رحل الروائي والكاتب المكسيكي الكبير كارلوس فوينتيس (1928ـ2012) قبل أن يفوز بجائزة نوبل للأدب، وكان لا يستحقها عن جدارة في ميدان الإبداع الأدبي والكتابة عموماً، فحسب؛ بل كذلك في علوّ القامة، الفكرية والأخلاقية، من حيث الوفاء لصفة "المثقف العضوي"، الكوني، العابر للحساسيات والهويات والجغرافيات، الملتزم دون تحزّب ضيّق، والمنحاز دون تعصّب أعمى. وكم كانت انتفاضات العرب، وتظلّ اليوم أيضاً، ربما أكثر من أيّ مرحلة في سيروراتها، إلى هذا الطراز من الفاعلية المنتمية، التي تنهض على القول مثل الفعل، وعلى التنظير أسوة بالممارسة.
وذات يوم، في سنة 2007، خلال مؤتمر دولي يحتفي باللغة الإسبانية، نظّمه الروائي الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز في كارتاخينا، اجترح فوينتيس واحدة من الطرائق الأكثر طرافة في نقد الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الابن. لقد ذهب إلى جانب خاصّ في شخصية الأخير، غير منتظَر في العادة، ولكنه بالغ السوء في نظر فوينتيس: استخدام اللغة الإسبانية، على سبيل النفاق السياسي ودغدغة مشاعر 45 مليون أمريكي ناطق بالإسبانية: قال الروائي المكسيكي: "حين يلقي بوش خطاباً بالإسبانية، فإنني لا أفهم كلمة واحدة ممّا يقول، تماماً كما تكون حالي حين يتحدّث بالإنكليزية"!
وليس الأمر أنّ بوش يتكلّم بإسبانية رديئة إلى حدّ أنّ فوينتيس يعجز عن فهمها، وهو ابن اللغة وأحد كبار المَهَرة في توظيف مجازاتها وأسرارها. القصد الضمني كان التذكير بتلك الفكرة العتيقة، عن لغة تضمر من المعنى غير ما تحمله المفردات، أو تفيد نقيض ذلك المعنى في أمثلة عديدة. وفي برهة مفصلية من رواية فوينتيس القصيرة "الشاطئان"، التي تعيد إنتاج تاريخ المكسيك في قالب حكائي، ثمة مثال صاعق على تلك الفكرة؛ حين يتولّى جيرونيمو أغويلار مهمّة الترجمة بين القائد الإسباني هرنان كورتيز (الغازي والمنتصر)، والإمبراطور المكسيكي كواتيموك (ابن الأمّة المنكسرة). اللعبة هنا، وهي بديعة وبارعة، يديرها فوينتيس على تلك الحوافّ الخافية بين الواقع والخيال، وبين السجلّ التاريخي والنصّ السردي.
ففي حوليات الغزو الفعلية كما شهدها ودوّنها المؤرّخ الإسباني برنال دياز ديل كاستيلو، ينتحب الإمبراطور المكسيكي جرّاء شعوره بالعار لأنه فشل في الحيلولة دون هزيمة شعبه أمام كورتيز، فيقدّم خنجره الشخصيّ طالباً أن يذبحه القائد الإسباني. ويسجّل دياز أنّ كورتيز بادر إلى مواساة كواتيموك، وخاطبه برقّة، وقال إنه معجب به كثيراً، وإنّ قيادته لشعبه مسألة مشرّفة حتى إذا كانت قد انتهت إلى الهزيمة، وإنه سيعفو عنه، بل وسيبقيه إمبراطوراً على المكسيك. هذا في السجلّ التاريخي، وأمّا في رواية فوينتيس للمشهد ذاته، فإنّ المترجم أغويلار يتعمّد تحريف أقوال كورتيز لكي تدلّ على المعنى المعاكس تماماً: "أنت أسيري، وسأذيقك العذاب الأمرّ. سوف أحرق قدميك وأقدام أنصارك الأسرى حتى تعترف بمخابىء كنوز عمّك مونتيزوما. ولسوف أُقْعِدك إلى الأبد، ولكني سأصطحبك كسيحاً باكياً في جميع غزواتي، لكي تكون رمزاً لسطوتي وعبرة لمن يتحدّى سلطاني".
ورغم أنّ أغويلار مارس الكذب المتعمّد في ترجمة أقوال كورتيز، فإنه في الآن ذاته كان قد صدَقَ حول ما سيجري بعدئذ على الأرض. وبالفعل: لقد عُذّب كواتيموك، وأُحرقت قدماه بالزيت المغلي لكي يعترف بمكان كنوز مونتيزوما، وأُجبر على مرافقة كورتيز في غزو الهوندوراس، ثمّ شُنق بتهمة التحريض على العصيان. وهكذا، يقول فوينتيس على لسان المترجم: "لقد ترجمتُ على هواي. أضفتُ واخترعتُ من عندي وسخرتُ من كورتيز. ترجمتُ، وخُنتُ، واخترعتُ. ولكن ما دام ذلك كلّه حدث، وأصبحت كلماتي حقيقة فعلية، أَلم أكن على حقّ في ترجمة القائد [كورتيز] بمفعول معاكس، لكي أقول الحقيقة لشعوب الأزتيك، مستخدماً أكاذيبي"؟
"المترجمون خَوَنة"، حسب المَثل الإيطالي الشائع، ولكن استناداً إلى طبيعة الترجمة ذاتها أيضاً. ويحدث مراراً أن يعفّ كبار المترجمين عن هذه "الخيانة"، ليس لأنهم يكرهون فكرة الخيانة بحدّ ذاتها، بل لأنهم في واقع الأمر لا يفلحون في بلوغ المستوى الرفيع المطلوب الذي يجازف المرء بعده، فيخون وهو مطمئنّ! غير أنّ مثال أغويلار يعرض نمطاً فريداً للغاية من هذه الخيانة، لأنّه إذا كان قد خان اللغة والمفردات والمعنى عن سابق عمد وتصميم، فإنّه في الواقع انحاز إلى الحقيقة الوحيدة اللائقة بمنطق انتصار القائد العسكري الغازي، ومآل انهزام الإمبراطور ابن البلد.
بمعنى آخر، كان أغويلار سيرتكب الخيانة العظمى، حقاً، لو أنه ترجم أقوال كورتيز كما نطق بها حرفياً، لا لشيء إلاّ لكي تثبت الوقائع اللاحقة أنّ تلك الأقوال كانت كاذبة تماماً، وأنّ اللغة كانت مصيدة، وأنّ المعنى ليس ذاك الذي يقع في باطن المفردات وحدها. وانتفاضات العرب شهدت، وما تزال تشهد، الكثير الوفير من هذه "الخيانات المضادة"، إذا جاز النحت هكذا: تجد بوقاً انتهازياً، هنا، يدافع عن نظام حاكم عن طريق جعل الحقائق البسيطة تسير على رأسها؛ وتجد، في المقابل، معارضاً انتهازياً ينفخ في بوق خاصّ به، لكنه لا يفلح في وضع الحقائق ذاتها على قدميها؛ وأمّا العزاء، وجوهر الأمل، فهو كامن في ما يترجمه الحراك الشعبي على الأرض، في قلب التظاهرة، وروحية المقاومة، وصناعة المعنى الحقّ...