انشقاق ضباط وصفّ ضباط وأفراد الجيش السوري خطوة جديرة، دائماً، بالترحاب والتحية؛ لاعتبارات شتى، سياسية وأخلاقية، سلوكية ومعنوية، فردية وجَمْعية، فضلاً عن اتباع الواجب الوطني الحقّ والملموس، بدل الأمر العسكري الضالّ والأعمى. ولعلّ الاعتبار الذي يأتي في الطليعة هو أنّ المنشقّ لا يغادر معسكر النظام، حيث الاستبداد والفساد وخيانة رسالة الجيش المبدئية في الدفاع عن الشعب والوطن، لكي ينزوي في داره، متوارياً ومنسحباً ومستقيلاً؛ بل ينضوي في صفّ الشعب، أو جيش الشعب على نحو أدقّ، سواء انتهى به الأمر إلى إحدى كتائب "الجيش السوري الحرّ" المعروفة والمنظمة، أو تطوّع لخدمة الحراك السلمي هنا وهناك، سائراً على مثال الجندي المجهول مثلاً.
ليس من الحكمة ـ في المقابل، وخاصة إذا اتصل الأمر بالضباط، والرتب العليا بينهم ـ أن يستهوي العسكر التدخل في الشؤون السياسية، على نحو مباشر وعلني ومتعمَّد، خاصة إذا تقصدوا الإيحاء بأنّ لهم اليد العليا في القرار السياسي، بعد العسكري؛ وينبغي أن يكون لهم القول الفصل، ما داموا هم حَمَلة السلاح، وهم الذين يقارعون النظام عسكرياً. هذه واحدة من المخاطر الكبرى على الروح السلمية والشعبية التي طبعت الانتفاضة منذ انطلاقتها، إلى جانب ما تستبطنه من مصادرة مبكرة للقرار السياسي المدني، وإخضاعه للعسكرة والعسكر. ورغم أنّ الخيارات العنفية والدموية والهمجية التي انتهجها النظام منذ الأسابيع الأولى كانت تقود، موضوعياً، إلى تغليب خيار العسكرة، وتُعلي شأن العسكري مقابل المدني؛ فإنّ ضبط التناسب بين القطبين، والتنبّه إلى ضرورة انضباط القطب العسكري عند خطوط بيّنة لا يصحّ تجاوزها، خاصة في التسابق على الفضائيات وإطلاق التصريحات والتصريحات المناقضة، صارت كلّها حاجات ملحّة لا يجوز التهاون عنها تحت أية ذريعة، بما في ذلك الحرص على وحدة الصفّ.
وفي هذا السياق، كان مؤسفاً أن ينزلق العقيد رياض الأسعد، القائد الرسمي لكتائب "الجيش السوري الحرّ"، إلى الحكم على مدينة سلمية، شرق حماة، بأنها "ما تزال موالية للنظام"، لمجرّد أنها شهدت عبور تعزيزات عسكرية إلى وحدات الفرقة الرابعة والحرس الجمهوري في محيط مدينة حلب. وحتى الساعة، في حدود ما يعلم كاتب هذه السطور، لم يصدر العقيد الأسعد أي اعتذار رسمي عن تصريح خاطىء تماماً، ضارّ وطنياً، ولا يتحلى بأيّ صواب منطقي أو صحة عقلية. ذلك لأنّ اتهام المدن والبلدات والقرى بموالاة النظام لمجرّد مرور تعزيزات عسكرية على طرق محاذية لها، أو تخترقها، سوف يفضي إلى إلصاق التهمة ذاتها بالجغرافيا السورية بأسرها، دون استثناء. ومن جانب آخر، كيف يجيز أحد لنفسه ـ أياً كان موقعه، داخل المعارضة بصفة خاصة، وفي الصفّ العسكري قبل المدني ـ اتهام أية مدينة او بلدة أو قرية سورية بموالاة النظام، حتى في قلب المناطق التي يُشاع أنها "معاقل" آل الأسد؟
سلمية، هذه، أخرجت المظاهرات ضدّ النظام منذ "جمعة العزّة"، يوم 25/3/2011، كما تظاهر قرابة عشرة آلاف من أبنائها (وعدد سكانها أكثر بقليل من 100 ألف نسمة فقط) في "الجمعة العظيمة"، يوم 22/4/2011. وللمدينة باع طويل في إغاثة مدينة حماة تحديداً، والمدن والبلدات المجاورة المنكوبة، واستقبال النازحين. كما لعب أبناؤها، الشباب الطلاب تحديداً، دوراً حيوياً في تحرّك جامعة حلب، أواخر العام الماضي، وخلال شهر شباط (فبراير) هذا العام. ولا ينبغي أن تغيب عن معادلة هذه المدينة حقيقة أخرى خاصة، مفادها أنّ غالبية ساحقة من أبنائها ينتمون إلى المذهب الإسماعيلي، الأمر الذي جعل النظام يبذل جهوداً مضنية لخنق الأنشطة الاحتجاجية فيها، من جهة أولى؛ والإيحاء، من جهة ثانية، أنّ أهلها نأوا بأنفسهم عن الانتفاضة، وتعاطفوا مع النظام، لأسباب مذهبية.
وإلى جانب الأديب المخضرم عارف تامر، والمؤرّخ مصطفى غالب، والشاعر سليمان عواد أحد روّاد قصيدة النثر السورية؛ سلمية، هذه، هي مدينة علي الجندي (1928 ـ 2009)، الشاعر الكبير الذي عاش حياة صاخبة أبيقورية، لم تمنعه من التوقيع على بيان الـ 99"، الذي أصدره نخبة من المثقفين السوريين، ونُشر في أواخر أيلول (سبتمبر) 2000، وتضمّن المطالبة بإلغاء الأحكام العرفية، وإصدار عفو عام، وإرساء دولة القانون. ولقد قاطع الجندي المهرجانات الثقافية في السلمية (التي سبق لها أن تابعته ينخرط في بكاء مرير وهو يلقي قصيدته "السيول تجتاح سلمية"، حتى صعد ممدوح عدوان المنبر، وأتمّ القصيدة عنه)، احتجاجاً على اعتقال صديقه عبد الكريم الضحاك، عضو مجلس أمانة "إعلان دمشق".
وسلمية هي بلدة محمد الماغوط (1934ـ2006)، وفيها، وبوحي من تاريخها التعددي العريق، قال الراحل الكبير: "سلمية: الدمعة التي ذرفها الرومان/ على أوّل أسير فكّ قيوده بأسنانه/ ومات حنيناً إليها/ سلمية: الطفلة التي تعثرت بطرف أوروبا/ وهي تلهو بأقراطها الفاطمية/ نوافذها مفتوحة أبداً/ كأفواه تنادي... أفواه تلبّي النداء/ في كلّ حفنة من ترابها/ جناح فراشة أو قيد أسير/ حرف للمتنبي أو سوط للحجاج/ أسنان خليفة؛ أو دمعة يتيم"...
وسلمية، بعدئذ، واليوم، إحدى أميرات انتفاضة سورية، مدنية وشعبية وسلمية؛ ولهذا فإنها تُلزم العقيد الأسعد باعتذار، وبأداء تحية عسكرية!