ليس
كلّ انقلاب عسكري شريراً، يقول زبغنيو بريجنسكي، مستشار الأمن القومي في عهد الرئيس
الأمريكي الأسبق جيمي كارتر؛ تعليقاً على الانقلاب العسكري الذي قاده الفريق عبد
الفتاح السيسي في مصر، مؤخراً. هكذا، يتابع بريجنسكي، كانت حال الجيشَيْن
البرازيلي والتركي، اللذَيْن استعادا النظام الديمقراطي بعد انقلاب عسكري، وهكذا
يمكن أن تكون حال الجيش المصري: فلننتظر، يستحثّ بريجنسكي الإدارة الأمريكية،
متسائلاً: هل كنّا نعرف شيئاً عن أنور السادات قبل أن يتولى الحكم بعد جمال عبد
الناصر (بمعنى: هل كنّا نتوقع منه فضيلة المشاركة في صنع اتفاقيات كامب دافيد مع
إسرائيل)؟ هل نعرف ما يكفي، الآن، عن الفريق السيسي؟ مصر، يختتم بريجنسكي أحدث
تنظيراته عن وقائع البلد المتفجرة، تعيش ثلاث ثورات معاً، سياسية واجتماعية
ودينية، فلننتظر إذاً، ولا نتعجّل الحكم.
أمّا
سورية، في سياقات تفكير بريجنسكي الراهنة، فإنها محض حال من الفوضى الشاملة، تسير
من سيء إلى أسوأ؛ وإنْ كانت تمنح الولايات المتحدة فرصة استمالة إيران إلى اتفاق
إقليمي شامل، يتضمن الملفّ النووي أيضاً، وينتهي لصالح إسرائيل في المقام الأوّل.
وما يجري في سورية، منذ آذار (مارس) 2011 ليس سوى "أزمة، شاركت في التخطيط
لها السعودية، وقطر، وحلفاؤهما الغربيون"، هكذا بجرّة قلم. يكتب بريجنسكي، في
الدورية الأمريكية اليمينية ذائعة الصيت National
Interest: "في أواخر العام 2011 حدثت اضطرابات في سورية، تسبّب بها
الجفاف واستغلها نظامان أوتوقراطيان في الشرق الأوسط، هما قطر والسعودية".
ولكي تكتمل أركان "المؤامرة" هذه، دخلت المخابرات المركزية الأمريكية
على الخطّ، وقررت "زعزعة" الحكم في سورية، قبل أن تفطن إلى أنّ
"العصاة" الثائرين على "حكومة بشار الأسد" ليسوا جميعهم من
الصنف "الديمقراطي"، فكان أن خضعت السياسة بأسرها للمراجعة...
وبمعزل
عن حقيقة أنّ "الاضطرابات" في سورية لم تبدأ أواخر العام 2011، بل في
الشهر الثالث منه؛ وأنّ مناطق "الجزيرة" السورية شهدت الجفاف، ثمّ
الهجرة، قبل أشهر من ابتداء "الربيع العربي" واندلاع الانتفاضة الشعبية
في تونس؛ فضلاً عن أنّ انتظار انكشاف طوية السيسي قد يكون دونه خرط القتاد، وإراقة
المزيد من دماء المصريين، مدنيين وعسكريين على حدّ سواء؛ وأنّ انقلابه، الذي اتكأ
على إرادة شعبية واسعة ضدّ الأخونة واستبداد الحكم الإخواني، قد يرتدّ على تلك
الإرادة الشعبية فيحوّلها إلى تفويض مزوّر يعيد العسكر إلى مؤسسة الرئاسة، كما
يعيد إنتاج نظام حسني مبارك الأمني بصفة خاصة، بعد تجميله هنا وهناك... بمعزل عن
هذه وسواها من حقائق، فإنّ بريجنسكي يعتمد مقداراً فاضحاً من التقدير السكوني
لآمال الشعبين المصري والسوري، والشعوب العربية بأسرها في الواقع، والدوافع
العميقة خلف التضحيات الجسيمة والوقائع الدامية التي شهدتها بلدان "الربيع
العربي" خلال السنوات الثلاث الأخيرة.
وعلى
منوال هنري كيسنجر، الذي عرضنا في مقال سابق تقديراته للانتفاضات العربية جمعاء،
والسورية منها بصفة خاصة، حيث اختُزلت آمال الشعوب في الحرية والكرامة
والديمقراطية إلى محض صراعات مذهبية ترتدّ إلى مئات ومئات من السنين؛ يبلغ
بريجنسكي خلاصة لا تقلّ اختزالاً، واحتقاراً، لانخراط الشعوب العربية في انتفاضات
عارمة ضدّ أنظمة طغيان وفساد واستبداد وتوريث: أمريكا "تسرّع انتصار مجموعات
أكثر عداء لنا ممّا كان عليه الأسد في أي يوم"، على صعيد سورية؛ و"تقطع
الطريق على انقلاب عسكري ضدّ الفوضى"، وقد "ينتهي إلى خدمة مصالح
الولايات المتحدة"، على الصعيد المصري. في عبارة أخرى، ما العيب في بشار
الأسد وعبد الفتاح السيسي، إذا كانت النتائج ليست ضدّ واشنطن، ومعها إسرائيل، بل
قد يكون العكس هو الصحيح؟
وعند
هذه النقطة من استعراض أفكار بريجنسكي الراهنة حول سورية ومصر، آن الأوان لاستذكار
بعض الحقائق التي تخصّ الرجل نفسه: أنه الأب المؤسس لمنظمة "القاعدة"، و المهندس الأبرز وراء توريط
السوفييت في أفغانستان، ثمّ إطلاق تلك "الصناعة الجهادية" التي أعطت "الطالبان"
و"الأفغان العرب" وأسامة بن لادن وأيمن الظواهري والزرقاوي... وتتمة
المسمّيات والأسماء التي أقضّت مضجع أمريكا في الماضي القريب، وتضع في حيص بيص
مجمل ستراتيجيات "الحملة على الإرهاب"، التي يخوضها رؤساء أمريكا منذ
عقد ونيف. وكان المهندس الذي فتح علبة باندورا الأسطورية الشهيرة، أو أطلق المارد
من القمقم كما نقول، متوهماً أنّ الأذى سوف يصيب السوفييت وحدهم، ولن ينقلب السحر
على الساحر نفسه، بعد أن تُطوى نهائياً صفحة الاتحاد السوفييتي، و"المعسكر
الاشتراكي" بأسره.
وفي
حوار شهير نشرته أسبوعية "لونوفيل أوبزرفاتور" الفرنسية سنة 1998، كان بريجنسكي
قد اعترف بأنّ البيت الأبيض هو الذي استدرج السوفييت ودفعهم إلى خيار التدخّل
العسكري، وذلك بعد انكشاف مخططات المخابرات المركزية الأمريكية لتنظيم انقلاب
عسكري في أفغانستان. وحول ما إذا كان يندم اليوم على تلك العملية، ردّ الرجل: "أندم
على ماذا؟ تلك العملية السرّية كانت فكرة ممتازة. وكانت حصيلتها استدراج الروس إلى
المصيدة الأفغانية، وتريدني أن أندم عليها؟ في يوم عبور السوفييت الحدود رسمياً،
كتبت مذكرة للرئيس كارتر أقول فيها ما معناه: الآن لدينا الفرصة لكي نعطي الاتحاد
السوفييتي حرب فييتنام الخاصة به".
ويسأله
الصحافي الفرنسي فانسان جوفير، ألا يندم أيضاً على دعم الأصولية الإسلامية وما
أسفر عنه ذلك من تدريب وتسليح إرهابيي المستقبل؟ يجيب بريجنسكي: "ما هو
الأكثر أهمية من وجهة تاريخ العالم، الطالبان أم سقوط الإمبراطورية السوفييتية؟
بعض موتوري الإسلام، أم تحرير أوروبا الشرقية ونهاية الحرب الباردة"؟ ولكن،
ألا يُقال إنّ الأصولية الإسلامية تمثّل اليوم خطراً عالمياً؟ يردّ بريجنسكي: "كلام
فارغ!"، قبل أن يتابع: "يُقال لنا إنه ينبغي على الغرب اعتماد سياسة
متكاملة تجاه النزعة الإسلامية. هذا غباء: لا توجد إسلامية عالمية. فلننظر إلى
الإسلام بطريقة عقلانية لا ديماغوجية أو عاطفية. إنه الدين الأوّل في العالم، وثمة
1.5 مليار مؤمن. ولكن ما هو الجامع بين أصوليي المملكة العربية السعودية، والمغرب
المعتدل، والباكستان العسكرية، ومصر المؤيدة للغرب أو آسيا الوسطى العلمانية؟ لا
شيء أكثر ممّا يوحّد بلدان الديانة المسيحية".
فلماذا،
إذاً، تُطبّق على مسلمي الإسلام، جميعهم بلا استثناء، التنميطات ذاتها التي تحثّ
بريجنسكي على تفضيل دكتاتور مثل الأسد، على بديل شعبي له، ديمقراطي المقاصد
والنوايا، قد يضمّ العلمانيين والإسلاميين؟ ولماذا يتوجب الرهان على جنرال مصري،
قاد انقلاباً عسكرياً، اتكاء على حقيقة أنّ الرئيس المصري المنتخب شرعياً ـ للمرّة
الأولى منذ ثمانية آلاف سنة من تاريخ مصر! ـ تعثر وأخطأ وارتكب الحماقة تلو
الأخرى... خلال سنة واحدة فقط؟ فلنعدْ هنا، وبعد الوقوف على شخص مستشار الأمن
القومي الأمريكي ومؤسس منظمة "القاعدة"، إلى جانب آخر هو بريجنسكي
المفكر السياسي، وتحديداً في كتابه "الانفلات من العقال: حول الاهتياج الكوني
عشية القرن الحادي والعشرين"، 1993.
هنا
جادل بريجنسكي بأنّ التاريخ لم ينته بعد على طريقة فرنسيس فوكوياما، بل انضغط
وتكثّف على طريقة بسمارك. وبينما شهد الماضي بروز الأحقاب جنباً إلى جنب وبتباين
حادّ بعض الشيء يتيح تكوين معنى ما للتقدّم التاريخي، فإننا اليوم نشهد سيرورة
مركبة من الإنقطاعات الحادة التي تتصادم فيما بينها، وتكثف إحساسنا بالمنظور
الراهن إلى درجة منعنا من تكوين إدراك أوالية التطوّر ذاتها. في عبارة أخرى: نحن
اليوم نعيش في عالم مختلف تماماً عن العالم الذي رغبنا، بل وشرعنا، في فهمه؛ وهو
مرشح لكي يكون أكثر اختلافاً واغتراباً عن مدركاتنا، حين تحلّ ساعة الحقيقة التي
نؤجلها حيناً، ونسدل عليها الأستار الرمزية الزائفة حيناً آخر!
كلام
فلسفي ثقيل، وكلام مدهش إذ يصدر عن "سوبرمان الأزمات" ورجل تحطيم
الأقواس ("قوس الإسلام التاريخي" على سبيل المثال)، أينما تشكلت في
العالم؛ و"نبيّ الردع"، الذي أطلق مفهوم التدخل السريع في عهد كارتر، ثم
أسلمه وديعة ثمينة إلى خلفائه من مستشاري الأمن القومي الأمريكي. استمعوا إليه
يقول في الصفحة الثانية من كتابه: "إنّ قدرتنا على فهم تشعبات الحاضر ـ لكي
لا نقول المستقبل ـ يكبّلها الانهيار الهائل في القيم الناجزة، سيما في الأجزاء
المتقدّمة من العالم. لقد جرى إعلان إفلاس الأنظمة التوتاليتارية، وهذا أمر مبهج.
ولكن دور الدين في تعريف المفاهيم الأخلاقية أخلى مكانه أيضاً لأخلاقيات استهلاكية
تتخفي تحت قناع البديل الأخلاقي".
وصدّقوا
أنّ بريجنسكي يتباهى بهذه المقولات، الآن تحديداً، في تغريدة على
"تويتر"، أراد منها التذكير بنفسه: ألم أقل لكم! ولكن... ما الذي قاله
لنا، سوى نقيض ما أثبتته وقائع الأزمنة اللاحقة، لا سيما تلك التي انطوت على صعود،
ثمّ هبوط، خطاب الإسلام السياسي؛ وصعود الخطابات الديمقراطية والعلمانية، أسوة
بانتفاضات الشعوب، ثمّ انخراط الإسلام السياسي في سيرورات صندوق الاقتراع، قبل أن
تجهز الجيوش على التجربة، كما في نموذجَيْ الجزائر ومصر؟ أليست هذه هي سياسة "الجنون
المنظّم"، كما أسماها بريجنسكي نفسه، التي رسمها ونفذّها وأدارها "مهندسو
اليوتوبيا القسرية" حسب تعبيره؟ هل من الممكن اليوم التفكير بإجماع ليبرالي ـ
ديمقراطي، أو بديمقراطيات سوق إجماعية ليبرالية، على نطاق عالمي؟ وهل يقدّم مفهوم
الديمقراطية الليبرالية ذاته إجابات ذات معنى حول الأزمات الناشبة والمعضلات
الجديدة الخاصة بالوجود الاجتماعي، قبل الوجود السياسي؟
في
الماضي رجّح بريجنسكي إجابة مركّبة تفيد النفي الواقعي والتأكيد المأمول، متكئاً
على "ميل العقائد الصغرى إلى تحقيق انتصارات صغرى مؤقتة، وعلى ميل العقائد
الكبرى إلى تحقيق انتصاراتها في منطقة محايدة حساسة بين الواقعي والمتخيل".
وللذين استغربوا هذه الجرعة الفلسفية العالية في كلام بريجنسكي، كان ثمة تفسير
واحد كافٍ: لقد استند الرجل إلى خزان فلسفي عامر هو أفكار الناقد والفيلسوف
البنيوي البلغاري ـ الفرنسي تزفيتان تودوروف، حول خطاب تعايش الذات مع الآخر؛ والفيلسوف
الفرنسي جان ـ فرانسوا ليوتار، حول الشرط ما بعد الحداثي والتصارع بين الحكايات
الصغرى والحكايات الكبرى؛ وأخيراً إلى أفكار الفيلسوف الإيطالي بنديتو كروتشه، حول...
"جماليات الإنهيار الحضاري"!
كلّ
هذه الترسانة الفكرية ـ الفلسفية، لكي ينكمش المفكّر ـ الفيلسوف إلى الإهاب الوحيد
اللائق به عملياً: مستشار الأمن القومي الأمريكي المتقاعد، حيث مراقصة الطغاة أفضل
من ملاقاة مجاهيل المجتمعات، وأسهل؛ وحيث أمثال بشار الأسد وعبد الفتاح السيسي
أكثر سلاسة ـ وما همّ أنهم أشدّ عنفاً وبطشاً وشراسة! ـ للدخول في التنميط
الجاهز... ذكر الله بالخير الراحل الكبير إدوارد سعيد، فضّاح أنماط الاستشراق
وكليشيهات المستشرقين!