حلّت، يوم 25 أيلول (سبتمبر) الجاري، الذكرى التاسعة لرحيل المفكر والناقد الفسطيني الكبير إدوارد سعيد (1935 ـ 2003)؛ وثمة الكثير من الظواهر والوقائع التي تجعلنا نفتقده سنة بعد أخرى، في العلوم الإنسانية إجمالاً، وفي الفنون والحياة البحثية والأكاديمية، ثمّ في السياسة الدولية والعربية. ولكن... ليس دون أن يفتقده بعض خصومه، أيضاً، على خلفية مسائل شتى، بينها تطورات النظرية الأدبية، والتأثير المتواصل التي تمارسه أعمال سعيد على أجيال متعاقبة من النقّاد والمنظّرين؛ وبينها وقائع راهنة، تخصّ "الربيع العربي"، والدور الأمريكي في المنطقة، والصراع العربي ـ الإسرائيلي؛ وأخرى تعود، كما للمرء أن ينتظر، إلى متخيَّلات "الغرب" و"الشرق"، وتنميطات الإسلام والمسلمين، وهذه أو تلك من المسائل التي تذكّر بـ"الاستشراق"، 1978، كتاب سعيد الأشهر.
على سبيل المثال الأوّل، يتنبّه الثنائي إفرايم كرش وروري ميللر أنّ تأثير سعيد على الحياة الأكاديمية في الغرب يظلّ قوياً في غيابه، كما كان في حياته؛ وما تزال تتواصل المنتديات والمؤتمرات المنعقدة على شرفه، في الولايات المتحدة وآسيا وأوروبا (ولسبب ما سقطت من اللائحة أنشطة مماثلة شهدتها أفريقيا وأمريكا اللاتينية وأستراليا). وما يتسبب أكثر في ضيق صدر كرش وميللر أنّ عدداً من النجوم، مثل سلمان رشدي وفانيسا ردغريف وداني غلوفر، يشاركون في هذه اللقاءات؛ وينضمّ إليهم بين حين وآخر "يهود غير طيّبين"، كما يُفهم من نبرة الثنائي، لأنهم على عداء مع الصهيونية، مثل الناقدة جاكلين روز والمؤرّخ إيلان بابيه.
لهذا كلّه يتطوّع كرش وميللر في حملات تدمير، أو بالأحرى إعادة تدمير، شخصية الراحل الكبير، استناداً إلى الكشوفات العبقرية التالية: سعيد تمنى أنّ يتذكره الناس في قول الحقيقة أوّلاً، ولكنه انتهى إلى نقيض ذلك لأنه لم يكفّ عن "فبركة" الحقائق؛ ومارس النفاق حول طفولته في فلسطين ما قبل إنشاء الدولة العبرية، وانتحل صفة الفلسطيني المنفيّ (الفرضية التي كان قد أطلقها الباحث الإسرائيلي جستس رايد فاينر سنة 1999، وانتهت إلى فرقعة بائسة)؛ واعتاد على السرقة الأدبية والفكرية (أفضل أمثلة الثنائي فقرة يتيمة من بيان لمنظمة التحرير الفلسطينية صدر سنة 1964!)؛ ولم يكن متسامحاً مع الخصوم (أمثال بول جونسون، دانييل بايبس، كنعان مكية!)؛ وأخيراً: المماحكة بقصد تسلّق السلّم الأكاديمي والمهني (آراء سعيد في مواقف جان بول سارتر من الصراع العربي ـ الإسرائيلي، واحتلال العراق، والروائية الإنكليزية جين أوستن!).
في مثال ثانٍ، يتوقف هذه المرّة عند شريط "براءة المسلمين"، يرى لي سميث أنّ موقف الإدارة الأمريكية من الشريط مخجل لأنه يراعي مشاعر المسلمين، ويجامل الغلاة بينهم؛ ولكنه بهذا يهين المواطن الأمريكي، لأنه إنما ينتهك الحرّيات المنصوص عنها في الدستور الأمريكي. وليس موقف الإدارة الإجمالي ـ كما عبّرت عنه سوزان رايس، المندوبة الولايات المتحدة في مجلس الأمن الدولي، وبعض السفارات الأمريكية في الشرق الأوسط ـ إلا خلاصة تفكير حول المنطقة انتزعه الرئيس الأمريكي باراك أوباما، نفسه، من إحدى صفحات "الاستشراق". يكتب سميث: "بينما توجّه الرئيس بوش وديك شيني إلى أساتذة من أمثال برنارد لويس وفؤاد عجمي لمساعدتهما في تأويل المنطقة، يبدو في المقابل أنّ أوباما قد انتزع صفحة من كتاب إدوارد سعيد"، يكتب سمي.
ولأنّ صاحبنا لا يملك دليلاً على ما يقول، فإنه يلجأ إلى فرضيات ركيكة من الطراز التالي: لقد درس أوباما في جامعة كولومبيا خلال فترة 1981 ـ 1982، وبالتالي "لا بدّ أنه كان على علم بوجود البروفيسور الفلسطيني ـ الأمريكي الشهير، ولا نعرف ما إذا كان قد تتلمذ على يديه مباشرة، لأنّ مدوّناته عن تلك الفترة لم تُنشر بعد". أو هذه: ألم يتحدّثا، سنة 1999، في حفل تكريم البروفيسور الفلسطيني رشيد الخالدي، زميل سعيد وصديق أوباما؟ أو هذه، الثالثة: ألم يعلن أوباما، في خطبة جامعة القاهرة سنة 2009: "أعتبر أنه في عداد مسؤوليتي كرئيس للولايات المتحدة أن أحارب جميع التنميطات السلبية عن الإسلام، أينما ظهرت"؛ وبالتالي، ألا يندرج مفهوم "التنميطات" في صلب نظريات سعيد ضدّ الاستشراق؟
يبقى أنّ سميث، صاحب هذه المطارحات العبقرية، هو محرّر رئيسي في أسبوعية "ويكلي ستاندارد"، معقل المحافظين الجدد في الولايات المتحدة؛ ومؤلف كتاب "الحصان الأقوى: السلطة، السياسة، وصدام الحضارات العربية"، الذي يكاد أن يحجر على العرب في سلسلة فرضيات تنميطية عنصرية، ضمناً وعلى نحو مبطّن تارة، أو صراحة دون تردّد أو تجميل للعبارة. وهو يرى، مثلاً، أنّ مشكلة العرب ليست في الدكتاتوريات الحاكمة، بل في الدكتاتوريات المصغرة داخل كلّ أسرة عربية؛ وبالتالي لا فائدة من مساندة "الربيع العربي" لأنّ "الشتاء العربي" قادم بعده، لا محالة. ولأنّ الذهنية العربية بدوية قبائلية صرفة، فإنها لا تراهن إلا على الحصان الأقوى، وهو في عصرنا ليس سوى الولايات المتحدة؛ وبالتالي فالعرب لائذون بأمريكا في كلّ حال ومآل، فلِم العناء في دعم زيد من الحكام، أو مناهضة عمرو!
وما همّ، إذاً، أن يكون أوباما تلميذ سعيد؟ وكيف لواقعة، أو شعب، أو الإنسانية جمعاء، أن تهين الحصان الأمريكي... الأقوى؟