وعزّ الشرق أوّله دمشق

الاثنين، 26 نوفمبر 2012

خامنئي في إهاب ماركس

 كوندوليزا رايس، على سبيل التذكير المفيد، هي اليوم أستاذة العلوم السياسية في جامعة ستانفورد، وسبق لها أن تولت منصب مستشارة الأمن القومي في ولاية جورج بوش الابن الأولى، ثمّ وزيرة الخارجية في ولايته الثانية؛ وبذلك كانت أوّل امرأة من أصل أفرو ـ أمريكي تبلغ الموقع الأوّل، وثاني امرأة في الموقع الثاني، بعد مادلين أولبرايت، خلال ولاية كلنتون الثانية. قبل هذا، ومنذ مطالع ثمانينيات القرن الماضي، عملت رايس مستشارة في رئاسة الأركان المشتركة، وفي مجلس الأمن القومي لشؤون الاتحاد السوفييتي وأوروبا الشرقية في عهد جورج بوش الأب (خلال حقبة سقوط جدار برلين، وتفكك المعسكر الاشتراكي)، وفي حملة بوش الابن الأولى.

هذا التذكير بالسجلّ الاكاديمي والوظيفي يبيح للمرء أن يتحرّى عند رايس مقدار الحدّ الأدنى من الرصانة السياسية أو الفكرية، حتى حين يختلف تماماً مع مواقفها، أو يخالفها في جميع ما تعرب عنه من آراء. وهكذا، بعد طول غياب واحتجاب عن التعليق على الانتفاضة السورية، خرجت رايس بمقال في صحيفة "واشنطن بوست"، عنوانه "سورية نقطة مركزية للحفاظ على تماسك الشرق الأوسط"، ينتهي إلى خلاصتَين، بين استنتاجات أخرى مكرورة على نحو أو آخر. الأولى تقول إنّ إيران المعاصرة هي كارل ماركس القرن التاسع عشر: الأخير هتف: "يا عمّال العالم اتحدوا!"، طالباً منهم أن يتخلصوا من "الوعي الزائف" بالهوية الوطنية، لأنّ المصالح المشتركة التي تجمعهم عابرة للحدود، وأكبر من تلك التي تربطهم بطبقات تقهرهم باسم القومية؛ والأولى، إيران، تهتف: "يا شيعة العالم اتحدوا!"، لأنّ الاصطفاف خلف المذهب أهمّ من التشبث بالهويات الوطنية، في السعودية والبحرين والعراق ولبنان وسورية... حسب لائحة رايس.

والحال أنّ هذا القراءة للوقائع الراهنة في المنطقة لا تختزل الجوهر الشعبي والديمقراطي في الانتفاضات العربية عموماً، والسورية بصفة خاصة، فقط؛ بل تمسخ حركية التاريخ، قديمه ووسيطه ومعاصره، في المنطقة بأسرها، إلى صراعات مذهبية وإثنية فقط؛ كما تسطّح علم اجتماع الطبقات والعقائد والهويات إلى محض استقطابات جامدة، ساكنة تارة، أو قابلة لأبسط أنماط الاستغلال والتحكّم الخارجي طوراً. وإذا كانت المقارنة بين ماركس وطهران (سواء مثّلها الوليّ الفقيه، أو محمود أحمدي نجاد، أو جنرالات "الحرس الثوري"...) مضحكة وسطحية وبلهاء، إذا جاز قبولها على أي وجه أصلاً؛ فإنّ الهبوط بالانتفاضة السورية إلى سوية مشاحنات سنّية ـ شيعية، ولعبة قوى أقليمية محورها التصارع بين المذهبَين، يكشف منسوب الانحدار السياسي، أسوة بذاك الفكري والعقلي، الذي يمكن أن تنحطّ إليه تحليلات رايس، أستاذة العلوم السياسية، وصاحبة السجلّ الوظيفي والأكاديمي الذي سبقت الإشارة إليه.

إنها لا تخاف على شعوب المنطقة من جور أنظمة استبداد ونهب وتوريث ومافيات (سبق لإدارات البيت الأبيض أن ساندتها، سرّاً أو علانية، لأنها كانت في طليعة خَدَم المصالح الأمريكية هناك)؛ وتضرب صفحاً تاماً، كاملاً، عن دورها هي شخصياً في اجتراح أردأ، وأسوأ، النظريات عن حاضر المنطقة (ابتداءً من "الفوضى الخلاقة"، مروراً بـ"الفاشية الإسلامية"، وانتهاءً بـ"الشرق الأوسط الجديد"...). مخاوفها تتركز على، لأنها إنما تنبثق من، "البنية الهشة" لدول المنطقة، وعنها تقول: "كلّ دولة مهمة هي إنشاء حديث، خلقه البريطانيون والفرنسيون، الذين رسموا الحدود مثل خطوط على ظهر مغلّف، وغالباً دون اكتراث بالفوارق الإثنية والطائفية".

وبهذا فإنّ بنية المنطقة تقوم على التالي: "البحرين، المؤلفة من شيعة بنسبة 70 في المئة، يحكمها أمير سنّي. السعودية أُنشئت بـ 10 بالمئة من الشيعة في مناطقها الشرقية الأغنى. العراق يتألف من شيعة بنسبة 65 بالمئة، وعرب سنّة بـ 20، وما تبقى خليط من الكرد وسواهم، حكمهم دكتاتور سنّي بقبضة من حديد، حتى سنة 2003. سكان الأردن فلسطينيون بنسبة تقارب الـ70 في المئة. لبنان منقسم بين السنة، والشيعة، والمسيحيين. ثمّ تأتي سورية: تجمّع من السنة، والشيعة، والكرد وغيرهم، تحكمهم أقلية علوية". حسناً، ألم تكن هذه "الهشاشة" في ذهن رايس حين كانت في هرم صناعة القرار، ساعة اتخذ البيت الأبيض قرار غزو العراق؟ ولماذا لم تكن "الهشاشة"، إياها، عائقاً أمام آمال انتقال "فيروس" الديمقراطية، بوصفها إحدى ذرائع رهط المحافظين الجدد في تبرير اجتياح العراق؟

تلك أسئلة صارت نافلة عند رايس، أغلب الظنّ، لأنّ الطور الراهن من تفكيرها يحتمل المطالبة بتسليح المعارضة، ولكن ليس دون التحذير من تغلغل "القاعدة" إلى صفوفها، خاصة وأنّ "الحروب الأهلية تميل إلى تقوية القوى الأسوأ. وإسقاط الأسد يمكن، بالفعل، أن يجلب هذه القوى الخطرة إلى السلطة". نسلّحهم، أو بعض الذين ننتقيهم  نحن فقط، من جهة؛ ونتخوّف من انتصارهم، لأنه قد يأتي بما هو أسوأ، من جهة ثانية. وتلك منزلة تناقض بين التعاطف مع المعارضة والتخوّف منها، يجوز أن تُقارَن بموقف آخر يعود إلى مطلع العام 2007: في يوم أوّل، طالبت رايس بإطلاق سراح الناشط المصري أيمن نور؛ وفي يوم تالٍ، عقدت اجتماعاً مع أربعة مسؤولين أمنيين عرب، كان بينهم المصري عمر سليمان... سجّان نور!

فكيف لا يتبدى آية الله علي خامنئي، عندها، في إهاب الرفيق كارل ماركس؟

الجمعة، 23 نوفمبر 2012

سورية والعسكرة: النظام يتقهقر وأشباه الملائكة لا تتقدّم!

 إذا راجع المرء وقائع الأيام الثلاثة الأخيرة من المواجهات بين قوّات النظام السوري ومختلف كتائب المقاومة والجيش الحرّ، فإنّ الحصيلة تبدو مثيرة للدهشة، في جوانب عديدة، عسكرية ولوجستية؛ تفضي، بالضرورة، إلى ترسيم محتوى أكثر إدهاشاً للجوانب السياسية أيضاً، وقبلئذ في الواقع. لقد دارت اشتباكات مباشرة في أكثر من 340 نقطة مواجهة، ساخنة منذ أسابيع، وليست طارئة؛ وتمكن المقاتلون من اقتحام كتيبة الدفاع الجوي، في ريف حلب الغربي، ومدرسة الشرطة، والفوج 46 ـ قوّات خاصة؛ وفوج النقل 274، ومقرّ قيادة لواء التأمين الإلكترونية في الغوطة الشرقية، في ريف دمشق؛ وكتيبة الدفاع الجوي في منطقة الحجر الأسود، جنوب العاصمة؛ وكتيبة الدفاع الجوي والإشارة، جنوب دمشق، بالقرب من منطقة السيدة زينب؛ وأسقطوا طائرة مروحية في كفرزيتا، ريف إدلب، وأخرى في الغوطة الشرقية؛ وسيطروا على مطار الحمدان، في البوكمال، على الحدود السورية ـ العراقية، ويحاصرون مطار دير الزور العسكري...

في المقابل، قصف طيران النظام أكثر من 400 نقطة، في مختلف أنحاء سورية؛ وتعرضت أكثر من 77 منقطة لقصف بالهاون، وقُصفت 76 بالمدفعية الثقيلة، و22 أخرى بالقصف الصاروخي؛ وتتواصل الحملة العسكرية على بلدة داريا، في ريف دمشق، المحاصرة منذ عشرة أيام، تحت وابل الأسلحة الثقيلة كافة، مع انقطاع تامّ للماء والكهرباء؛ وسُجّل استخدام الغازات السامة ضدّ بلدة حرستا، ريف دمشق؛ وراجمات الصواريخ، للمرّة الأولى، في مناطق دمشق الجنوبية؛ ولم يتوقف قصف قرى جبل الأكراد، سلمى والمارونيات والمريج وسواها، في اللاذقية. عدد الشهداء تجاوز الـ 300، بينهم 17 طفلاً، وعشر نساء؛ معظمهم من دمشق وريفها، وحلب، وإدلب، وحماة، ودرعا، ودير الزور، وحمص.

جلي، إذاً، أنّ النظام يتقهقر على الأرض، أو يتفادى القتال المباشر في معظم المناطق؛ كما أنه (وهذا تفصيل لافت تماماً) لا يعود لاسترداد المواقع التي خسرها، حتى إذا كانت تحتوي، بحكم اختصاصها، على مخازن أسلحة حساسة وصاروخية، مثل كتيبة الأفتريس في غوطة دمشق، حيث الصواريخ ليست بعيدة المدى فقط، بل يمكن أن تحمل رؤوس أسلحة كيماوية أيضاً. جلي، كذلك، أنّ النظام بات يكتفي بالقصف الجوّي أو الصاروخي أو المدفعي، ويركّز القسط الأكبر من الجهد العسكري لقطعاته الموالية، الفرقة الرابعة والحرس الجمهوري بصفة خاصة، في العاصمة وريف دمشق؛ ويُبقي على وحدات أقلّ في محيط حلب، بعد تعذّر "الحسم" الذي وعد به النظام؛ وفي دير الزور أيضاً، لأسباب صارت تنحصر في غرض شبه وحيد، هو الإبقاء ما أمكن على منطقة فصل بين الشمال الشرقي ومحاور حلب/ جبل الزاوية/ إدلب/ معرّة النعمان.    

وليس عسيراً إدراك هذه الإحداثيات، العسكرية الصرفة، إذا استرجع المرء سلسلة الحقائق المضادة التي اقترنت، وتوجّب أن تقترن، بالخيارات المركزية التي استقرّ عليها النظام في قهر الانتفاضة. فاللجوء إلى االعنف العاري، كما في ارتكاب المجازر في مناطق مأهولة بسكان من السنّة، تعويلاً على دفعهم إلى ارتكاب مجازر مضادة في مناطق مجاورة مأهولة بسكان من الطائفة العلوية؛ انتهى إلى فشل ذريع، خاصة في قرى منطقة الغاب. والإيمان بإمكانية الحسم العسكري، في حصار حلب ودير الزور وحوران وريف دمشق بصفة خاصة، تكشّف عن عجز ميداني فاضح، عرّى أيضاً معنويات قوّات النظام الهابطة إلى حضيض. والمراهنة على أفضلية السلاح الثقيل، في صفّ النظام، مقابل السلاح الخفيف، في صفّ المقاومة والجيش الحرّ؛ انقلب إلى ما يشبه الخيار صفر في الإنجاز العسكري على الأرض، وبات السلاح الثقيل المفضّل عند النظام هو... البراميل المحشوة بموادّ متفجرة، تُلقى من الجوّ كيفما اتفق، فيحدث أن تسقط على أرتال المواطنين المتجمهرين أمام مخبز أو محطة وقود.

ولعلّ جهاز النظام العسكري (وهو، للتذكير، ليس الجيش السوري النظامي، ولا حتى مقدار الثلثَين في عديده وعدّته) بلغ ذروة عليا في وتائر الضغوطات اليومية التي أخذ يخضع لها منذ مطلع الانتفاضة، حين زُجّ في معركة مفتوحة ضدّ الشعب؛ بدأت بمواجهة بين بنادق العميد عاطف نجيب ضدّ المتظاهرين في درعا، مقابل زهور الشهيد غياث مطر الملقاة تحت أقدام عسكر ماهر الأسد في داريا؛ وكان محتماً أن تنتقل إلى الطور الراهن: حراك جماهيري ديمقراطي ضدّ استبداد وراثي فاسد، ومقاومة شعبية ضدّ جيش مسلّح حتى النواجذ ومنفلت من كلّ عقال. ومرّة أخرى يصحّ التذكير بأنّ السذّج وحدهم، إلى جانب المتعامين عن إبصار الاعتمالات الجدلية الأبسط في حركة التاريخ، هم الذين يواصلون الحنين إلى زمن الزهور مقابل البراميل المتفجرة (إذْ أنّ عهد البنادق قد مضى وانقضى!)؛ وإلى مظاهرات لا تخرج من المسجد، ولا تضمّ في صفوفها إلا أشباه الملائكة حَمَلة اغصان الزيتون، أياً كانت طبائع الوحوش الكاسرة التي تواجههم في صفّ النظام؛ ولا نعدم بينهم مَنْ يتابع التفجع، الكاذب غالباً، وسيء الطوية عموماً، على "ثورة سلمية" صارت اليوم "ثورة مضادة", لأنها... تعسكرت!

النمط الأوّل من الضغوط اليومية على جيش النظام (وكتائب الفرقة الرابعة هي مثاله الأبرز) مصدره اهتراء المعنويات أمام الصمود الأسطوري للحراك الشعبي، واستمرار الشعارات في علاقة طردية مع اشتداد آلة القهر. كلّما حوصرت منطقة، ودُمّرت بيوتها وسُفكت دماء أبنائها، نساء ورجالاً وشيوخاً وأطفالاً، ارتفعت أكثر فأكثر روحية المطالبة بإسقاط النظام، وتسمية رموزه العليا. وكلما أوغلت هذه الوحدات في اتخاذ الإجراءات الكفيلة ببثّ الفرقة بين السوريين (مثل قصف مئذنة هنا، أو العبث بمسجد هناك، أو كتابة شعارات مذهبية وطائفية بين حين وآخر، فضلاً عن ارتكاب المجازر المباشرة...)، جاء الردّ الشعبي أكثر تمسكاً بالوحدة الوطنية، وأعلى وعياً بالغايات الأبعد لتلك الإجراءات.

نمط الضغط الثاني ما تزال تصنعه حقيقة أنّ عسكر النظام، تماماً على شاكلة الفرقة الرابعة، هو هجين مختلط من بقايا وحدات عسكرية سابقة، كانت لها صولاتها وجولاتها في السجلّ القمعي على امتداد تاريخ "الحركة التصحيحية"، وتوجّب على حافظ الأسد أن يفككها ويعيد تركيبها، بين حقبة وأخرى. أهداف التفكيك وإعادة التركيب كانت تتراوح بين قطع الطريق على الأجندات الخاصة لقادة تلك الوحدات، من أمثال رفعت الأسد (قائد "سرايا الدفاع")، وعلي حيدر (قائد "الوحدات الخاصة")، وعدنان الأسد (قائد "سرايا الصراع")؛ أو تغيير وظائفها في سلّم خدمة الاستبداد، بين شديد إلى أشدّ. صحيح أنّ هؤلاء باتوا خارج المشهد القيادي، حتى قبل أن تبدأ عمليات توريث الأسد الابن، إلا أنّ ما جرى تكريسه على نطاق التوريث داخل البيت الأسدي، جرى أيضاً استلهامه بصياغات متغايرة على صعيد مناقلة النفوذ والامتيازات بين قادة الصفّ الأوّل، ووكلائهم قادة الصفوف الثانية والثالثة.

وهكذا، يعرف الضابط في الفرقة الرابعة أنّ ماهر الأسد اختار له البقاء في كتائبها، فلم يشمله بأعمال التطهير التي أعقبت اندلاع الانتفاضة، لأنّ ولاءه ثابت، وقد تمّ التحقق منه خلال هذه العملية أو تلك؛ كما لا يجهل، وهنا التفصيل الأهمّ، أنّ انتماءه إلى هذه العشيرة أو تلك، من هذه الضيعة التابعة لهذه المنطقة، وليست تلك التابعة لمنطقة أخرى، كان حاسماً في ترشيحه للبقاء. لكنه، أغلب الظنّ، لم يتطهر تماماً من ذاكرة شخصية تضمنت ولاءه السابق، وامتيازاته التي لم تكن أقلّ، بل كانت أوفر ربما، مع ضباط من أمثال العقيد معين ناصيف (صهر رفعت الأسد، والضابط الأبرز في "سرايا الدفاع")، أو العميد هاشم معلا (بطل حصار حلب، 1980، و"مدمّر الإخوان المسلمين" حسب التسمية المفضّلة لدى محبّيه)، أو العميد محسن سلمان (حاكم لبنان العسكري أواسط الثمانينيات، إسوة بحاكمها الأمني غازي كنعان)...

ثمة، هنا، اختلاط في ماضي المرجعيات وحاضرها، ليس لأنّ القدماء كانوا شرفاء مع الشعب، والجدد أوغاد، فالموازنة هنا غير مطروحة أساساً؛ بل لأنّ الولاء الأعمى لا تكفيه عصا واحدة يتوكأ عليها، خاصة إذا اختلطت امتيازات الأمس، بكوابيس اليوم، وتبدّى المصير من خلال هذا الخليط المتنافر، ضدّ الشعب تحديداً، وفي مواجهة شارع لم يرفع حجراً في وجه الدبابة خلال الأشهر الأولى من عمر الانتفاضة. أمّا حين صارت الدبابة عُرضة لقذيفة مضادة للدروع، وبات مَنْ في داخلها غير محصّن من احتمال الموت حرقاً داخلها، وأضحى كابوس العودة إلى الأهل مقترناً بالكفن... فإنّ طراز الضغوطات الأولى انصهر في طراز الضغوطات الثانية، لكي يصنع طرازاً ثالثاً من ضغوطات يختصرها هذا السؤال الحارق: حتام نقاتل أهلنا، ونقتلهم أو نُقتل بأيديهم، دفاعاً عن آل الأسد وآل مخلوف وآل شاليش وآل الأخرس...؟

وهذه حال سياسية جدلية، بدورها، يتوجب أن يتفقه فيها القائلون بمخاطر "الثورة المضادة"، إذا أجازوا لرؤؤسهم أن تخرج قليلاً من الرمال: كما أنّ منطق المواجهة اقتضى حقّ "جبهة النصرة" في الدعوة إلى "دولة إسلامية عادلة"، لأنّ أفراد الجبهة هم في طليعة المقاتلين ضدّ جيش النظام؛ فإنّ منطق المواجهة ذاته اقتضى، على الصفّ الآخر، إطلاق شعار "الأسد، أو نحرق البلد"؛ لكي لا يقتبس المرء شعارات أخرى أشدّ بغضاء وطائفية وشططاً، على الجانبين. وكما أنّ من حقّ زيد أن يرفض الدعوة الأولى، فإنّ من حقّ عمرو أن يأبى الثانية، دون تخوين أو تشبيح او تكفير؛ ويستوى، هنا، أن يكون الرافض مسلماً، سنياً أو علوياً أو درزياً، أو مسيحياً؛ متديناً أو علمانياً، متعسكراً أم متمدناً؛ ومن الخير أن لا يُطرح عليه أي سؤال يخصّ الهوية المذهبية، أصلاً، سواء اكتُسبت بالولادة أم بالانتماء، وكذا الحال في ما يخصّ هويته الإثنية.

تلك مسائل بديهية بالطبع، ولا مناص من تكرارها والتشديد عليها، كلما تعيّن التذكير بالبديهي. ما يدهش، في المقابل، هو أنّ سيرورات "عسكرة الانتفاضة" وعبادة البندقية هنا، وسيرورات "سلمية الانتفاضة" وعبادة الصدر العاري هناك، اقتضت من أنصار العبادتَين، معاً وبالتكافل والتضامن، أن يتوحدوا في... ذمّ "الائتلاف الوطني السوري" الوليد؛ لأنه يبشّر بإمكانية ائتلاف، ناجح على نحو ما، قابل للأخذ والردّ والتعاطي، بين البندقية والصدر العاري! هنا تتخلّق، استطراداً، حصيلة سياسية ناجمة عن حصيلة الجوانب العسكرية واللوجستية في سلوك النظام الراهن، بحيث أنّ ما يُطرد من سياسة عبر باب العسكرة، يدلف من النافذة في إهاب سياسة تعسكرت، أو عسكرة تسيّست. وهذا، في الحالين، تركيب جدلي لا ينفع معه الاختزال: لا انتفاضة أشباه الملائكة، ولا حرب العسكر. ومن محاسن الثنائيات الجدلية أنّ السيرورة يمكن أن تصبح متبادلة، فيختفي شبيه الملاك خلف درع المحارب، والأخير خلف أجنحة الأوّل!       

الاثنين، 19 نوفمبر 2012

القصيد والنشيد: انتفاضة أخرى

 يندر أن يُجرح وجدان العرب ـ في فلسطين بصفة خاصة، جرّاء الهمجية الإسرائيلية؛ ولكن من المحيط إلى الخليج، جرّاء مباذل الاستبداد العربي بأنماطه كافة ـ إلا ويحنّ ذلك الوجدان إلى، أو يتشبث بمدلولات، نشيد/قصيد وطني متفق عليه: "موطني". ونتذكّر أنّ بين أبرز أسباب هذه المكانة أنّ الأصل كان قصيدة للشاعر الفلسطيني إبراهيم طوقان، ثمّ انقلب إلى أنشودة للانتفاضة الفلسطينية سنوات 1936 ـ 1939، ضدّ الانتداب البريطاني وموجات الهجرة اليهودية؛ واعتُبر النشيد غير الرسمي لفلسطين، قبل أن تستقرّ منظمة التحرير على نشيد "فدائي"؛ كما اعتمده العراق نشيداً وطنياً رسمياً، سنة 2003.

السبب الآخر، الفنّي هذه المرّة، قد يكون مردّه أنّ القصيدة اعتمدت تشكيلاً وزنياً متنوعاً وطليقاً، يتخفف كثيراً من تواتر تفاعيل بحر الرمل، ويمزج ببراعة بين الموشّح والعمود الخليلي، ويعتمد الكثير من الصياغات الذكية لبناء إيقاع رديف عن طريق التكرار: "موطني/ الجلال والجمال/ والسناء والبهاء/ في رُباكْ/ والحياة والنجاة/والهناء والرجاء/ في هواك/ هل أراكْ/ سالماً منعَّما/ وغانماً مكرَّما/ هل أراكْ/ في علاكْ/ تبلغ السِّماكْ"... ولأنّ القصيدة كُتبت مطلع ثلاثينيات القرن الماضي، فتشبعت بمزيج متوازن من جزالة تلك الأحقاب، ونزوعات التحديث التي تميّز بها شعر طوقان، في آن معاً؛ فإنّ تلحينها، على يد الأخوين فليفل، ثنائي الإبداع الموسيقي الأشهر في هذا الميدان الخاصّ من التأليف الموسيقي، جعل اتساق فتنتَي الشعر والموسيقى أشبه بانبلاج نور على نور.     

ومنذ انطلاق انتفاضات العرب، وانفلات العنف الأقصى في خيارات النظام السوري على وجه الخصوص، أسوة بهذه الأيام إذْ تتعرّض غزّة لجولة جديدة من الوحشية الإسرائيلية؛ ظلّ "موطني" يتردد ويتعالى ويُستردّ، مكتسباً شحنات أبعد مغزى، مثيراً تداعيات أشدّ ائتلافاً مع الوقائع المعاصرة. ولم تكن هذه السيرورة قد خلت من سمة أخرى تخصّ تجدّد النشيد، وتجديده، ولكن على نحو اتخذ صفة السخرية المريرة من المآلات التي انتهى إليها الموطن في ظلّ النظام العربي المعاصر. ومن المعروف أنّ تلك المرارة قد بلغت مستوى عَكْس كلمات القصيدة الأيقونية، لتصبح هكذا: "موطني/ الوبال والضلال والبلاء والرياء/ في رباك/ والطغاة والبغاة والدهاء لا الوفاء/ في حماك/ ها أراك لا سواك/ خانعاً مكمماً بقادتكْ مسمّماً/ ها أراك ها أراك/ كُبّلتْ يداك/ تصطلي لظاك/ موطني".

والحال أنّ التراث الشعري ـ الغنائي العربي الحديث يحفل بعشرات القصائد الوطنية التي خلّدها، أوّلاً، نصّ شعري فصيح وحماسي وأخاذ؛ قبل أن تستكمل تخليدها أغنية تلهج بها الألسن وتردّدها الحناجر، في غمرة تفاعل رفيع للمعنى الشعري، والنغم الموسقي، والمطمح الوطني والإنساني. هنالك القصيدة الأشهر "يا ظلام السجن"، التي كتبها الصحافي السوري نجيب الريس عندما كان سجيناً في قلعة جزيرة أرواد سنة 1922، وقيل إنه لحّنها بنفسه وبمشاركة زملائه في السجن. جديرة بالتأمل تلك الحقيقة التي تقول إنّ القصيدة كانت في البدء موجهة ضدّ الانتداب الفرنسي في سورية، ثمّ تحوّلت إلى نصّ ـ أغنية ضدّ الطغيان، أياً كان؛ فضلاً عن أنّ مكانتها، واسترجاعها الدائم في الوجدان العربي، يثيران إشكالية العلاقة بين الوطنيّ والديمقراطي في الوعي السياسي العربي المعاصر.

هنالك، من جانب آخر، استعادات لأشعار ـ أناشيد أخرى تعود إلى أحقاب سابقة، مثل "بلاد العرب أوطاني"، قصيدة فخري البارودي، التي عاد إليها المطرب العراقي كاظم الساهر؛ و"في سبيل المجد"، قصيدة عمر أبو ريشة، التي استلهمها شباب الانتفاضة السورية في أشرطة مختلفة؛ وكذلك قصيدة الأخطل الصغير "نحن الشباب"، التي لقيت اهتماماً مماثلاً. وهذه إعادة إنتاج تستجيب، على نحو او آخر، لمبدأ العرض والطلب في سوق الأغنية العربية المعاصرة؛ ولكنها تتوازى مع حنين جلي إلى شعر تنهض خصوصيته على ارتباط الموضوع الوطني (بالمعنى الأعمق لمفهوم المواطنة، وليس بمعنى انتماء الهوية وحده)، بأغنية ترسخت شعبيتها عبر العقود (بسبب من تميّز لحنها وجاذبيتها الموسيقية، وليس بسبب موضوعها الوطني وحده).

في سورية، على سبيل المثال، ترافق إقبال الأجيال الفتية على ترديد "حماة الديار"، قصيدة خليل مردم بك التي صارت النشيد الوطني السوري، مع اهتداء إلى سلسلة القِيَم السياسية والإنسانية والأخلاقية التي تختزنها الكلمات، في جانب أوّل؛ وانشداد إلى موسيقى الأخوين فليفل، ملحنَيْ النشيد، كان مفاجئاً من جيل اعتاد على تذوّق أغنيات وفيق حبيب وجورج وسوف وعلي الديك، في جانب ثانٍ. وهنا، أيضاً، توجّب أن تتدخّل المرارة الشعبية إزاء جرائم قطعات الجيش الموالية للنظام (وهم بعض "حماة الديار"، في نهاية المطاف!)، فيتحوّر النشيد الأيقوني لكي يناسب الحال. النصّ الأصلي يقول: "حماة الديار عليكمْ سلامْ/ أبَتْ أنْ تذلَّ النفوس الكرامْ/ عرين العروبة بيت حرام/ وعرش الشموس حمىً لا يُضام/ ربوع الشآم بروج العَلا/ تحاكي السماء بعالي السنا"؛ وقد أصبح، عند "فرقة المندسين" السورية الساخرة: "حماة الديار عليكم سلام/ الشعب يريد إسقاط النظام/ دم الشرفاء عليكم حرام/ فهبّوا لنصرة شعب يضام/ ربوع الشآم تعاني الأسى/ وتشكوا إلى الله ظلماً قسا"...

هي انتفاضة عربية أخرى، إذاً، ولكن على صعيد القصيد والنشيد معاً؛ وأكْرِم بها من مشاركة مباركة!

الجمعة، 16 نوفمبر 2012

بين دمشق وغزّة: أيّ فارق في هوية الضحية وطبائع الجلاد؟

العدوان العسكري، في أغراضه الردعية ـ الأمنية بصفة خاصة، ركيزة كبرى قام عليها كيان إسرائيل منذ حروب تأسيسها، ولم يكن ارتكاب المجازر خياراً مستبعَداً ضمن هذه العقيدة، والأمثلة عديدة، ومستويات الوحشية التي انطوت عليها كانت قياسية على الدوام. في عبارة أخرى، لم تكن إسرائيل بحاجة إلى ذريعة لكي تطلق عملية "عامود هاعنان"، فتمارس ما اعتبرته "قصاص السماء" ضدّ غزّة، بما في ذلك اغتيال أحمد الجعبري، القيادي في "كتائب عز الدين القسّام"، وهو الأبرز ربما، والقائد الميداني الفعلي. غير أنّ انتفاء الحاجة إلى ذريعة لا يعني، من جانب آخر، أنّ التخطيط لهذا العدوان لم يضع في الحسبان إمكانية استغلال سياقات معيّنة تشهدها المنطقة، قد تساعد في تخفيف الضغط "الأخلاقي" الذي قد يخضع له جيش العدوان الإسرائيلي في ناظر الرأي العام العالمي.

وهكذا، إذا ما قورن عدد شهداء غزّة، جرّاء القصف الإسرائيلي؛ بعدد شهداء سورية، جرّاء قصف النظام السوري لمناطق في حلب ودير الزور وريف دمشق وسواها... فإنّ المقارنة لن تنعقد لصالح القصف الأوّل (أقلّ من عشرة فلسطينيين، مقابل أكثر من مئة سوري)، فحسب؛ بل سيبدو من حقّ جنرال إسرائيلي أن "يتفاخر" بها، قياساً على سلوك أيّ من جنرالات بشار الأسد! ومع حفظ الفارق بين عدوان "وطني"، يمارسه استبداد سوري محلّي؛ وآخر صهيوني، تمارسه دولة معادية قامت على العدوان والاستيطان والعنصرية؛ فإنّ فارق الضحية، بين سوري وفلسطيني، غير قابل لحفظ تمييزي (إلا عند أولئك "الممانعين"، و"القومويين"، الذين قد يساجلون بأنّ مجزرة يرتكبها طاغية عربي ضدّ أبناء بلده، أقلّ مضاضة من مجزرة يرتكبها كيان أجنبي غاصب!).

في المقابل ثمة مَن يذهب أبعد، ليس دون وجه حقّ، فيساجل بأنّ توقيت عملية "عامود هاعنان" لم يكن قد استهدف هذا الغرض وحده، حتى إذا كان تخفيف بعض الضغط الأخلاقي عن جيش العدوان الإسرائيلي يستحقّ ضبط التوقيت عند سياق يتيح عقد المقارنات بين وحشية أجنبية وأخرى عربية. الغرض الآخر، في نظر هؤلاء، هو تخفيف الضغط الهائل الذي يتعرّض له النظام السوري، ليس أخلاقياً فقط، بل سياسياً وعسكرياً، عن طريق "محاصصة" من طراز ما، تحقق الغاية الإسرائيلية، كما تلوح وكأنها تُشرك النظام السوري في الحملات العسكرية لمحاربة "الإرهاب": كوادر "كتائب القسّام"، في غزّة؛ و"العصابات المسلحة"، و"القاعدة"، و"الجهاديين"، و"المندسين"... في سورية.

هذه المساجلة تتكيء على فرضية مفادها أنّ الموقف الإسرائيلي الفعلي، الذي لا يُفصّل علانية بالطبع، وإنما يُلتمس في الأفعال على الأرض، يفضّل الإبقاء على النظام السوري الراهن، رغم كلّ مزاعمه عن "الممانعة" و"المقاومة"، لأنه يظلّ أفضل لأمن إسرائيل، وأعلى ضمانة، من أيّ نظام سوري قادم، معلوماً كان أم مجهولاً. ورغم يقين إسرائيل، الذي بات نهائياً وقاطعاً، بأنّ نظام "الحركة التصحيحية" يوشك على السقوط، والأمور مرهونة بخواتيم الوقت وبعض الترتيبات السورية والإقليمية؛ فإنّ النقاش الإسرائيلي الداخلي، في الحلقة الأضيق من صناعة القرار الأمني ـ العسكري، انتهى إلى ترجيح خيارات مدّ النظام بمزيد من أسباب الاستمرار... إلى حينٍ محسوب تماماً، بالطبع، حين ستستقرّ إسرائيل على صيغة عسكرية و/أو سلمية، لمعالجة ملفّ البرنامج النووي الإيراني.

العلائم تقود المراقب للموقف الإسرائيلي ـ وخاصة ذاك الذي خَبِر مقدار السلام الفعلي، المتين والمنيع، الذي هيمن على وديان وسهول وتلال الجولان المحتلّ (مقابل حالة "الحرب" المعلَنة رسمياً!)؛ وذاك الذي يحسن استذكار طبيعة الخدمات المباشرة، وغير المباشرة، التي أسداها نظام "الحركة التصحيحية" طيلة أربعة عقود ونيف ـ إلى خلاصتَين، بين آراء أخرى أضعف دلالة ربما، حكمتا القرار الإسرائيلي. الأولى عسكرية صرفة، تطرحها غالبية الجنرالات، وترى أنّ إطالة عمر النظام سوف يتكفّل بإلحاق المزيد من الأذى بالجيش السوري، عدداً وعدّة ومعنويات؛ وهو جيش يظلّ عدوّاً لإسرائيل في الكمون البعيد، ومرشّح لأن يصبح أشدّ عداءً، وأقوى شوكة، في سورية المستقبل، بعد سقوط النظام الراهن.

الخلاصة الثانية عسكرية ـ أمنية مختلطة، ترى أنّ استمرار تآكل النظام السوري سوف ينتقل ـ حكماً وسريعاً، وليس من باب الاحتمال والتدريج ـ إلى هضبة الجولان، وعلى جميع خطوط المواجهة مع الاحتلال الإسرائيلي. الخطر هنا سوف يتمثل في قفز "القاعدة"، أو هذه أو تلك من الكتائب المسلحة ذات التوجه الإسلامي والجهادي المتشدد، إلى ملء الفراغ في الجولان، الأمر الذي سيضع إسرائيل في مواجهة مفتوحة، هي الأولى من نوعها، مع طرائق القتال التي تعتمدها "القاعدة"، واختبرتها وجرّبتها في أفغانستان والعراق واليمن. يزيد في الأخطار أنّ مناطق الفصل بين القوّات، على امتداد الجولان، تشكّل طبوغرافية اختلاط معقدة، ومربكة تماماً، بين قوّات الاحتلال الإسرائيلية، والجيش السوري، ومراقبي الأمم المتحدة.

وكانت المعطيات تفيد بتوافق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو مع وزير الدفاع إيهود باراك على تفضيل الخلاصة الأولى، ميدانياً وعلى المستوى العسكري؛ وتدعيمها سياسياً، عن طريق الاستنجاد بمجموعات الضغط الأمريكية، لإقناع إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما بأن تبقى الضغوطات على النظام السوري مقتصرة على الدبلوماسية والعقوبات الاقتصادية. إلا أنّ الأمر أخذ يتبدّل في الآونة الأخيرة، وبدا أنّ إسرائيل تريد للتبدّل أن يتخذ صفة تهويلية، وذلك عن طريق إجراءات مسرحية مثل إخلاء جبل الشيخ من السيّاح، بذريعة نجاح "مسلحين سوريين معارضين للنظام" في الوصول إلى مناطق قريبة من ذرى حرمون، و"على الحدود مع إسرائيل".

ومع اندلاع أولى المواجهات العسكرية بين قوّات النظام السوري والمقاومة الشعبية في بعض قرى وبلدات الجولان المحاذية للاحتلال الإسرائيلي، وخاصة ريف مدينة القنيطرة (بريقة، وبير عجم)، أخذ تبدّل الموقف الإسرائيلي يتجلى أكثر، وبات أوضح. ذلك لأنّ هذه المواقع السورية تقع في منطقة الفصل منزوعة السلاح، وبالتالي لا يحقّ للجيش السوري أن يستخدم فيها أيّ طراز من الأسلحة الثقيلة أو المدفعية؛ وما دام جيش النظام السوري قد قصفها بشدّة، وبمعدّل قذيفة في كلّ دقيقة، وسكت الجانب الإسرائيلي عن عمليات القصف (ما خلا تلك "الطلقات التحذيرية"، الخلّبية، التي استهدفت ذرّ الرماد في العيون)؛ فإن التفسير يصبح بسيطاً بقدر ما هو جلي: أنّ عمليات القصف هذه تخدم إسرائيل، ولهذا فإنها لم تسكت عنها فحسب، بل قبلتها وتقبّلتها، إذا لم يذهب الظنّ إلى ترجيح احتمال تطوّعها لتقديم العون في التنفيذ.

ولقد لاح، في المقابل، أنّ جنرالات الجيش الإسرائيلي قد أحنوا الهامة أمام أقطاب المؤسسة الأمنية، فعرضت التلفزة الإسرائيلية لقطات سخية من جولة تفقدية قام بها الجنرال أفيف كوخافي، رئيس جهاز الاستخبارات العسكرية، "آمان"، على بعض نقاط حدود الاحتلال الإسرائيلي. صحيفة "يديعوت أحرونوت" نقلت عن كوخافي هذا التصريح الدراماتيكي الدالّ: "إنّ المعارك السورية تقع على مبعدة أميال قليلة من إسرائيل، وهى تهدد أمننا"؛ فضلاً عن أنّ "القتال بين الجيش النظامي السوري والثوّار يقترب شيئًا فشيئًا من الخط الحدودي بيننا وبين سورية". أمّا جرعة التهويل الختامية فقد انتهت إلى التالي: "تشير تقديرات الاستخبارات الإسرائيلية إلى أن هضبة الجولان ستصبح، فى الوقت القريب العاجل، منطقة ضعيفة مع ضعف الحكم المستمر فى سورية"؛ وأنّ "عدم سيطرة النظام السوري على الحدود، وتسلل المزيد من عناصر نظام الجهاد العالمي، خلق أوضاعاً جديدة تهدد النظام الأمني في إسرائيل".

أليست هذه هي جرعة التحذير، الأمنية ـ العسكرية، الأشدّ تهويلاً، منذ قرابة 40 سنة، أو حتى قبلئذ؟ متى تحدّث جنرال أمني إسرائيلي عن اقتراب "نظام الجهاد العالمي" من حدود الاحتلال، مقترناً بتقدير صريح عن "ضعف الحكم المستمر" على الضفة الأخرى؟ وإلى جانب إغماض العين وصمّ الآذان عن قصف بلدات مثل بير عجم وبريقه، وتوفير المعلومات الاستخبارية والتجسسية حول انتشار "الثوار"، وذلك عن طريق إطلاق القنابل الضوئية في نطاق عمليات جيش النظام السوري... ما الذي يمكن لإسرائيل أن تفعله، لكي يعود النظام السوري إلى سابق عهده في حُسْن حماية "الحدود"، كما فعل طيلة أربعة عقود؟

المرء يعود بالذاكرة إلى 18 شهراً خلت من عمر انتفاضة الشعب السوري، وإلى التصريحات التي نسبتها صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية إلى رامي مخلوف، ابن خال الأسد، صيرفي النظام، وتمساح الاستثمار والأعمال الأشرس، بصدد العلاقة الوثيقة بين استقرار النظام السوري، واستقرار إسرائيل. آنذاك، قال مخلوف بالحرف: "إذا لم يتوفّر استقرار هنا، فلا سبيل إلى استقرار في إسرائيل"؟ بعد أسابيع قليلة، سوف يفتعل الأسد حكاية السماح لعدد من الفلسطينيين باقتحام حدود الاحتلال الإسرائيلي في محاذاة بلدة مجدل شمس، على السفح الجنوبي لجبل حرمون، في الجولان المحتل. وكانت تلك رسالة إلى أصدقاء إسرائيل، والعالم بأسره، أنّ الأسد مستعد لخرق المحرّمات، وافتعال حرب فلسطينية ـ إسرائيلية (لن تتضمن إرسال جيش النظام ذاته لعبور الحدود، غني عن القول!)، حفاظاً على نظام الاستبداد والفساد الذي ورثه عن أبيه.

والمرء يتذكّر، أيضاً، أنّ مناحيم بيغن، رئيس الوزراء الإسرائيلي سنة 1981؛ وأرييل شارون، وزير الدفاع الصقر؛ ويوسف بورغ، وزير الداخلية الممثل للأحزاب الدينية المتشددة؛ وجدوا فرصة ذهبية سانحة لإصدار قرار من الحكومة الإسرائيلية، صادق عليه الكنيست بعدئذ، وقضى بضمّ الجولان المحتلّ إلى دولة إسرائيل. كان حافظ الأسد منشغلاً، يومها، بتنفيذ مجازر جبل الزاوية، وسرمدا، وسوق الأحد وحيّ المشارقة في حلب، وساحة العباسيين في دمشق، وسجن تدمر... ولم تكن الفرصة متمثلة في انشغال جيش النظام بمعاركه ضدّ الشعب السوري، إذْ كانت الحكومة الإسرائيلية واثقة تماماً أنّ الأسد الأب لن يحرّك ساكناً في كلّ حال؛ بل لأنّ ضمّ الجولان سيمرّ دون حرج دبلوماسي، ودون تعاطف دولي مع نظام يذبح مواطنيه في طول سورية وعرضها؛ وبالتالي فهو غير مكترث بخسران أرض محتلة، هو عاجز أصلاً عن تحريرها، لا بالحرب ولا بالسلام.

وهل للمرء أن يردّد: ما أشبه اليوم بالأمس، إذاً، بين قرار ضمّ الجولان، وعملية "عامود هاعنان"، من حيث استغلال السياقات المجاورة، أو البناء عليها؟ أغلب الظنّ أنّ الإجابات، با ستثناء تلك التي يمكن أن تصدر عن "الممانع" و"القوموي" دون سواه، لن تفلح في طمس البُعد الأكبر في معادلات المقارنة: فارق طبائع الجلاد لا يصنع فارقاً نظيراً، في هوية دم الضحية!

الاثنين، 12 نوفمبر 2012

الأسد ونتنياهو: خسارة مشتركة؟


كثرٌ هم الخاسرون جراء إعادة انتخاب الرئيس الأمريكي باراك أوباما، في الولايات المتحدة أو في طول العالم وعرضه؛ وليس أوّلهم ميت رومني، منافسه في السباق إلى البيت الأبيض، لهذا السبب تحديداً: أنه الخاسر المعلَن، وليس ذاك المستور أو المتستر. أمّا في عداد هذا الصنف الأخير، فإنّ النماذج لا تنطوي على تنوّع هائل، سياسي وجغرافي وعقائدي، فحسب؛ بل ثمة مقدار مدهش من التضارب، وليس التكامل، في مصالحها التي عُلّقت على احتمال خسارة أوباما، مقابل فوز رومني.

على سبيل المثال الأوّل، رغم أنّ بشار الأسد، في حواره مع فضائية "روسيا اليوم"، مؤخراً، لم يذكر الولايات المتحدة إلا مرّة واحدة، ولم يأت على ذكر أوباما أو رومني؛ فإنّ تحذيراته الدراماتيكة من عواقب غزو نظامه عسكرياً، والتي سوف تمتدّ من المحيط الأطلسي حتى المحيط الهادىء (ولا يُعرف سبب وراء استثناء المحيطات الأخرى: الهندي، والمتجمدَين الشمالي والجنوبي!)، كانت برسم أوباما أكثر من رومني. والأمر هنا مردّه ذلك المنطق الكلاسيكي العتيق، الذي يقول إنّ أي رئيس أمريكي جديد سوف يكون مكبلاً بهواجس الترشيح لولاية ثانية، الأمر الذي يجبره على التأني أو التباطؤ في اتخاذ القرارات ذات المفاعيل الجيو ـ سياسية الكبرى (وهذه كانت حال أوباما تجاه سورية، مثلاً، خلال الولاية الأولى)؛ وأنه، في الولاية الثانية، سوف يكون طليق اليد، وأكثر استعداداً ـ وأشدّ توقاً، ربما ـ لتخليد شخصه عبر البوّابات ذاتها التي يعدّها التاريخ منعطفات حاسمة في السجلّ الكوني.

وهكذا، يرجّح المنطق البسيط أنّ الأسد كان يفضّل خسارة أوباما، لأنّ نتيجة كهذه سوف تفوّت على الأخير إمكانية دخول التاريخ عبر حسم التردد الأمريكي تجاه خطوات إسقاط النظام السوري، والخسارة ستمنعه من اغتنام فرصة الظهور بمظهر منقذ الشعب السوري من الويلات والكوارث (وهذا إغواء لا يُقاوَم بسهولة، من رئيس يباشر ولاية ثانية). وعلى جبهة معنويات النظام الآخذة في التآكل، وما تبقى من طرائق تضليل في إعلام السلطة، لم نكن سنعدم طراز "تحليل" يقول إنّ "صمود" الأسد هو الذي أسقط أوباما، على غرار ذلك "السبق العلمي" الذي انفردت به صفحة "منحبكجية"، شرحت دور نظامَي "الممانعة" السوري والإيراني في إطلاق إعصار ساندي لمعاقبة الشعب الأمريكي. أمّا رومني، في المقابل، فإنّ كلّ تصريحاته عن تسليح المعارضة السورية ليست إلا تخرصات ليل سوف يمحوها نهار الواقع، ما بعد الانتخابات؛ لدى رئيس جديد سوف يخضع للاعتبار الكلاسيكي إياه، وسيسيل لعابه على آفاق تجديد رئاسته، قبل آمال دخول التاريخ.      

المرء، في استعراض مثال ثانٍ على الخاسرين من فوز أوباما، يتذكّر حكاية كان يحلو لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو سردها، على نحو لا يغيب عنه الخبث الشديد بالطبع، وإنْ كان السرد ينطوي في ذاته على فضيلة التفضيح المفيد: حين قام أوباما بزيارة إسرائيل، وكان يومها مجرّد مرشّح للرئاسة، انتحى جانباً بزعيم حزب الليكود، نتنياهو، وأسرّ له له بالتالي: "أنت وأنا نشترك في الكثير. لقد بدأتُ على اليسار وانتقلتُ إلى الوسط. وأنت بدأتَ على اليمين وانتقلتَ إلى الوسط. كلانا براغماتي يرغب في إنجاز الأمور".
لكنّ الرغبة شيء، والإنجاز كان شيئاً آخر مختلفاً تماماً، ولهذا لم يوفّر نتنياهو جهداً لإحراج أوباما، ولم يخفِ تعاطفه مع رومني في الانتخابات الرئاسية؛ بل ذهب أبعد، في خطوة حمقاء تماماً، حين ظهر في إعلان انتخابي لصالح الأخير، يغمز من قناة أوباما الذي يتردد في حسم الموقف من البرنامج النووي الإيراني.
ولقد بدا مضحكاً، ومدعاة شماتة صريحة من أنصار أوباما وخصوم نتنياهو، أنّ الأخير انخرط ـ منذ الصباح الباكر ليوم الأربعاء الماضي، حين أُعلن عن فوز أوباما ـ في محاولات إصلاح الضرر وقَلْب الموقف رأساً على عقب: استدعاء السفير الأمريكي إلى مكتب نتنياهو، لالتقاط صورة عن عناق التهنئة الحارّة؛ وإصدار بيان عن العلاقات الإسرائيلية ـ الأمريكية، "الصلبة مثل صخرة"؛ والتعميم على قيادات الليكود بعدم التلميح، في برقيات التهنئة، إلى "خطأ" التعاطف مع رومني. "لم يكن صباح نتنياهو طيباً اليوم"، قال إيلي إيشاي، زعيم حزب شاس، الذي يحدث أيضاً أنه نائب رئيس الوزراء. إيهود أولمرت، الطامح مجدداً إلى رئاسة الوزارة في انتخابات مطلع العام القادم، انقضّ على المناسبة: "في ضوء ما فعله نتنياهو خلال الأشهر الأخيرة، فإنّ السؤال المطروح هو التالي: هل تبقى صديق لرئيس الوزراء في البيت الأبيض؟"...

في كلّ حال، وأياً كانت الوجهة التي ستتخذها ولاية أوباما الثانية تجاه الأسد أو نتنياهو، فإنّ المنطق البسيط الآخر، الأقوى والأعلى والأقرب إلى تجارب الواقع وخلاصات التاريخ، يشير إلى التالي: النظام السوري ساقط، لا محالة، شاء أوباما أم أبى نتنياهو، واتفقا على هذا أم اختلفا أم تبادلا الأدوار؛ والعلاقات الأمريكية ـ الإسرائيلية ما تزال بقوّة الصخور حقاً، شاء مَنْ شاء، وأبى مَنْ أبى (حسب عبارة ياسر عرفات الشهيرة). لا انتصار الشعب السوري رهن بهذه المعادلة، إذاً، ولا وجود الشعب الفلسطيني سحقته تلك الصخرة؛ نقطة على السطر، وهي هنا خير وأبقى!



الجمعة، 9 نوفمبر 2012

أوباما الثاني والانتفاضة السورية: أيّ تحوّل؟ أي ثبات؟

الأرجح أنّ باراك أوباما، الرئيس الأمريكي، والمنتخَب لولاية ثانية، كان يقصد السوريات والسوريين حين قال، في خطبة الفوز: "ليس في وسعنا أن ننسى أنّ الناس في أمم أخرى، في هذه الساعة ونحن نتحدث، يجازفون بحياتهم الآن تحديداً من أجل فرصة لإسماع رأيهم في المسائل التي تعنيهم، وفرصة الإدلاء بأصواتهم في صناديق الاقتراع، كما فعلنا". الأرجح، أيضاً، أنّ امتناعه عن تسمية سورية بالاسم كان مردّه ذلك الخيار المركزي، الذي حكم موقف هذه الإدارة من الانتفاضة السورية: تأجيل الحسم، حتى تتضح الصورة أكثر (خلال الأشهر الأولى لانطلاقة الانتفاضة)؛ وحتى تفعل عوامل تفكك النظام فعلها تلقائياً، حسب مبدأ "الهبوط السلس" (خلال الأشهر الوسيطة)؛ ولكي لا يسفر الحسم، إذا وقع، عن "مفاجأة الأحد" الشهيرة، التي تسبق نهار الثلاثاء الانتخابي، وتقلب معادلات الانتخابات الرئاسية رأساً على عقب.

وليس عسيراً تلمّس مجموعة الأسباب التي قادت البيت الأبيض إلى هذه المراوحة في الحسم، والتي يراها البعض حال تردّد (لا يراوح في الجوهر، بقدر ما يركن إلى تاريخ طويل من حسن العلاقات مع نظام "الحركة التصحيحية"، وضآلة الرغبة في المراهنة على نظام سواه، قد تكتنفه مجاهيل كثيرة)؛ أو حال تجميد ذاتيّ (يكتفي بالعقوبات، والضغوط الدبلوماسية، والتصعيد اللفظي، وتشجيع الحلفاء الأوروبيين، والإيحاء باحتضان المعارضة). وثمة إجماع عريض، تنخرط فيه هذه السطور أيضاً، مفاده أنّ مجموعة الاعتبارات التي مدّت في عمر النظام السوري، وهي محلية وإقليمية ودولية، سياسية وعسكرية واقتصادية، إنما يتصدّرها اعتبار بارز هو إبطاء، أو تأخير، أو تأخّر الحسم الأمريكي. وفي خلفية الأواليات التي صنعت ذلك الاعتبار، وتواصل صناعته حتى الساعة، يكمن الموقف الإسرائيلي الحريص على تأجيل سقوط نظام "الحركة التصحيحية" ما أمكن ذلك.

لم يكن مستغرباً، في سياق هذه المعطيات، أن تلجأ بعض وسائل الإعلام إلى استفتاء عدد من كتائب "الجيش السوري الحرّ"، حول تفضيلها لكلّ من الرئيس المرشح الديمقراطي باراك أوباما ومنافسه الجمهوري ميت رومني، وأن يكون الأخير هو المفضّل. الأمر مفهوم من زاوية أولى كبرى، لعلها الوحيدة كذلك، فحواها أنّ رومني أعلن عزمه على تسليح المعارضة السورية (بغرض الدفاع عن النفس)؛ في حين أنّ أوباما كان صانع إرث المراوحة، أو التردد، أو التلكؤ، أو إرجاء الحسم. ما هو أدعى إلى الاستغراب (إذا أجاز المرء ممارسة هذه الرياضة، بصدد المواقف الأمريكية من شؤون الشرق الأوسط عموماً!)، هو غياب التنبّه إلى تلك المؤشرات الأخرى التي قد تفيد العكس: أنّ إعادة انتخاب أوباما قد تكون أكثر فائدة للمعارضة العسكرية والمسلحة، أو حتى المدنية السلمية، من انتخاب رومني.

ثمة، بادىء ذي بدء، ذلك السبب الكلاسيكي المعروف، المجرَّب طويلاً، الذي يشير إلى أنّ أيّ رئيس أمريكي يتمتّع، في ولايته الثانية، بهامش مناورة اوسع لجهة الذهاب أبعد في خياراته، التكتيكية منها أو الستراتيجية؛ لانه، ببساطة، لن يكون واقعاً تحت إغواء التجديد لرئاسة ثانية. والمنطق يقول إنّ أوباما ـ2 لن يفوّت على نفسه فضل قطع الخطوات الإضافية المطلوبة للإجهاز على نظام بشار الأسد (المتداعي، المتفكك، الموشك أصلاً على السقوط)، والتباهي بإنقاذ الشعب السوري (الذي يجازف بحياته من أجل حقّ التصويت مثلاً، كما قال في خطبة الفوز قبل أيام). سببان يوطّدان احتمالات هذا المنطق: 1) أنّ أوباما حامل جائزة نوبل للسلام، في نهاية المطاف، ومن الطبيعي أن يغادر البيت الأبيض مكللاً بأكبر مقدار من الأوسمة التي تخفف حكم التاريخ، القاسي لتوّه، على أهليته لتلك الجائزة؛ و2) أنه ردّد مراراً، وبالتالي ألزم نفسه عملياً، بأنّ "أيام الأسد باتت معدودة"، وأنّ نظامه ساقط لا محالة. 

المؤشر الآخر له صلة بطبائع، وخصائص شخصيات، "رجال الرئيس"، أو الطاقم السياسي الذي يحيط به وينصحه ويقترح عليه السياسات الأنسب في هذا الملفّ أوذاك، أو تلك المثلى التي تضمن عدم وقوع تضارب قاتل بين ملفّ وآخر. ورغم أنّ أوباما أدار المواقف من الانتفاضات العربية على نحو بارع إجمالاً، وناجح نسبياً، اتسم بمزيج من الحذر والتردد والانخراط في آن معاً؛ فإنّ سجلّ الولايات المتحدة، في دعم تلك الأنظمة ذاتها التي تثور عليها الشعوب، كان كفيلاً بتغليب الريبة في مواقف البيت الأبيض تارة، أو تجديد عناصر العداء للسياسات الأمريكية في المنطقة تارة أخرى. وليس خافياً أنّ هيلاري كلنتون، وزيرة الخارجية، كانت واجهة معظم التخبّط، في معظم المواقف؛ إذْ لم يسقط نظام، أو يوشك على السقوط، إلا وسبق سقوطه مديح بدرجة ما، صدر عنها شخصياً.

ولم تكن تصريحاتها الأخيرة ضدّ "المجلس الوطني السوري" إلا صيغة تأهيب (وفق أسلوبها، وإنْ كان روبرت فورد، السفير الأمريكي في دمشق، قد تدخّل في الصياغة على هذا النحو أو ذاك) لسياسات ما بعد إعادة انتخاب أوباما، ووضع حدّ للتردد الأمريكي، والانغماس أكثر فأكثر في خطوات إسقاط النظام السوري. وإذا كانت مبادرة المعارض السوري المخضرم رياض سيف قد بدأت من منطقة مشروعة ومطلوبة وضرورية، يحصّنها تاريخ الرجل ومصداقيته؛ فإنّ دخول كلنتون على الخطّ، حتى على نحو غير مباشر، قد أضرّ بتلك المبادرة، و"أمْرَك" الكثير من زخمها الوطني السوري، ومنح خصومها (خاصة الكَذَبة، المنافقين، تجّار المعارضة، المتقلّبين المنقلبين...) مادّة للتعريض بها، على مبدأ الحقّ الذي لا يُراد منه إلا الباطل.

العارفون بأخبار إدارة أوباما يقولون إنّ خلافة كلنتون، إذا صدقت في وعدها بمغادرة الخارجية، سوف تنحصر بين السناتور جون كيري (الديمقراطي، رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأمريكي، والمرشح الأسبق للبيت الأبيض)، وسوزان رايس (مندوبة الولايات المتحدة في مجلس الأمن الدولي). آخر ما نملك من آراء الأوّل، عن الانتفاضة السورية، هو قوله إن سورية "على حافة الحرب الأهلية"؛ ونعرف، أو ينبغي ألا ننسى، أنه كان أحد أنشط محاوري الأسد الابن (ليس حول الإصلاح والديمقراطية وحقوق الإنسان بالطبع، بل حول إحياء قناة التفاوض السورية ـ الإسرائيلية حصرياً)، ولهذا فإنّ توصياته للإدارة الأمريكية شدّدت على فتح الحوار مع "عدد كبير من الحلفاء"، والتشاور مع الجامعة العربية ودول مجلس التعاون الخليجي "للنظر في ما يتوجب اتخاذه، خطوة خطوة".                  

رايس، من جانبها، كانت رأس الحربة الأمريكية (اللفظية، حصرياً) في مجلس الأمن الدولي؛ وقد تكون أقلّ من كيري خضوعاً لأوهام نظرية "الهبوط السلس"، وأكثر ميلاً إلى حسم التردد في اتخاذ الخطوات الكفيلة بتسريع إسقاط النظام السوري (وهذا ليس فضلاً منها، أو مقاربة تُسجّل لها شخصياً، إذْ أنّ خيارات أوباما ـ2 ينبغي أن تقود إلى هذا المآل، في كلّ حال). ما لا ينبغي أن يُنسى، بخصوص رايس، هو أنها كانت في عداد مروّجي أكذوبة أسلحة الدمار الشامل في العراق، واعتبرت أنّ استخدام "القوّة القصوى" هو الحلّ الوحيد لمجابهة أخطار امتلاك تلك الأسلحة؛ وإذا صحّ أنها لم تؤيد غزو العراق مباشرة، فذلك لأنها لم تقع تحت حرج التصويت بالرفض أو الإيجاب، لأنها أصلاً لم تكن عضواً في الكونغرس.

في المقابل، كانت مواقفها الصقرية من مسألة دارفور، ودعوتها إلى قصف المطارات والمدارج والمنشآت العسكرية السودانية، علامات صارخة على تطابقها شبه التامّ مع فلسفة دعاة التدخّل العسكري الخارجي، في صفوف "المحافظين الجدد" على نحو خاصّ. وقد يتفق المرء مع الرأي القائل إنّ طبيعة وظيفتها، في مجلس الأمن الدولي، تقتضي منها التشديد على الأقوال لا على الأفعال، وأنّ ميدانها الأكبر يظلّ صياغة الجملة البلاغية في مجلس الأمن الدولي، وليس صياغة القرار العملي في مجلس الأمن القومي الأمريكي. إلا أنّ تجربة مادلين أولبرايت في الموقع ذاته، سنة 1993 بصفة خاصة، تسوّغ التفكير في احتمالات أبعد أثراً من جعجعة اللفظ وحده. وسواء دانت إليها حقيبة الخارجية، أو ذهبت إلى كيري؛ فإنّ ولاية أوباما الثانية، وفي الملفّ السوري على وجه التحديد، لن تكون مسألة "أسلوب" شخصي، بالمقدار الذي كانت عليه الأمور في عهد السيدة كلنتون.

ما لا يتوجب نسيانه، بخصوص أوباما نفسه هذه المرّة، هو نظرية الرجل المتكاملة حول الطرائق المثلى لقيادة العالم، والتي سبق أن أعلنها على الملأ في خطاب أمام "مجلس شيكاغو للشؤون العالمية"، في نيسان (أبريل) 2007. "هنالك خمسة طرق لكي تعود أمريكا إلى قيادة العالم، حين أكون أنا الرئيس"، قال أوباما، بينها الطريقة الثانية التي تعنينا في هذا المقام: "بناء أوّل نظام عسكري حقّ في القرن الحادي والعشرين، وإظهار الحكمة في كيفية نشره"، حيث "سيبقى في وضعية الهجوم، من جيبوتي إلى قندهار"، وحيث "لا ينبغي لأيّ رئيس أن يتردد في استخدام القوّة ـ حتى من جانب واحد، إذا اقتضت الضرورة ـ لحماية أنفسنا والدفاع عن مصالحنا الحيوية".

وفي تبرير صاعق لعمليات "عاصفة الصحراء" وحرب تدمير البنية التحتية المدنية للعراق وردّه إلى القرون الوسطى، تابع أوباما: "أمّا حين نستخدم القوّة في مواقف غير تلك التي تخصّ الدفاع عن النفس، فإنّ علينا بذل كلّ جهد لضمان دعم صريح ومشاركة من الآخرين، على غرار ما تمكّن الرئيس جورج هربرت بوش من تأمينه في تحمّل العبء والشراكة، قبيل شنّ عملية عاصفة الصحراء". وفي "مواجهة الدول العاصية"، على الولايات المتحدة أن تستخدم "الترسانة القصوى من القوّة الأمريكية"، فضلاً عن "الدبلوماسية الفعالة والتحالفات المسلّحة".

ألا يرجّع هذا الخطاب صدىً ما، سمعناه مراراً وتكراراً من جورج بوش... الابن، وليس الأب؟ ألا يمرّ، من هنا، أيّ تغيير جوهري في الموقف الأمريكي من تسريع إسقاط النظام؟ ومثله تترسخ، في المقابل، ثوابت المصالح الأمريكية في المنطقة، والتي توارثها الرؤساء الامريكيون طيلة عقود، وفي رأسها أمن إسرائيل، وحماية منابع النفط، وإدامة "الحملة على الإرهاب...؟ استطراداً، هل الأمر، في الخلاصة، يخصّ تعيين كيري أو رايس؛ أو إعلاء شأن المجلس الوطني السوري، أو إعلان انتهاء صلاحيته؟

"أيام النظام السوري أصبحت معدودة"، بالفعل، كما ردّد أوباما مراراً؛ ولكن ليس بفضل أيّ خروج من حال المراوحة إلى أيّ حال من التحرّك، بما في ذلك التلويح بالتدخل العسكري؛ أو اتكاءً على تبديل "أسلوب" بآخر، أو معارضة "إسلامية" أو "جهادية" مجهولة العواقب، بأخرى "علمانية" أو "ليبرالية" مضمونة وتحت اليد. وليس، أخيراً لا آخراً، بفضل سردية يجتّرها ساسة استشراقيون يلقون على عاتق أمريكا وحدها دور اقتياد البشرية إلى الحرّية، ضمن حقّ أبدي ثابت خالد... تماماَ كما بشّر أوباما ـ1، ويبشّر اليوم أوباما ـ2!
 

الاثنين، 5 نوفمبر 2012

هولوكوست سورية: لا دموع إلا للتماسيح!

على صفحته الشخصية في "تويتر"، كان جون ماكين، المرشح الجمهوري الذي خسر أمام الرئيس الأمريكي الحالي باراك أوباما في انتخابات 2008، قد حثّ متابعيه على قراءة مقال عن سورية، نشرته صحيفة "واشنطن بوست"، وحمل العنوان المثير: "كيف نوقف المجزرة في سورية". "لا غنى عن قراءته"، كتب ماكين يمتدح المقالة التي وقّعها إيلي فيزل، الأمريكي ـ الرومانيّ الأصل، الناجي من معسكر أوشفتز ـ بيركيناو، القيّم (بقرار تعيين ذاتيّ!) على تراث الهولوكوست، حامل نوبل السلام للعام 1986 (لأنه "الرسول إلى الإنسانية" كما عبّرت اللجنة النروجية)، ومؤلف قرابة 54 كتاباً في المذكرات والتاريخ المقالة والرواية...

فما الذي دفع ماكين إلى ذلك الحماس؟ وما الذي يقترحه فيزل لإنقاذ سورية من المجزرة؟ وكيف يستقيم أن يأتي الإنقاذ من هذا الرجل بالذات، نصير إسرائيل (التي لا يطيب لها إسقاط النظام السوري، في المدى المنظور على الأقلّ)، المدافع الأعمى عن سياساتها واحتلالاتها وحروبها؟ وهل ثمة صلة ما، من أيّ نوع، يقيمها فيزل بين عذابات السوريين طيلة 20 شهراً، وعذابات معسكرات الاعتقال في أوشفتز أو داخاو أو بوخنفالد؟ وما حقيقة صحوة ضمير فيزل، إذا جاز اعتبارها هكذا، بعد طول صمت على عشرات المجازر التي ارتكبها النظام، وشكّلت ما يقترب من هولوكوست بطيء مستديم، مفتوح ومتدرّج؟

حماس ماكين هو نفاق محض، بادىء ذي بدء، وتزلف لا يُعتدّ به، ولا يفاجيء إلا السذّج؛ خاصة وأنّ مقالة فيزل تنهض، بدورها، على نفاق من طراز آخر؛ وليس مستغرباً أن يطبّل الساسة الأمريكيون، في الصفّ الجمهوري مثل الديمقراطي، لكلّ ما يتلفظ به هذا القيّم ذو السطوة والنفوذ، إنْ لم يكن من أجل استرضائه وخطب ودّه، فعلى الأقلّ اتقاءً لغضبه الماحق الذي يستدعي سخط مجموعات الضغط اليهودية جمعاء! هذه النتيجة تعززها حقيقة أنّ مقترحات فيزل، في هذه المقالة وسواها، تسير على نقيض سلسلة المقترحات التي طرحها ماكين بخصوص الوضع في سورية: الأخير يريد "تسليح السوريين لكي يدافعوا عن أنفسهم"، والأوّل "ليس واثقاً من أنّ المساعدة بالأسلحة هي الحلّ المفيد".

ذلك لأنّ فيزل، وبعد تسفيه حلول أخرى مثل العقوبات الاقتصادية وطرد سفراء النظام، واستبعاد التدخل العسكري الأمريكي (لأنّ "الشعب الأمريكي تعب من شنّ الحروب البعيدة"، و"العائلات الأمريكية فقدت أكثر ممّا ينبغي من الأبناء والبنات في نزاعات نائية")؛ لا يُبقي للسوريين إلا بصيص الأمل، شبه الوحيد، التالي: "لِمَ لا ننذر الأسد بأنه، ما لم يوقف السياسة الإجرامية التي ينخرط فيها، سوف يُلقى القبض عليه، ويُحال إلى محكمة الجرائم الدولية في لاهاي، وتُوجّه إليه تهمة ارتكاب جرائم بحقّ الإنسانية. مثل هذه التهمة سوف تثبط عزيمته. وسوف يخسر كل دعم، وكل تعاطف، في طول العالم وعرضه. ولن يدافع عنه أي شخص شريف. ولن تقبل أية أمّة بمنحه الملاذ..."!

هل يمزح فيزل؟ كلا، بالطبع. أهو جادّ في ما يقول؟ ليس تماماً، وإنْ كان اختلاط الجدّ بالهزل مسألة فيها نظر هنا. أهو صادق، في مشاعره تجاه محنة السوريين؟ كلا، وألف كلا! أبناء سورية يعرفون أنه ما من جهة (في سياق ما يقصده فيزل، على صعيد "المجتمع الدولي" وأشباهه من مسميات) سوف تبادر إلى اتهام الأسد، فكيف باعتقاله؛ وثمة لائحة مكشوفة من الأمم التي ستواصل الوقوف إلى جانب نظامه، وستمنحه الملاذ؛ ومثلها لائحة الذين سيتابعون التعاطف معه، سرّاً أو علانية، ومعظمهم سيأتي من صفوف "الممانعة" الزائفة و"اليسار" المتواطىء؛ إذا وضعنا جانباً أصحاب المصلحة، هعلى امتداد الديمقراطيات الغربية، في بقاء نظام تعايشوا معه طيلة أربعة عقود ونيف، وخبروا ما وفّره من أمن على طول خطوط الاحتلال الإسرائيلي للأراضي السورية.

وعلى غرار "المفكر" الفرنسي برنار ـ هنري ليفي، بل أسوأ وأشدّ خبثاً وأبعد عاقبة، لا يملك فيزل أية مصداقية أخلاقية، ولا سياسية بالطبع، كي يدافع عن حقّ شعب عربي هنا، في سورية؛ وفي الآن ذاته يمارس النقيض، من امتداح الغزو والاستيطان والاحتلال، إلى تحوير التاريخ وتشويه الحقائق، ضدّ شعب عربي آخر، في فلسطين مثلاً.  أحدث مآثر فيزل، في هذا الملفّ، أنه استأجر مساحة إعلانية، على امتداد صفحة كاملة في "نيويورك تايمز"، وثلاث صحف يومية أخرى، ينتقد فيها ضغط أوباما على رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، بخصوص وقف البناء الاستيطاني في القدس، ويقول: "بالنسبة إليّ، أنا اليهودي، القدس فوق السياسة. إنها مذكورة أكثر من ستمئة مرّة في كتبنا المقدّسة، ولا تُذكر مرّة واحدة في القرآن. القدس ملك الشعب اليهودي، وهي أكثر من مجرّد مدينة. حزنها وفرحها جزء من ذاكرتنا الجَمْعية".

وفيزل، في نهاية المطاف، هو أحد "صناعيي" العذاب اليهودي، تماماً كما وصفه نقّاد يهود (نورمان فنكلشتاين، على سبيل المثال الأبرز)، ممّن حوّلوا الهولوكوست إلى "صناعة"؛ وبالتالي لا يُنتظر منه أن يصدق إزاء كلّ، وأيّ، عذاب إنساني. ومَنْ اعتبر تقرير ريشارد غولدستون، عن البربرية الإسرائيلية في غزّة، بمثابة "جريمة ضدّ الشعب اليهودي"، هيهات له أن يذرف على الشعب السوري إلا... دموع التماسيح!