تونس ما بعد الثورة إذاً، في خضمّ تحوّلات سياسية مفتوحة على احتمالات شتى، تنخرط في سيرورة تجريب ديمقراطي (لعله شبكة سيرورات، شائكة ومعقدة) تفرز اختلاطاً شديداً للقوى والتحالفات والعقائد والحساسيات، على أصعدة تتجاوز مستويات العمل السياسي المباشرة، لأنها تشمل استحقاقات اجتماعية واقتصادية ومعيشية وثقافية وإعلامية... مواجهتها تبدو أشبه بالسير في حقول الألغام. ثمة، في يقيني الشخصي، الكثير من التنميطات المسبقة، التي تتكشف عن أوهام أو اختلاقات أو استيهامات، بعد السير نصف ساعة، لا أكثر، في جادة الحبيب بورقيبة. وثمة ما لا تكون السلسلة ذاتها قد كشفته، لأنها أصلاً لم تكن قد اكتشفته، أو تقصدت عدم كشفه أو تعمدت طمسه؛ يلمسه المرء بعد وقفة لا تتجاوز خمس دقائق أمام أي كشك للصحف، في تعليقات التوانسة القصيرة اللاذعة، وفي ما يخطف أبصارهم من مانشيتات.
ورغم أنني لم أترك صحيفة تونسية إلا وقرأت منها ثلاثة إصدارات متتالية، على الأقلّ؛ كما تحدّثت، مطوّلاً ومفصّلاً، مع أصدقاء مختلفي المشارب والميول والمهن، من الأستاذ الجامعي العليم إلى الشاعر الجامح الحرون، مروراً بالسياسي المحترف؛ فإنّ مشاهد الحياة اليومية، المتفجرة العفوية أو المدبّرة المنهجية، في حرارة ابتدائها مثل برودة انتهائها، كانت الدليل الأهمّ إلى روح تونس الراهنة. وقد يُدهش امرؤ مثلي (قبل أن تسعفه الظاهرة ذاتها بأكثر من تفسير مريح!) لمرأى تظاهرة أمام المسرح البلدي، مثلاً، تجمع العشرات، وتعلن عن ولادة تحالف سياسي جديد، ثمّ لا تصدح مكبّرات الصوت فيها إلا بأغاني الشيخ إمام ومرسيل خليفة!
وقد يُدهش، أيضاً، لأنّ صبيّة شاعرة، لا يقلّ عمرها عن عشرين سنة، تلقي قصيدة (تقريرية خطابية ركيكة، هي التي تقتضيها الحال طبعاً)، تعد، وتتوعد، بأنّ الدرجة صفر هي التي ستغيّر وجه تونس! تفهم ـ أنت الغريب، بعد حيرة وتعجب ـ أنّ القصد هو امتداح الأحزاب والقوى والتجمعات التي لم تحصل في انتخابات المجلس التأسيسي الأخيرة إلا على نسبة مئوية تقلّ عن الرقم 1، أي "صفر، فاصل..."، وكأنّ هذه فضيلة نضالية وامتياز بطولي! الشرطة تراقب المكان عن كثب، ليس خوفاً من التظاهرة ذاتها، بل خوفاً عليها من اعتداء "السلفيين"، هذه الفزّاعة الجديدة التي صارت لعبة كوابيس وكوابيس مضادة، بين "النهضة" وغالبية الأحزاب الأخرى، بما في ذلك تلك المنضوية في حكومة حمادي الجبالي النهضوية. ومع ذلك، يؤكد لك أصدقاء كثيرون، غير إسلاميين، أنّ الشيخ المحامي عبد الفتاح مورو هو الأكثر شعبية في الشارع التونسي العريض، وهو استطراداً قد يكون الأوفر حظاً للفوز في الانتخابات الرئاسية القادمة!
كذلك، في مفارقة أخرى وأخيرة، تجد أصدقاء توانسة يبدون من القلق على "احتمالات تفتت سورية" جرّاء الانتفاضة الراهنة، أكثر من إبداء استنكارهم للجرائم الوحشية التي ارتكبها ويرتكبها النظام السوري، وكأنّ الإشفاق على مستقبل سورية يقتضي التسليم بالقضاء والإبقاء على نظام الفساد والاستبداد. بعض هؤلاء الأصدقاء ـ وهم يساريون، ديمقراطيون، علمانيون... ـ يقفون قاب قوسين أو أدنى من الإيحاء بفكرة زائفة، وقبيحة قاصرة بذيئة في توصيف آخر منصف، تقول التالي: ألم يقدّم النظام بعض التنازلات؟ ألم يلغِ الأحكام العرفية؟ ألم يعدّل الدستور؟ لماذا لا تقبلون بها، وكفى الله السوريين شرّ القتال، والاقتتال؟
إذا كنتَ سورياً طويل البال، فستسعى إلى إقناعهم بالحسنى، وأنّ النظام غير قادر على ايّ إصلاح ديمقراطي حقيقي، وأنّ عشرات الآلاف في السجون رغم إلغاء مبدأ الاعتقال التعسفي، وأنّ الدستور مهزلة تضيف الإهانة على الجرح (وهيهات أن تفلح، أغلب الظنّ، لأنّ لسانهم يشفق على بلدك سورية، ولكنّ قلبهم واجف من أفاعيل "النهضة" في تونس!). أمّا إذا شئتَ تسفيه هذه المحاججة الكسيحة، فستذكّر أولي العقل بينهم أن يحمدوا الله، ركعاً وسجوداً، لأنّ الجنرال رشيد عمار، رئيس هيئة أركان الجيوش في تونس ساعة الانتفاضة، لم يكن من طينة جنرالات النظام السوري، أبطال عشرات المجازر الأشدّ همجية في التاريخ السوري، والعربي، الحديث.
ولهذا فإنّ أيّ تأخر في حسم معركة الشعب السوري ضدّ ذلك النظام، سوف يعرقل الكثير من عناصر الحسم الديمقراطي في ميادين الانتفاضات العربية الأخرى، أياً كانت الوشائج بين هذه الميادين، وسواء اتخذت تفاعلاتها وجهات ديناميكية أم ميكانيكية. مآل الانتفاضة التونسية ـ خاصة وقد صارت "ثورة" في خطاب أبنائها ـ مرتبط بحال الانتفاضة السورية؛ ولعلنا، نحن السوريين، نشفق بدورنا أن تصبح الأولى مُرجأة أو معطَّلة أو مرتدة، كلما تأخر انتصار الثانية. : "هوكا هو"، كما في التعبير التونسي الشائع!