في مطلع شباط (فبراير) الماضي استذكرتُ الشاعر السوري الكبير نزار قباني (1923 ـ 1998)، حين افتتح بشار الجعفري، مندوب النظام السوري في الأمم المتحدة، كلمته أمام مجلس الأمن الدولي ببيت من قباني، على سبيل الإيحاء بأنّ شعر الراحل ينتصر لدمشق (رمز النظام، في رأي مندوب النظام)، ضدّ غدر العرب وجحود العروبة. وكما هو معروف، للجعفري نفسه، كانت القصيدة موضوع الاقتباس، "من مفكرة عاشق دمشقي"، مناهضة لأنظمة الطغيان والفساد العربية عموماً، ولحكم حزب البعث بصفة خاصة: "يا شام، أين هما عينا معاويةٍ/ وأين من زحموا بالمنكب الشهبا/ فلا خيول بني حمدان راقصةٌ/ زهواً، ولا المتنبي مالئٌ حلبا/ وقبر خالد في حمصٍ نلامسه/ فيرجف القبر من زوّاره غضبا"...
اليوم، في ذكرى رحيل قباني (30 نيسان/ أبريل)، أعود إلى قصيدة "خبز وحشيش وقمر"، وإلى واقعة اقترنت بها، ذات طابع سياسي وحكومي وبرلماني يعكس مناخات سورية في خمسينيات القرن الماضي. كذلك فإنه يحمل الكثير من الدلالات حول الماضي والحاضر، وربما استشراف المستقبل أيضاً، حيث يأمل السوريون أن تنقلهم هذه الانتفاضة العبقرية إلى حياة ديمقراطية سبق أن اختبروا بعض فضائلها، لا سيما على مستويات التسامح (الديني والسياسي والأخلاقي)، وحرّية الرأي، وفصل السلطات، وخصوصية التعبير الأدبي. والقصيدة، وهي هنا المثال على ذلك التسامح، كانت منعطفاً حاسماً في مسار قباني الشعري، والفكري ربما، لأنه بعدها اكتسب صفة الشاعر/ الناقد الاجتماعي، الراديكالي، الذي يقوّض في العمق، ويهدم ابتداء من الركائز.
لم يكن مستغرباً، إذاً، ان تثير القصيدة سخط المحافظين والمتدينين في المقام الأوّل (تماماً كما انتهت إليه حال جدّ الشاعر، الرائد المسرحي الكبير أبو خليل القباني)؛ إذْ لم يكن مألوفاً، البتة، أن تشهد مطالع خمسينيات القرن الماضي شاعراً سورياً، دمشقياً ومسلماً، يكتب التالي: "ما الذي عند السماء/ لكسالى ضعفاء/ يستحيلون إلى موتى إذا عاش القمر/ ويهزّون قبور الأولياء/ علّها ترزقهم رزّاً وأطفالاً، قبور الأولياء/ ويمدّون السجاجيد الأنيقات الطُرَر/ يتسلون بأفيون نسمّيه قدر/ وقضاء/ في بلادي.. في بلاد البسطاء". كانت القصيدة بمثابة منشور سياسي ـ اجتماعي، علني وشعري، جسور المعاني وفاتن اللغة، يدعو إلى الانعتاق من أغلال الإرث والدولة والقبيلة؛ فكيف إذا كان القائل موظفاً رفيعاً في السلك الدبلوماسي السوري، وأحد كبار العاملين في السفارة السورية في لندن؟
وهكذا، ولأنّ الحياة النيابية السورية كانت تتيح مساءلة الحكومة بحرّية، توجّه النائب مصطفى الزرقا (باسمه شخصياً، وبالنيابة عن كتلة نوّاب "الإخوان المسلمين" التي ينتمي إليها)، لمقابلة وزير الخارجية آنذاك، خالد العظم، فكان طبيعياً أن يأبى الأخير، وهو الليبرالي المخضرم، معاقبة قباني أو طرده من الوظيفة بسبب قصيدة، أياً كان محتواها. مارس الزرقا، بعدئذ، حقّه التالي: عقد جلسة نيابية لاستجواب الحكومة، ترأسها ناظم القدسي رئيس مجلس النوّاب، وحضرها صبري العسلي، رئيس مجلس الوزراء وزير الداخلية؛ وعبد الباقي نظام الدين، وزير الأشغال العامة؛ وفاخر كيالي، وزير الاقتصاد الوطني؛ وليون زمريا، وزير المالية؛ ومأمون الكزبري، وزير العدل. وألقى الزرقا، وكان أديباً ونحوياً وأستاذاً في كلية الشريعة بجامعة دمشق، خطبة عصماء ضدّ "رجل يمثلنا ويعرض صورة عنا في قصيدة داعرة فاجرة انحلالية"، و"تُظهر الشعب العربي في أقبح صورة"، و"تعرضها على أنظار الأجانب في صورة يقشعرّ لها بدن كل عربي يتحسس بالمروءة والكرامة".
وعلى ما يروي شمس الدين العجلاني، انتهت الجلسة دون اتخاذ توصية بإحالة قباني إلى لجنة التأديب، فتوجه الزرقا مجدداً إلى وزير الخارجية، الذي كان قد طلب من الأمين العام للوزارة موافاته بتقرير مفصّل عن ملفّ قباني الوظيفي (وليس الشعري، أو السياسي، أو الأمني!). جواب العظم سار هكذا: "يا حضرات النوّاب الأعزاء، أحبّ أن أصارحكم بأنّ وزارة الخارجية السورية فيها نزاران: نزار قباني الموظف، ونزار قباني الشاعر. أمّا نزار قباني الموظف، فملفّه أمامي، وهو ملفّ جيد ويثبت أنه من خيرة موظفي هذه الوزارة. أمّا نزار قباني الشاعر، فقد خلقه الله شاعراً، وأنا كوزير للخارجية لا سلطة لي عليه، ولا على شعره. فإذا كنتم تقولون إنه هجاكم بقصيدة، فيمكنكم أن تهجوه بقصيدة مضادة، وكفى الله المؤمنين شرّ القتال"!
والحال أنّ اتفاق المرء أو اختلافه مع موقف الزرقا، وتعاطفه مع قصيدة قباني أو رفضه لها، لا يطمس سلسلة الحقائق الجوهرية الأولى وراء هذه الحكاية: أنّ مجلة "الآداب" اللبنانية، التي نشرت القصيدة (وشاء رئيس تحريرها، الراحل الكبير سهيل إدريس، أن يجعلها افتتاحية المجلة!) لم تُمنع من دخول سورية، ولم تُصادَر بعد وقوع الإشكال؛ والنزاع بين الزرقا وقباني لم يُناقش في شعبة مخابرات، أو حسم الأمر فيه ضابط أمن أو ضابط رقيب؛ وأنّ النوّاب مارسوا حقهم في الاعتراض، والوزير المعنيّ مارس حقه في ردّ الاعتراض... وكفى الله المؤمنين شرّ القتال، في نهاية المطاف، تماماً كما عبّر العظم!
كان "الحشيش" ذاك ديمقراطياً، إذاً، فلم ينتهِ بالشاعر إلى الزنزانة، ولا إلى قانون الحسبة؛ وسطّر صفحة مضيئة، أخرى، في سجلّ سوري عريق... هيهات أن يرضي السوريون عن استئنافه بديلاً!