حكاية "السوق السنية"، كما وصفتها مؤخراً وكالة أنباء رويترز (وليس أية جهة إعلامية تابعة لأيّ من قوى الانتفاضة السورية)، تنطوي على جوانب كثيرة جديرة بالتأمل، بينها جانب خاص يتجاوز العناصر المعتادة، التي تصف انفلات سلوك الشبيحة من كلّ عقال، أو إسقاط التحريم عن مفردة "غنائم"، أو تفاقم الهوّة الطائفية، أو عجز اقتصاد الاستبداد عن تلبية نفقات أنصاره، أو استنزاف موارد الميليشيات إلى حدّ أتاح ـ كما أنه أباح، علانية ـ الاتجار بنهب أملاك المواطنين في المدن المنكوبة... ذلك الجانب الخاصّ هو ارتخاء قبضة النظام إزاء المجموعات المختلفة التي تناصره، ويُفترض أنها ما تزال تأتمر بأمره؛ وانحطاط مستويات التنسيق بين السياسات الأمنية، وطرائق العمل، وأدوات التنفيذ. تلك حال تطرح، مجدداً، أسئلة إضافية حول طبيعة مصطلح "قيادة النظام"، وما إذا كان ما يزال جديراً بمحتواه الدلالي، وما تزال مكوّناته تعمل ضمن حدود الانسجام الدنيا.
وهذه "السوق السنّية"، كما بات معروفاً الآن، أنشأها في هوامش مدينة حمص مجموعة من الشبيحة وأنصار النظام، ممّن اعتبروا أنّ نهب محتويات البيوت (المهجورة غالباً، بعد تعرّضها لقصف قوّات النظام) لا يُعدّ "سرقة، إنه حقّنا، هؤلاء يدعمون الإرهاب وعلينا القضاء عليهم"، كما نسبت رويترز إلى أيمن، 25 سنة؛ أو أنّ المسروقات "هي غنائم الحرب ومن حقّنا أخذها، كما قالت امرأة. وثمة صفقات مجزية، على غرار ما يصف حسن، بائع الأثاث: "جاء رجل أعمال من طرطوس الأسبوع الماضي، واشترى بضائع بقيمة ثلاثة ملايين ليرة من السلع المسروقة، ونحن سعداء بهذه الصفقة، ففي نهاية المطاف أنا رجل أعمال والناس تشتري". ليس دون امتعاض من البعض، كما يقول محمود، بائع الخضراوات: "إنهم حثالة المجتمع، والآن سيُنظر إلى العلويين على أنهم لصوص".
والحال أنّ هؤلاء ليسوا حثالة المجتمع فحسب، أو ليست هذه هي الصفة التي تدفعهم إلى طراز من التجارة المنحطة، هي أسوأ من السرقة وأبعد عاقبة من مجرّد نهب ممتلكات الغير، والتعيّش على معاناة وعذابات المهجّرين والمنكوبين، أبناء البلد ذاته الذي يزعم الناهبون أنهم ينتمون إليه، ويدافعون عنه. إنهم، في المقام الأوّل، أنصار النظام وأدواته وأفراد ميليشياته وعناصر أجهزته وعسكره ومرتزقة مؤسساته الاقتصادية والمافيوزية المختلفة؛ إذْ كيف لأيّ منهم أن يتاجر بالمنهوبات هكذا، علانية وعلى مسمع ومرأى السلطات، لولا أنه يحظى بحماية النظام، إذا لم يذهب المرء أبعد، منطقياً في الواقع، فيفترض أنّ الحثالة ليست سوى جمهرة موظفين مأجورين يعملون لدى متنفذين في مستويات أعلى من هرم السلطة؟ إنهم، في المقام الثاني، أدوات مكمِّلة لسياسات استباحة المدن الثائرة، على نحو يجعلها عبرة لسواها من المدن، بالطرائق الأشدّ انحطاطاً وابتذالاً وبشاعة.
صحيح أنّ النظام اشتغل على تسعير العداء بين السنّة وباقي طوائف وأقليات المجتمع السوري، وخاصة أبناء الطائفة العلوية، لأغراض جلية شتى، على رأسها تفتيت اللحمة الوطنية، والإيحاء بأنّ بقاء النظام هو ضمانة حقوق الأقليات، عموماً؛ وسقوط النظام يعني تهديد وجود الطائفة العلوية، بشراً ومعتقدات ومقاماً، بصفة خاصة. وصحيح أنّ أنساق الاشتغال على التسعير تعدّدت وتشعبت، فبدأت من إشاعة السرديات الترهيبية، ومرّت بافتعال المشاحنات الطائفية، دون أن تنتهي عند أعمال النهب والخطف والاغتصاب وارتكاب المجازر الوحشية؛ ودفعت النظام إلى المزيد من أنساق التصعيد، كلما اتضح أنّ مخططات التسعير لا تلاقي فشلاً ذريعاً فقط، بل هي تنقلب على النظام وضدّه. صحيح، أخيراً، أنّ الترغيب، أسوة بالترهيب، كان بين تكتيكات السلطة في اجتذاب المزيد من الأنصار، المستعدّين للدفاع عن بقاء النظام ليس من باب التطوّع، أو الرهبة، أو غريزة البقاء، بل طمعاً في الكسب المادّي، بصرف النظر عن وسائله الحقيرة وسلوكياته الرخيصة.
من الصحيح، في المقابل، أنّ "قيادة" سياسية وعسكرية وأمنية تصارع من أجل البقاء، وتدنو كلّ ساعة من حافة التفكك والتحلل والانهيار، وتغرق أكثر فأكثر في عزلة عن الاجتماع الوطني، وتتمترس خلف خيارات عنفية صارت مجانية ونقيض الأهداف المرجوة منها، واتضح ويتضح كل يوم عجزها عن قطع زخم الانتفاضة أو الحدّ من اتساعها في النطاقات الشعبية الأعمق... "قيادة" كهذه، كيف يمكن أن تجازف هكذا، أو تستهتر وتستهين، فتسمح بتجارة طائفية على شاكلة "السوق السنّية"؟ وإذا صحّ أنّ ناصحي النظام (المخابرات الروسية، الحرس الثوري الإيراني، أجهزة "حزب الله"، بصفة خاصة) ليسوا على هذه الدرجة من تدنّي التفكير، واستفحال الحماقة، بحيث يصدر عنهم نصح باجتذاب "حثالة المجتمع" عن طريق ترخيص التجارة الطائفية؛ فأي "دماغ" عبقري داخل مؤسسة النظام، تفتقت عنه أعجوبة "السوق السنية" هذه، الموغلة في الرخص والسفالة والخسة والغباء؟
لعلّ أبسط الإجابات، وأكثرها ملامسة للمنطق السليم، هي تلك التي تفيد بأنّ مفهوم "النظام"، بمعنى حيازة الحدود الدنيا من التماسك والانسجام والتكامل، قد هبط عند السلطة إلى مستوى الحضيض الأدنى، فصارت الأجهزة تشتغل على هواها، وفق سلسلة اعتبارات ذاتية أو موضوعية، متخبطة غالباً، متناقضة إجمالاً، غير مكترثة بأي رادع، ما دامت قياداتها ترى أداءها واقعاً "تحت مظلة النظام"، في خدمته، ومن أجل إنقاذه. وعلى سبيل المثال، لا مراء في أنّ الضباط الذين أذنوا للشبيحة اللصوص بدخول الأحياء المنكوبة كانوا على يقين من أنهم يسدون للنظام خدمة من نوع ما، وهم استطراداً في حال من الانسجام التامّ مع خطّ القيادة". بيد أنّ "القيادة" هذه، إذْ تأمر بتسعير العداء الطائفي في البلد، وتشجّع الأجهزة على المضيّ في طرائقه أبعد، وأقذر، قد لا يسعدها كثيراً ذلك التقرير الذي نشرته وكالة أنباء رويترز عن "السوق السنّية"؛ أو بالأحرى: المنطق السليم يقول إنّ تلك السوق ينبغي أن تغضب تلك "القيادة"، لا أن تسعدها!
هذا بافتراض أنّ هذه "القيادة" ما تزال تقود بالفعل، وأنها لا تمسك بمقاليد القرار العسكري والأمني، الذي يصدر إلى كتائب الفرقة الرابعة أو الحرس الجمهوري مثلاً، أو مفارز مخابرات القوى الجوية والمخابرات العسكرية والمخابرات العامة في مثال ثانٍ، فحسب؛ بل تُحكم القبضة، أيضاً، على "قيادات" أدنى مستوى، تقود قطعان الشبيحة ومفارز الميليشيات والمرتزقة، وتتحكم بممارساتهم، وتضبطها وتردعها إذا اقتضت الحاجة. لكنّ الواقع على الأرض لا يشير إلى هذا، أو لا يدلّ عليه على نحو لا يجعل أي مراقب محايد يضرب كفاً بكفّ وهو يبصر "قيادة" عليا، سياسية وعسكرية وأمنية، تسمح بنهب بيوت المواطنين المنكوبين، وتأذن بعرضها وبيعها في أسواق علنية، بعد تسميتها "غنائم حرب"!
مفيد هنا التذكير بأنّ المصطلح ذاته، أي "قيادة النظام"، ابتدأ غائماً ومبهماً وغير ملموس بعد وفاة حافظ الأسد في حزيران (يونيو) 2000: مَن هي هذه القيادة على وجه التحديد؟ كيف تشكلت، ومتى؟ ومَنْ، وما الذي، يمنحها سلطة (ولا نقول شرعية) اتخاذ القرارات؟ وهل حظيت بمقدار كافٍ، ومستديم نسبياً، من التماسك والانسجام والتفاهم، سياسياً وأمنياً، وعلى مستوى المصالح والتوازنات بين أطرافها؟ هل بقيت على الحال التي بدأت عليها حين تشكّلت، أو أعادت إنتاج نفسها، بعد غياب الحاكم الوحيد الأوحد، الأسد الأب؟ وما الذي فعلته بها أشهر الانتفاضة الخمسة عشر، سياسياً وأمنياً وعسكرياً واقتصادياً واجتماعياً (وقد يضيف البعض، بعد إسقاط الحياء الكاذب: طائفياً، أيضاً)؟
أعود إلى ثلاث منظومات في تلمّس بعض الإجابة على هذه الأسئلة، أوّلها تلك التي اعتمدتها السلطة ذاتها، وتقول ببساطة إنّ النظام كان متماسكاً ومستقرّاً في الأصل، وما جرى ساعة وفاة الأسد الأب لم يكن سوى محاولة بارعة لتطويق الأمور سريعاً، وتنفيذ القرارات والإجراءات التي كانت "قيادة النظام" قد أجمعت عليها في الأساس، ومنذ وقت طويل، في عهد الأسد الأب، وبرعايته. ذلك يقين يضرب صفحاً تاماً عن طبيعة جولات التطهير التي شهدتها البلاد في الأشهر الأخيرة قبيل رحيل الأسد، ويغفل المغزى السياسي والأمني لاستبعاد رجال من أمثال علي دوبا (الرئيس الأسبق للمخابرات العسكرية) وحكمت الشهابي (رئيس الأركان وأبرز أعضاء مجلس الأمن القومي أيام الأسد الاب)، وعلي حيدر (قائد "الوحدات الخاصة" التاريخي)، فضلاً عن انتحار رئيس الوزراء محمود الزعبي.
منظومة ثانية ترى أنّ "الحرس الفتي"، كما توجّب أن يمثّله بشار وماهر الأسد، وحفنة من الضباط الذين كانوا في الصفّ الثاني أيام الأسد الأب (أمثال غازي كنعان، بهجت سليمان، جميل حسن، علي مملوك)، تصالح سريعاً مع "الحرس القديم" الذي مثّله عبد الحليم خدّام في الواجهة، وضمّ في الخلفية جميع الذين يطالبون بحصّة في الإرث، من قادة الأجهزة الأمنية، إلى رئاسة أركان الجيش وقادة الفرق العسكرية، وصولاً إلى الأفيال والتماسيح الكبار في قيادة الحزب ومؤسسات القطاع العام. وفق هذه المنظومة، الصحيحة إلى حدّ كبير، فإنّ سورية تكون قد فقدت الأسد الأب جسداً فقط، وليس منهجاً أو سياسات: مات الأسد! عاش الأسد!
المنظومة الثالثة تبدو وكأنها تصف انقلاباً عسكرياً وليس مرحلة انتقال "سلسة"، إذْ تقول إنّ القوى الأمنية والعسكرية والسياسية التي وجد الأسد الأب الوقت لحشدها خلف وريثه، هي التي تحرّكت بسرعة قصوى وفرضت سيناريو التغيير الوحيد، وقطعت الطريق على سواه. وتلك قوى كانت تبدأ من وحدات الحرس الجمهوري، وعدد من الفروع الأمنية الموالية، وأفواج النخبة في القوات المسلحة، وهذا أو ذاك من كبار ضباط الأركان. وفي سياق هذه المنظومة، التي تنطوي بدورها على كثير من العناصر الصحيحة، كان من الطبيعي أن تتكاتف أسرة حافظ الأسد، وتتحالف مع الخال محمد مخلوف وأبنائه رامي وحافظ (وهؤلاء ضمنوا اجتذاب كبار التجّار ورجال الأعمال، من كلّ الطوائف)، ومع الصهر آصف شوكت، وضباط أقرباء من طراز ذو الهمة شاليش وعاطف نجيب وسواهم. وكان منطقياً، بالتالي، أن نلمس درجة التكاتف العالية حول البيت الأسدي خلال أشهر الانتفاضة، من جانب القطاعات ذاتها التي نفّذت "انقلاب" حزيران 2000.
بيد أنه كان محتوماً على منطق التكاتف، ذاته، أن ينقلب على المنطق السليم البسيط، فيفرّق أعنّة النظام أيدي سبأ بين أطرافه، العليا والوسطى والدنيا، بما في ذلك تلك الأطراف الدنيا والأدنى التي وصفها المواطن الطيب بائع الخضار، حيث تذهب المجازر والتجارة الطائفية بكلّ، وأيّ، انسجام.