حين
اشتدّ التضييق على الفلسطينيين والسوريين في مطارات مصر، مؤخراً، بعد انقلاب
الفريق عبد الفتاح السيسي، استعدتُ ـ في تعليق قصير، على "تويتر" ـ تلك
المقارنة المريرة التي عقدها الشاعر الفلسطيني الراحل راشد حسين (1936ـ1977)، سنة
1972، جرّاء تجربة مضنية مع رجال الأمن في مطار القاهرة: "واقف كلّي مذلّة/
في مطار القاهرة/ ليتني كنتُ حبيساً/ في سجون الناصرة". وبالطبع، لم يكن
المقام يسمح باستعادة شطر الحكاية الثاني، أي تعقيب محمود درويش عليها، في قصيدة
"كان ما سوف يكون"، مرثية راشد حسين تحديداً: "والتقينا بعد عام في
مطار القاهرة/ قال لي بعد ثلاثين دقيقة/ ليتني كنت طليقاً/ في سجون الناصرة".
وكان
ارتفاع منسوب الخطاب التأثيمي ضدّ الفلسطينيين والسوريين، في عدد من وسائل الإعلام
والفضائيات المصرية، يحيل إلى وقائع مثل تلك، ويذكّر بها أوّلاً؛ ثمّ يوحي،
استطراداً، بنقائضها: أن يكون الفلسطيني طليقاً أكثر في سجون الناصرة الإسرائيلية،
ويكون السوري أفضل كرامة في معتقلات النظام السوري. العزاء الأوّل، والكبير، هو
أنّ مصر ظلّت ـ حتى ساعة انقلاب الإجراءات الأمنية في المطارات والموانىء، رأساً
على عقب كما يتوجب القول ـ حاضنة سخية وحانية لكلّ السوريين الذين قصدوها، تماماً
كما تقول الآية الكريمة/ لافتة الترحيب المصرية الأشهر: "ادخلوا مصر إن شاء
الله آمنين".
عزاء
آخر، أقلّ شأناً ولكنه ليس أوهن مغزى، كانت تختصره حقيقة أنّ غالبية الإعلاميين
الذين مدّوا ألسنة البذاءة القصوى ضدّ الفلسطينيين والسوريين، كانوا من
"فلول" نظام حسني مبارك الإعلامي، الذي سقط دون أن ينقرض تماماً: واحد
تلتقطه أشرطة فيديو وهو يقبّل يد صفوت الشريف، أحد تماسيح الفساد والإفساد الأشرس
في العهد البائد؛ وأخرى تتوسل إلى مبارك، على الهواء مباشرة، كي يوقّع لها على
ورقة نقدية من فئة مئة جنيه؛ وثالث كان، وما يزال حتى الساعة، موظفاً بأجر معلوم
لدى تمساح فساد آخر، فرّ إلى بريطانيا بعد أن اختلس ونهب وارتشى حتى أوقع خزينة
الدولة في خسائر بالمليارات...
ورغم
أنّ تعقيد المشهد الداخلي الراهن في مصر، على أصعدة وطنية وسياسية واجتماعية
وعسكرية وأمنية شتى، يبيح التماس بعض العذر للبعض؛ إلا أنّ انتقال خطاب التأثيم
إياه إلى صفوف بعض ممثّلي التيارات اليسارية والقومية والليبرالية أمر لا يدعو إلى
خيبة الأمل، بعد الاستغراب الشديد، فحسب؛ بل يثير القلق البالغ، على حاضر مصر
العظيمة ومستقبلها الآتي، في المقام الأوّل. ومن العجيب أن يجد المرء، لدى هؤلاء
بصفة خاصة، قدرة مذهلة على المزج بين أقصيَيْن متناقضَيْن: حسّ الإشفاق على
المهاجر السوري، لاعتبارات إنسانية صرفة بالطبع؛ ونزعة تأثيم الانتفاضة السورية،
بأسرها ودون تمييز أو تمحيص، اتكاء على وجود تيّارات إسلامية داخل صفوفها!
مجموعات
أخرى وجدت في كراهية الفلسطينيين والسوريين فرصة سانحة لابتذال، أو بالأحرى: إعادة
ابتذال ـ مقولة أطلقها في عام 1908 المفكّر المصري الكبير أحمد لطفي السيد؛ وتبدو
اليوم، على بساطتها، إشكالية تماماً، وليست البتة محطّ إجماع. وكان السيد (تلميذ
الإمام محمد عبده، أسوة بالعَلَم المصري الثاني طه حسين؛ وأحد كبار المفكرين
الليبراليين والعلمانيين خلال ما اصطُلح على تسميته "عصر النهضة"،
والرجل الذي كان رائداً في إدارة الحياة الجامعية المصرية، فاستحقّ بجدارة لقب
"أستاذ الجيل")، قد أعلن أنّ "مصر للمصريين". وتلك مقولة كانت
تملك بعض الضرورة آنذاك، بدليل ما قاله السيد في تبرير إطلاقها: "إنّ من
بيننا مَنْ لا ينفكّ يفخر بانتسابه للعرب الأولين، كأنما انتسابه إلى الجنس المصري
نقص وعيب، كما أنّ منّا مَن يفضّل الرابطة الدينية على رابطة الجنسية الوطنية،
فإنْ لم نذهب عنّا هذا التحلل نمت أسبابه وفشت نتائجه وتعذّر علينا أن نوسّع دائرة
المشابهات وتضييق دائرة الفروق".
غير
أنّ للأمر وجوهه الأخرى، التي يمكن أن تكون أكثر من خلافية، لأنها قد تقود المقولة
إلى دروب بغيضة تماماً، فتنتهي إلى ذلك المنزلق العنصري الذي لا مفرّ منه أمام كلّ
فكر اصطفائي شوفيني. والمرء، هنا، يعود بالذاكرة إلى أواخر العام 2003، حين سعى
المحامي المصري الراحل محسن لطفي السيد إلى إحياء مقولة عمّه، فدعا إلى تأسيس حزب
جديد باسم "مصر الأمّ"، كانت هذه بعض ركائزه: تدريس العامية المصرية
(بوصفها اللغة الرسمية للدولة، وليس العربية)؛ إطلاق صفة "الغزو" على الفتح
الإسلامي لمصر، واعتباره السبب في "خسارة قِيَم مصرية كثيرة"، مثل
الزراعة والحياة المدينية والتقويم الشمسي والتعددية الفكرية والدينية؛ وأخيراً، وضع
"القومية العربية الغازية" في حال من الصراع مع "القومية
المصرية".
وفي
زحام الشدّ والجذب داخل ميادين مصر، يبقى سؤال مركزي فاصل: متى كانت مصر عنصرية؟
ومتى كان بعض أبنائها على هذه الدرجة من الاستعداد لمقاومة الظلام والجاهلية
والاستبداد، وكذلك تأثيم الآخر والغريب والمهاجر... في آن معاً؟ ألا يعود هؤلاء ـ
في هذه السنة بالذات، الذكرى العشرين لرحيل جمال حمدان المأساوي، المترع بالرموز ـ
إلى كتاباته المعمقة حول شخصية مصر الفريدة، ومكانتها الحضارية والتاريخية العظمى؟
وكيف، بعدئذ وقبلئذ، يقف الفلسطيني والسوري على أبواب مصر... وكلّه مذلّة؟