مضى
زمن طويل منذ أن كرّس بشار الأسد حديثاً صحفياً كاملاً، أو يكاد، لمناقشة أوضاع
حزب البعث؛ الذي يظلّ "حاكم" البلاد، رسمياً وشكلياً، رغم إلغاء المادة
8 من الدستور، التي كانت تقول إنه حزب "قائد للمجتمع والدولة"، و"يعمل
على وضع الخطط والسياسات العامة". والمناسبة الجديدة هي استيقاظ اللجنة
المركزية للحزب، من سبات طويل يليق بأهل الكهف، وعقد اجتماع موسع شهد تبديل
القيادة القطرية السابقة بالكامل؛ ما عدا، بالطبع، الرفيق الأمين القطري نفسه،
بشار الأسد، الذي يظلّ فوق أيّ اعتبار يستدعي التغيير، أسوة برفاقه، أو على غرار
بني البشر أجمعين!
طريف،
مع ذلك، أنّ الأسد يقول التالي، في الحديث الصحفي إياه: هنالك "تقصير على
مستوى المؤسسة ككل نتحمل مسئوليته جميعا"؛ وإنّ من مهام اللجنة المركزية
للحزب "مراقبة عمل القيادة وتقييمها ومحاسبتها حسب الأنظمة الداخلية للحزب،
أو من خلال اقتراح اللجنة المركزية بإقالة عضو أو أكثر من الأعضاء، أو إقالة
القيادة كلها، كما حصل منذ أيام، فقامت اللجنة المركزية في الاجتماع الموسع
باستبدال القيادة بشكل كامل". فكيف حدث أنّ رأس هذه القيادة، الأمين القطري،
ليس مسؤولاً أبداً عن أيّ خطأ أو تقصير، بدليل أنّ قيادته تبدّلت بالكامل، لأنها
مخطئة مقصّرة، وظلّ هو قائداً خالداً معصوماً عن الخطأ والمحاسبة؛ بل جرى تنصيبه،
سريعاً، على رأس القيادة القطرية الجديدة؟ وكيف يبرر الأسد "محاسبة" لا
تتجاوز التنحية عن الموقع الحزبي، فلا تذهب أبعد ولو خطوة واحدة، فتخبر
"جماهير الحزب"، لكي لا نتحدّث عن "الشعب السوري"، بما ارتكبه
ذلك المسؤول من أخطاء؟
طراز
ساذج من الأسئلة، سوف يقول قائل، محقاً تماماً؛ إذْ كيف ينتظر المرء أيّ مستوى
جدّي من المحاسبة يمكن أن يصدر عن نظام كهذا، يخوض منذ 28 شهراً حرباً شعواء قذرة،
بكلّ صنوف الأسلحة والنيران، ضدّ البشر والحجر والزرع والضرع في سورية؟ وكيف،
أيضاً، إذا كانت الإجابات تخصّ هذا الحزب بالذات، البعث، الذي تحوّل إلى جثة شبه
هامدة، بعد أن اقتُطعت من جسمه تلك الشرائح التي تصلح للانقلاب إلى ميليشيا عسكرية
فوق الشعب، طائفية التركيب في تسعة أعشار نماذجها، تقاتل الشعب السوري تحت إمرة ما
تبقى من مؤسسات عسكرية ـ أمنية موالية للنظام، أو ضباط غزاة من كتائب "حزب
الله" اللبناني أو العراقي، و"الحرس الثوري" الإيراني؟ وكيف،
أخيراً، إذا كانت الفذلكة اللفظية، والتفلسف الأجوف، والتبرير الديماغوجي... هي
العدّة التي اعتمدها الأسد، على جري عادته، في صياغة إجاباته؟
على
سبيل المثال، يطرح محاوِره عبد اللطيف عمران، رئيس هيئة تحرير جريدة
"البعث" الرسمية التي نشرت الحديث، هذا السؤال الذي ينطوي على حقّ ولكنه
يتوسل باطلاً: "إن الحزب تاريخياً هو حزب الفقراء والكادحين، وحزب الجماهير
الشعبية، لكن في ظل الأزمة لاحظنا أن من تحرك ضد الحزب والدولة هم الفقراء
والكادحون! ما رأيكم في ذلك؟". الأسد ينفي، اتكاءً على سببين: "أن الحرب
لم تكن يوماً بين فقراء وأغنياء أو كادحين وأثرياء، وهي أيضاً ليست حرب قواعد
شعبية على حزب حاكم، ولا على الدولة". والسبب الثاني: "أن من يدافع عن
الوطن الآن هم هذه الشريحة من الكادحين وأبناء العمال وأبناء الفلاحين.. جزء منهم
في الجيش، والجزء الآخر يدافع عن مناطقه، خاصة في الأماكن التي تتطلب الوقوف إلى
جانب قواتنا المسلحة". فما هي هذه "الحرب"، إذاً؟ "الصراع
الموجود الآن هو بين جاهل وواعٍ، بين وطني وعميل، بين متطرف ومعتدل"، يجيب
الأسد!
مثال
آخر، يخرج عن سياقات حزب البعث والمحاسبة والتقصير، ولكن لا يغادر منطقة حقّ يُراد
منه الباطل، ولا يحيد عن هدف غسل الأسد من كل زلل أو خلل. يثير السائل فكرة "سقوط
مشروع الإسلام السياسي"، التي طرحها الأسد بمناسبة انتفاضة الشعب المصري
الأخيرة ضدّ جماعة الإخوان المسلمين وانقلاب العسكر على الرئيس المنتخب محمد مرسي،
ويسأل: "كيف لنا أن نفهم أن أهم حلفائنا في المنطقة إيران وحزب الله...
أليسوا أحزاباً دينية وإسلاماً سياسياً؟" سؤال وجيه، إلا إذا طُرح على متفلسف
مثل الأسد، إذْ أنّ إجابته سوف تسير هكذا: "المجموعة التي قصدناها، أي
الإخوان المسلمين ومن على شاكلتهم، هي تلك التي تستغل الدين وتستخدمه كقناع
وتحتكره لنفسها وتكفّر الآخرين، وهي التي تعتبر أنك عندما لا تقف معها سياسياً
فأنت لا تقف مع الله شرعياً... وهذا لا ينطبق لا على إيران ولا على حزب الله، فهم
لا يعاملون الناس انطلاقاً من البعد الديني والطائفي، وإنما انطلاقاً من الأبعاد
الوطنية والسياسية، ولا يميزون بين الدول أو الجهات التي يتعاملون معها إلا وفقاً
للمبادئ والمصالح السياسية والقضايا الاستراتيجية"!
مثال
ثالث، وأخير، على هذا الاستغفال لعقول البشر، والسوريين منهم بصفة خاصة ناجمة عن
مرارات نصف قرن من حكم حزب البعث، بينها 43 سنة لنظام "الحركة التصحيحة"
وآل الأسد وحدهم. يسأل عمران: "مما جاء في كلمتكم بالأمس، لوحظت نبرة نقد
واضحة ومراجعة نقدية تفصيلية في بعض الجوانب... لماذا كانت نبرة النقد عالية
بالاجتماع الموسع نوعاً ما؟". الأمين القطري، المنزّه عن كلّ خطأ أو تقصير
بالطبع، يجيب على ثلاثة مستويات: عامّ ومعياري، مفاده أنّ "النقد للمؤسسة أو
للحكومة أو للدولة هو دعم لها جميعاً وخطوة لتطوير أدائها"؛ وعامّ وسيكولوجي
وثقافي، يرحّل "المشكلة" إلى واقع "أننا ربما كعرب وشرقيين لا نحب
النقد، وننظر إليه على أنه نوع من الإهانة الشخصية، وهذا شيء خطير نراه في كل
المستويات"؛ وثالث، محلي وذاتي وتوجيهي: "ثقافة النقد يجب أن تكون إحدى
أساسيات عملنا الحزبي وغير الحزبي، والقضية ثقافة، كما قلت، لا علاقة لها لا
بالأنظمة ولا بالقوانين... فلننظر فقط أن النقد هو للتطوير والدعم وتحسين الأداء،
عندها لن نستغرب، أو يستغرب أحد كلامي بالاجتماع الموسع".
حسناً،
فما الذي حال دون قيام الرفيق الأمين القطري نفسه، بهمسة نقد ذاتي واحدة، وحيدة
يتيمة، يُستشفّ منها أنه من طينة بني البشر، وأنه لهذا خطّاء مثلهم، خاصة في
الظروف العاصفة التي تعيشها سورية منذ سنتين ونيف؟ وهل يعقل أنه، وهو رأس النظام
والأجهزة الأمنية والجيش الموالي والحزب الحاكم والميليشيات وقطعان الشبيحة... ليس
مسؤولاً عن قطرة دم واحدة من 100 ألف قتيل سوري؟ وأية "ثقافة"، إذاً، هي
تلك التي تمكّنه من إبصار أخطاء رفاقه في القيادة القطرية (بمَنْ فيهم فاروق
الشرع، نائبه وآخر المخضرمين الباقين من رفاق أبيه)، وتمحيصها، وكشفها، والمحاسبة
عليها... دون الوقوع على خطأ ذاتي واحد، لا يُعصم عنه إلا الآلهة؟ هذه، بدورها،
طائفة مماثلة من الأسئلة الساذجة التي يجبها، على نحو قاطع وقطعي، ايّ عقل بسيط
يغامر بمساجلة هذه الفذلكة الديماغوجية الفاضحة.
لا
مهرب، مع ذلك، من استدعاء أسئلة أخرى، تطرح ذاتها من تلقاء السياقات القديمة
والجديدة التي أثارتها في الماضي، وتثيرها اليوم أيضاً؛ مثل سؤال يقول: أين كانت
"ثقافة" البعثيين حين شهد العالم بأسره مهزلة انعقاد ما يُسمّى
"مجلس الشعب" السوري، على نحو كرنفالي أقرب إلى استعراض السيرك منه إلى
أيّ اجتماع بشري، من أجل تعديل المادة 83 من الدستور لكي تلائم توريث بشار الأسد،
بعد ساعات معدودات أعقبت وفاة أبيه؟ بل أين كان هؤلاء "الرفاق" أنفسهم
حين أصدر شيخهم الأعلى مرتبة آنذاك، عبد الحليم خدّام دون سواه، القانون رقم 9،
المؤرخ في 11/6/2000، والقاضي بتعديل هذه المادة، ليصبح عمر رئاسة الجمهورية الدستوري
مطابقاً لعمر الوريث آنذاك (34 سنة)؟ وأين كان ضباط "حماة الديار"، حين
جرى ترفيع بشار الأسد من رتبة عقيد إلى رتبة فريق، دفعة واحدة؛ وتعيينه قائدًا عاماً
للقوات المسلحة؟
كذلك،
ضمن حزمة الأسئلة ذاتها: أين كان البعثيون في المؤتمر القطري التاسع الذي انعقد
بعد أيام معدودات على ذلك الكرنفال، لا لكي يتخذ توصيات سرعان ما اتضح أنها جوفاء
طنانة رنانة (كالنصّ، في الحياة السياسية، على "الحاجة إلى تطوير النهج
الديمقراطي القائم بصورة تتعزز معها الجبهة الداخلية، وتتحقق مشاركة أوسع فعالية
وجدية للجماهير، وتنشط الحياة الحزبية، وتضمن الحريات العامة التي كفلها الدستور
والقانون بما في ذلك حرية الرأي والتعبير"؛ أو، في الجوانب الاقتصادية،
مناقشة "الخلل القائم في البنية الاقتصادية، وحالة الركود والانكماش في
الاقتصاد الوطني، وتأثير ذلك كله على مسيرة البناء والتقدم، وعلى مستوى معيشة
المواطنين وتوفير احتياجاتهم، وتأمين متطلبات الدفاع الوطني"...!)؛ بل لكي
يتخذ قرارين هما الأهمّ، كما يعترف الحزب ذاته في موقعه الرسمي: "اختيار
الرفيق الدكتور بشار الأسد قائدا لمسيرة الحزب والشعب"، و"انتخاب الرفيق
بشار الأسد أميناً قطرياً للحزب"؟
ومجدداً
يتذكر المرء، ويذكّر بما لا يجوز طمسه في الذاكرة الجَمْعية: من مجازر حماة 1982
في سورية، إلى مجزرة حلبجة في العراق، وصولاً إلى الهمجية المطلقة في محاولات كسر
الانتفاضة الشعبية الراهنة؛ ومن احتلال لبنان وحصار المخيمات الفلسطينية والتفرّج
على الاجتياح الإسرائيلي لبيروت، إلى احتلال الكويت، وصناعة واحدة من أغبى كوارث
العرب في التاريخ الحديث؛ ثمة منطق صارم يربط البدايات بالمآلات، آيلاً بها إلى النهايات.
الصفحة تُطوى في العراق دون أن تنطوي تماماً، وفي سورية تكفلت الجمهورية الوراثية
بالإجهاز على آخر الأكاذيب حول حزب بدأ من استلهام فلسفة فيخته (ميتافيزيقا الأمّة
الألمانية)، ونيتشه (فلسفة القوّة وشخصية البعثي السوبرمان)؛ قبل أن تمسخه أجهزة
الاستبداد والفساد إلى كتلة انتهازية هلامية، مستكينة ومنقادة ومأمورة، فتصبح
فِرَقه الحزبية، وشُعَبه وفروعه محض استطالات تابعة لإدارات الاستخبارات، وتنقلب
قواعده إلى جموع ببغائية، تهتف: "منحبّك!" و"شبيحة للأبد!"،
و"الله! سورية! بشار وبسّ!"...