ولعلي
أبدأ من حكاية قانونية، لا تشير إلى شجاعة وايت الشخصية، وموقفه النقدي العميق من
المؤسسة الرسمية الأمريكية، والحرّية الأكاديمية وحرمة الحرم الجامعي، فحسب؛ بل هي
إشارة عملية إلى طبيعة الحسّ بالتاريخ الفعلي، على نقيض ما اتُهم به وايت من تفضيل
القراءة البلاغية لما هو فوق التاريخ (بمعنى بادئة الـ Meta كما استخدمها في عنوان
كتابه الأشهر). ففي عام 1972، وكان يومذاك أستاذاً في جامعة كاليفورنيا ـ لوس
أنجليس، رفع وايت شكوى ضدّ إدوارد م. دافيز رئيس الشرطة، بتهمة الإنفاق غير الشرعي
للأموال العامة عن طريق زرع مخبرين في أقسام الجامعة، سجلوا أنفسهم كطلاب وكانت
مهامهم الحقيقية هي كتابة تقارير عمّا يدور من مناقشات في قاعات التدريس. وقد صعدت
الشكوى إلى المحكمة العليا في كاليفورنيا، وصدر حكم بالإجماع لصالح وايت، الأمر
الذي سجّل سابقة قانونية تحظر على الشرطة أيّ انخراط في المراقبة خارج التفويض
السليم على أساس الاشتباه بالجريمة.
أنوّه،
كذلك، بأسف، إلى أنّ وايت ليس معروفاً في العالم العربي كما يليق بمفكّر كبير
وفيلسوف في التاريخ من طرازه. وتقتضي الإشارة، دون إبطاء، إلى مبادرة حميدة لهيئة
البحرين للثقافة والآثار، التي أصدرت أوّل كتاب مترجم (في حدود ما أعلم) من تأليف
وايت؛ هو "محتوى الشكل: الخطاب السردي والتمثيل التاريخي"، نقله إلى
العربية نايف ياسين وراجعه فتحي المسكيني. هنالك، بالطبع، إشارات متفرقة إلى أعمال
وايت ونظريته حول السردية والميتا ـ تاريخ؛ بينها فصل فرعي في كتاب "المعرفة
التاريخية في الغرب: مقاربات فلسفية وعلمية وأدبية"، للمؤرخ اللبناني قيس
ماضي فرّو. كذلك كان لي شرف التنويه بتنظيراته حول العلاقة بين التاريخ والسرد،
ضمن دراسة مطوّلة عن نظريات ما بعد الاستعمار، نُشرت في فصلية "الكرمل"،
العدد 47، 1993.
أعود إلى
كتاب وايت حول الميتا ـ تاريخ، متوقفاً أوّلاً عند ذلك الاقتباس المحيّر ــ من
غاستون باشلار، في "التحليل النفسي للنار" ــ الذي يضعه وايت في مستهلّ
الكتاب: "ليس في وسع المرء أن يدرس إلا ما حلم به أوّلاً"! مصدر الحيرة
أن تتخيّل مؤرخاً أوربياً، ما دام كتاب وايت يتناول ما وراء المخيلة التاريخية في
أوربا القرن التاسع عشر، لا يفلح في دراسة أحقاب الثورة الفرنسية، أو الحرب
الأهلية الأمريكية، أو الثورة الروسية، إلا إذا حلم بها! ليس هذا هو المقصود،
بالطبع، ولكنّ تبسيط المعادلة، عن سابق قصد هنا، يمكن أن يفضي إلى إدراك التعقيد
الداخلي الذي تنطوي عليه فرضيات وايت حول كتابة التاريخ من موقع الخطاب؛ بما فيه
من رومانس في الواقعية (الفرنسي جول ميشليه، مثلاً)؛ أو الكوميديا (الألماني
ليوبولد فون رانكه)؛ أو التراجيديا في الواقعية (توكفيل)، أو السخرية (يوهان
لودفيك بوركارت)... أو، بصدد فلسفة التاريخ، "الدفاع الفلسفي عن التاريخ في
صيغة الكناية (عند ماركس)، والاستعارة (نيتشه)، والمفارقة (بنديتو كروتشه)...
ولعلّ
التلخيص الأفضل لمقاربة وايت هو، في هذه العجالة، ما يكتبه في الفقرة الثانية من
مقدّمة كتابه: "في هذه النظرية أتناول العمل التاريخي بوصفه ما يظهر عليه
غالباً: بنية لفظية تأخذ شكل خطاب نثري سردي. التواريخ (وفلسفات التاريخ أيضاً)
تضمّ مقداراً معيناً من ‘المعطيات’، والمفاهيم النظرية لـ’شرح’ تلك المعطيات، وبنية
سردية لتقديمها كأيقونة لمجموعة من الحوادث يُفترض أنها وقعت في أزمنة ماضية.
بالإضافة إلى هذا، أزعم أنها تحتوي على محتوى بنيوي عميق هو شعري عموماً، وألسني
على نحو محدد، في طبيعته، يخدم كنموذج أمّ، مقبول في إطار نقدي مسبق، لما يتوجب أن
يكون عليه ‘الشرح التاريخي’". في صياغة أخرى، يؤمن وايت أنّ المؤرّخ يمارس
فعلاً شعرياً في جوهره، لأنه يستبطن الحقل التاريخي ويقوم بإنشائه كميدان يُسقط
عليه نظريات محددة سوف يستخدمها لتفسير "ما يحدث حقاً" في قلب ذلك
الميدان. وبهذا المعنى يلجأ وايت إلى أربعة من عناصر البلاغة: الاستعارة، الكناية،
المجاز المرسل، والمفارقة.
التاريخ
عبء على كاهل البشر، لا ريب، وجهود وايت لم تستهدف تخفيف أثقاله، بل استرداد كرامة
دراسته كخطاب إنساني بلاغي، يقيم شعرية القول في قلب خشونة الحادث الجلل.
11/3/2018