لعلّ تدخّل حسن نصر الله، الأمين العام لـ"حزب الله"، على مستوى شخصي مباشر، في حادثة اختطاف اللبنانيين في سورية، كان الكاشف الأبرز، فضلاً عن أنه الأحدث، لما يعانيه الحزب من معضلات جسيمة في صياغة موقف متماسك، ضمن الحدود الدنيا، إزاء الانتفاضة السورية، والعلاقة مع النظام السوري استطراداً. وكانت الفقرات المسهبة التي خصصها نصر الله للواقعة، أثناء خطابه في مهرجان عيد المقاومة والتحرير، في بنت جبيل يوم 25 أيار (مايو) الماضي، قد كشفت تحوّلاً دراماتيكياً في خطاب "السيّد"، ليس على المستوى اللفظي وحده، بل كذلك في دلالة القاموس ومغزى المفردة؛ سواء في توصيف/ إعادة تعريف مجريات الانتفاضة، الراهنة، أو "ضبط" نطاق اصطفاف الحزب خلف النظام السوري.
ورغم أنّ نصر الله ابتدأ لائحة الشكر من بشار الأسد (قبل الرئيس اللبناني ميشيل سليمان، وقبل نبيه برّي ونجيب ميقاتي وسعد الحريري ورجب طيب أردوغان وأحمد داود أوغلو...)، إلا أنه أحجم هذه المرّة عن استخدام تعبير "سورية الأسد"، سيء الصيت، الذي كان المفضّل في خطب "السيّد" السابقة (حيث كان، كذلك، يستطيب تكملة التعبير: "سورية حافظ الأسد... سورية بشار الأسد"). وكانت هذه التعابير تشكّل غصّة لدى الجمهور السوري، إذْ يأتي مديح نظام الاستبداد والفساد والتوريث من قائد حركة مقاومة شعبية، لا يكفّ عن التشديد على طهرانية التضحية وشرف الفداء، والانحياز إلى صفّ المستضعفين في الأرض. لم تكن أقلّ جرحاً، بالطبع، تلك الصورة الشهيرة التي تُظهر "السيّد" وهو يقدّم بندقية إسرائيلية من طراز "عوزي"، غنمها رجال المقاومة اللبنانية، هدية إلى العميد رستم غزالي، قائد الاستخبارات السورية في لبنان آنذاك، وأحد أبغض رموز النظام السوري.
يلفت الانتباه، قبل هذا، أنّ "السيد" أعاد صياغة موقف "حزب الله" من المشهد الداخلي السوري كما يلي، في فقرة تتوجه مباشرة إلى الخاطفين: "إذا كان الغرض هو الضغط على موقفنا السياسي مثل التعابير التي سمعها الزوار من الخاطفين، فهذا لن يقدّم ولن يؤخر. نحن موقفنا السياسي من الأحداث التي تجري في سورية منطلقة من ثوابت ومن رؤية ستراتيجية ومن تقييم للوضع في المنطقة، ومن قراءة دقيقة وهادئة وعاقلة للتهديدات والأحداث والمشاريع. ولذلك نحن في سورية مع الحوار ومع الإصلاح ومع الوحدة الوطنية ومع إنتهاء أي شكل من أشكال المواجهة المسلحة، ومع المعالجة السياسية من أجل سورية، من أجل مستقبلها وموقعها وشعبها وأهلها وسلامتها وقوتها".
ورغم أنّ نصر الله واصل اعتبار ما يجري في سورية مجرّد "أحداث"، وليس انتفاضة شعبية، أو حتى "أزمة" كما في خطاب النظام السوري ذاته مثلاً، فإننا اليوم بعيدون تماماً عن حقبة شهدت إصرار الحزب على اعتبار ما يجري في سورية مؤامرة خارجية، تستهدف "صمود القيادة السورية"، والنيل من موقفها "الممانِع" و"المقاوِم"، والابتعاد بها عن خندق قتال إسرائيل والولايات المتحدة... كذلك عفّ خطاب نصر الله الأخير عن إنكار وجود الشعب السوري في صفّ الانتفاضة، إذْ يتذكّر المرء بأسى شديد سؤال "السيّد"، الأشهر حتى إشعار آخر: "طيب وين الشعب السوري لنأف (لِنقف) حدّو (إلى جانبه)؟"؛ أو إنكار التدمير والمذابح، كما في السؤال الذي لا يقلّ شهرة: "شو في بحمص؟ ما في شي بحمص!").
ولا أحد ينكر على الحزب دعوته إلى "الإصلاح" في سورية، و"الوحدة الوطنية" و"إنتهاء أي شكل من أشكال المواجهة المسلحة"، و"المعالجة السياسية"، وسوى هذه كلها من مطالب. ولكن، ألم يكن النظام ذاته بطل "الإصلاح" و"الوحدة الوطنية" و"المعالجة السياسية"؛ ولكن، في الأن ذانه، بطل استخدام جميع صنوف الأسلحة الثقيلة في حصار المدن وقمع التظاهرات، واعتقال المواطنين وممارسة التعذيب والتصفيات الجسدية؟ وكيف للمواطن السوري أن ينسى، أو يغفر، موقف نصر الله المساند للنظام، على نحو تامّ ومطلق وراسخ وثابت، في خطبته الأولى حول "الأحداث" في سورية، بعد يوم واحد أعقب افتضاح الجريمة النكراء بحقّ الفتى حمزة الخطيب؟ أو مواقف الأمين العام لـ"حزب الله"، التي تغنّت بالثورات في تونس ومصر وليبيا والبحرين واليمن، ولكنها اعتبرت ما يجري في سورية "مؤامرة" إسرائيلية ـ أمريكية، تستهدف "المقاومة اللبنانية" مثلما تستهدف النظام السوري؟
المرء، إلى هذا، على مبعدة ملموسة، في السياسة والمتغيرات الجيو ـ سياسية، من اللقاء الثلاثي الذي شهدته العاصمة السورية في ربيع 2010، وضمّ بشار الأسد، رأس نظام استبدادي وراثي؛ و محمود أحمدي نجاد، رئيس دولة تعتمد مبدأ "ولاية الفقيه" غير الديمقراطي وغير العصري؛ و حسن نصر الله، زعيم حركة مقاومة لبنانية، تؤمن بالمبدأ ذاته، ولا تعفّ عن استخدام سلاح المقاومة في تطويع المعادلة السياسية الداخلية. هل كان ممكناً لهذه "الخلطة" أن تنتج ممانعة من أي نوع؟ وكيف أمكن للمواطن السوري أو الإيراني أو اللبناني أن يباركها، إذا كانت قد انقلبت وتنقلب ضدّ الشارع الشعبي، في دمشق وطهران وبيروت، ساعة تشاء الحسابات السياسية؟
ولم يكن خافياً، إلا على السذّج ودافني الرؤوس في الرمال، أنّ حضور نصر الله على نحو علني صارخ كان، بدوره، رسالة إلى الولايات المتحدة وإسرائيل، يشترك في توجيهها النظام السوري وإيران معاً: كلاهما لكي يحسّن موقعه التفاوضي والدبلوماسي، ويرفع قيمة ما يمتلك من أوراق، أو يكشف عنها ويلوّح بها. ومن جانب طهران، كان في الرسالة بُعد خاصّ يذكّر الحليف السوري بأنّ "حزب الله" هو ركن التحالف الأكبر والأهمّ، وأنه رقم يتوجب احتسابه في كلّ تقارب للمصالح بين دمشق وطهران، وفي كلّ تنافر لتلك المصالح أيضاً. وإذا كان النظام السوري قد احتسب هذا جيداً، لأنه يدخل في صلب موازناته مع واشنطن والغرب عموماً، فإنّ مبادرة طهران إلى التذكير به بين الحين والآخر كان ينفع دمشق، ولا يضرّ سواها!
واليوم قد لا يختلف عاقلان (وضمن صفوف "حزب الله" ذاته، حيث يتوفر عقلاء كثر كما يرجح المرء) حول واحد من المعطيات الإقليمية الكثيرة التي أفرزتها الانتفاضة السورية، أي الخسران الكبير الذي تعرّض له "حزب الله" على الصعيد الشعبي العربي عموماً، والسوري بصفة خاصة وأكيدة، جرّاء مواقف الحزب المؤيدة للنظام السوري، والصامتة عن جرائمه. وهذه فرصة جديدة للتوقف، مجدداً، عند إشكاليات مثال "حزب الله"، إذْ تبدو الحال بالنسبة إلى النظام السوري ونظام "ولاية الفقيه" الإيراني أوضح وأبسط، إلا عند عاصبي الأبصار والعقول عن سابق قصد وتصميم.
ذلك لأنّ الحزب صعد، أوّلاً، على خلفية انتصار الثورة الإسلامية الإيرانية، ثم تبلور وجوده العسكري والعقائدي بعدئذ على خلفيات الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982، ومجازر صبرا وشاتيلا، واحتلال الجنوب اللبناني. وكان خطّه العقائدي العام مناهضاً على نحو راديكالي لـ"الإمبريالية والصهيونية وعملائهما المحليين" كما جاء في البيانات الأولى. وهو الخطّ الذي يظلّ ساري المفعول بدرجة عالية، خصوصاً بعد أن اتسع نطاق توصيف الحزب لطبيعة الخصوم المحليين، بما في ذلك حركة "أمل" ذات حقبة، وتيارات ومنظمات شيعية تقليدية أخرى.
كذلك يتمتّع الحزب بمرونة تحالفية عالية لأنه لا يُلزم المنتسبين إلى صفوفه بأية قواعد تنظيمية، وإنْ كانت تقاليد العمل الداخلية تجعله أقرب إلى مزيج من الميليشيا العسكرية والحوزة الدينية. وهو أقرب إلى تجمّع عقائدي عريض وليس منظمة سياسية واضحة المعالم، الأمر الذي أتاح له يسراً استثنائياً في الانتشار الشاقولي، واحتضان قضايا "المعذبين" و"المستضعفين" و"الفقراء". وإذا ضُمّت إلى ذلك عناصر أخرى مثل الحميّة العقائدية الشيعية، وتقاليد إمامة الفقيه، وثقافة السعي إلى الجهاد والاستشهاد، فإن صيغة "حزب الله" تصبح فريدة في التراث الحزبي العربي الحديث، وتغدو نسيج وحدها ضمن ستراتيجيات التغطية الدينية للحركات التنظيمية.
المسألة الثالثة هي أنّ الحزب بدأ مع الثورة الإسلامية الإيرانية، وكان مجرّد نواة صغيرة في كتلة عريضة امتدّت ظلالها إلى مختلف أرجاء العالم الاسلامي. وإذا كانت صفحة تصدير الثورة عن طريق إيفاد ونشر الحرس الثوري (الإيراني إجمالاً) أو تشكيل فصائل عسكرية ـ عقائدية محلية من نوع "جند الله" و"الجهاد"، قد طُويت مع التطورات الموضوعية اللاحقة التي شهدتها ساحات الصحوة الاسلامية إجمالاً؛ فإن ذلك كان في مصلحة "حزب الله" وليس العكس. لقد جرّد الحركة من طابع ارتباطها الصريح بالخارج، وزجّها مباشرة في عمق المعادلة الداخلية كفريق ينبغي أن يكون له برنامجه اللبناني والعربي والإسلامي المستقل.
والمسألة الرابعة، والأهمّ ربما، هي أنه ليس محتوماً على الحركة الشعبية في الجنوب اللبناني أن تظلّ مجيّرة باسم تنظيم سياسي واحد بعينه، وهي استطراداً ليست حكراً على طرف شيعي واحد بصفة امتيازية أو شبه امتيازية. إنها حركة معقدة للغاية، والعوامل التي أسهمت في بناء فرادتها تبدأ من الخصائص الاجتماعية والاقتصادية والثقافية للسكان، ولا تنتهي عند عقود احتكاكهم بالحركات السياسية والدينية (من الحزب الشيوعي اللبناني، إلى المقاومة الفلسطينية، مروراً بزعماء تاريخيين من أمثال معروف سعد والإمام الصدر)، وعقود عيشهم تحت الاحتلال الإسرائيلي، ومقاومتهم له.
لكنّ "غزوة بيروت" في أيار (مايو) 2008، والفشل في تأمين أغلبية برلمانية بعد انتخابات حزيران (يونيو) 2009، والعجز عن الثأر لاستشهاد عماد مغنية في ما أسماه نصر الله "الحرب المفتوحة" على إسرائيل، وعدم ترجمة مبادىء ميثاق الحزب الجديد إلى تطبيقات سياسية واجتماعية على الأرض، والصمت عن معارك الإصلاحيين في إيران أو التعاطف الضمني مع السلطة، وحال الارتباك المفتوحة في إدارة مآزق حكومة ميقاتي، وازدواجية المعايير في المواقف من انتفاضات العرب... كلّ هذه كانت عوامل تعيد "حزب الله" إلى صياغات تأسيسه الأولى، وتضعه في قلب ارتباطات أحلاف الخارج، هذه التي لم يسبق له أن انفكّ عنها تماماً في الواقع.
غير أنّ أبسط حقوق التحرير على "أبطال التحرير" هو الالتفات إلى البشر على الأرض المحررة، أو استكمال المهمّة عن طريق تحرير الآدمي المقيم على التراب المحرّر، ومنحه فرصة التمتّع بمغانم التحرير، وتلمّس المعنى الإنساني الملموس لفكرة التحرير، والامتناع عن امتداح الاستبداد وتجميل وجوهه القبيحة. هذا حقّ لا يُنازع أيضاً، وهو ثمن طبيعي مقابل التضحيات الجسام التي بذلها معظم اللبنانيين، أينما كانوا وبصرف النظر عن مواقفهم من "حزب الله"، أو حتى من خيار المقاومة بالمعنى العريض. والمراوحة هكذا في المكان، بعد المتغيّرات النوعية التي شهدتها المنطقة، لا تبخس اللبناني حقوقه فحسب، بل هي تستبدل معنى التحرير النبيل والإنساني، بآخر أقرب إلى الاتجار بالمعادلات.
وفي أزمنة عاصفة مثل هذه التي نشهدها، ولاّدة وحمّالة وثورية وانقلابية، كيف لثوابت "حزب الله" أن تظلّ راسخة أزلية، لا تتبدّل ولا تتحوّل؟ وكيف للضرورات الكبرى في معادلات الحزب الجيو ـ سياسية، اللبنانية والعربية والإقليمية، أن لا تنقلب رأساً على عقب، فتبيح... أقصى المحظورات؟