العدوان العسكري، في أغراضه الردعية ـ الأمنية بصفة خاصة، ركيزة كبرى قام عليها كيان إسرائيل منذ حروب تأسيسها، ولم يكن ارتكاب المجازر خياراً مستبعَداً ضمن هذه العقيدة، والأمثلة عديدة، ومستويات الوحشية التي انطوت عليها كانت قياسية على الدوام. في عبارة أخرى، لم تكن إسرائيل بحاجة إلى ذريعة لكي تطلق عملية "عامود هاعنان"، فتمارس ما اعتبرته "قصاص السماء" ضدّ غزّة، بما في ذلك اغتيال أحمد الجعبري، القيادي في "كتائب عز الدين القسّام"، وهو الأبرز ربما، والقائد الميداني الفعلي. غير أنّ انتفاء الحاجة إلى ذريعة لا يعني، من جانب آخر، أنّ التخطيط لهذا العدوان لم يضع في الحسبان إمكانية استغلال سياقات معيّنة تشهدها المنطقة، قد تساعد في تخفيف الضغط "الأخلاقي" الذي قد يخضع له جيش العدوان الإسرائيلي في ناظر الرأي العام العالمي.
وهكذا، إذا ما قورن عدد شهداء غزّة، جرّاء القصف الإسرائيلي؛ بعدد شهداء سورية، جرّاء قصف النظام السوري لمناطق في حلب ودير الزور وريف دمشق وسواها... فإنّ المقارنة لن تنعقد لصالح القصف الأوّل (أقلّ من عشرة فلسطينيين، مقابل أكثر من مئة سوري)، فحسب؛ بل سيبدو من حقّ جنرال إسرائيلي أن "يتفاخر" بها، قياساً على سلوك أيّ من جنرالات بشار الأسد! ومع حفظ الفارق بين عدوان "وطني"، يمارسه استبداد سوري محلّي؛ وآخر صهيوني، تمارسه دولة معادية قامت على العدوان والاستيطان والعنصرية؛ فإنّ فارق الضحية، بين سوري وفلسطيني، غير قابل لحفظ تمييزي (إلا عند أولئك "الممانعين"، و"القومويين"، الذين قد يساجلون بأنّ مجزرة يرتكبها طاغية عربي ضدّ أبناء بلده، أقلّ مضاضة من مجزرة يرتكبها كيان أجنبي غاصب!).
في المقابل ثمة مَن يذهب أبعد، ليس دون وجه حقّ، فيساجل بأنّ توقيت عملية "عامود هاعنان" لم يكن قد استهدف هذا الغرض وحده، حتى إذا كان تخفيف بعض الضغط الأخلاقي عن جيش العدوان الإسرائيلي يستحقّ ضبط التوقيت عند سياق يتيح عقد المقارنات بين وحشية أجنبية وأخرى عربية. الغرض الآخر، في نظر هؤلاء، هو تخفيف الضغط الهائل الذي يتعرّض له النظام السوري، ليس أخلاقياً فقط، بل سياسياً وعسكرياً، عن طريق "محاصصة" من طراز ما، تحقق الغاية الإسرائيلية، كما تلوح وكأنها تُشرك النظام السوري في الحملات العسكرية لمحاربة "الإرهاب": كوادر "كتائب القسّام"، في غزّة؛ و"العصابات المسلحة"، و"القاعدة"، و"الجهاديين"، و"المندسين"... في سورية.
هذه المساجلة تتكيء على فرضية مفادها أنّ الموقف الإسرائيلي الفعلي، الذي لا يُفصّل علانية بالطبع، وإنما يُلتمس في الأفعال على الأرض، يفضّل الإبقاء على النظام السوري الراهن، رغم كلّ مزاعمه عن "الممانعة" و"المقاومة"، لأنه يظلّ أفضل لأمن إسرائيل، وأعلى ضمانة، من أيّ نظام سوري قادم، معلوماً كان أم مجهولاً. ورغم يقين إسرائيل، الذي بات نهائياً وقاطعاً، بأنّ نظام "الحركة التصحيحية" يوشك على السقوط، والأمور مرهونة بخواتيم الوقت وبعض الترتيبات السورية والإقليمية؛ فإنّ النقاش الإسرائيلي الداخلي، في الحلقة الأضيق من صناعة القرار الأمني ـ العسكري، انتهى إلى ترجيح خيارات مدّ النظام بمزيد من أسباب الاستمرار... إلى حينٍ محسوب تماماً، بالطبع، حين ستستقرّ إسرائيل على صيغة عسكرية و/أو سلمية، لمعالجة ملفّ البرنامج النووي الإيراني.
العلائم تقود المراقب للموقف الإسرائيلي ـ وخاصة ذاك الذي خَبِر مقدار السلام الفعلي، المتين والمنيع، الذي هيمن على وديان وسهول وتلال الجولان المحتلّ (مقابل حالة "الحرب" المعلَنة رسمياً!)؛ وذاك الذي يحسن استذكار طبيعة الخدمات المباشرة، وغير المباشرة، التي أسداها نظام "الحركة التصحيحية" طيلة أربعة عقود ونيف ـ إلى خلاصتَين، بين آراء أخرى أضعف دلالة ربما، حكمتا القرار الإسرائيلي. الأولى عسكرية صرفة، تطرحها غالبية الجنرالات، وترى أنّ إطالة عمر النظام سوف يتكفّل بإلحاق المزيد من الأذى بالجيش السوري، عدداً وعدّة ومعنويات؛ وهو جيش يظلّ عدوّاً لإسرائيل في الكمون البعيد، ومرشّح لأن يصبح أشدّ عداءً، وأقوى شوكة، في سورية المستقبل، بعد سقوط النظام الراهن.
الخلاصة الثانية عسكرية ـ أمنية مختلطة، ترى أنّ استمرار تآكل النظام السوري سوف ينتقل ـ حكماً وسريعاً، وليس من باب الاحتمال والتدريج ـ إلى هضبة الجولان، وعلى جميع خطوط المواجهة مع الاحتلال الإسرائيلي. الخطر هنا سوف يتمثل في قفز "القاعدة"، أو هذه أو تلك من الكتائب المسلحة ذات التوجه الإسلامي والجهادي المتشدد، إلى ملء الفراغ في الجولان، الأمر الذي سيضع إسرائيل في مواجهة مفتوحة، هي الأولى من نوعها، مع طرائق القتال التي تعتمدها "القاعدة"، واختبرتها وجرّبتها في أفغانستان والعراق واليمن. يزيد في الأخطار أنّ مناطق الفصل بين القوّات، على امتداد الجولان، تشكّل طبوغرافية اختلاط معقدة، ومربكة تماماً، بين قوّات الاحتلال الإسرائيلية، والجيش السوري، ومراقبي الأمم المتحدة.
وكانت المعطيات تفيد بتوافق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو مع وزير الدفاع إيهود باراك على تفضيل الخلاصة الأولى، ميدانياً وعلى المستوى العسكري؛ وتدعيمها سياسياً، عن طريق الاستنجاد بمجموعات الضغط الأمريكية، لإقناع إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما بأن تبقى الضغوطات على النظام السوري مقتصرة على الدبلوماسية والعقوبات الاقتصادية. إلا أنّ الأمر أخذ يتبدّل في الآونة الأخيرة، وبدا أنّ إسرائيل تريد للتبدّل أن يتخذ صفة تهويلية، وذلك عن طريق إجراءات مسرحية مثل إخلاء جبل الشيخ من السيّاح، بذريعة نجاح "مسلحين سوريين معارضين للنظام" في الوصول إلى مناطق قريبة من ذرى حرمون، و"على الحدود مع إسرائيل".
ومع اندلاع أولى المواجهات العسكرية بين قوّات النظام السوري والمقاومة الشعبية في بعض قرى وبلدات الجولان المحاذية للاحتلال الإسرائيلي، وخاصة ريف مدينة القنيطرة (بريقة، وبير عجم)، أخذ تبدّل الموقف الإسرائيلي يتجلى أكثر، وبات أوضح. ذلك لأنّ هذه المواقع السورية تقع في منطقة الفصل منزوعة السلاح، وبالتالي لا يحقّ للجيش السوري أن يستخدم فيها أيّ طراز من الأسلحة الثقيلة أو المدفعية؛ وما دام جيش النظام السوري قد قصفها بشدّة، وبمعدّل قذيفة في كلّ دقيقة، وسكت الجانب الإسرائيلي عن عمليات القصف (ما خلا تلك "الطلقات التحذيرية"، الخلّبية، التي استهدفت ذرّ الرماد في العيون)؛ فإن التفسير يصبح بسيطاً بقدر ما هو جلي: أنّ عمليات القصف هذه تخدم إسرائيل، ولهذا فإنها لم تسكت عنها فحسب، بل قبلتها وتقبّلتها، إذا لم يذهب الظنّ إلى ترجيح احتمال تطوّعها لتقديم العون في التنفيذ.
ولقد لاح، في المقابل، أنّ جنرالات الجيش الإسرائيلي قد أحنوا الهامة أمام أقطاب المؤسسة الأمنية، فعرضت التلفزة الإسرائيلية لقطات سخية من جولة تفقدية قام بها الجنرال أفيف كوخافي، رئيس جهاز الاستخبارات العسكرية، "آمان"، على بعض نقاط حدود الاحتلال الإسرائيلي. صحيفة "يديعوت أحرونوت" نقلت عن كوخافي هذا التصريح الدراماتيكي الدالّ: "إنّ المعارك السورية تقع على مبعدة أميال قليلة من إسرائيل، وهى تهدد أمننا"؛ فضلاً عن أنّ "القتال بين الجيش النظامي السوري والثوّار يقترب شيئًا فشيئًا من الخط الحدودي بيننا وبين سورية". أمّا جرعة التهويل الختامية فقد انتهت إلى التالي: "تشير تقديرات الاستخبارات الإسرائيلية إلى أن هضبة الجولان ستصبح، فى الوقت القريب العاجل، منطقة ضعيفة مع ضعف الحكم المستمر فى سورية"؛ وأنّ "عدم سيطرة النظام السوري على الحدود، وتسلل المزيد من عناصر نظام الجهاد العالمي، خلق أوضاعاً جديدة تهدد النظام الأمني في إسرائيل".
أليست هذه هي جرعة التحذير، الأمنية ـ العسكرية، الأشدّ تهويلاً، منذ قرابة 40 سنة، أو حتى قبلئذ؟ متى تحدّث جنرال أمني إسرائيلي عن اقتراب "نظام الجهاد العالمي" من حدود الاحتلال، مقترناً بتقدير صريح عن "ضعف الحكم المستمر" على الضفة الأخرى؟ وإلى جانب إغماض العين وصمّ الآذان عن قصف بلدات مثل بير عجم وبريقه، وتوفير المعلومات الاستخبارية والتجسسية حول انتشار "الثوار"، وذلك عن طريق إطلاق القنابل الضوئية في نطاق عمليات جيش النظام السوري... ما الذي يمكن لإسرائيل أن تفعله، لكي يعود النظام السوري إلى سابق عهده في حُسْن حماية "الحدود"، كما فعل طيلة أربعة عقود؟
المرء يعود بالذاكرة إلى 18 شهراً خلت من عمر انتفاضة الشعب السوري، وإلى التصريحات التي نسبتها صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية إلى رامي مخلوف، ابن خال الأسد، صيرفي النظام، وتمساح الاستثمار والأعمال الأشرس، بصدد العلاقة الوثيقة بين استقرار النظام السوري، واستقرار إسرائيل. آنذاك، قال مخلوف بالحرف: "إذا لم يتوفّر استقرار هنا، فلا سبيل إلى استقرار في إسرائيل"؟ بعد أسابيع قليلة، سوف يفتعل الأسد حكاية السماح لعدد من الفلسطينيين باقتحام حدود الاحتلال الإسرائيلي في محاذاة بلدة مجدل شمس، على السفح الجنوبي لجبل حرمون، في الجولان المحتل. وكانت تلك رسالة إلى أصدقاء إسرائيل، والعالم بأسره، أنّ الأسد مستعد لخرق المحرّمات، وافتعال حرب فلسطينية ـ إسرائيلية (لن تتضمن إرسال جيش النظام ذاته لعبور الحدود، غني عن القول!)، حفاظاً على نظام الاستبداد والفساد الذي ورثه عن أبيه.
والمرء يتذكّر، أيضاً، أنّ مناحيم بيغن، رئيس الوزراء الإسرائيلي سنة 1981؛ وأرييل شارون، وزير الدفاع الصقر؛ ويوسف بورغ، وزير الداخلية الممثل للأحزاب الدينية المتشددة؛ وجدوا فرصة ذهبية سانحة لإصدار قرار من الحكومة الإسرائيلية، صادق عليه الكنيست بعدئذ، وقضى بضمّ الجولان المحتلّ إلى دولة إسرائيل. كان حافظ الأسد منشغلاً، يومها، بتنفيذ مجازر جبل الزاوية، وسرمدا، وسوق الأحد وحيّ المشارقة في حلب، وساحة العباسيين في دمشق، وسجن تدمر... ولم تكن الفرصة متمثلة في انشغال جيش النظام بمعاركه ضدّ الشعب السوري، إذْ كانت الحكومة الإسرائيلية واثقة تماماً أنّ الأسد الأب لن يحرّك ساكناً في كلّ حال؛ بل لأنّ ضمّ الجولان سيمرّ دون حرج دبلوماسي، ودون تعاطف دولي مع نظام يذبح مواطنيه في طول سورية وعرضها؛ وبالتالي فهو غير مكترث بخسران أرض محتلة، هو عاجز أصلاً عن تحريرها، لا بالحرب ولا بالسلام.
وهل للمرء أن يردّد: ما أشبه اليوم بالأمس، إذاً، بين قرار ضمّ الجولان، وعملية "عامود هاعنان"، من حيث استغلال السياقات المجاورة، أو البناء عليها؟ أغلب الظنّ أنّ الإجابات، با ستثناء تلك التي يمكن أن تصدر عن "الممانع" و"القوموي" دون سواه، لن تفلح في طمس البُعد الأكبر في معادلات المقارنة: فارق طبائع الجلاد لا يصنع فارقاً نظيراً، في هوية دم الضحية!