقلّ في مناطق الجزيرة الحدودية مع تركيا والعراق، فضلاً عمّا تبقى من صبيان "المعارضة" السورية الذين تعلقوا بأذيال واشنطن، ثمّ الحلفاء أمثال السعودية والأردن...)؛ مقابل الرابحين من القرار إياه (روسيا فلاديمير بوتين، إيران "الحرس الثوري" و"فيلق القدس" و"حزب الله" والميليشيات ذات التمذهب الشيعي كافة، تركيا رجب طيب أردوغان وفصائل "المعارضة" السورية المسلحة الملحقة بالجيش التركي، ما تبقى من وحدات عسكرية موالية لنظام بشار الأسد...).
ولا فائدة تُرجى، هنا ومرّة أخرى، من توجيه الملامة إلى قيادات الفصائل الكردية المسلحة التي انضوت تحت المظلة الأمريكية، فليست الخيانة الأمريكية جديدة على التاريخ الكردي؛ بأسره في الواقع، في تركيا والعراق وإيران، قبل سوريا؛ وليس جديداً، أيضاً، أن تتخذ تلك الخيانات صفة الغدر المعلَن، الذي يندر أن يأتي كمفاجأة مباغتة، إلا عند السذّج بالطبع. لقد اختلطت، مراراً وتكراراً، أوراق القوى الكردية، ومعها تبعثرت الحسابات وتشرذمت واتخذت مسارات معاكسة؛ لدى "حزب العمال الكردستاني" و"حزب الاتحاد الديمقراطي" مرّة، وعند "وحدات حماية الشعب" و"قوات سوريا الديمقراطية" مرّة أخرى؛ على امتداد مناطق الجزيرة السورية، في محيط دير الزور وشرق الفرات، على خطوط أحياء حلب الشرقية، وفي منبج وعفرين. وإذا كانت عفرين آخر شهيدات الرهانات الأمريكية البائسة للقيادات الكردية، فإنّ منبج سوف تكون الشهيدة المقبلة والفريسة التي يتطلع الرئيس التركي إلى قضمها، على مرأى من أمريكا، ومسمع من... موسكو!
ولست أختم هذه السطور دون ابتهاج شخصي بقرار ترامب سحب القوّات الأمريكية من بلدي، إذْ أنه في المقام الأوّل يُنقص الاحتلالات واحداً، رغم أنه يُبقي سوريا محتلة من إيران وروسيا وتركيا، إلى جانب الاحتلال الإسرائيلي؛ برّاً وبحراً وجوّاً. وهي احتلالات ليست دون استطالات محلية (ميليشيات مذهبية تديرها طهران، وأخرى تموّلها موسكو وترعاها، وثالثة تتولاها أنقرة؛ مضامينها تتماثل حتى إذا اختلفت مسمياتها بين "حزب الله" أو "عصائب الحق" أو "قوات النمر" أو "درع الفرات"...). وهو، في المقام الثاني، إذْ يرتّب على أبناء سوريا مهامّ أكثر تعقيداً في وضع تحرير البلد نصب الأعين، فإنه يُشعل أكثر فأكثر أوار التناقضات بين مصالح قوى الاحتلال هذه، ويجعل تكالبها على مشاريع اقتسام البلد أشدّ صعوبة وتعقيداً.
وإنّ ضارّة للبعض قد تكون نافعة لسواد السوريين!
20/12/2018

"أتذكّر السيّاب..."

حين كتب محمود درويش قصيدته "أتذكّر السياب"، التي سوف تُنشر في مجموعته "لا تعتذر عمّا فعلت"، 2004؛ كانت تتنازعه عوامل عديدة؛ على جري عادته في معظم ما صار يكتبه بعد قصائد أيقونية، لكنها وليدة برهة تاريخية فارقة، مثل "أحمد الزعتر" و"مديح الظلّ العالي" و"بيروت"، ثمّ "هدنة مع المغول أمام غابة السنديان" و"أحد عشر كوكباً على آخر المشهد الأندلسي" و"خطبة الهندي الأحمر ــ ما قبل الأخيرة ــ أمام الرجل الأبيض"، وسواها، في سنوات لاحقة. قصيدة السياب كُتبت ضمن شقيقات لها، شاء درويش تخصيصها للاحتفاء بشعراء (السياب، أمل دنقل، سليم بركات)؛ وأمكنة (تونس، الشام، مصر، فلسطين/ القدس والجليل، طريق الساحل)، وخيارات فنية (الإيقاع، الشعر والتاريخ، الواقعي والخيالي، كيمياء القصيدة، المنفى)...
كان لافتاً أيضاً، في المجموعة ذاتها، أنّ درويش صدّر قصيدة "السروة انكسرت" بسطر من أحد أبرز شعراء قصيدة النثر العرب، الراحل بسام حجار، الذي كان على قيد الحياة يومذاك؛ يقول: "السروة شجن الشجرة وليس الشجرة، ولا ظلّ لها لأنها ظلّ الشجرة". وفي قصيدته "وصف الغيوم"، ذهب درويش إلى الشاعرة البولندية شيمبورسكا، فاستشهد بهذه السطور: "لِوَصف الغيوم/ عليّ أن أسرع كثيراً/ فبعد هنيهة لن تكون ما هي عليه/ ستصير أخرى". وكان، إلى هذا، قد صدّر المجموعة باقتباسين من أبي تمام ("لا أنتَ أنتَ ولا الديارُ ديارُ")، ولوركا ("والآن، لا أنا أنا/ ولا البيت بيتي")؛ أسماهما "توارد خواطر، أو توارد مصائر"؛ الأمر الذي سجّل، في إحصائي الشخصي، المجموعة الأكثر احتشاداً بالشعراء على امتداد أعمال درويش المنفردة.
غير أنّ قصيدة "أتذكّر السيّاب" اتصفت بسلسلة سمات لم تفردها عن قصائد الشعراء الأخرى في المجموعة، فحسب؛ بل لعلها انفردت أيضاً بموقف إنساني وجمالي وأخلاقي، وأكاد أقول: سياسي، من العراق؛ البشر والبلد والتاريخ، في برهة فارقة صنعها الاجتياح الأمريكي عام 2003 على وجه التحديد. "عراقُ، عراقُ، ليس سوى العراق..."، كتب درويش وهو يضع المكان في فضائه السومري الذي فيه "تغلبت أنثى على عقم السديم"؛ وعلى أرضه لم يجد السياب الحياة بين دجلة والفرات، ولم تراوده عشبة الخلود مثل جلجامش، ولم يأخذ الشرائع عن حمورابي... ثمّ هذه الخلاصة الأخاذة الصاعقة:
أتذكّر السياب... إنّ الشعر يولد في العراق
فكُنْ عراقياً لتصبح شاعراً يا صاحبي!"
والحال أنّ تثمين درويش العالي لمنجز السياب الشعري معروف، للقاصي والداني كما يُقال؛ وليس هنا مقام العودة إلى أقواله حول مكانة السياب في المشهد الشعري العربي الحديث والمعاصر. ما تضيفه "أتذكّر السياب"، في هذا الصدد، هو تبيان انحياز درويش إلى العراق كموطن للشعر؛ بالقياس إلى تعبيرات أخرى تخصّ مراكز الشعر العربية في مصر ولبنان وسوريا، على سبيل الأمثلة. صحيح أنّ الشعر يولد في أيّ مكان، وهذه خلاصة بسيطة متفق عليها، غنيّ عن القول؛ إلا أنّ إبرازها ضمن الصيغة اللاحقة في السطر الثاني، تقطع شوطاً دراماتيكياً لجهة توصيف امتياز العراق كمقام يلد الشعر والشعراء. في الوسع، هنا، اقتباس ما يقوله درويش عن شاعر عراقي كبير آخر، هو سعدي يوسف: "إذا كان صحيحاً أنّ في داخل كلّ شاعر مجموعة شعراء ــ كما يقول أوكتافيو باز ــ وأنّ النصّ هو محاورة مع نصوص أخرى، فإنّ سعدي يوسف كان أحد الشعراء الذين درّبني شعرهم على التنقيب عن الشعري في ما لا يبدو أنه شعري، وأغراني بمقاومة الإغراء الإيقاعي الصاخب، وبالاقتصاد في البلاغة".
وفي مناسبات شتى، أُتيح لي أن أناقش بعض الديناميات الكبرى التي رسّخت قصيدة السياب في الذائقة الشعرية العربية، منذ مطالع الستينيات وحتى يومنا هذا؛ بينها، أوّلاً، براعة الراحل في تحقيق حقق درجة عالية من التوازي، والتوازن، بين المستوى السطحي للغة، أي الحركة الصرفية للكلمات ضمن نسق محدد؛ وذلك المستوى الداخلي الخاص من الإحساس ــ الغامض والمألوف، في آن معاً ــ بوجود رسالة دلالية مستترة أو خفية، سواء في المفردة الواحدة، أو في أنماط تجاور عدد من المفردات. ثمة، ثانياً، انقسام معجم القصيدة إلى تراكيب شعرية وأخرى نثرية (وهو التقسيم الذي لا يمكن إلا أن يكون شكلياً)؛ يجعل من الصعب العثور على الخطّ الفاصل بين تركيب نثري يصرّح، وتركيـب شعـري يوحي؛ بين جملـة نثرية يشطبها المعنى فـور أدائها له، وأخرى شعرية تتنامى بفعل ما تصنعه من إيحاءات وأحاسيس. على صعيد الإيقاع كان السياب دائب البحث عن تنويعات لحركة التفعيلة الواحدة، أو التفاعيل ذات المقاطع المتساوية؛ واجتهاداته في ذلك اكتسبت حيوية خاصة لأنها أمدّت التراكيب النثرية بطاقة إيقاعية تعددية.
وشهر كانون الأول، الذي حثّ هذه السطور، يظلّ سيابياً بامتياز: في 25 منه، سنة 1926، ولد ابن جيكور والبصرة والخليج؛ وفي 24 منه، سنة 1964، رحل في الكويت؛ غريباً، عليل الجسد، شاعر النفس والمسامّ والأعصاب، يتذكّر العراق:
"ومنذ أنْ كنَّا صغاراً، كانت السماء
تغيمُ في الشتاء
ويهطل المطر
وكلَّ عام – حين يعشب الثرى – نجوعْ
ما مرَّ عامٌ والعراق ليس فيه جوعْ
مطر ...
مطر ...
مطر ...".
16/12/2018

"حكماء كالحيّات": تكافل الثلاثي ترامب/ نتنياهو/ بن سلمان


هل يحقّ للمعلق الأمريكي المعروف توماس فردمان التمتع بالحكمة الشهيرة، عمّن يأتي متأخراً فيكون خيراً من ألا يأتي البتة؛ وذلك في معرض نقده اللاذع لمسعى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في تبرئة ولي العهد السعودي محمد بن سلمان من دم جمال خاشقجي؟ وهل يصحّ أن يكون مقاله الأخير في "نيويورك تايمز"، تحت العنوان الدراماتيكي "تنزيلات ترامب في يوم الجمعة السوداء: نفط، أسلحة، وأخلاق"، بمثابة غسيل لمقالات سابقة تلطخت بمدائح غنائية للأمير ــ القاتل، إياه، الذي يحاول ترامب غسل يديه من الجريمة ــ  واستبشارات بما سيحمله للمملكة من "إصلاحات" و"رؤى"؟
وبالطبع، النفي هو الإجابة التلقائية إذا استند المرء إلى القواعد الأبسط في أية مدونة أخلاقية؛ ولكنه، في المقابل، سؤال نافل لأنّ سوابق فردمان في التقلّب والتبدّل والتسويغ والتسويف، لا تعدّ ولا تُحصى، من جانب أوّل. وأمّا الجانب الثاني في المعادلة فإنه، ببساطة، ذلك الاستطراد المرتبط عضوياً بالسؤال الأصلي: ولكن، من جانب ثانٍ، مَن الذي بينهم، رؤساء الولايات المتحدة وتسعة أعشار معلّقيها المشاهير، كان بلا خطيئة، كي يستحقّ فضيلة الشكّ، أو هامش السماح، أو حتى حقّ الوصول إلى المشهد متأخراً؟ وفي ما يخصّ المملكة العربية السعودية، ولائحة "التنزيلات" دون سواها، أيّ رئيس أمريكي خالف العرف الشائع، منذ هاري ترومان وحتى ترامب، بصدد المليارات في عقود المشتريات، والتواطؤ على عشرات الملفات ذات الصلة بـ"القيم" الأخلاقية الأمريكية، كما سرد تفاصيلها الكاتب الأمريكي روبرت باير في كتابه "الذهاب إلى الفراش مع الشيطان: كيف باعت واشنطن أرواحنا مقابل الخام السعودي".
وقد يجادل البعض، ليس دون قرائن وجيهة، أنّ "امتياز" ترامب عن سواه من رؤساء أمريكا السابقين، في ما يخصّ ملفّ المقايضات الأمريكية ــ السعودية، هو أنه يميل إلى الصراحة والوضوح وتسمية الأشياء بمسمياتها؛ وعندما يتصل الأمر بشعار "امريكا أوّلاً"، بصفة محددة. حول مقتل خاشقجي، ليس للمرء أن يطمع في تصريحات أكثر انطواء في السطح على ما هو دفين في الباطن: قد يكون بن سلمان على علم بالجريمة (وهذا تقدير وكالة المخابرات المركزية أيضاً)؛ وقد لا يكون (وهذه رغبة البيت الأبيض)؛ ولكن، في الحالتين، ما همّ شعار أولوية أمريكا؟ ومَن يكترث بمعاقبة أمير سوف يضخّ 450 مليار دولار في استثمارات شتى داخل الاقتصاد الأمريكي، بينها 110 مليارات على هيئة عقود سلاح؟ وأيّ "أهبل"، وفق قراءة ترامب، يمكن أن يضحي بهذه المليارات، أو يرسلها إلى روسيا والصين، مقابل صحافي يدعى جمال خاشقجي، لا يحمل حتى الجنسية الأمريكية؟
وهكذا، للمرء أن يدع جانباً ماضي فردمان في التهليل لبرامج بن سلمان "الإصلاحية"، وليذهب في المقابل إلى ما كتبه أمس، في نيويورك تايمز" ذاتها، مايكل دوران الزميل في "معهد هدسون"، وتوني بدران الزميل الباحث في "مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات"؛ تحت عنوان  "ترامب فظّ، ولكنه على حقّ بصدد السعودية". هنا زبدة الرأي وخاتمته أيضاً: "النصيحة التوراتية، أنْ كونوا حكماء كالحيّات، وبسطاء كالحمائم، توفّر استشارة صائبة لكلّ مَنْ يريد أن يرى مبادئه تؤثر في العالم. ونصيحة ناقدي السيد ترامب طويلة في الأخلاق المجردة، وقاصرة في الحكمة الستراتيجية". والأرجح أنّ الكاتبين لم يكونا على جهل، بادئ ذي بدء،  بأنّ الإشارة إلى التوراة (من العهد الجديد في الواقع، إنجيل متى 10:16: "ها أنا أرسلكم كغنم في وسط ذئاب، فكونوا حكماء كالحيات وبسطاء كالحمام")؛ تستكملها هذه، في الإصحاح ذاته: "فلا تخافوهم. لأنْ ليس مكتومٌ لن يُستعلن، ولا خفيٌّ لن يُعرف".
في عبارة أخرى، لن يطول الزمان حتى تتكشف كل الحقائق وأدقّ التفاصيل، حول مسؤولية بن سلمان المباشرة عن إصدار الأمر بتصفية خاشقجي جسدياً، وبالتالي سوف  يُستعلن المكتوم ويُعرف الخفيّ؛ وسوف يصبح تصريح ترامب، التالي، مثالاً نادراً على خروجه عن عادة شخصية مأثورة، في تسمية الأشياء بمسمياتها: "الملك سلمان وولي العهد محمد بن سلمان أنكرا بقوّة أي علم بالتخطيط لجريمة خاشقجي أو تنفيذها. وكالات استخباراتنا تواصل تقييم كلّ المعلومات، ولكن يمكن بالفعل أن يكون ولي العهد على معرفة بتلك الواقعة المأساوية، لعله عرف بها أو لعله لم يعرف".
دوران وبدران على حقّ، إلى هذا، في التذكير بأنّ إدارة الرئيس السابق باراك أوباما اختارت انعطافة محورية نحو إيران، فأغمضت الأعين عن المذابح التي ارتكبتها في سوريا موسكو وطهران وأتباعها، كما أعادت إلى آلة الحرب الإيرانية مليارات لا حصر لها. اللائحة، مع ذلك، يتوجب أن تتسع لأمثال الفليبيني رودريغو دوتيرتي، والمصري عبد الفتاح السيسي، والروسي فلاديمير بوتين، والسعودي محمد بن سلمان؛ وهذه لائحة تستعرضها سامنثا باور، السفيرة الأسبق للولايات المتحدة في مجلس الأمن الدولي، ولا يلوح أنّ المستشهدَين بالعهد الجديد يساجلان ضدّها؛ ليس دون تمييز ذرائعي أقصى: "طيلة 75 سنة احتمت المملكة بمظلة أمنية أمريكية مريحة، وفّرتها الولايات المتحدة لأنّ السعوديين ونفطهم لعبوا دوراً محورياً ستراتيجيات أمريكا الاقتصادية".
وثمة جانب ثالث في المسألة، هو تلك الحال من التكافل والتضامن بين ترامب، في الرأس الأوّل للمثلث؛ وؤئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، في رأسه الثاني؛ والأمير بن سلمان، في الرأس الثالث... لجهة القاعدة السفلى أغلب الظنّ! وليس المتنبه لجوهر تلك الحال واحداً من "المشبوهين المعتادين"، كارهي سياسات رؤوس المثلث؛ بل نقرأه لدى معلق إسرائيلي مخضرم مثل تسفي برعيل، الذي كتب في "هآرتز" أنّ العلاقة بين نتنياهو وترامب "تشبه تلك التي تجمع بين لصوص الأحصنة"، كلّ يغطي على الآخر؛ وفي قضية خاشقجي تحولت دولة الاحتلال إلى مستشار لزعيم المافيا، ترامب، فتدخلت لديه كي يخفف الضغط على بن سلمان. ولم يتأخر ترامب بالطبع، إذْ أعلن ــ دون اللجوء إلى أية مداراة دبلوماسية ــ أنّ الامتناع عن إلحاق الأذى بالعلاقات الأمريكية ــ السعودية يهدف إلى "ضمان مصالح بلدنا، ومصالح إسرائيل، والشركاء الآخرين في المنطقة كافة".
من جانبه، فإنّ دانييل شابيرو، الزميل الزائر في "معهد دراسات الأمن القومي" في تل أبيب، لا يجد أي حرج يحول دون توقيع مقال بعنوان "لماذا تشكّل جريمة خاشقجي كارثة لإسرائيل"؛ يتضمن جملة من الأسئلة التي تلقي بظلال الشك على "كامل المفهوم الستراتيجي للولايات المتحدة وإسرائيل في الشرق الأوسط، بسبب من ربط الكثير من خيوط تلك الستراتيجية بشخص بن سلمان، وعهده الراهن والمقبل معاً. "بالنسبة إلى الإسرائيليين، قد تكون هذه هي اللطمة الأقوى في مفاعيل جريمة خاشقجي. ذلك لأنّ هوس م. ب. س. بإسكات ناقديه دمّر عملياً محاولة بناء إجماع دولي حوله"، سواء في ملفّ "صفقة القرن" أو في ممارسة الضغط على إيران، يكتب شابيرو؛ ويتابع: "الضرر عريض. قد يخرج ترامب عن الصفّ العام، ولكن أيّ عضو في الكونغرس، وأيّ زعيم أوروبي، سوف يكون مستعداً اليوم للجلوس مع م. ب. س.؟".
ليس تماماً، في الواقع، إذْ سوف تبدأ السبحة من محطة بن سلمان الأولى في مصر، بضيافة السيسي؛ ثمّ تكرّ، كما هو منتظَر، مع قمة الـG-20 في العاصمة الأرجنتينية بيونس آيريس؛ ومَنْ يدري إذا كانت النبوءات سوف تصدق حول هوية الزعماء الذين سيأنفون عن لقاء بن سلمان، أو ــ على العكس، كما يقول منطق المصالح والذرائع ــ سوف يأخذونه بالأحضان... كأنه، مثلهم، من صنف الحمائم، لا الحيّات!
 22/11/2018

سمخ: بين أكرم الحوراني وفواز عيد

على الطريق إلى زيارة أهلنا في الجولان المحتل، وخلال عبور قصير الأمد في مدينة سمخ الفلسطينية، فجر 7 تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، صحبة ياسر خنجر وعلاء الصفدي وفاروق مردم بك؛ استعدتُ الفقرات التي دوّنها أكرم الحوراني عن فترة تطوّعه في القوّة السورية ضمن "جيش الإنقاذ"، أوائل 1948، وخاصة التضحيات الجسام التي بذلها الضباط السوريون لتحرير المدينة من العصابات الصهيونية. ونقل الحوراني عن مذكرات عبد الله التل قائد معركة القدس، أنّ الجيش السوري كان ناشئاً وقليل العدد والعدّة، ولكن أفراده استبسلوا في جميع المعارك التي خاضها مع الإسرائيليين، "حيث كانت نسبة من استشهد من ضباطه أكبر من أي نسبة معروفة في الجيوش المحاربة".
كذلك توجّب أن أستذكر أحد الأبناء البررة لهذه المدينة، لأسباب فلسطينية هذه المرّة، وإنْ كانت غير بعيدة عن سوريا، وتتصل بالشعر وليس بحرب فلسطين وأنساق التضحية مقابل الخيانة، والبسالة مقابل الغدر. حضر في البال ابن سمخ الشاعر الفلسطيني فواز عيد (1938 ــ 1999)، الذي ولد هنا قبل أن تُهجّر عائلته إلى القنيطرة السورية، حيث درس وتخرج من جامعة دمشق، وعمل مدرّساً لدى وكالة الغوث؛ وفي سوريا أنجز مجموعاته الشعرية الأربع، وفي ترابها دُفن بعد رحيله الفاجع. وإذْ كان عيد قد عانى من ظلم فادح لجهة إنصاف موقعه المتميز داخل مشهد الشتات في الشعر الفلسطيني خلال ستينيات القرن الماضي، أسوة بالتقصير النقدي الذي حاق بمجايليه من أمثال محمد القيسي وعز الدين المناصرة وأحمد دحبور ومريد البرغوثي؛ فالسبب الأبرز لا يعود إلى تأخّر الانتباه إلى علوّ قصيدته وخصوصية صوته وسطوع شعريته، فهذه وسواها عناصر تأكدت دون إبطاء، بل إلى حقيقة انشغال النقد العربي بشعر الأرض المحتلة ونماذج محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد، وطغيان ما سُمّي "شعر المقاومة".
وفي عددها لشهر آذار (مارس) 1961، كانت شهرية "الآداب" اللبنانية قد حملت قصيدة أولى من عيد بعنوان "خرائب"، تصدّرها الإهداء التالي: "إلى الرفاق الباحثين عن رغيف شمس... وقطرة ماء"؛ وكان جلياً أنّ النصّ يعكس مراساً في الكتابة الشعرية ليس طارئاً، وليس وليد هذه القصيدة، رغم أنّ تأثيرات بدر شاكر السياب، وخاصة "أنشودة المطر" التي كانت "الآداب" قد نشرتها في عدد حزيران (يونيو) 1954، واضحة وبيّنة: "نهوّم في العراء على رمال الليل.. في الظلمة/ لنسأل عنك يا آذار.. في الينبوع.. في النسمة/ وعند مساقط الشلال.. تحت سواعد الكرمة/ ظماء نحن يا آذار.. موتى.. هات فاسقينا/ حيارى.. خائرات.. يلتمسن الماء.. لو قطرة/ تظل تدور في الأعماق لاهثة بها زفرة/ غداً آذار يأتينا/ مع الإشراقة الأولى/ غداً يأتي وفي أكمامه خمر ليروينا". ومن حيث الشكل، كان عيد ينوس ــ ليس دون مشقة في اجتهاد المزاوجة ــ بين شكل العمود وشكل التفعيلة؛ وبين لغة الشعراء التموزيين ورموزهم ومناخاتهم، ومعجم شعر الالتزام والبحث عن الخلاص والقيامة؛ مع ميل لافت إلى ضبط الميزان الوجداني للقصيدة بعيداً عن التهويل العاطفي.
بعد 15 شهراً، في عدد حزيران (يونيو) 1962، سوف تنشر "الآداب" قصيدة جديدة من عيد، بعنوان "الأبواب"، تحمل هذه المرّة الكثير من روحية التجديد؛ سواء من حيث الشكل، إذْ تستقر على صيغة التفعيلة دون أيّ جنوح إلى العمود المقنّع أو التقفية الرتيبة، كما تختار مقطع الكتلة وليس التقسيم إلى سطور فقط؛ أو من حيث المحتوى، إذْ تدشّن سلسلة الموضوعات التي ستصبح علامة فارقة في نصوص عيد اللاحقة. وهكذا، في باب "المطر"، كتب عيد: "الريح دائخة تدق جبينها بالسور، تنثر شعرها غضبى، تراجع في سفوح التل أسيجة الكروم/ وتظل تركض.. ثم يدركها العياء.. تخور.. تسقط في شقوق الليل.. ترقد في مدى الخدر السحيق".
والأرجح أنها لم تكن مصادفة، حسب قراءتي الشخصية، أن هذه القصيدة تحديداً تستهلّ مجموعة عيد الأولى "في شمسي دوار"، التي صدرت سنة 1963، وكانت في عداد مجموعة من الأعمال الشعرية حرص الراحل سهيل إدريس على إصدارها عن "دار الآداب" في سياق حماسه الفائق لشكل التفعيلة، أو "الشعر الحرّ" في التسمية الأخرى، أمام زحف قصيدة النثر ومدرسة مجلة "شعر". المجموعات اللاحقة، "أعناق الجياد النافرة" و"من فوق أنحل من حنين" و"بباب البساتين والنوم"، فضلاً عن قصائد جُمعت بعد رحيله تحت عنوان "في ارتباك الأقحوان"؛ سوف تنقل عيد إلى مصافّ أرقى ضمن ثلاثة مشاهد شعرية في الواقع: الفلسطيني، وليس بالضرورة بسبب من حضور القضية في القصيدة؛ والسوري، لأنّ عيد كان في قلب الحركة الشعرية السورية، وحملت قصائده موضوعات شتى ذات صلة بسوريا ودمشق؛ والعربي، ثالثاً، لأنّ تجربته أخذت تتأصل على نطاقات أوسع فأوسع في قلب معترك التجريب الشعري العربي.
وعلى عتبات مدينة سمخ، في تلك البرهة الفائقة من ذلك الفجر، في غمرة انجلاء البواطن الأعمق من الآصرة الفلسطينية ــ السورية؛ حضر أكرم الحوراني، وردّنا شاطئ طبرية إلى شعر فواز عيد: ".. وضباب الفجر أعمى/ يلثم الحيطان/ والبلور يلتفّ إلينا/ عبر باب من دمشق النائية".
18/11/2018