وسرعان ما انفتحت أشداق بورصة طاحنة ـ فاضحة، مبتذلة، مضحكة، بقدر ما هي مدعاة إشفاق! ـ تُوزّع في دهاليزها الحقائب الوزارية على السيدات المعارضات والسادة المعارضين، ليس كيفما اتفق في واقع الأمر، بل أسوأ بكثير من أي توزيع اعتباطي. ففي حال الاعتباط، حين لا تكون ثمة صلة بين الحقيبة وحاملها، على أيّ صعيد شخصي أو عامّ، وطني أو حزبي أو مؤسساتي، يمكن للمرء عندئذ أن يستخفّ ويسخر، ويقول دون كبير اكتراث: يا معارضة ضحكت من سخفها المعارضات! أمّا حين يتسابق المشكِّلون على تسريب تشكيلات لا تخلو قوائمها من خبث، أو تخابث؛ ولا تغيب عنها الروائح العفنة، والعطنة، ورغائب المساومة والمقايضة والتسوية، بالمعنى الأرخص والأشدّ ابتذالاً لهذه المفردات... فإنّ الأمر ينقلب، عندئذ، إلى ما هو أدهى من بؤس الأداء، فيصبح بينه وبين الاتجار بالشهداء فارق شعرة!
كلّ المشكِّلين لم يطرحوا على أنفسهم ذلك السؤال الأهمّ، الأخلاقي قبل أن يكون ديمقراطياً: منذا الذي فوّضني، في الأساس، لكي أشكّل حكومة انتقالية باسم الشعب السوري وبالنيابة عنه (وبالأصالة عن 23 ألف شهيد من أبنائه!)، أو أقبل هذه الحقيبة الوزارية أو تلك؟ الكلّ أنس في نفسه ثقة الشعب، والكلّ تصرّف وكأنّ تفويض الشعب محض تحصيل حاصل، والكلّ تسابق وكأنه الأحقّ برئاسة الوزراء أو وزارة الخارجية أو الدفاع أو الداخلية أو الثقافة أو... المصالحة الوطنية! وسوى هذا الافتئات على الإرادة الشعبية، الذي يُعدّ سبّة في تاريخ أية معارضة خارجية يُستشهد أبناء شعبها بالمئات كلّ يوم، توفّر ذلك الوثوق المريع بأنّ التفويض ينطوي أيضاً على التفريط: كأنْ تُسند إلى ضابط، غادر سفينة النظام الغارقة قبل أيام معدودات، رئاسة "مجلس عسكري أعلى"، يُعلي شأن العسكر، حتى حين يُوضع أحد العباقرة المدنيين مستشاراً لهم؛ أو أن يجري التلاعب بالتوزيع على نحو يجعل الحقائب مكافآت طائفية أو دينية أو إثنية، وكأنّ الانتفاضة لم تنطلق من أجل تقويض نظام الاستبداد والفساد والتوريث، بل لكي تدغدغ خطوط انقسام الطوائف والأديان والأقوام.
حتى "المجلس الوطني السوري"، الذي حظي أكثر من سواه بثقة الداخل السوري، لأسباب موضوعية متداخلة اهمها أنه بدا أقلّ هزالاً من سواه، لا يحقّ له زعم حيازة التفويض الشعبي، لتشكيل حكومة انتقالية، ثمّ توزيع حقائبها وفق قواعد لعلها أسوأ من تلك التي حكمت تركيب المجلس، بل قد تكون أشدّ ضرراً بالعمل الوطني في الداخل. لقد ارتكب المجلس، على مستوى المؤسسة مثل الأفراد في قيادته، سلسلة أخطاء فاحشة، تكررت وتعاقبت وكأنّ السيدات والسادة في المكتب التنفيذي أو الأمانة العامة لا يدركون طبيعة الخطأ وعواقبه، ولهذا فإنهم ظلوا فيه يعمهون، أكثر فأكثر. كذلك غرق المجلس في مستنقع الحوارات البيزنطية العقيمة (داخل الإقامات الفارهة، وخلال مؤتمرات غامضة التمويل)، وأساء إدارة أموال الإغاثة على نحو جعلها تضلّ السبيل إلى مبتغاها الإنساني والكفاحي فصارت مصيدة كاشفة لمعادن الرجال، وتخبط في توظيف العلاقات الخارجية بحيث انقلبت هذه إلى مراكز استقطاب تركية أو سعودية أو قطرية أو فرنسية أو أمريكية أو بريطانية...
كل هذه الأنساق من الزلل ـ لأنها، في الواقع، ليست محض سلبيات ـ تكفّلت، وسواها كثير، بسحب المقدار الأعظم من ثقة الشعب السوري بالمجلس الوطني، الأمر الذي جرى التعبير عنه صراحة، وفي بيانات معلَنة، من جانب "لجان التنسيق المحلية" و"الهيئة العامة للثورة السورية" و"إعلان دمشق"، و"حزب الشعب الديمقراطي"، بوصفها أبرز مكوّنات المجلس الداخلية. تجلى هذا في مناسبات شتى، لعلّ أبرزها كانت حكاية التمديد الثالث لرئيس المجلس السابق، برهان غليون، في اجتماع روما، أواسط أيار (مايو) الماضي، والتي سُوّقت تحت لافتة "الانتخاب"، بعد أن جرى توسيع الأمانة العامة، في غفلة من أعضاء الأمانة أنفسهم! يومذاك، أصدرت "لجان التنسيق المحلية" بياناً أعربت في إحدى فقراته عن أسفها: "لتدهور أحوال المجلس الوطني السوري"؛ وانتقدت التمديد لغليون "رغم الفشل الذريع على الصعد السياسية والتنظيمية"؛ ورأت في هذا "تهميشاً لمعظم الأعضاء الممثلين عن الحراك، ومعظم أعضاء الهيئة العامة للمجلس". وفي فقرة أخرى، لاذعة وحاسمة، قال البيان إن ما آلت اليه الأمور في المجلس "لا تعكس إلا ابتعاده وابتعاد المعارضة السورية عموماً عن روح الثورة السورية ومطالبها وتوجهاتها نحو الدولة المدنية والديمقراطية، ونحو مباديء الشفافية وتداول السلطة المرجوة في سورية الجديدة".
والحال أنني لا أخصّ المجلس الوطني بالنقد، هنا، إلا لأني كنت وأظلّ في عداد الذين ساندوا هذا التكوين منذ البدء، أسوة بتيارات عريضة في الشارع السوري، لأسباب لا تدور حول فاعلية المجلس أو جدواه أو مصداقيته؛ بل لأنّ تلك الصيغة كانت أفضل ما توصلت إليه غالبية المعارضات السورية، ولم تكن الأفضل، وهي ليست كذلك اليوم أيضاً. وأن يلتمس المرء الكليات في مسائل الاجتماع السياسي، أمر لا تُحمد عقباه، ولا يفضي إلى مآل سليم؛ ولهذا لا أقول إنّ المجلس فشل كلياً، كما لا أرى العكس أيضاً. الحصيلة، مع ذلك، تظلّ متخلفة كثيراً عن أداء الانتفاضة في الداخل، وقاصرة عن التناغم مع إيقاعات الحراك الشعبي، والجمود الوظيفي فاضح تماماً بالقياس إلى ديناميات الشارع السوري. وفي ظنّي أنّ مشاكل المجلس تبدو أقرب إلى تشوهات ولادية، منها إلى تراكم أخطاء لاحقة، سواء أكانت ذاتية شخصية، أو موضوعية مؤسساتية.
الوضع الراهن، الذي زاد مشروع الحكومة الانتقالية من كشف مساوئه وسوءاته، يعيد الأمور إلى حقبة ماضية من عمر المعارضات السورية الخارجية، اعتقدنا ـ متفائلين أكثر مما ينبغي، ربما ـ أنها انقضت وانصرمت، وتجاوزها المعارضون إلى ما هو أكثر ارتقاء إلى تضحيات الشعب السوري. تلك الحقبة شهدت شراهة مَرَضية في عقد المؤتمرات والملتقيات والمشاورات، لتشكيل مجالس وطنية أو إنقاذية أو انتقالية، عُقدت في أنطاليا أو بروكسيل أو إسطنبول أو الدوحة أو القاهرة، وضمّت محاربين قدماء وآخرين التحقوا بالنادي مجدداً، بينهم مَنْ عارض النظام طيلة عقود، ومَنْ كان مقرّباً من دوائر السلطة حتى ساعة انطلاق الإنتفاضة، وبعدها، والآن أيضاً. ليس عجيباً، والحال هذه أنها، معظمها أو جميعها، انتهت إلى فشل ذريع صريح، أو آخر ذريع بدوره ولكنه مقنّع؛ أو الاستعاضة عن الإقرار بالفشل بما هو مزيج من ذرّ الرماد في العيون، وقطع الوعود الخلّبية، وإشاعة الآمال السديمية.
وتلك، مجدداً، سيرورة تكفّلت ـ كما يليق بها أن تفعل، منطقياً ـ بتبيان العورات هنا وهناك، وفضح هزال الغابة التي وُعد السوريون بانبساطها خلف شجرة هذا المؤتمر أو ذاك، وإسقاط أسطورة "الإجماع" على زيد أو عمرو من "نجوم" تلك الغابة (وهم، في الغالب، صناعة آلة المماحكات على الفضائيات، وليس السجال الحيوي النزيه والصادق، حول مسائل أصيلة وحيوية وملحّة). لكنّ السيرورة إياها كانت، من جانب آخر وثيق الارتباط وجدلي، السبب غير المباشر، بل أمّ الأسباب المباشرة عند البعض، في إشاعة خرافتَين: أنّ نجوم الخارج أقدر من سواهم على تمثيل حاجات الانتفاضة في الداخل، من حيث التمثيل والتنظير والقيادة، وتسطير الدساتير والعهود والمواثيق، وما إلى ذلك؛ وأنّ معارضة الداخل الكلاسيكية، المؤلفة من الأحزاب والمنظمات والنشطاء خارج "اتحاد التنسيقيات"، و"الهيئة العامة" لاحقاً، و"لجان التنسيق"، والتنسيقيات المهنية المختلفة... ينبغي عليها أن تمتثل للجهود التي يبذلها نجوم الخارج في مؤتمراتهم، تحت طائلة تخريب وحدة المعارضة، وتفتيت الحراك الشعبي!
ثمة، إلى هذا، تلك السيرورة الأخرى التي تبدو على طرف نقيض، لكنها في الواقع تكمل الأولى، أو تتكامل معها على نحو أو آخر: لأنّ أياً من معارضات الخارج، على مستوى الهيئات مثل الأفراد، لم يكن يتجاسر على إغفال الداخل، أو الزعم بأبوّة متعالية على الانتفاضة، فقد جرى التمسّح بمقولة أنّ الأصل هناك، والخارج محض فرع وامتداد. وتلك حال انقلبت إلى مادّة ابتزاز في صفوف بعض معارضات الداخل (مثل "هيئة التنسيق الوطنية" في المقام الأوّل)؛ وفي الآن ذاته كان هؤلاء لا يعوّلون على قوى الداخل (رغم تفاخرهم بأعداد هائلة من "الأحزاب" المنضوية في صفوفهم)، بقدر ما يتوكأون على بعض نجوم الخارج، أو ما يمكن حشده من هؤلاء. ولهذا شهدت تسريبات حقائب الحكومات الانتقالية، تماماً كما حدث في مهازل إعلان مجالس وطنية وانتقالية وإنقاذية، شكوى بعض النجوم من أنّ أسماءهم أُضيفت دون علمهم، ودون التشاور معهم؛ أو أنهم قبلوا على مضض، أو التزموا الصمت حرصاً على وحدة المعارضة!
ويبقى أنّ الانتفاضة لا تكفّ، ولم تتوقف، عن تصحيح مساراتها؛ لأنها لم تكن تقتفي مساراً واحداً في الواقع، ولم تعجز في أية برهة عن استيلاد قياداتها، الميدانية والسياسية والتنظيمية والإعلامية. ولهذا تواصل الصمود منذ 17 شهراً، وتحرز الانتصارات كل يوم، على النظام وأجهزته وعسكره وشبيحته ومؤسساته. ولكنها، أيضاً، انتفاضة تنتصر لذاتها، وتنتصر على ذاتها، وهنا مكمن الكثير من عبقرية معادلاتها: قارىء لافتات بلدات مثل كفرنبل أو الزبداني أو عامودا، مثل قارىء البيانات التي تصدر عن هيئات الانتفاضة وتنسيقياتها المختلفة، والمتأمل في الفعاليات والشعارات المبتكرة، بما تشفّ عنه من وعي رفيع ومتقدّم... لن يعجز عن إدراك موقع التفويض الحقيقي، والحقّ.
للسوريين في الخارج أدوارهم الهامة بالطبع، الحيوية في مستويات عديدة سياسية وإعلامية وإغاثية، وليس للانتفاضة أن تستغني عنهم أبداً، وليسوا البتة في موقع النأي عنها أو التراخي في مساندتها. هذه المسلمة البديهية شيء، وبؤس الكثير من قيادات المعارضة الخارجية، وهيئاتها، شيء آخر مختلف: إنه فارق الأخلاق والسلوك، قبل أيّ من ألاعيب احتراف المعارضة!