قبل أيام طرحت "هيئة التنسيق الوطنية لقوى التغيير الوطني الديمقراطي في سورية" مبادرة سياسية ـ تفاوضية، تنطلق من مسعى "تخفيض تكاليف التغيير المنشود، وحماية ما يمكن حمايته من البنى التحتية للوطن ومن وحدة المجتمع"؛ وتؤمن "بحقّ الشعب السوري في حياة حرّة كريمة، والعيش في ظلّ نظام ديمقراطي يؤمّن له المساواة والعدل والتقدم". كما تنهض المبادرة على ركيزتَين، انتهى إليهما المبادرون "انطلاقاً من قناعة تامة"، هما: 1) أنّ "النظام الحاكم لم يعد قادراً على إخضاع الحركة الثورية الشعبية بالقوّة، رغم كلّ ما مارسه من استخدام للقوّة العارية المفرطة، وما ولدته من تداعيات، وما خلقته من حواضن للعنف المضاد ولتدخلات خارجية"؛ و2): أنّ "التضحيات الغالية والكبيرة التي قدّمها شعبنا وقواه الوطنية"، وإنْ "استطاعت أن تفرض معادلة التوازن بالقوى مع النظام الحاكم"، فإنها "لا تزال بعيدة عن تحقيق انتصار حاسم".
أمّا عناصر المبادرة، فهي أربعة: 1): "التوافق على هدنة مؤقتة بين جميع الأطراف التي تمارس العمل المسلح في مقدمتها قوى النظام"، تشترط التزام الجميع "بعدم إجراء أي عمل عسكري، وعدم تغيير الأوضاع الميدانية على الأرض"؛ و2): "يطلق الطرفان خلال أسبوع من بدء سريان الهدنة سراح جميع المعتقلين والأسرى والمخطوفين، ويتوقفان عن تلك الممارسات"، وإلا اعتُبر "ارتكابها بعد ذلك التاريخ جرائم جنائية يحاسب مرتكبوها وفق القانون"؛ و3: "يسمح الطرفان لهيئات الإغاثة بإيصال المعونات الغذائية والطبية وتسهيل معالجة الجرحى في المشافي العامة والخاصة وبرعاية الصليب الأحمر والهلال الأحمر"؛ و4: "بالتزام الأطراف المعنية بما سبق يكون المناخ قد توفر لإطلاق عملية سياسية تقوم على التفاوض بين قوى المعارضة وبين وفد من النظام يملك صلاحيات تفاوضية مطلقة يضم شخصيات لم تتلوث أيديها بالدماء"، وذلك للبدء "بمرحلة انتقالية محددة المدة (سنة)، تهدف تحضير البلاد من أجل التوصل الى نظام ديمقراطي تعددي برلماني".
الاعتراضات على هذه المبادرة لم تكن واسعة النطاق، متعددة المصادر، وشديدة متشددة اللغة من حيث الرفض، فحسب؛ بل بدا، أيضاً، أنها لا تعكس الحدّ المطلوب من الإجماع، أو التوافق، داخل قيادات "هيئة التنسيق" ذاتها، في المقام الأوّل. وهكذا، سارع المفكر السوري المخضرم حسين العودات، رئيس المجلس الوطني للهيئة والعضو في مكتبها التنفيذي ونائب المنسق العام، سابقاً، إلى إصدار بيان خاص حول المبادرة، أوضح فيه أنها "تراجع ملحوظ عن مقررات المجالس الوطنية للهيئة وثوابتها ووثائقها الرئيسية ومبادراتها السابقة ومقترحاتها". وأضاف العودات أنّ المبادرة "ربما كانت تهافتاً واضحاً لا يخدم أهداف الحراك الشعبي السوري وانتفاضته المجيدة، واقتراحات متسرعة لم تأخذ شروط الواقع السوري والإقليمي والدولي وظروفه بعين الاعتبار". وفي الأساس القانوني ـ التنظيمي، لاحظ العودات أنّ المبادرة "تحتاج لموافقة المجلس الوطني للهيئة، ولا يكفي موافقة عدة قياديين عليها، بل تحتاج أيضاً لقرار مؤتمر وطني شامل لجميع فصائل المعارضة السورية"، الأمر الذي أوحى أنها أُعلنت من جانب أفراد قياديين، وليس استناداً إلى قرار من الهيئة الشرعية.
ضمن سياقات تجاوز الهيئات، وفي مناسبة سبقت إعلان المبادرة بأيام قليلة، كان أعضاء في المكتب التنفيذي لـ"هيئة التنسيق" قد وجهوا إلى القيادة مذكرة سرّية (كُشف النقاب عن محتواها بعدئذ) تتهم زميلَين لهم في المكتب التنفيذي بالتوقيع على "نداء روما"، أواخر تموز (يوليو) الماضي، دون استشارة الهيئة القيادية. والمذكّرة تشدّد على أنّ النداء ذاك "يتناقض كلياً مع مضمون وثائق هيئة التنسيق الوطنية، ووثيقة التفاهمات السياسية التي وقعتها غالبية التنظيمات المعارضة في الداخل"، كما "يتناقض كلياً أيضاً مع الوثائق الصادرة عن مؤتمر المعارضة الذي عُقد في القاهرة مؤخراً، ويتناقض حتى مع التحفظات التي صدرت عن ممثلي الهيئة في مؤتمر المعارضة". ولهذا فإنّ وثيقة النداء "تفتت عن عمد الوثائق التي صدرت في الداخل ـ في مكتبنا ـ وتتناقض مع توقيعنا وتحفظاتنا على وثائق مؤتمر القاهرة، كما تفقدنا مصداقيتنا أمام الحلفاء". وتنتهي المذكّرة إلى أنّ بعض الفقرات في "نداء روما" هي "ترجمة سورية للسياسة الروسية الصينية الإيرانية"، والنداء "أدار ظهره كلياً للثورة والشعب وتجاهل الشهداء والتضحيات"، كما "تجاهل القتل وتهديم المدن، واعتقال عشرات الألوف من المتظاهرين السلميين".
وثمة بعض المغزى الإضافي في حقيقة أنّ عدداً من موقّعي "نداء روما"، من قياديي "المنبر الديمقراطي السوري" ـ وهو تجمّع وُلد قبل أشهر قليلة في القاهرة، وكانت قياداته الراهنة قد تبوأت مراكز الصدارة القيادية في "هيئة التنسيق" عند انطلاقتها ـ لم يرحّبوا بالمبادرة، وأعربوا عن رفضها صراحة. ولقد أصدر "المنبر" بياناً يقول إنّ "المبادرة قاصرة عن قراءة الواقع الحالي للثورة السورية والإنجازات التي حققتها، وكذلك قاصرة عن قراءة واقع النظام، الذي لم يستجب لأي مبادرة للحل السلمي منذ بداية الثورة السورية". وكان لافتاً أن يذهب النصّ أبعد، من حيث حكم القيمة على "مبادرات كهذه تكتسب طابعاً مجانياً لا يخدم القضية التي يناضل الشعب السوري من أجلها"، ولا تتضمن "أساساً يمكن البناء عليه لمخرج للوضع السوري بكامل تعقيداته". ولهذا فإنّ المنبر "يرفض أي مبادرة سياسية لا يتعهد النظام بموجبها بوقف إطلاق االنار وإطلاق سراح المعتقلين والسماح بالتظاهر السلمي وتحقيق مطالب الشعب الذي ضحى بالغالي والنفيس من أجل تحقيقها". كان لافتاً، أيضاً، أن يضع "المنبر" المبادرة في موقع الخروج عن توافقات المعارضة السورية: "أي مبادرة تتضمن حلاً سياسياً يجب أن تحظى بتوافق قوى المعارضة الرئيسة، وتبني على الوثائق والتوافقات التي أقرتها في القاهرة في مؤتمرها الأخير. وعليه لا يرى المنبر أن مبادرة هيئة التنسيق صالحة للتداول السياسي".
"المجلس الوطني السوري" توقف، في بيان خاص بدوره، عند افتقار المبادرة إلى التوافق؛ كما رأى في بنودها "خروجاً عن الإجماع الوطني الذي تحقق في اجتماع المعارضة السورية في القاهرة (02 – 03/07)، وتراجعاً عن أهم بنودها ممثلاً في إسقاط النظام ورئيسه ورفض التعامل معه، ودعم الجيش السوري الحر والمقاومة الشعبية، وتعمل على منح النظام مهلة إضافية للبقاء في السلطة، وهو ما عبّر الشعب السوري برمته عن رفضه المطلق له من خلال ثورته المستمرة للشهر السابع عشر على التوالي". ولفت المجلس الانتباه إلى أنّ المبادرة "خلت من إدانة واضحة للنظام رغم جرائمه ومجازره الوحشية على امتداد الأرض السورية، ولم تحمّل النظام وأركانه مسؤولية الدماء التي أريقت، ونحو 30 ألف شهيد وعشرات آلاف الجرحى ومئات آلاف الأسرى والمعتقلين، بل وذهبت أبعد من ذلك بالحديث عن "طرفين" في الأزمة يتساويان في استخدام القوة والاعتقال والاختطاف وإعاقة وصول المعونات الغذائية والطبية، وهو ما لم تذهب إليه أي مبادرة عربية أو دولية".
مبادرة ولدت ميتة، إذاً، على يد أصحابها، وعن غفلة وقلّة تبصّر، أم عن سابق قصد وتصميم؛ أم وئدت في المهد، على يد خصوم "هيئة التنسيق" وبعض قياداتها، السابقة والحالية؟ كلتا الخلاصتَين صحيحة، في الواقع، وكلتاهما تنتهيان إلى تشخيص رماد سياسي ليس سوى مخلفات هذا اللهيب العظيم، وإلى تبيان مظهر جديد للمأزق الشامل الذي عاشته "هيئة التنسيق" منذ تأسيسها، أواخر حزيران (يونيو) 2011، وما تزال تعيشه بعد انعقاد مؤتمرها العام في حلبون، ريف دمشق، أواسط أيلول (سبتمبر) من العام ذاته. وللمرء أن يبدأ، في تلمّس ملامح المأزق، من تركيبة مجلس الهيئة المركزي، ومكتبها التنفيذي: رغم أنّ عدداً كبيراً من هؤلاء كانوا، ويظلون، في عداد شخصيات المعارضة الكلاسيكية الأبرز، وتضحياتهم لا تحتاج إلى استذكار أو تشديد، خاصة خلال عقد توريث بشار الأسد؛ فإنّ فضيلة وجودهم لا تطمس حقيقة وجود آخرين كانوا، ويظلون، نماذج معاكسة من حيث مغازلة النظام، أو مهادنته، أو حتى موالاته.
مؤتمر حلبون شهد إصدار البيان السياسي الختامي، الذي استولد مخلوقاً سورياً عجيباً، منشطر الذات بين الاعتدال مع النظام، والقبول بإسقاطه؛ وبين وضع الجلاد على قدم المساواة مع الضحية، في ما يخصّ نبذ "حواضن العنف"؛ وفي الحضّ على عناق بين القاتل والقتيل، قبيل برهة الذبح، أو أثناءها، وبعدها! المبادرة، اليوم، تعيد إنتاج هذا كلّه، على نحو يدفع المرء المنصف إلى القول بأنّ أصحابها هم الأقرب إلى روحية قيادة "هيئة التنسيق"، سواء جرى التشاور مع المجلس الوطني للهيئة (كما يتمنى الرجل الطيب، حسين العودات)، أم لا؛ وسواء ذهبوا إلى سانت إجيديو ـ روما، أم تداولوا في مكتب المحامي حسن عبد العظيم، شارع الحجاز ـ دمشق! وهكذا، يجوز للمرء أن يبلغ الخلاصة المنطقية التالية: أليس عجز المؤتمر، ثمّ المبادرة اليوم، عن استخدام تعبير "إسقاط النظام"، مردّه أنّ غالبية في صفوف المندوبين ليست موافقة على، وربما غير راغبة في، إسقاط النظام؟ ولماذا لا تكون اعتبارات وجيهة وراء هذه الحال المتأرجحة، تبدأ من مسلك البندول الراقص بين الجلاد والضحية، وتمرّ بالهواجس المتقاطعة مع خواف هنا أو رهاب هناك من احتمالات المستقبل، ولا تنتهي عند اتفاق بعضهم مع نقطة أو أكثر في سردية النظام عن الانتفاضة؟
وفي مناسبة مبادرة اليوم، ألا يصحّ التساؤل عن مغزى إخراج اللاءات الثلاث (لا للعنف، لا للطائفية، لا للتدخل الأجنبي)، من جميع سياقاتها الفعلية، التاريخية واليومية والمادّية، بحيث صارت فارغة من أيّ محتوى ملموس، وانقلبت إلى ذرّ للرماد في العيون، وكليشيهات تأثيم، ومحرّمات خاوية المضمون لا تتردّد أصداؤها إلا في محاكم التفتيش، وعلى شاشات الفضائيات؟ وكيف تغضّ "هيئة التنسيق" النظر عن العنف الذي يمارسه أحد أبرز مكوناتها، "حزب الاتحاد الديمقراطي"، في حلب وعفرين والمناطق الكردية في مدن وبلدات وقرى"الجزيرة" عموماً؟ ولماذا تُطالب الانتفاضة بالنأي عن الطائفية، وهي صفة انحطاط ليست مقترنة بها، بل بأجهزة النظام وعسكره الموالي وشبيحته، على نحو لا يقبل المقارنة أصلاً، وبالتالي ينتفي وضع "الطرفين" على قدم المساواة؟ وأخيراً، إذا كانت "هيئة التنسيق" ترفض التدخل الخارجي، فلماذا اجتمع حسن عبد العظيم مع روبرت فورد، السفير الأمريكي، ومثله فعل قياديون آخرون لم يتركوا وزارة خارجية أوروبية إلا وتمسحوا بأعتابها؟
ثمة خلاصة واقعية، قديمة ولكنها تتجدد اليوم مع مبادرة "هيئة التنسيق"، سبق أن بلغها قيايدون في الهيئة ذاتها: هنالك معارضة تريد إسقاط النظام، وأخرى تريد تغييره من داخله. الدرس المرير، في المقابل، هو أنّ النظام ساقط لتوّه، وانهياره الختامي مسألة وقت؛ والطامحون إلى مصالحته مع الشعب والمستقبل والحياة هم، في أفضل توصيف رحيم، مراهنون على رماد متطاير، وسط لهيب متصاعد!