خلافنا معه (وهنا، أيضاً، أسمح لنفسي بافتراض فئات هذه الـ"نحن": جماعات شتى، من السوريين بصفة خاصة، ومن العرب، وأبناء ما كان يُسمّى "العالم الثالث"، ومجموعات أخرى في أربع رياح الأرض كما أقدّر)، يدور حول تشخيص الانتفاضة السورية، وطبيعة القوى الشعبية المشاركة فيها، وآفاق تطوّرها، واحتمالات وقوعها في قبضة الإسلاميين السلفيين و"القاعدة؛ وأيضاً، والأهمّ ربما: كيف يستقيم أنّ الإمبريالية العالمية، والولايات المتحدة بخاصة، تؤيدها وتساندها؟ ليس هنا المقام المناسب لمناقشة هذه الأسئلة، إذْ أنها تجليات حال خلافية مع تيّارات واسعة في صفوف اليسار الغربي، ومع جبهات وقوى تصنّف عقيدتها تحت مسمّى "مناهضة الإمبريالية"، وكذلك مع كتّاب ومعلّقين اعتادوا ـ كما اعتدنا، في الواقع ـ اعتماد التشكيك التامّ في أي موقف غربي ـ إمبريالي، لمَنْ يشاء ـ متعاطف مع قضايا الشعوب، ضدّ أنظمة الاستبداد والفساد.
يكفي القول، في هذا المقام، أنّ كوبرن رحل وهو وفيّ لهذا المبدأ التشكيكي الكبير الناظم، حتى إذا كنّا نرى أنه ـ وهو الماركسي، ربيب الجدل والمادية التاريخية ـ اجتزأ الكثير من عناصر المشهد السوري، واقتفى بُعداً واحداً، وأحادياً أيضاً، قاده إلى ترجيح بغض سياسات البيت الأبيض، وكذلك بريطانيا وتركيا والسعودية... فلم يرجّح، وربما لم يتعمّق ملياً في، الكفة الأخرى الوازنة سياسياً وأخلاقياً، أي قضية الشعب السوري الثائر على نظام دكتاتوري وراثي فاسد، اعتمد ويعتمد العنف الوحشي الأقصى في قمع الانتفاضة، فضلاً عن أنه لم يكن في أيّ يوم عدوّاً فعلياً للإمبريالية!
كما أنّ إنصاف كوبرن يقتضي الإشارة إلى أنه رحل وهو وفيّ لمبدأ آخر ناظم، طبع حياته ومواقفه وكتاباته، أي عدم مهادنة الطغاة أينما كانوا، الأمر الذي جعله لا يتردد في وصف النظام السوري بأبشع النعوت، فلم يقع في السقطة الفاضحة التي قادت بعض الكتّاب اليساريين إلى نفي الصفة الدكتاتورية عن نظام بشار الأسد، أو اعتباره "شبه دكتاتورية"، أو حتى "دكتاتورية بلا دكتاتور"! لم يرحل، إذاً، وقد ألحق بتاريخه وصمة عار فاضحة، على غرار السقطة ـ المهنية أوّلاً، قبل أي اعتبار آخر ـ التي انحدر إليها روبرت فيسك مثلاً، حين صدّق، بل تطوّع للمصادقة بحماس على، ما يمكن أن يبوح به معتقل، في مكتب أحد ضبّاط استخبارات النظام السوري!
رحل كوبرن وهو الضمير القلق أبداً، المنشقّ عن المألوف والروتيني والتنميطي، الذي يتلمس الدروب الشاقة في ليل الظاهرة (سياسية كانت أم اجتماعية أم أدبية، جليلة أم تافهة، محلية أم كونية)، بحثاً عن الخفيّ والمخفيّ، لكي يكشف دائماً عن صحّة القاعدة الذهبية: ما خفي كان أعظم! في حرب الخليج الثانية، 1991، كان أوّل مَنْ امتلك شجاعة التشكيك في صحّة حكاية حاضنات الأطفال الرضّع في مشافي الكويت، حين كان السواد الأعظم (في الغرب والشرق، على حد سواء) يستشيط غيظاً وألماً وتوجّعاً من "السلوك العراقي البربري". وأثبتت الأيام أنّ الحكاية مفبركة تماماً، وأنّ مؤسسة عملاقة تختصّ بالعلاقات العامة قبضت مبلغاً خيالياً لإعداد السيناريو الكفيل بكمّ أفواه مَنْ ينوي الاعتراض على الحرب في جلسة الكونغرس.
وحين فاز الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون في انتخابات الرئاسة الأولى، كان كوبرن الوحيد الذي كشف النقاب عن الحقائق (الصاعقة!) التالية: أنّ كلينتون متورّط من رأسه حتى أخمص قدميه في عمليات تبييض أموال المخدّرات، وفي تسويق البضاعة، وذلك من بلدة مينا، في ولاية أركانسو، حيث كان كلينتون هو الحاكم، ورفض مئات العرائض التي طالبت بإغلاق مطار البلدة الفاسد. وكان كوبرن هو الذي ذكّر العالم أنّ البطل القومي البريطاني وحامل جائزة نوبل، ونستون تشرشل، هو أوّل من أعطى الإذن باستخدام الأسلحة الكيماوية والغازات السامة، وتجريبها على بدو العراق في الجنوب، تحت الذريعة الصريحة التالية: "الأسلحة الكيماوية تمثّل تطبيق العلوم الغربية على الحرب الحديثة. إننا لا نستطيع تحت أي ظرف الضغط باتجاه منع استخدام أية أسلحة متوفرة وقادرة على إنهاء الفوضى السائدة على الحدود".
وهكذا، في مؤلفاته، كما في مقالاته الساخنة الفضّاحة التي واصل كتابتها في مجلة The Nation والموقع الإلكتروني CounterPunch، ظلّ كوبرن محارباً قديماً شديد المراس، متطرفاً تماماً في الحقّ، متزمتاً في الدفاع عن القضايا الخاسرة، متشدّداً في السباحة عكس التيّار السائد. ومع ذلك، فلكلّ ضمير كبوة، إذا جاز القول، من باب تثمين قامة الرجل، التي ظلت شامخة عالية حتى ساعة رحيله.