يداه أوكتا، الرئيس المصري السابق محمد مرسي، وفوه نفخ؛ فكان لا مفرّ للقربة ـ سيئة الوكاء (الربط)، واهية النفخ، التي شاء أن يمخر بها عباب مصر الثائرة العطشى إلى الحرية والتغيير ـ أن تغرق وتُغرقه وهو على مبعدة سنة واحدة فقط من انتخابه كأوّل رئيس مدني في تاريخ مصر الحديث. وتلك القربة لم تكن ذات عروة وثيقة تتصل بـ"الشرعية"، التي أطنب في التعلّق بأهدابها وهو قاب قوسين أو أدنى من انقلاب العسكر عليه؛ بل كانت مقيّدة بإحكام إلى سلسلة ارتهانات رئاسية لجماعة الإخوان المسلمين، أو بالأحرى لمكتب إرشاد الجماعة، الذي تحوّل إلى مرجعية عليا شبه وحيدة، تستهدف القبض على أعنّة السلطة، كلّها، دون استثناء، ودون إبطاء أيضاً.
وليس الأمر أنّ مرسي كان يفتقر إلى الشرعية، بشتى معانيها الحقوقية والدستورية، وفي الأطر المصرية المحلية مثل تلك الكونية المتفق عليها؛ بل الأصح القول إنّ شرعيته اكتُسبت في مستويات أخرى غير صندوق الاقتراع الخاصّ بالانتخابات الرئاسية. وسواء اتفق المرء مع الدستور المصري، الذي علّقه العسكر، مؤخراً، ضمن حزمة إجراءاتهم الانقلابية؛ أو اختلف (كما أفعل شخصياً) مع روحيته العامة، وتلك التي تخصّ الحقوق المدنية والموقف من الشريعة الإسلامية بصفة خاصة؛ فإنّ الاستفتاء عليه أواخر العام الماضي، بنسبة موافقة تجاوزت 63 بالمئة، كانت في وجهها الآخر استفتاءً جديداً على شرعية رئاسة مرسي. وهذا الاحتكام إلى التصويت الشعبي كان، في وجه ثالث، مؤشراً على مازق المعارضة بأطيافها كافة، اليسارية والليبرالية والناصرية والدينية، فضلاً عن "فلول" النظام القديم.
الأمر، في إشكاليته المقابلة، تمثّل في أنّ تلك الشرعية الحقوقية والدستورية كانت تتصادم، تدريجياً، ولكن على نحو منهجي منتظم، مع إرادة شعبية واسعة النطاق، كانت ترقب خسوف الكثير من أهداف انتفاضة 25 يناير 2011، وانحسار زخمها الديمقراطي والمطلبي والوطني إلى محض تجاذبات، أقرب إلى دائرة مفرغة، بين جماعة الإخوان المسلمين الحاكمة المستفرِدة، وجماعات المعارضة المتشرذمة والعاجزة عن بلورة مشروع معارِض مضادّ ذي مصداقية كافية. وهكذا، بدت الإنجازات الديمقراطية (الانتخاب، والتصويت، والحرّيات السياسية والنقابية والإعلامية...) وكأنها السطح الساخن الظاهر، الذي يخفي غليان الأعماق كما جرى التعبير عنه في ثقافة "ملء الميادين"، على الطرفين في الواقع، ولكن بمعدّلات أعلى وأشدّ فاعلية في صفّ القوى الشعبية المناهضة لسياسات مرسي والإخوان.
كانت تلك الشرعية سليمة قانونياً، ودستورياً أيضاً، ولكنّ افتقارها إلى مقدار مماثل من المصداقية الشعبية (وثمة ما يغري المرء بالتفكير في "مصداقية ثورية" كذلك)ن كان لا يطعن في كثير من عناصر تلك السلامة، فحسب؛ بل يهدد باجتثاث جذورها القانونية والدستورية، لتصبح في الموقع النقيض تماماً: أنها فاقدة للشرعية، وإسقاطها له الأولوية على أيّ أعتبار آخر، وأياً كانت الوسائل الكفيلة بضمان ذلك الإسقاط. وتحت وطأة حال كهذه، لا تخلو من فوران شعبي جارف لإزاحة مرسي والإخوان عن سدّة الحكم، أن يصبح الجيش مقبولاً لدى القطاعات الشعبية ذاتها التي هتفت، قبل أشهر قليلة فقط، بسقوط حكم العسكر؛ وأن تنزلق أطراف في المعارضة المصرية، على اختلاف أطيافها، ليس إلى تجميل صورة الجيش وإعادة إنتاجه كمنقذ للأمّة وضامن لحقوق الشعب، فقط؛ بل كذلك إلى امتداح "الداخلية"، وقوى الأمن والاستخبارات والشرطة!
هذه ليست مشكلة ذاكرة شعبية قصيرة، أو حسيرة، للإنصاف؛ بقدر ما هي أقرب إلى استماتة قصوى في الاتكاء على المؤسسة الوحيدة التي لاح أنها قادرة على تنحية مرسي بالقوّة، حتى إذا كانت تجربة الجيش في حكم مصر، من شباط (فبراير) 2011 وحتى حزيران (يونيو) 2012، مريرة غالباً في ملفات الحقوق والحرّيات العامة والمطالب المعيشية والخدمية وحال الاقتصاد إجمالاً. وفي أحدث تقرير لها، حول هذه الفترة العسكرية تحديداً، أشارت منظمة "هيومان رايتس ووتش" إلى أنّ 12 ألف مواطن مدني حوكموا بتهمة الإساءة إلى الجيش، أي أكثر مما حاكم نظام حسني مبارك طيلة 30 سنة! كذلك شددت المنظمة على أنّ المجلس العسكري استخدم القوّة المفرطة في فضّ التظاهرات أو اعتقال المتظاهرين وتعذيبهم، وتوانى عن التحقيق في حوادث كثيرة خطيرة بهذا الصدد، أو ألقى بالمسؤولية على عاتق رتب دنيا في الجيش (كما في واقعة ماسبيرو، في تشرين الأول/ اكتوبر 2011، التي قُتل خلالها 13 متظاهراً).
ومؤخراً، وبعد دقائق من إعلان الفريق أوّل عبد الفتاح السياسي احترام حرّية الإعلام ونبذ الإقصاء السياسي، سارعت وزارة الداخلية إلى إصدار قرار بوقف بثّ ثلاثة أقنية إسلامية، واقتحمت مكاتبها، واعتقلت عدداً من العاملين فيها؛ كما اتخذت الإجراء ذاته ضدّ فضائية غير مصرية هذه المرّة، هي "الجزيرة مباشر مصر"، والتي كانت تغطي مشاهد اعتصام مؤيدي مرسي في ميدان رابعة العدوية. بعد هذا قامت مفارز أمنية باعتقال محمد الكتاتني، رئيس حزب "الحرية والعدالة"؛ وخيرت الشاطر، نائب المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين؛ إضافة إلى قرابة 300 من كوادر الجماعة، وفقاً لصحيفة "الأهرام" المصرية؛ كما تتمّ ملاحقة قيادات إخوانية أخرى، مثل محمد البلتاجى وعاصم عبد الماجد وحازم أبو اسماعيل وطارق الزمر.
أوّل الغيث قطر، ولسوف تتعاقب إجراءات العسكر في التنكيل بجماعة الإخوان المسلمين، وبالتالي استكمال الانقلاب العسكري بآخر ينقلب على تلك "الشرعية" الشعبية الأخرى، التي جاءت بالإخوان إلى مجلس الشعب، وتكفلت بانتخاب مرسي ضدّ أحمد شفيق (وليس، البتة، ضدّ مرشح للمعارضة اليسارية أو الليبرالية أو الناصرية، للإيضاح المفيد)، كما وقفت وراء الاستفتاء على مشروع الدستور؟ أغلب الظنّ أنّ السيسي، على رأس المؤسسة العسكرية، سوف يتابع سياسات القمع التي بدأها فور فراغه من تلاوة "خريطة الطريق"، التي لم تكن في واقع الأمر سوى صيغة ملطفة من "البيان رقم واحد"، الذي عوّدتنا عليه انقلابات العسكر في التاريخ العربي المعاصر. والأغلب، استطراداً، أنّ الرئيس المؤقت المعيّن، المستشار عدلي منصور، سوف يكون خيال ظلّ لجنرالات السيسي؛ وهذه خلاصة يقود إليها المنطق البسيط، حتى قبل معرفة تركيبة الحكومة القادمة، واتضاح مقدار خضوعها لإرادة صانعي الانقلاب.
والحال أنّ فئات المعارضة المصرية السعيدة بانقلاب العسكر، بما فيها تلك التي ترفض هذا التوصيف، إنما ترتكب خطأ جسيماً إذا ظنّت أنّ قهر الرأي وقمع حرّية التعبير وحظر النشاط السياسي هي الوسائل المثلى لمحاربة الإخوان المسلمين. التجارب أثبتت سطحية هذا التقدير وخطورته، كما برهنت على أنه ينتج نقيضه في نهاية المطاف، أي إتاحة الفرصة أمام الجماعة لحيازة صفة الضحية المضطهَدة من الجميع، واكتساب شعبية إضافية من خلف القضبان والزنازين. وما دامت المعارضة مبعثرة ومجزأة وضعيفة، فما الذي يضمن اليوم أنّ الدورات الانتخابية القادمة لن تأتي بالإسلام السياسي ذاته، وبالتالي لن تتكرر الحلقة إياها، في وضع قانون انتخابي، أو تنظيم انتخابات تشريعية، أو كتابة دستور جديد، وصولاً إلى الانتخابات الرئاسية؟
وفي مواجهة صعود الإسلاميين، في الحقبة الراهنة أو بصفة عامة أيضاً، ليس أفضل من ذلك الحلّ الذي لاح أنّ الحياة السياسية المعاصرة، على نطاق العالم المسلم والعالم العربي، قد اقترحته على الجميع: أن يُجبر الإسلاميون، إذا شاءت صناديق الاقتراع المجيء بهم إلى السلطة، على الهبوط من سديم السماء إلى أديم الأرض، حيث السلطة لا تقتصر على النصّ والشريعة والمسجد وعقدة الضحية، بل تشمل أوّلاً حكم مجتمع يتطلب المستشفى والمدرسة والشارع المعبّد والمأكل والمشرب، أسوة بالحرّيات العامة والمدنية، والقضاء المستقلّ، وفصل السلطات، والتداول السلمي للسلطة. فإذا دُفع الإسلاميون بعيداً عن معترك كهذا، وتمّ إقصاؤهم عن الانخراط في الحياة السياسية (على غرار ما فعل عسكر السيسي فور الإعلان عن الانقلاب)، فما الذي يتبقى للإسلاميين سوى العودة إلى التطرّف والتشدد والتكفير، تحت الأرض غالباً، بدعوى أنهم ضحية الإقصاء على الأقلّ؛ وممارسة الإرهاب، بدعوى "الجهاد" في المقام الأوّل؟
واليوم، ثمة مراقبون يرجّحون انزلاق مصر إلى النموذج الجزائري، حين انقضّت المؤسسة العسكرية على انتخابات ديمقراطية، فأطلقت أشرس ما في باطن الحركات الإسلامية المتشددة من عنف عشوائي وحشي؛ وثمة مراقبون آخرون يرون ملامح النموذج الباكستاني، حيث اعتاد جنرالات الجيش تعطيل الحياة السياسية المدنية، عن طريق الانقلاب العسكري. القاسم المشترك بين النموذجين كان شعار التدخّل بهدف "حماية الوطن من الأخطار"، و"الحفاظ على الأمن القومي"، و"الدفاع عن الشعب"... تماماً على غرار خطاب السيسي. وفي يقيني تبدو أخطار النموذجين واردة، ما خلا أنّ الشارع الشعبي المصري قد راكم من التجارب، في أطوار مختلفة من تاريخ مصر الحديث، "أمّ الدنيا" بحقّ، ما يكفي لاجتراح نقطة توازن عليا، وطنية وديمقراطية وثورية؛ فُرضت على جنرال من طراز السيسي، وقبله سامي عنان و المشير محمد حسين طنطاوي، أو على معارضين من أمثال محمد البرادعي أو محمد مرسي أو حمدين صباحي أو أحمد شفيق...
الثمن، في المقابل، قد يكون باهظاً وفادحاً، لاعتبار جوهري أوّل هو أنّ المؤسسة العسكرية المصرية احتفظت على الدوام بموقع الرئاسة، منذ محمد نجيب وجمال عبد الناصر، وحتى أنور السادات وحسني مبارك؛ وكان برنامج توريث الرئاسة الذي اعتمده الأخير كفيلاً بقطع ذلك الإرث، وتكبيد المؤسسة العسكرية المزيد من الخسائر، وربما التهميش والإضعاف، أو حتى المهانة في الموقع والمكانة. ولعلّ هذه المؤسسة، التي تشرف أيضاً على جهاز المخابرات العامة، قد تنبهت ـ تحرّكها، ربما، تلك القاعدة العسكرية التي ترى في الدفاع خير وسائل الهجوم ـ إلى إمكانية استغلال حركة الشارع المصري في مناسبات شتى، وربما في كلّ يوم غضب شعبي عارم، وإعادة فرض الجيش كرقم في المعادلة السياسية... "شريف" و"باسل" و"منقذ"...
ويبقى هذا البُعد السوري لانقلاب العسكر الأخير في مصر: ثمة شرّ البلية (إحساس السوريين، المأساوي، بالفارق الشاسع بين الجيش المصري وجيش النظام، من حيث احترام دم المواطن وكرامته وشخصيته وحقوقه، رغم أنّ العسكر عسكر متماثل في تسعة أعشار أنظمة الاستبداد والفساد العربية)؛ وثمة ما يُضحك في شرّ البلية (ابتهاج بشار الأسد لـ"سقوط الإسلام السياسي"، بما يوحي أنّ مشكلته ليست في الحرب الهمجية التي يشنها نظامه ضدّ الشعب السوري، بل هي في مقارعة تسييس الدين!).
كان منطق الإدراك العامّ عند محمد مرسي أرحم بكثير، والحقّ يُقال!