على صفحته الشخصية في "تويتر"، كان جون ماكين، المرشح الجمهوري الذي خسر أمام الرئيس الأمريكي الحالي باراك أوباما في انتخابات 2008، قد حثّ متابعيه على قراءة مقال عن سورية، نشرته صحيفة "واشنطن بوست"، وحمل العنوان المثير: "كيف نوقف المجزرة في سورية". "لا غنى عن قراءته"، كتب ماكين يمتدح المقالة التي وقّعها إيلي فيزل، الأمريكي ـ الرومانيّ الأصل، الناجي من معسكر أوشفتز ـ بيركيناو، القيّم (بقرار تعيين ذاتيّ!) على تراث الهولوكوست، حامل نوبل السلام للعام 1986 (لأنه "الرسول إلى الإنسانية" كما عبّرت اللجنة النروجية)، ومؤلف قرابة 54 كتاباً في المذكرات والتاريخ المقالة والرواية...
فما الذي دفع ماكين إلى ذلك الحماس؟ وما الذي يقترحه فيزل لإنقاذ سورية من المجزرة؟ وكيف يستقيم أن يأتي الإنقاذ من هذا الرجل بالذات، نصير إسرائيل (التي لا يطيب لها إسقاط النظام السوري، في المدى المنظور على الأقلّ)، المدافع الأعمى عن سياساتها واحتلالاتها وحروبها؟ وهل ثمة صلة ما، من أيّ نوع، يقيمها فيزل بين عذابات السوريين طيلة 20 شهراً، وعذابات معسكرات الاعتقال في أوشفتز أو داخاو أو بوخنفالد؟ وما حقيقة صحوة ضمير فيزل، إذا جاز اعتبارها هكذا، بعد طول صمت على عشرات المجازر التي ارتكبها النظام، وشكّلت ما يقترب من هولوكوست بطيء مستديم، مفتوح ومتدرّج؟
حماس ماكين هو نفاق محض، بادىء ذي بدء، وتزلف لا يُعتدّ به، ولا يفاجيء إلا السذّج؛ خاصة وأنّ مقالة فيزل تنهض، بدورها، على نفاق من طراز آخر؛ وليس مستغرباً أن يطبّل الساسة الأمريكيون، في الصفّ الجمهوري مثل الديمقراطي، لكلّ ما يتلفظ به هذا القيّم ذو السطوة والنفوذ، إنْ لم يكن من أجل استرضائه وخطب ودّه، فعلى الأقلّ اتقاءً لغضبه الماحق الذي يستدعي سخط مجموعات الضغط اليهودية جمعاء! هذه النتيجة تعززها حقيقة أنّ مقترحات فيزل، في هذه المقالة وسواها، تسير على نقيض سلسلة المقترحات التي طرحها ماكين بخصوص الوضع في سورية: الأخير يريد "تسليح السوريين لكي يدافعوا عن أنفسهم"، والأوّل "ليس واثقاً من أنّ المساعدة بالأسلحة هي الحلّ المفيد".
ذلك لأنّ فيزل، وبعد تسفيه حلول أخرى مثل العقوبات الاقتصادية وطرد سفراء النظام، واستبعاد التدخل العسكري الأمريكي (لأنّ "الشعب الأمريكي تعب من شنّ الحروب البعيدة"، و"العائلات الأمريكية فقدت أكثر ممّا ينبغي من الأبناء والبنات في نزاعات نائية")؛ لا يُبقي للسوريين إلا بصيص الأمل، شبه الوحيد، التالي: "لِمَ لا ننذر الأسد بأنه، ما لم يوقف السياسة الإجرامية التي ينخرط فيها، سوف يُلقى القبض عليه، ويُحال إلى محكمة الجرائم الدولية في لاهاي، وتُوجّه إليه تهمة ارتكاب جرائم بحقّ الإنسانية. مثل هذه التهمة سوف تثبط عزيمته. وسوف يخسر كل دعم، وكل تعاطف، في طول العالم وعرضه. ولن يدافع عنه أي شخص شريف. ولن تقبل أية أمّة بمنحه الملاذ..."!
هل يمزح فيزل؟ كلا، بالطبع. أهو جادّ في ما يقول؟ ليس تماماً، وإنْ كان اختلاط الجدّ بالهزل مسألة فيها نظر هنا. أهو صادق، في مشاعره تجاه محنة السوريين؟ كلا، وألف كلا! أبناء سورية يعرفون أنه ما من جهة (في سياق ما يقصده فيزل، على صعيد "المجتمع الدولي" وأشباهه من مسميات) سوف تبادر إلى اتهام الأسد، فكيف باعتقاله؛ وثمة لائحة مكشوفة من الأمم التي ستواصل الوقوف إلى جانب نظامه، وستمنحه الملاذ؛ ومثلها لائحة الذين سيتابعون التعاطف معه، سرّاً أو علانية، ومعظمهم سيأتي من صفوف "الممانعة" الزائفة و"اليسار" المتواطىء؛ إذا وضعنا جانباً أصحاب المصلحة، هعلى امتداد الديمقراطيات الغربية، في بقاء نظام تعايشوا معه طيلة أربعة عقود ونيف، وخبروا ما وفّره من أمن على طول خطوط الاحتلال الإسرائيلي للأراضي السورية.
وعلى غرار "المفكر" الفرنسي برنار ـ هنري ليفي، بل أسوأ وأشدّ خبثاً وأبعد عاقبة، لا يملك فيزل أية مصداقية أخلاقية، ولا سياسية بالطبع، كي يدافع عن حقّ شعب عربي هنا، في سورية؛ وفي الآن ذاته يمارس النقيض، من امتداح الغزو والاستيطان والاحتلال، إلى تحوير التاريخ وتشويه الحقائق، ضدّ شعب عربي آخر، في فلسطين مثلاً. أحدث مآثر فيزل، في هذا الملفّ، أنه استأجر مساحة إعلانية، على امتداد صفحة كاملة في "نيويورك تايمز"، وثلاث صحف يومية أخرى، ينتقد فيها ضغط أوباما على رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، بخصوص وقف البناء الاستيطاني في القدس، ويقول: "بالنسبة إليّ، أنا اليهودي، القدس فوق السياسة. إنها مذكورة أكثر من ستمئة مرّة في كتبنا المقدّسة، ولا تُذكر مرّة واحدة في القرآن. القدس ملك الشعب اليهودي، وهي أكثر من مجرّد مدينة. حزنها وفرحها جزء من ذاكرتنا الجَمْعية".
وفيزل، في نهاية المطاف، هو أحد "صناعيي" العذاب اليهودي، تماماً كما وصفه نقّاد يهود (نورمان فنكلشتاين، على سبيل المثال الأبرز)، ممّن حوّلوا الهولوكوست إلى "صناعة"؛ وبالتالي لا يُنتظر منه أن يصدق إزاء كلّ، وأيّ، عذاب إنساني. ومَنْ اعتبر تقرير ريشارد غولدستون، عن البربرية الإسرائيلية في غزّة، بمثابة "جريمة ضدّ الشعب اليهودي"، هيهات له أن يذرف على الشعب السوري إلا... دموع التماسيح!