ليست جديدة تلك المواقف التي تصدر عن كتّاب ومعلّقين وساسة يهود، وتعلن ـ على نحو صريح تارة، ومبطّن خافٍ طوراً ـ مناصرة نظام بشار الأسد، ومعاداة الانتفاضة الشعبية، خشية على دولة إسرائيل إذا سقط النظام الذي كفل صمت السلاح في هضاب وبطاح الجولان طيلة 40 سنة، وقدّم خدمات ثمينة لأمن إسرائيل في لبنان وفلسطين والأردن، ولأمن راعيتها الكبرى الولايات المتحدة، لا سيما في تحالف "حفر الباطن". بيد أنّ المرء يعثر، في مناسبات نادرة، على آراء فارقة تماماً في مقدار صراحتها، وأحياناً مذهلة في مدى تفضيل البُعد الستراتيجي على أي حسابات تكتيكية؛ وصاعقة، بالقياس إلى ما تهزّه من "ثوابت" تبدو مكينة وراسخة ولا تقبل الجدل أو التشكيك، أو حتى تقليب الرأي والرأي الآخر.
أحدث نماذج هذا الطراز من المكاشفة، حول ضرورة مناصرة يهود العالم لنظام الأسد، سلسلة الأقوال التي أدلى بها مؤخراً ألكسندر آدلر، المؤرّخ والصحافي الفرنسي اليهودي، في مناسبة صدور كتابه "شعب هو العالم: مصائر إسرائيل"، وذلك خلال حوار مع "المركز الملّي العلماني اليهودي" في باريس، متلفز ومتوفر على موقع المركز، لمن شاء الرجوع إليه كاملاً. وآدلر، لمَنْ لا يعرفه جيداً، بدأ شبابه يسارياً ماويّ الهوى، ثمّ انضمّ إلى الحزب الشيوعي الفرنسي، قبل أن ينتقل كليّاً إلى صفّ اليمين أواخر السبعينيات، ويلتحق بعدئذ بمدرسة المحافظين الجدد في أمريكا، ثمّ ينتهي مستشاراً لرئيس "المجلس التمثيلي للمؤسسات اليهودية في فرنسا"، الـCRIF، حيث واصل انحيازه المطلق لدولة إسرائيل.
مهنياً، على المستوى الصحفي، عمل آدلر في مطبوعات فرنسية كثيرة، وترأس تحرير "لو كورييه إنترناسيونال" خلال سنوات 1992 ـ 2002، حين استقال إثر خلاف مع إدارة المجلة حول عمود إشكالي كتبه دفاعاً عن يهود ألمانيا. هو اليوم كاتب أعمدة في صحيفة الـ"فيغارو"، ومساهم دائم في مطبوعات ومواقع أخرى يمينية غالباً، محافظة، وشديدة الانحياز لإسرائيل. خلاصة رأيه في النظام السوري، كما عبّر عنها خلال حوار مع الإذاعة الثقافية في فرنسا، هي التالية: إذا لم يكن النظام ديمقراطياً، فإنه ليس دكتاتورية إرهابية أيضاً! بيد أنّ هذا القول كان معتدلاً تماماً، بالقياس إلى ما سيقوله آدلر في حديثه مع "المركز الملّي العلماني اليهودي"، والذي سنتوقف عند محورَين فقط من محاوره المتشعبة.
في المحور الأوّل، بصدد العلاقات الإسرائيلية ـ الإيرانية والبرنامج النووي الإيراني، يقول آدلر: "لا أعتقد أنّ الإيرانيين أرادوا في أي يوم امتلاك القنبلة النووية لتهديدنا، نحن اليهود؛ وأنّ الهدف في الحقيقة كان بلوغ التفوّق على العالم العربي، والعالم العربي السنّي، في موازاة تجربة الباكستان النووية التي تمّ تمويلها بالكامل من المملكة العربية السعودية ودول الخليج". ثمّ يربط هذا التقدير بواقع انتفاضات العرب، ومصر تحديداً، فيقول: "إذا سألتني عن جوهر موقفي، أرى أنّ الشعب الإيراني هو الأقرب إلى الشعب اليهودي، وإذا كان ثمة بلد محصّن ضدّ العداء للسامية، فهو إيران (...) واليوم أعتقد أنّ العدو الرئيسي هو تجمّع المتشددين المسلمين السنّة، العرب، القائم على خليط من الناصرية وعقيدة الإخوان المسلمين، والذين ـ انطلاقاً من مصر، التي كانت على الدوام البلد الجدّي الوحيد في المنطقة ـ يوشك على ترتيب محاصرة إسرائيل، والتحضير للهجوم عليها بين يوم وآخر".
عن المحور الثاني، الذي يخصّ النظام السوري، يتابع آدلر: "بالطبع، فإنّ حلفاءنا في وجه هؤلاء، السنّة والإخوان المسلمين، هم الشيعة أسوة بكلّ الأقليات الدينية في الشرق الأوسط؛ وحلفاؤنا هم الإيرانيون بالطبع. ومن غير أن أذهب بعيداً فأصفه بالحليف، اقول إنّ بشار الأسد ينبعي أن يصمد اليوم في سورية، على الأقلّ لأنه أحد مكوّنات حلّ تفاوضي. لستُ مع انتصار على غرار ما جرى للقذافي، وسورية ليست ليبيا، وسنشهد على الفور مذبحة معممة ضدّ العلويين والمسيحيين في الواقع، ترتكبها هذه الأغلبية السنّية المركّبة من الإخوان المسلمين، والمموّلة من قطر والسعودية".
هذه تقديرات قابلة للأخذ والردّ، غنيّ عن القول، خاصة وأنها تنسف ثابتاً كبيراً اسمه "الممانعة الإيرانية"، وتمثيلها الأهمّ في العالم العربي، أي "حزب الله"؛ كما تُلقي بظلال شكّ قصوى على حقيقة مواقف القيادات الإيرانية، الروحية والسياسية والأمنية، بصدد معاداة إسرائيل، أو معاداة السامية عموماً (والمرء يتذكر، دون إبطاء، الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد، الذي أعلن العزم على محو إسرائيل من الخريطة، واستقبل كبار "مراجعي" تاريخ المحرقة اليهودية). وقد يكون هدف آدلر هو دسّ السمّ في الدسم، والاشتغال ـ بطرائق أكثر خبثاً ودهاء، وأبعد أثراً بالتالي ـ على إذكاء نيران الفتنة بين الشيعة والسنّة، في إطارات شعبية وعقائدية أوسع نطاقاً.
ومع ذلك، فإنّ "فضيلة" أقوال آدلر تكمن في أنها تضعنا أمام مسوّغات ملموسة، ذات منطق يبدو متماسكاً للوهلة الأولى على الأقلّ، وحيثيات ترجيحية تتوخى الواقعية السياسية، وتهتدي بالذرائعية الصرفة، تفسّر غايات اليهود المحافظين في مناصرة نظام الأسد. وهذه خلاصات تبرّر، من جانب آخر، مقولة جوهرية بدورها: فتّشوا عن إسرائيل، إذاً، كلما ضاق ذرع البعض بتأخر الحسم في سورية، وتساءل عن أسباب إطالة عمر النظام!