كان جلياً أنّ سخط المتظاهرين يذهب أبعد، بكثير في الواقع، من مجرّد إهانة لفظية ظلّ المواطن السوري يتعرّض إلى ما هو أقبح منها، وأشدّ مضاضة وقسوة، طيلة اربعة عقود من حكم آل الأسد، ونظام "الحركة التصحيحية". كان الشارع الشعبي السوري يرقب عن كثب، ويتبصّر ويتأمل، ما جرى ويجري في تونس ومصر وليبيا واليمن؛ وكان، في القرارة الأعمق مثل السطوح الأولى لمستويات الشعور الجَمْعي، يدرك أنّ سورية ليست أقلّ استحقاقاً للكرامة، وللتحرّر من ربقة الطغيان، وبناء مستقبل أفضل، من أشقائها العرب الذين انعتقوا. وكانت عربة خضار التونسي محمد البوعزيزي ماثلة، أغلب الظنّ، في الأذهان والأبصار، في ما يخصّ رفض الذلّ والإذلال أوّلاً، والتطلع إلى العيش الكريم، حتى قبل أن يتعالى الشعار الأيقوني: "الشعب يريد إسقاط النظام".
ولم يكن غريباً، في اقتفاء التفصيل المميز الثالث، أن تتكشف بعض أسوأ مظاهر الاستبداد، وأقبحها، في مسارعة وزير وزير داخلية النظام آنذاك، اللواء سعيد سمور، إلى محاولة تنفيس الغضب الشعبي العارم، عن طريق اصطحاب المواطن المعتدى عليه، في سيارة الوزير المصفحة ذاتها، وإطلاق سراحه أمام المتظاهرين، والوعد بمعاقبة المعتدين عليه من عناصر الشرطة. إلا أنّ مسرحية الوزير ما كان لها أن تكتمل لولا ما أعلنه، وهو يطلّ برأسه ونصف جسمه من السيارة: "عيب يا شباب! هذه اسمها مظاهرة"! بالطبع، ولعلها أكثر من عيب في تراث النظام، وهذا ما التقطه علي فرزات في رسم كاريكاتوري ذكي، يُظهر الوزير وهو يقول: "عيب.. هي مظاهرة! وكلّ مظاهرة بدعة.. وكل بدعة ضلالة.. وكل ضلالة في الناااااار!".
وضمن هذا التفصيل ذاته، كان واجباً أن يدخل "الشبيحة" إلى المشهد، لأوّل مرّة في مدوّنة الانتفاضة السورية، عن طريق أداء تلك المهمة العليا في سلّم الشعائر الديماغوجية، الغوغائية، و"التشبيحية" باختصار شديد: ترديد الهتاف الخالد "بالروح! بالدمّ! نفديك يا بشار!"؛ لكي يطغى على هتاف "الشعب السوري ما بينذلّ"، وأيضاً لكي يوحي بأنّ في الحريقة مظاهرة أخرى موازية، وموالية. لافت، إلى هذا، أنّ خليطاً من الارتباك والعجب والاستشراس والذعر والحيرة كانت تتبدى، في آن معاً، على لغة الجسد كما افتُضحت رموزها في وقفة وزير داخلية النظام، وكذلك في سلوك قطعان الشبيحة أنفسهم. ذلك لأنّ الجهاز الأمني لم يكن معتاداً، البتة، على مفهوم "المظاهرة"، فكيف بقرابة ألف حنجرة تهتف، في رابعة النهار، وفي قلب دمشق، بأنّ الشعب السوري لا يُذلّ؟
بشار الأسد كان، من جانبه، يجترّ ما قاله في حوار مع صحيفة "وول ستريت جورنال" الأمريكية، قبل أسبوعين فقط من مظاهرة الحريقة، حين أدلى بدلوه في التعليق على الحراك الشعبي في الجزائر واليمن والأردن، وعلى انتفاضتَيْ تونس ومصر (لم تكن انتفاضة "دوّار اللؤلؤ" في البحرين قد اندلعت بعد). وإلى جانب أنّ سورية ليست تونس أو مصر، وأنّ نظامه محصّن ضدّ "الميكروبات" بسبب سياسته الخارجية، "الممانِعة" و"المقاومة"؛ شدّد الأسد على أنّ مشكلة الحاكم العربي تبدأ من انعدام الشفافية: "لدينا في سورية مبدأ مهمّ أتبناه شخصياً: إذا اردتَ أن تكون شفافاً مع شعبك، لا تلجأ إلى أيّ إجراء تجميلي، سواء من أجل خداع شعبك أو لتحظى ببعض التصفيق من الغرب".
والحال أنّ أولى ردود فعل الأسد على مخاوف انتقال العدوى إلى سورية كانت إصدار سلسلة مراسيم اقتصادية ومعاشية، بينها إحداث "الصندوق الوطني للمعونة الاجتماعية"؛ وزيادة دعم التدفئة بنسبة 72 في المئة، دفعة واحدة؛ والتلويح بزيادة الرواتب بمعدّل 17 في المئة... ولم تكن هذه إجراءات تجميلية فحسب، بل كانت متأخرة، وأقرب إلى الرشوة؛ لأنّ المنطق البسيط كان يفرض أسئلة بسيطة تقلب المعادلة الفعلية وراء هذه الإجراءات: ألم يكن المواطن بحاجة إلى صندوق المعونة الاجتماعية طيلة عقد ونيف من سلطة الأسد الابن؟ وكيف كانت حال المواطن، إذاً، حين كان دعم التدفئة أقلّ بنسبة 72 في المئة؟ وأين تبخرت الوعود بأنّ زيادة الرواتب سوف تبلغ 100 في المئة، خلال الخطة الخمسية العاشرة التي انتهت سنة 2010؟
ولسوف يدرك الأسد، سريعاً، أنّ شرارة واحدة تكفي لإشعال اللهيب الشعبي ضدّ نظامه؛ ولن يتأخر في استبدال ابتسامة الحمل الوديع، بتكشيرة الذئب الكاسر؛ مرّة وإلى الأبد، حتى ساعة الحساب الأخيرة أمام الشعب.