"القدس العربي" ليست مجرّد صحيفة يومية، رغم أنها كذلك في تسعة أعشار المعايير المهنية المتفق عليها؛ وهي ليست محض منبر استثنائي، من حيث استقبال موشور تعددي من الآراء، خاصة تلك التي تدافع عن صنف "القضايا الخاسرة" غالباً؛ كما أنها أكثر من حاضنة لمعارضات عربية يتيمة، أو ميتّمة بالأحرى، لأنّ الصحيفة لم تكن تتحزّب حتى في ذروة انحيازاتها المعلَنة. "القدس العربي" ظاهرة، إعلامية وأخلاقية وسلوكية، بسبب من هذه الاعتبارات أوّلاً، في تقديري الشخصي؛ ولأنّ حصيلة كهذه اقتضت سلسلة من المواجهات والعواصف ومعارك البقاء، استولدت بدورها اعتبارات أخرى.
صنّاع
البدايات الأبكر في هذه الصحيفة/ الظاهرة كانوا حفنة رجال ونساء، أقلّ من قبضة
اليد الواحدة كما أجيز لنفسي القول؛ بعضهم ظهر في الواجهة على الفور، لأنّ مهامّه
كانت تقتضي ذلك، وبعضهم الآخر بقي في موقع الجندي المجهول، لأنّ واجباته في
الإنتاج استوجبت هذا الطراز من المشاركة. على رأس الفريق كان عبد الباري عطوان،
رئيس التحرير منذ الانطلاقة الأولى، في نيسان (أبريل) 1989، وحتى 9 تموز (يوليو)
الماضي؛ حين توجّب أن يستقيل، أو بالأحرى يُجبر على الاستقالة، افتداءً لاستمرار
مؤسسة (متواضعة تماماً من حيث الإمكانيات المالية، ولكنها مع ذلك تعيل قرابة 50
أسرة)، وأملاً في مواصلة زخم الظاهرة.
ولعلّ
الأيام سوف تتكفل بإزالة التحفظ ـ الاخلاقي أوّلاً، والسياسي ثانياً، وربما
القانوني المحض ثالثاً ـ الذي أجبر عطوان على الامتناع عن ذكر ملابسات استقالته؛
الأمر الذي لا ينفي، البتة، حقّ كلّ مَن تعاون معه، رئيس تحرير أو زميلاً أو صديقاً،
في برهة وفاء لرجل ظلّ عنوان "القدس العربي" الأوّل؛ في منعطفات حاسمة
كانت كفيلة بقلب تلك المعادلات، رأساً على عقب ربما. تلك الحال، السجالية بامتياز،
كانت تسري على خطّ الصحيفة، بالمقارنة مع صحف ومنابر إعلامية عربية أخرى؛ وتنطبق
على ذلك الخطّ كما تباين داخل الصحيفة ذاتها، بين رأي ورأي آخر، واتجاه ونقيضه.
ولعلّ
الموقف من الانتفاضة السورية كان آخر تجليات ذلك السجال الداخلي، وأشدّها قدرة على
الاستقطاب والفرز الحادّ إلى أسود أو أبيض، وبين أكثرها إسهاماً في إساءة الفهم
لدى شرائح واسعة من قرّاء الصحيفة. افتتاحيات رئيس التحرير، بصفة خاصة، كانت
المصدر الأبرز للتجاذب حول الملفّ السوري، وهذا أمر طبيعي تماماً، بالنظر إلى
شعبية عطوان العارمة، أوّلاً؛ ولأنّ آراءه كانت، كذلك، تتوافق مع أمزجة قرّاء كثر،
وليس البتة في المستوى "الشعبوي" الذي يتذرع به خصوم الرجل عادة، كلما
شاؤوا التقليل من موقعه الشعبي المكين.
بيد
أنّ هذا كلّه لم يكن سوى التطوّر، الأحدث عهداً، في "كيمياء" عتيقة حكمت
على الدوام علاقة عطوان بقارئه، أو أحرى بي القول: جمهوره: أنه معارض شرس للسياسات
الأمريكية، أينما كانت؛ ومناهض للتدخل الأجنبي، العسكري بصفة خاصة، في حياة
الشعوب؛ ومنحاز للقضايا الخاسرة، حتى إذا انطوت تنميطاتها الشائعة على مجازفات
قصوى؛ وملتزم بتسمية الأشياء بمسمياتها، كأن يكون الانقلاب انقلاباً، أوّلاً، قبل
أن تُنسب له أية تسمية أخرى...
ومن
جانبي، كمواطن سوري أكتب في "القدس العربي" منذ 1990، كنت أقيم المعادلة
السورية في خطّ الصحيفة التحريري على ثلاثة اعتبارات، أقرّ بأنها صمدت بدرجة من
الاستقرار كانت عالية، وليست نسبية. الاعتبار الأوّل هو أنّ هذه الصحيفة هي المنبر
الإعلامي العربي الوحيد ـ وأشدّد على المفردة، مجدداً: الوحيد ـ الذي فتح أعمدته،
على وسعها، لنقد نظام حافظ الأسد، ثمّ وريثه بشار الأسد؛ حين كانت الغالبية
الساحقة من الصحف والفضائيات في واحدة من منزلتين: إمّا ساكتة، كلياً، عن جرائم
النظام المتعددة، داخلياً وعربياً وإقليمياً؛ أو مطبّلة له ومزمّرة، حاملة مباخر
لشخوصه، من الأسد الأب إلى ابنه، هبوطاً إلى زبانيته.
الاعتبار الثاني هو أنّ حجم
الآراء المناهضة للنظام في الصحيفة، خاصة بعد انطلاق الانتفاضة السورية في آذار
(مارس) 2011، كان طاغياً بقوّة، ولا يتناسب أبداً مع حجم الآراء الموالية. أكثر من
هذا، كان كتّاب الفئة الثانية لا يعلنون، أو لعلهم لم يتجاسروا على إبداء، أية
صيغة مباشرة للموالاة؛ بل هم يقنّعون آراءهم بأقنعة الدفاع عن حسن نصر الله
و"المقاومة" و"الممانعة"، أو مناهضة التدخل الخارجي في
سورية... وكأنّ أساطيل أمريكا والحلف الأطلسي تحاصر الشواطىء السورية!
الاعتبار
الثالث يخصّ تلك "الكيمياء" التي استخدمها رئيس التحرير، نفسه، في
افتتاحياته عن الانتفاضة السورية: كان يصعب على سوريّ مثلي، أنا الذي أعارض نظام
آل الأسد على صفحات "القدس العربي" منذ 23 سنة، أن يتفق مع عطوان في بعض
خلاصاته، خاصة حين يوحي بوضع النظام والمعارضة في كفة نقد واحدة؛ ولكن كان أصعب
عليّ، بل ظل مسعى مستحيلاً ـ ليس دون بهجة شخصية، في هذا، والحقّ يُقال! ـ أن أجد
له مفردة واحدة تتخفف من إدانة وحشية النظام ضدّ الشعب السوري، أو تبرر أياً من
خياراته العنفية. وأمّا نقد المعارضة السورية، الخارجية تحديداً، فلعلّي كنت
شخصياً أقسى عليها من عطوان، وأكثر منه ثباتاً على رصد أخطائها، وفضح مباذلها
أيضاً.
هذا،
إذاً، عمود أوّل في إنصاف صديق عزيز وكريم، يظلّ أيضاً على رأس صنّاع ظاهرة
"القدس العربي"؛ ولن يكون العمود الأخير، بالطبع، ليس لأنّ صداقتنا تتجاوز
الزمالة المهنية، فحسب؛ بل لأنّ المواعيد مع "أبو خالد" مفتوحة ومديدة،
حمّالة آلام وآمال، وبِنْت تاريخ يمرّ عليه الزمن، لا ريب، ولكن دون أن يمسّ فيه
روحاً، أو يشوّه جوهراً.