كثرٌ هم الخاسرون جراء إعادة انتخاب الرئيس الأمريكي باراك أوباما، في الولايات المتحدة أو في طول العالم وعرضه؛ وليس أوّلهم ميت رومني، منافسه في السباق إلى البيت الأبيض، لهذا السبب تحديداً: أنه الخاسر المعلَن، وليس ذاك المستور أو المتستر. أمّا في عداد هذا الصنف الأخير، فإنّ النماذج لا تنطوي على تنوّع هائل، سياسي وجغرافي وعقائدي، فحسب؛ بل ثمة مقدار مدهش من التضارب، وليس التكامل، في مصالحها التي عُلّقت على احتمال خسارة أوباما، مقابل فوز رومني.
على سبيل المثال الأوّل، رغم أنّ بشار الأسد، في حواره مع فضائية "روسيا اليوم"، مؤخراً، لم يذكر الولايات المتحدة إلا مرّة واحدة، ولم يأت على ذكر أوباما أو رومني؛ فإنّ تحذيراته الدراماتيكة من عواقب غزو نظامه عسكرياً، والتي سوف تمتدّ من المحيط الأطلسي حتى المحيط الهادىء (ولا يُعرف سبب وراء استثناء المحيطات الأخرى: الهندي، والمتجمدَين الشمالي والجنوبي!)، كانت برسم أوباما أكثر من رومني. والأمر هنا مردّه ذلك المنطق الكلاسيكي العتيق، الذي يقول إنّ أي رئيس أمريكي جديد سوف يكون مكبلاً بهواجس الترشيح لولاية ثانية، الأمر الذي يجبره على التأني أو التباطؤ في اتخاذ القرارات ذات المفاعيل الجيو ـ سياسية الكبرى (وهذه كانت حال أوباما تجاه سورية، مثلاً، خلال الولاية الأولى)؛ وأنه، في الولاية الثانية، سوف يكون طليق اليد، وأكثر استعداداً ـ وأشدّ توقاً، ربما ـ لتخليد شخصه عبر البوّابات ذاتها التي يعدّها التاريخ منعطفات حاسمة في السجلّ الكوني.
وهكذا، يرجّح المنطق البسيط أنّ الأسد كان يفضّل خسارة أوباما، لأنّ نتيجة كهذه سوف تفوّت على الأخير إمكانية دخول التاريخ عبر حسم التردد الأمريكي تجاه خطوات إسقاط النظام السوري، والخسارة ستمنعه من اغتنام فرصة الظهور بمظهر منقذ الشعب السوري من الويلات والكوارث (وهذا إغواء لا يُقاوَم بسهولة، من رئيس يباشر ولاية ثانية). وعلى جبهة معنويات النظام الآخذة في التآكل، وما تبقى من طرائق تضليل في إعلام السلطة، لم نكن سنعدم طراز "تحليل" يقول إنّ "صمود" الأسد هو الذي أسقط أوباما، على غرار ذلك "السبق العلمي" الذي انفردت به صفحة "منحبكجية"، شرحت دور نظامَي "الممانعة" السوري والإيراني في إطلاق إعصار ساندي لمعاقبة الشعب الأمريكي. أمّا رومني، في المقابل، فإنّ كلّ تصريحاته عن تسليح المعارضة السورية ليست إلا تخرصات ليل سوف يمحوها نهار الواقع، ما بعد الانتخابات؛ لدى رئيس جديد سوف يخضع للاعتبار الكلاسيكي إياه، وسيسيل لعابه على آفاق تجديد رئاسته، قبل آمال دخول التاريخ.
المرء، في استعراض مثال ثانٍ على الخاسرين من فوز أوباما، يتذكّر حكاية كان يحلو لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو سردها، على نحو لا يغيب عنه الخبث الشديد بالطبع، وإنْ كان السرد ينطوي في ذاته على فضيلة التفضيح المفيد: حين قام أوباما بزيارة إسرائيل، وكان يومها مجرّد مرشّح للرئاسة، انتحى جانباً بزعيم حزب الليكود، نتنياهو، وأسرّ له له بالتالي: "أنت وأنا نشترك في الكثير. لقد بدأتُ على اليسار وانتقلتُ إلى الوسط. وأنت بدأتَ على اليمين وانتقلتَ إلى الوسط. كلانا براغماتي يرغب في إنجاز الأمور".
لكنّ الرغبة شيء، والإنجاز كان شيئاً آخر مختلفاً تماماً، ولهذا لم يوفّر نتنياهو جهداً لإحراج أوباما، ولم يخفِ تعاطفه مع رومني في الانتخابات الرئاسية؛ بل ذهب أبعد، في خطوة حمقاء تماماً، حين ظهر في إعلان انتخابي لصالح الأخير، يغمز من قناة أوباما الذي يتردد في حسم الموقف من البرنامج النووي الإيراني.
ولقد بدا مضحكاً، ومدعاة شماتة صريحة من أنصار أوباما وخصوم نتنياهو، أنّ الأخير انخرط ـ منذ الصباح الباكر ليوم الأربعاء الماضي، حين أُعلن عن فوز أوباما ـ في محاولات إصلاح الضرر وقَلْب الموقف رأساً على عقب: استدعاء السفير الأمريكي إلى مكتب نتنياهو، لالتقاط صورة عن عناق التهنئة الحارّة؛ وإصدار بيان عن العلاقات الإسرائيلية ـ الأمريكية، "الصلبة مثل صخرة"؛ والتعميم على قيادات الليكود بعدم التلميح، في برقيات التهنئة، إلى "خطأ" التعاطف مع رومني. "لم يكن صباح نتنياهو طيباً اليوم"، قال إيلي إيشاي، زعيم حزب شاس، الذي يحدث أيضاً أنه نائب رئيس الوزراء. إيهود أولمرت، الطامح مجدداً إلى رئاسة الوزارة في انتخابات مطلع العام القادم، انقضّ على المناسبة: "في ضوء ما فعله نتنياهو خلال الأشهر الأخيرة، فإنّ السؤال المطروح هو التالي: هل تبقى صديق لرئيس الوزراء في البيت الأبيض؟"...
في كلّ حال، وأياً كانت الوجهة التي ستتخذها ولاية أوباما الثانية تجاه الأسد أو نتنياهو، فإنّ المنطق البسيط الآخر، الأقوى والأعلى والأقرب إلى تجارب الواقع وخلاصات التاريخ، يشير إلى التالي: النظام السوري ساقط، لا محالة، شاء أوباما أم أبى نتنياهو، واتفقا على هذا أم اختلفا أم تبادلا الأدوار؛ والعلاقات الأمريكية ـ الإسرائيلية ما تزال بقوّة الصخور حقاً، شاء مَنْ شاء، وأبى مَنْ أبى (حسب عبارة ياسر عرفات الشهيرة). لا انتصار الشعب السوري رهن بهذه المعادلة، إذاً، ولا وجود الشعب الفلسطيني سحقته تلك الصخرة؛ نقطة على السطر، وهي هنا خير وأبقى!