نهار
الجمعة الماضي (وهذا اليوم اختير، دون سواه، عن سابق عمد وتصميم، أغلب الظنّ)،
قامت مروحيات النظام السوري بإلقاء 23 برميلاً متفجراً على مدينة سراقب،
الواقعة جنوب شرق إدلب؛ كما نفّذت القاذفات 14 غارة جوية على الأقلّ، وقعت آخرها
لحظة أذان المغرب بالضبط، أي عند موعد إفطار الصائمين (وهذا، بدوره، ليس توقيتاً
عشوائياً كما يجوز للمرء أن يفكّر). البرميل المتفجر يحتوي خلائط من الموادّ
الناسفة، وقضبان حديد البناء المقطّعة إلى أجزاء قصيرة، يُراد منها أن تتحوّل إلى
طلقات خارقة متقدة، أشدّ فتكاً من الذخائر النارية الكلاسيكية. وأمّا ما ألقته
القاذفات، فإنه يبدأ من القنابل العنقودية، ولا ينتهي عند تلك الانشطارية، فضلاً
عن هذا أو ذاك من صنوف الأسلحة الكيمائية.
قبل الغارات، كانت غوّاصة "دولفين" إسرائيلية
(طبقاً لرواية "صنداي تايمز" البريطانية، على الأقلّ) قد نفّذت هجمة
صاروخية على مستودعات أسلحة قرب مدينة اللاذقية، على الساحل السوري، تأوي صواريخ
مضادة للسفن من طراز "ياخونت P-800" روسية الصنع، تسلّمها النظام مؤخراً. وكما جرت العادة في
مناسبات كثيرة مماثلة، طيلة سنوات وعقود، التزم النظام السوري صمت القبور؛ فلم
تسكت المدافع المضادة والصواريخ بعيدة المدى، وتبقى المقاتلات جاثمة على الأرض،
فحسب؛ بل أصابت أجهزة النظام الإعلامية، ذاتها، حال من الصمم والبكم والعمى، في
التعليق على الواقعة!
وبين العدوان الإسرائيلي على اللاذقية، والعدوان الأسدي على
سراقب، كان الأمين العام لـ"حزب الله"، حسن نصر الله، قد أطلّ مجدداً
على اللبنانيين (وعلى السوريين، كما يتوجب القول)، فألقى خطاباً "تميّز
بالهدوء"، كما وصفته الجهات المقرّبة من الحزب. وإلى جانب الشؤون اللبنانية ـ
اللبنانية، شدّد نصر الله على أنّ
"المقاومة
التي حققت الانتصارات في 1982 وفي 2000 وفي 2006 استطاعت أن تحطّم مشروع الشرق
الأوسط الجديد، ومن الطبيعي أن تتعرّض للاستهداف"؛ و"عندما لا تكون هذه
المقاومة في دائرة الاستهداف، فهذا يعني أنها غير فاعلة ولا يحسب لها العدو حساباً".
لكن
نصر الله تفادى تقديم أيّ إيضاح، في الحدود الدنيا الأبسط، حول حقيقة بسيطة مفادها
أنّ هذه "المقاومة" لم تتعرّض إلى أي "استهداف" منذ حرب 2006؛
إلا إذا صُنّفت هكذا حركة الشيخ أحمد الأسير، في صيدا؛ ومثلها تفجير الضاحية
الأخير، أو حتى... مقتل إعلامي النظام السوري، محمد ضرار جمو، بتدبير من زوجته،
كما تشير التقارير! كذلك أحجم الأمين العامّ لـ"حزب الله" عن تبيان ردّ
فعل هذه "المقاومة"، الآن أو في المستقبل، على سلسلة الغارات
الإسرائيلية التي تكاثرت في الآونة الأخيرة، ولم تكن تستهدف إضعاف النظام السوري
في ذاته، بقدر ما أصابت مخازن أسلحة كانت أصلاً معدّة للإرسال إلى "حزب
الله"، وتلك "المقاومة".
وقبل
يوم من المجزرة السراقبية (تفاوتت أعمار الشهداء، من عائلة الفياض
وحدها، بين إيمان 27 سنة، وغزوة 24 ، ورهام 4 سنوات)؛ استقبل ولي العهد السعودي،
الأمير سلمان بن عبد العزيز، في جدّة، ثلة من قيادات "الائتلاف الوطني
السوري". وإذا كان التقاطر إلى السعودية أمراً مألوفاً لأمثال أحمد عاصي
الجربا ومحمد فاروق طيفور وسالم المسلط، فإنّ لهاث "ديمقراطيين"
و"علمانيين" و"ماركسيين و"ليبراليين" ـ من أمثال برهان
غليون وميشيل كيلو وجورج صبرا وكمال اللبواني ـ للحاق بالركب، كان نذيراً جديداً
بائساً على خواتيم هذا الطراز الرثّ من "معارضة" لا تكفّ عن إضافة
الإهانة على جراح سورية.
ولأنّ المصائب لا تأتي فرادى، غالباً، كانت سراقب تواصل
طرازاً إضافياً من العسف والتعسف، تمارسه هذه المرّة أنماط أخرى من
"المعارضة"، ترفع راية "المحاكم الشرعية"، وتزيّف الشريعة
الإسلامية أو تكيّفها على أهواء قادتها، فقهاء الظلام ليس أقلّ، وليس أكثر أيضاً. ولقد جُلد رجال من أبناء
سراقب بتُهم سخيفة، جاهلية وعمياء ومنحطة، في شروط تمثّل بدورها إهانة وطنية قصوى
للسوريين (كما في التعامي عن آلام معركة القصير، واختيار هذا التوقيت لجلد رجل
زوّج ابنته وهي في "عدّة الطلاق")؛ وفي شروط إنسانية فاضحة تماماً، حتى
بأي معنى "شرعي" (كأن يقوم بالجلد رجل ملثّم، بعد تلاوة قصاصة كُتب
عليها حكم "المحكمة الشرعية").
حيطان سراقب، في المقابل، كانت تواصل التعبير عن روح
المدينة الأصيل، فتحمل كتابات نبيلة بليغة، تمتدح الحياة والبقاء والمقاومة،
وتستلهم الشعر أسوة بالسياسة، والأخلاق الثورية قبل الشعائر الجوفاء: "كلّما حاصرنا الموت
احترفنا الحياة"، يقول حائط أوّل؛ أو: "ذهب الذين تحبهم، ذهبوا/ فإمّا أن
تكون، أو لا تكون"؛ أو: "سوف تنتهي الحرب يوماً وأعود إلى قصيدتي"؛
أو: " قلْ لمَنْ يجمعون القمامة... شكراً"؛ أو: "شغّلْ ضميرك... ما
رح تخسر شي!". هذا عدا عن تدوين تاريخ، شبه يومي، لأطوار انتقال سراقب من
استبداد النظام، إلى استبداد بعض فئات "المعارضة"، ليس دون اكتساب
المزيد من ثقافة الملحمة المفتوحة.
وهذه
ثقافة عميقة، شعبية ومتأصلة، تتيح الحزن إزاء صمت مدافع اللاذقية تارة، وتضميد
جراح البرميل المتفجر طوراً، والضحك من موبقات بعض "المعارضة" مرّة،
ومتابعة البقاء على قيد الحياة.. في أيّ طور، وفي كلّ حين.