بيد أنّ واقعة الاغتيال هذه إنما تجيز المصادقة على الافتراض الذي سمعه باير، حول وقوع لبنان في القبضة الإيرانية؛ كما تقطع خطوة إضافية نحو تمحيص طبائع تلك الحال، في جوانبها الأمنية والاستخباراتية المعقدة. وإذا صحّ القول بأنّ للنظام السوري أكثر من ميشيل سماحة واحد، رابض في بقعة معتمة ما، ينتظر ساعة الصفر؛ فإنّ الصحيح، على قدم المساواة، ذلك الافتراض الآخر الذي يقول إنّ ما قد تملكه إيران من نماذج سماحة، في بُقَع أشدّ عتمة وقتامة، لعلّه أدهى بما لا يُقاس.
غنيّ عن القول إنّ هذه السطور لا تستهدف تثبيت "مضبطة اتهام" ضدّ أيّ طرف، داخل لبنان أو خارجه؛ ولكنها أيضاً لا تغضّ الطرف عن العناصر الكثيرة، المنبثقة عن منطق بالغ البساطة، يشير إلى المستفيد المباشر من تنفيذ اغتيال الحسن؛ كما يشير إلى "أصحاب"، وليس "صاحب"، المصلحة في حزمة الرسائل التي تبعث بها العملية، والعناوين المختلفة التي أُريد لدويّ التفجير أن يبلغ أسماعها. وجملة هذه العناصر تنتهي، على وتيرة المنطق البسيط إياه، إلى أنها عملية يصعب أن تُنفّذ في أيّ شبر من الأراضي اللبنانية، دون علم استخبارات "حزب الله"، ومحطات استخبارات "الحرس الثوري"، لكي لا يذهب المرء أبعد في الظنّ والترجيح.
هل كان الحسن خصم النظام السوري؟ لا ريب في هذا، كما يقول تاريخ لبنان منذ سبع سنوات على الأقلّ، بعد اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري خاصة. هل كان "حزب الله" على خصومة مع العميد الحسن؟ نعم، بالطبع، لأسباب لا تقتصر على تحالف الحزب مع النظام السوري، بل لأخرى تخصّ ملفات الحزب ذاتها. هل تتلاقى المصلحتان، بما يبيح إزاحة رجل الأمن الأقوى في لبنان اليوم، والخصم الألدّ للمصلحتَين معاً؟ نعم، في المنطق البسيط إياه، الذي لا يستبعد صاحب المصلحة الإيراني أيضاً، بالتكافل مع ذراعه الضاربة على الساحة المحلية. فلماذا تكون هذه الذراع، لا تلك التابعة النظام السوري، هي الطرف الأرجح وراء العملية؟
ثمة سبب أوّل يخصّ المستوى الرثّ الذي يلوح أنّ عمليات استخبارات النظام السوري قد هبطت إليه، وكانت آخر تجلياته أن يعهد رأس النظام إلى اثنين من "أقطاب" الفشل الذريع في كسر الانتفاضة (اللواء علي مملوك، رئيس مكتب الأمن القومي، العاطل عن العمل حالياً؛ وبثينة شعبان، المستشارة الإعلامية)، بأمر التخطيط لعمليات اغتيال وتفجير حساسة في لبنان، فيعهدان بها، من جانبهما، إلى شخص... ميشيل سماحة! الأرجح أنّ عظام اللواء غازي كنعان اهتزت في قبره، سخطاً وشماتة، إزاء هذا الإدقاع في أساليب النظام؛ إذْ هيهات أن ترقى إلى، أو تتشابه مع، عمليات أخرى استهدفت كمال جنبلاط، بشير الجميل، رينيه معوض، صبحي الصالح، حسن خالد، سليم اللوزي، رياض طه، داني شمعون، سمير قصير، جورج حاوي، جبران تويني، وسام عيد...
وثمة سبب آخر يفيد بأنّ النظام السوري هو اليوم، ومنذ تأسيس الحزب سنة 1982، في أضعف أطوار نفوذه داخل آلة القرار العليا لـ"حزب الله"؛ وكما أنها انعكاس لعجز النظام عن هزيمة الانتفاضة، وانحطاط مؤسساته وأجهزته وقواه، فإنها حال تعكس هبوط قدرته على تسويق مقتضيات مصالحه كما كانت الحال سابقاً، في ناظر الأجنحة المتشددة داخل السلطة الإيرانية بصفة خاصة. هو اليوم نفوذ بعيد عن تلك المراحل الذهبية (التي يتحسّر عليها باير، بوصفه رجل استخبارات مخضرماً!) حين كان حافظ الأسد قادراً على دفع إيران، و"الحرس الثوري"، إلى إعادة دافيد لودج، الرئيس التنفيذي للجامعة الامريكية في بيروت، بعد اختطافه إلى طهران، سنة 1982؛ أو إنذار "حزب الله" بإطلاق سراح رهائن طائرة الـ TWA في مطار بيروت، سنة 1985؛ أو إطلاق سراح شارلز غلاس، مراسل الـ ABC، من أيدي خاطفيه التابعين للحزب، سنة 1987...
ولأنّ حصّة "حزب الله"، في شؤون لبنان الأمنية والعسكرية، صارت الأكبر، شاء خصومه ـ والحلفاء، كذلك! ـ أم أبوا؛ فإنّ عملية الأشرفية تُحتسب على ذمّة الحزب، قبل أن تُلصَق بسواه من "المشبوهين المعتادين"، استخبارات النظام السوري، أو أجهزة حلفائه الأقلّ شأناً. ويستوي، هنا، أن يخدم الاغتيال "جبهة المقاومة"، أم يريح "جبهة الممانعة"، أم يقلب الطاولة ويخلط الأوراق كيفما اتفق، أم يضع لبنان قاب قوسين أو أدنى من فوهة بركان... القاسم المشترك هو تهديد أمن اللبنانيين، واستهداف دياناتهم وطوائفهم ومذاهبهم... أجمعين!