هذا التذكير بالسجلّ الاكاديمي والوظيفي يبيح للمرء أن يتحرّى عند رايس مقدار الحدّ الأدنى من الرصانة السياسية أو الفكرية، حتى حين يختلف تماماً مع مواقفها، أو يخالفها في جميع ما تعرب عنه من آراء. وهكذا، بعد طول غياب واحتجاب عن التعليق على الانتفاضة السورية، خرجت رايس بمقال في صحيفة "واشنطن بوست"، عنوانه "سورية نقطة مركزية للحفاظ على تماسك الشرق الأوسط"، ينتهي إلى خلاصتَين، بين استنتاجات أخرى مكرورة على نحو أو آخر. الأولى تقول إنّ إيران المعاصرة هي كارل ماركس القرن التاسع عشر: الأخير هتف: "يا عمّال العالم اتحدوا!"، طالباً منهم أن يتخلصوا من "الوعي الزائف" بالهوية الوطنية، لأنّ المصالح المشتركة التي تجمعهم عابرة للحدود، وأكبر من تلك التي تربطهم بطبقات تقهرهم باسم القومية؛ والأولى، إيران، تهتف: "يا شيعة العالم اتحدوا!"، لأنّ الاصطفاف خلف المذهب أهمّ من التشبث بالهويات الوطنية، في السعودية والبحرين والعراق ولبنان وسورية... حسب لائحة رايس.
والحال أنّ هذا القراءة للوقائع الراهنة في المنطقة لا تختزل الجوهر الشعبي والديمقراطي في الانتفاضات العربية عموماً، والسورية بصفة خاصة، فقط؛ بل تمسخ حركية التاريخ، قديمه ووسيطه ومعاصره، في المنطقة بأسرها، إلى صراعات مذهبية وإثنية فقط؛ كما تسطّح علم اجتماع الطبقات والعقائد والهويات إلى محض استقطابات جامدة، ساكنة تارة، أو قابلة لأبسط أنماط الاستغلال والتحكّم الخارجي طوراً. وإذا كانت المقارنة بين ماركس وطهران (سواء مثّلها الوليّ الفقيه، أو محمود أحمدي نجاد، أو جنرالات "الحرس الثوري"...) مضحكة وسطحية وبلهاء، إذا جاز قبولها على أي وجه أصلاً؛ فإنّ الهبوط بالانتفاضة السورية إلى سوية مشاحنات سنّية ـ شيعية، ولعبة قوى أقليمية محورها التصارع بين المذهبَين، يكشف منسوب الانحدار السياسي، أسوة بذاك الفكري والعقلي، الذي يمكن أن تنحطّ إليه تحليلات رايس، أستاذة العلوم السياسية، وصاحبة السجلّ الوظيفي والأكاديمي الذي سبقت الإشارة إليه.
إنها لا تخاف على شعوب المنطقة من جور أنظمة استبداد ونهب وتوريث ومافيات (سبق لإدارات البيت الأبيض أن ساندتها، سرّاً أو علانية، لأنها كانت في طليعة خَدَم المصالح الأمريكية هناك)؛ وتضرب صفحاً تاماً، كاملاً، عن دورها هي شخصياً في اجتراح أردأ، وأسوأ، النظريات عن حاضر المنطقة (ابتداءً من "الفوضى الخلاقة"، مروراً بـ"الفاشية الإسلامية"، وانتهاءً بـ"الشرق الأوسط الجديد"...). مخاوفها تتركز على، لأنها إنما تنبثق من، "البنية الهشة" لدول المنطقة، وعنها تقول: "كلّ دولة مهمة هي إنشاء حديث، خلقه البريطانيون والفرنسيون، الذين رسموا الحدود مثل خطوط على ظهر مغلّف، وغالباً دون اكتراث بالفوارق الإثنية والطائفية".
وبهذا فإنّ بنية المنطقة تقوم على التالي: "البحرين، المؤلفة من شيعة بنسبة 70 في المئة، يحكمها أمير سنّي. السعودية أُنشئت بـ 10 بالمئة من الشيعة في مناطقها الشرقية الأغنى. العراق يتألف من شيعة بنسبة 65 بالمئة، وعرب سنّة بـ 20، وما تبقى خليط من الكرد وسواهم، حكمهم دكتاتور سنّي بقبضة من حديد، حتى سنة 2003. سكان الأردن فلسطينيون بنسبة تقارب الـ70 في المئة. لبنان منقسم بين السنة، والشيعة، والمسيحيين. ثمّ تأتي سورية: تجمّع من السنة، والشيعة، والكرد وغيرهم، تحكمهم أقلية علوية". حسناً، ألم تكن هذه "الهشاشة" في ذهن رايس حين كانت في هرم صناعة القرار، ساعة اتخذ البيت الأبيض قرار غزو العراق؟ ولماذا لم تكن "الهشاشة"، إياها، عائقاً أمام آمال انتقال "فيروس" الديمقراطية، بوصفها إحدى ذرائع رهط المحافظين الجدد في تبرير اجتياح العراق؟
تلك أسئلة صارت نافلة عند رايس، أغلب الظنّ، لأنّ الطور الراهن من تفكيرها يحتمل المطالبة بتسليح المعارضة، ولكن ليس دون التحذير من تغلغل "القاعدة" إلى صفوفها، خاصة وأنّ "الحروب الأهلية تميل إلى تقوية القوى الأسوأ. وإسقاط الأسد يمكن، بالفعل، أن يجلب هذه القوى الخطرة إلى السلطة". نسلّحهم، أو بعض الذين ننتقيهم نحن فقط، من جهة؛ ونتخوّف من انتصارهم، لأنه قد يأتي بما هو أسوأ، من جهة ثانية. وتلك منزلة تناقض بين التعاطف مع المعارضة والتخوّف منها، يجوز أن تُقارَن بموقف آخر يعود إلى مطلع العام 2007: في يوم أوّل، طالبت رايس بإطلاق سراح الناشط المصري أيمن نور؛ وفي يوم تالٍ، عقدت اجتماعاً مع أربعة مسؤولين أمنيين عرب، كان بينهم المصري عمر سليمان... سجّان نور!
فكيف لا يتبدى آية الله علي خامنئي، عندها، في إهاب الرفيق كارل ماركس؟